جواهر الاصول المجلد 3

اشارة

پدیدآورنده(شخص)مرتضوی لنگرودی، محمدحسن،1308 -

عنوان جواهر الاصول: تقریر ابحاث لاستاذ... روح الله الموسوی الامام الخمینی قدس سره

تکرار نام پدیدآورتالیف محمدحسن المرتضوی اللنگرودی

مشخصات نشرتهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)،1378 -.

یادداشتج. 2 (1421ق.=1379)

یادداشتج.4(1425ق.=1383)

یادداشتکتابنامه

موضوعاصول فقه شیعه

شناسه افزوده (شخص)خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران،1279-1368

شناسه افزوده (سازمان)موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده کنگرهBP،159/8،/م4ج9

رده دیوئی297/312

شماره مدرکم78-10818

ص: 1

[هویة الکتاب]

[بقیة المقصد الاول]

اشارة

جواهر الاصول

الجزء الثالث

تقریر ابحاث الاستاذ الاعظم و العلامة الافخم

آیة اللَّه العظمی السید روح اللَّه موسوی

الامام الخمینی قدس سره

تألیف

آیة اللَّه السید محمد حسن المرتضوی اللنگرودی

مؤسسة تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی قدس سره

ص: 2

هویة الکتاب

* اسم الکتاب: ... جواهر الاصول/ ج 3*

* المؤلف: .... السیّد محمّد حسن المرتضوی اللنگرودی*

* تحقیق و نشر: .... مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره*

* سنة الطبع: .... شهریور 1379- جمادی الثانیة 1421*

* الطبعة: .... الاولی*

* المطبعة: .... مطبعة مؤسسة العروج*

* الکمیة: .... 3000 نسخة*

* السعر: ... ریال*

جمیع الحقوق محفوظة و مسجّلة

لمؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره

ص: 3

ص: 4

ص: 5

[خطبة الکتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحمد للَّه ربّ العالمین، و الصلاة و السلام علی أشرف الأنبیاء و المرسلین، و علی الأصفیاء من عترته المعصومین؛ سیّما المدّخر لتجدید الفرائض و السنن، و المُحیی معالم الدین و أهله، و القاصم شوکة المعتدین، و السبب المتّصل بین الأرض و السماء.

اللهمّ عجّل فرجَه، و سهّل مَخرجه، و اجعلنا من أنصاره و أعوانه، وهب لنا رأفته و رحمته و دعاءه و خیره ما ننال به سعة من رحمتک و فوزاً عندک، و اجعل صلاتنا به مقبولة، و ذنوبنا به مغفورة، و دعاءنا به مستجاباً، و أرزاقنا به مبسوطة، و همومنا به مکفیة و حوائجنا به مقضیة، آمین ربّ العالمین.

و بعد: ما بین یدیک هو الجزء الثالث من کتاب «جواهر الاصول»، تقریر ما ألقاه سماحة الاستاذ الأکبر آیة اللَّه العظمی نائب الإمام علیه السلام الإمام الخمینی قدس سره فی الدورة الأخیرة فی مباحث الألفاظ.

نسأل اللَّه التوفیق و التسدید، و الحمد للَّه ربّ العالمین.

ص: 6

ص: 7

الفصل الرابع فی مقدّمة الواجب

اشارة

الفصل الرابع فی مقدّمة الواجب(1)

قبل الورود فیما هو المهمّ فی المسألة- من ذکر أدلّة القائلین بوجوب المقدّمة و عدمه- ینبغی ذکر امور:

الأمر الأوّل فیما یمکن أن یقع محطّ النزاع فی وجوب المقدّمة

اشارة

لا إشکال فی أنّ الفاعل منّا لا تتعلّق إرادته بشی ء- کلقاء الصدیق مثلًا إلّا بعد تصوّر ذلک الشی ء، ثمّ التصدیق بفائدته، ثمّ یحصل له- نوعاً- الاشتیاق إلیه، ثمّ تصمیم العزم- و یعبّر عنه بالإرادة- و لا تتعلّق الإرادة بنفس العمل الخارجی بلا واسطة، بل بوسائط، کبسط القوی و قبضها، و مدّ الید إلیه و نحوها.

و حیث إنّ الإرادة من أفعال النفس تکون تابعة لتشخیص الفاعل المصلحة فی المراد؛ فلا یلزم أن یکون الشی ء المراد موافقاً لغرضه بحسب الواقع و نفس الأمر؛


1- تاریخ شروع البحث یوم الأحد 28/ 2/ 1379/ ه. ق.

ص: 8

فربّما تتعلّق إرادة الفاعل بشرب مائع یری أنّه ماء عذب صالح- مثلًا مع أنّه فی الواقع سمّاً مهلکاً. و بالجملة: أنّ الإرادة مرهونة بتشخیص الفاعل کون الشی ء ذا مصلحة، و هو قد یطابق الواقع و نفس الأمر، و قد یکون جهلًا مرکّباً مخالفاً للواقع.

فلا تکاد تتعلّق الإرادة بما هو الصلاح واقعاً؛ ضرورة امتناع تعلّقها بالمجهول المطلق و ما یکون مجهولًا عنده.

ثمّ إنّ المطلوب و المراد قد یکون له مبادئ و مقدّمات، و واضح: أنّه لا تتعلّق الإرادة بها کیف اتّفق بحیث لم تکن محتاجة إلی التصوّر و التصدیق بالفائدة و غیرها من مبادئ الفعل الاختیاری، بل کلّ من المقدّمة و ذیها مرهونان بالتصوّر و التصدیق بالفائدة و غیرهما من المبادئ.

أ لا تری أنّ الصلاة- مثلًا- مشروطة بالطهارة، و هی مقدّمة لها، و مع ذلک تحتاج الطهارة إلی التصوّر و التصدیق و غیر ذلک، کما تحتاج إلیها نفس الصلاة؟!

نعم، حیث إنّ الصلاة لا تتحقّق بدون الطهارة شرعاً فتوجد الإرادة المتعلّقة بالصلاة مبادئ الإرادة فی الطهارة.

و بالجملة: لا بدّ فی تحقّق کلّ من المقدّمة و ذیها من مبادئ، و لا فرق فیهما من هذه الجهة، و إن کان بینهما فرق من جهة اخری، کما سنشیر إلیها؛ لأنّ الوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّ النفس لا تشتاق و لا تتعلّق إرادتها بالمجهول المطلق و ما یکون مجهولًا عنده.

فتوهّم الفرق بینهما: بأنّ المطلوب النفسی هو الذی تتعلّق به الإرادة و یحتاج وجوده إلی مبادئ و مقدّمات، و أمّا المقدّمة فتوجد بإرادة ذی المقدّمة، من دون أن یکون لها مبادئ.

مدفوع؛ لما أشرنا أنّه محال أن تتعلّق إرادة الفاعل بما یکون مجهولًا عنده.

ص: 9

نعم، التصدیق بفائدة المطلوب النفسی فی الواجب النفسی لنفسه. و أمّا فی الواجب المقدّمی فلا تکون لنفسها، بل للغیر.

و معنی تبعیة إرادة المقدّمة من إرادة ذیها لیس معلولیة إرادتها من إرادة ذیها، بل معناها: أنّ الفائدة المترتّبة علی إرادة المقدّمة بحسب تشخیص الفاعل لیس لها لنفسها، بل لأجل توقّف الغیر علیها.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ کلًاّ من المقدّمة و ذیها یتعلّق به الإرادة المنبعثة عن مبادئهما، من دون فرق بینهما فی ذلک. و الفرق إنّما هو فی أنّ الغایة المقصودة فی أحدهما نفسی، و فی الآخر مقدّمی غیری.

و لا یخفی: أنّ ما ذکرنا- من أنّ تعلّق الإرادة بشی ء و بذی المقدّمة تابع لتشخیص الفاعل المصلحة فیه، لا ما یکون صلاحاً فی الواقع- جارٍ بعینه فی المقدّمة و ما یکون مطلوباً للغیر أیضاً؛ فإنّ إرادته إنّما تتعلّق بما یراه مقدّمة بعد تصوّرها و التصدیق بفائدتها إلی غیر ذلک، لا ما هی مقدّمة واقعاً؛ لما أشرنا أنّ الإرادة لا تکاد تتعلّق بما یکون مجهولًا عند الفاعل؛ فقد لا یکون ما یراه مقدّمة لشی ء مقدّمة له فی الواقع.

فالتلازم بین إرادة المقدّمة و ذیها دائماً إنّما هو بین إرادة ذی المقدّمة و ما یراه مقدّمة، لا ما تکون مقدّمة فی الواقع، فتدبّر.

وزان الإرادة التشریعیة وزان الإرادة التکوینیة

إذا أحطت خبراً بما ذکرناه فی الإرادات التکوینیة الصادرة من الفاعل، یظهر لک حال الإرادة الآمریة و التشریعیة؛ لأنّ وزانهما وزان واحد و ترتضعان من ثدی واحد، بل الإرادة المعبّر عنها بالإرادة التشریعیة هی فی الحقیقة الإرادة التکوینیة.

ص: 10

و تقسیم الإرادة إلی التکوینیة و التشریعیة غیر صحیح؛ لأنّ التقسیم لا بدّ و أن یکون لاختلاف فی ذاتی الإرادتین لا فی متعلّقهما، و إلّا یلزم تقسیم الشی ء إلی غیر النهایة.

و التقسیم فی المقام لیس لاختلاف فی ذاتیهما، بل بلحاظ المتعلّق؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بالتکوین یعبّر عنها بالإرادة التکوینیة، کما أنّه یعبّر عن الإرادة المتعلّقة بالتشریع بالإرادة التشریعیة. و ذلک لأنّ أمر الغیر بإتیان شی ء و بعثه نحوه فعل من أفعال الآمر؛ فلا بدّ من تصوّره و التصدیق بفائدته، إلی غیر ذلک من مبادئ الاختیار.

نعم، الفرق بین الإرادتین فی أنّ الإرادة التشریعیة تصدر من لسان الآمر أو إشارته إذا کان أخرساً، و أمّا الإرادة التکوینیة فلا تختصّ بهما، و هو غیر فارق.

فإذن؛ لو تعلّقت إرادة المولی بإتیان شی ء من عبده، فیلزم أن تکون إرادته منبعثة من مبادئها بما یراه مقدّمة، لا ما یکون مقدّمة له واقعاً. فالملازمة- کما ذکرنا- فی إرادة الفاعلی إنّما هی بین إرادة ذی المقدّمة، و بین إرادة ما یراه مقدّمة، و إلّا یلزم تعلّق الإرادة بواقع المقدّمة، من دون أن یکون مقصودة و ملتفتة إلیها.

و سیظهر لک جلیاً- مع فساده فی نفسه- امتناع تعلّق الإرادة التی من صفات النفس بمجهول مطلق و ما یکون مجهولًا لدیه.

فظهر بما ذکرنا ضعف ما عن العلمین النائینی و العراقی 0.

و ذلک لأنّ المحقّق النائینی قدس سره قال: إنّ المراد من الوجوب فی المقام هو الوجوب القهری المتولّد من إیجاب ذی المقدّمة، بحیث یرید المقدّمة عند الالتفات إلیها، و لا یمکن أن لا یریدها(1).


1- فوائد الاصول 1: 262.

ص: 11

و قال المحقّق العراقی قدس سره: إنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة متولّدة من الإرادة النفسیة المتعلّقة بذیها، و إن کان الآمر غافلًا، بحیث لو التفت إلی المقدّمة لأرادها(1)

. توضیح الضعف هو: أنّه کیف تحصل إرادة المقدّمة مع عدم تصوّرها و التصدیق بفائدتها؟ و أ لیس تعلّق الإرادة بواقع المقدّمة دون ما یراه مقدّمة، إلّا تعلّق الإرادة بأمر مجهول؟ و مجرّد الالتفات إلی المقدّمة بدون التصدیق بمقدّمیتها لا یستلزم إتیانه مقدّمة.

و لا یخفی: أنّ مقال المحقّق العراقی قدس سره لا یخلو عن تناقض؛ لأنّه إذا کانت إرادة المقدّمة متولّدة من إرادة ذیها، فکیف یقال: لو التفت إلیها لأرادها؟! فتدبّر.

و بما ذکرنا یظهر: أنّ الملازمة المدّعاة بین إرادة ذی المقدّمة و إرادة المقدّمة، و بین إیجاب ذی المقدّمة و إیجاب المقدّمة، لیست کالملازمة فی الملازمات و اللوازم و الملزومات العقلیة ممّا یکون الملزوم علّة للازمه، أو تکون المتلازمان معلولی علّة واحدة؛ بداهة أنّ إرادة ذی المقدّمة- سواء کانت فی الإرادة الفاعلی، أو فی الإرادة الآمری، التی فی الحقیقة هی الإرادة الفاعلی- لا تستلزم إرادة المقدّمة قهراً، من دون توسّط إرادة مبادئ الاختیار فی البین، بل لا بدّ من تخلّل مبادئ فی البین.

و بالجملة: إرادة کلّ منهما تحتاج إلی مبادئ؛ من التصوّر و التصدیق و غیرهما من مبادئ الاختیار، و کذلک الوجوب و الإیجاب فیهما.

و لا فرق فی لزوم تخلّل مبادئ الإرادة فی الإتیان بالمقدّمة بین کون الملازمة بین ذاتی المقدّمة و ذیها- کما یراه المحقّق الخراسانی قدس سره(2)- أو بین عنوانی المقدّمة و ذیها


1- بدائع الأفکار 1: 311.
2- کفایة الاصول: 115- 116.

ص: 12

- کما اخترناه، وفاقاً لصاحب «الفصول» قدس سره(1)- أو بین عنوان ما یتوقّف علیه أو یتوسّل به إلی ذی المقدّمة، کما یراه آخرین.

و ذلک: أمّا حال الملازمة بین ذات المقدّمة و ذیها فقد عرفته. و أمّا لو کانت الملازمة بین عنوان المقدّمة و ذیها، أو کانت الملازمة بین عنوان ما یتوقّف علیه أو یتوسّل به، فلأنّه لا بدّ من تصوّر تلک العناوین و التصدیق بفائدتها، إلی غیر ذلک من مبادئ الاختیار.

و الذی یمکن أن یقال هنا: إنّه ینتقل الذهن من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة إلی مبادئ المقدّمة؛ إمّا إلی ذاتها أو إلی عنوانها، أو عنوان ما یتوقّف علیه أو ما یتوسّل به إلی ذی المقدّمة حسب اختلاف الآراء فی وجوب الملازمة.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ ما یمکن أن یقع محطّ البحث فی مقدّمة الواجب هو ادّعاء الملازمة الکذائیة بین إرادة ذی المقدّمة أو وجوبه، و بین إرادة وجوب ما یراه المولی مقدّمة، أو عنوان ما یتوسّل به أو یتوقّف علیه ذی المقدّمة. و أمّا الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و إرادة ما هی مقدّمة واقعاً فلا، فتدبّر.


1- الفصول الغرویة: 86.

ص: 13

الأمر الثانی فی کون البحث عقلیاً محضاً، لا لفظیاً و لا عقلیاً مشوباً

اشارة

قد عرفت: أنّ الذی یمکن أن یقع محطّ البحث فی مسألة مقدّمة الواجب هو البحث عن الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و إرادة مقدّمته، أو الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب مقدّمته، و من الواضح: أنّ البحث علی هذا یکون عقلیاً محضاً.

و توهّم لفظیة البحث بلحاظ أنّه فی الحقیقة فی الدلالة الالتزامیة، و هی مع کونها عقلیة تعدّ من الدلالات اللفظیة.

مدفوع بأنّ غایة ما یُوجّه للفظیة البحث هی أنّه إذا تعلّق أمر بشی ء فیدلّ الأمر علی أنّ ذلک الشی ء مراد للمولی. و لازم ذلک المعنی هو کون مقدّمته مراداً له.

و استفادة هذا المعنی و إن لم تکن باللفظ- بل بالعقل- لکنّه نظیر الملازمة المدّعاة بین المعنی المطابقی و المعنی الالتزامی؛ فکما أنّ دلالة لفظة الأربعة- مثلًا علی الزوجیة لم تکن لفظیة؛ لعدم کون الزوجیة تمام معناها، و لا جزءها- و إنّما تدلّ علیها بالملازمة- و مع ذلک یعدّ ذلک من الدلالات اللفظیة، حیث قسّموا الدلالة اللفظیة إلی المطابقیة و التضمّنیة و الالتزامیة، فکذلک فی المقام حیث إنّ لفظ الأمر بشی ء یدلّ علی أنّ مقدّمته مرادة له.

و أنت خبیر بما فیه أوّلًا: أنّ عدّ الدلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ خلاف التحقیق؛ لأنّ الدلالة اللفظیة بعد ما لم تکن ذاتیة، تکون مرهونة بالوضع، بحیث لو لم تکن هناک وضع لا تکون دلالة، کلفظة «الشمس»؛ فإنّها لو لم تکن موضوعة لتلک

ص: 14

الجرم النیّر لم ینتقل الذهن من سماع لفظة «الشمس» إلی الجرم النیّر.

و ظاهر: أنّ اللازم لا یکون لازماً للفظ الموضوع، بل لازم المعنی الموضوع له؛ و لذا ینتقل الذهن إلی اللازم إذا وجد المعنی الموضوع له فی الذهن؛ بأیّ دالٍّ کان، و لو بالإشارة. فاللازم لازم المعنی و من قبیل دلالة المعنی علی المعنی، لا دلالة اللفظ علی المعنی. و التعبیر عنه بالدلالة اللفظیة مسامحی، لأجل أنّه یفهم من اللفظ غالباً.

و ثانیاً: لو سلّم کون دلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ، لکن لا یصحّ أن یقال ذلک فی محطّ البحث؛ لأنّ البحث هنا فی تلازم إرادة المقدّمة مع إرادة ذیها، و لو لم تکن مرادة من ناحیة اللفظ.

و بالجملة: البحث فی مقدّمة الواجب لا یختصّ بما إذا کان الشی ء واجباً باللفظ، بل بالأعمّ منه و ممّا وجب بغیره؛ فلو احرز إرادة المولی بإتیان أمر بأیّ نحو کان، یلزم من ذلک إرادة مقدّمته، فتدبّر.

و ثالثاً: لو عُدّ محطّ البحث من دلالة الألفاظ، فنقول بأنّ شرط الدلالة الالتزامیة هو کون اللازم لازماً بیّناً. و معنی اللزوم البیّن هو أنّ مجرّد تصوّر الطرفین یکفی فی الجزم باللزوم.

و أنت خبیر بأنّ محطّ البحث لم یکن کذلک؛ لتوقّف إثبات اللزوم بین إرادة المقدّمة و إرادة ذیها إلی البرهان؛ و لذا وقع الخلاف فی ذلک؛ فذهب بعض إلی وجوب المقدّمة مطلقاً أو فی الجملة، و بعضهم إلی إنکار الوجوب مطلقاً.

و رابعاً: أنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و إرادة مقدّمته، و واضح: أنّ لفظ الأمر لم یوضع للإرادة قطعاً، بل وضع إمّا للإیجاب أو یکون آلة للبعث، کما هو المختار. نعم، یستکشف من بعث المولی و إیجابه أنّ المولی أراده.

ص: 15

و بعبارة اخری: یستکشف من بعث المولی بشی ء: أنّ المتعلّق مراد، و أنّی له و أن یکون مدلولًا للفظٍ؟! فتدبّر. هذا کلّه فیما یتعلّق بتوهّم کون البحث لفظیاً.

ذکر و تعقیب

و ربّما یظهر من بعضهم: أنّ البحث فی مقدّمة الواجب و إن لم یکن لفظیاً، إلّا أنّه لیس بعقلی محض:

قال المحقّق النائینی قدس سره: إنّ هذه المسألة لیست من المسائل اللفظیة، کما یظهر من «المعالم»، بل هی من المسائل العقلیة، و لکن لیست من المستقلّات العقلیة الراجعة إلی باب التحسین و التقبیح و مناطات الأحکام، بل هی من الملازمات العقلیة، حیث إنّ حکم العقل فی المقام یتوقّف علی ثبوت وجوب ذی المقدّمة؛ فیحکم العقل بالملازمة بینه و بین وجوب مقدّماته. و لیس من قبیل حکم العقل بقبح العقاب من غیر بیان، الذی لا یحتاج إلی توسیط حکم شرعی، بل البحث فی المقام نظیر البحث عن مسألة الضدّ، و مسألة اجتماع الأمر و النهی یتوقّف علی ثبوت أمر أو نهی شرعی حتّی تصل النوبة إلی حکم العقل بالملازمة کما فی مسألتنا، أو اقتضاء النهی عن الضدّ کما فی مسألة الضدّ، أو جواز الاجتماع و عدمه کما فی مسألة جواز اجتماع الأمر و النهی ... إلی آخره(1)

. و فیه: أنّه لا ینقضی تعجّبی کیف قال بأنّ مسألتنا هذه کمسألة اجتماع الأمر و النهی و مسألة الضدّ لم تکن من المستقلّات العقلیة المحضة، بل تحتاج إلی توسیط


1- فوائد الاصول 1: 261- 262.

ص: 16

حکم شرعی، مع أنّ البحث فیها عن الأحکام العقلیة المحضة؟!

و ذلک لأنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی ثبوت الملازمة بین المقدّمة و ذیها، و اللاثبوت، و هو لا یقتضی وجود الطرفین، و هذا کما یقال: إنّ قضیة الشرطیة لا تستلزم صدق الطرفین، و لا کذبهما. و بالجملة: البحث فی مقدّمة الواجب عن ثبوت الملازمة بین المقدّمة و ذیها و عدمه؛ کان فی العالم أمر أم لا(1)

. نعم، النتیجة لا تحصل إلّا باستثناء التالی أو إثباته، مثلًا فی قولک: «إن کانت الشمس طالعة، کان النهار موجوداً» حکمت بالملازمة بین طلوع الشمس و طلوع النهار؛ وجدت الشمس فی الخارج أم لا.

نعم النتیجة تتوقّف علی استثناء التالی أو إثباته، فنقول: «لکن النهار غیر موجود»؛ فینتج: «أنّ الشمس غیر طالعة»، أو «أنّ النهار موجود»؛ فینتج: «أنّ الشمس طالعة».

و کذا البحث فی مسألة الضدّ؛ فإنّه یبحث فیها عن أنّه لو کان هنا أمر هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟ کان فی العالم أمر أم لا.

و هکذا البحث فی مسألة اجتماع الأمر و النهی؛ فإنّه یبحث فیها فی أنّه هل یمکن اجتماع أمر و نهی علی موضوع واحد بجهتین مختلفتین أم لا؟ کان فی العالم أمر أو نهی أم لا.

نعم- کما أشرنا- إنّ البحث فی تلک المسائل إنّما هو لأجل ورود أوامر و نواهی


1- قلت: و إن کان فی خواطرک ریب فیما ذکرنا فلاحظ قوله تعالی:« لَوْ کَانَ فِیهمَا آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا»، فإنّه قضیة شرطیة تفید الملازمة بین تعدّد الآلهة و فساد العالم، مع أنّه لم یتعدّد و لن یتعدّد آلهة فی العالم، فتدبّر،[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 17

فی الشریعة المقدّسة، و إلّا یکون البحث فیها لغواً، و لکن مع ذلک لا یوجب ذلک إخراج تلک المسائل عن کونها عقلیة محضة.

ولیت شعری أیّ فرق بین تلک المسائل و مسألة قبح العقاب بلا بیان؟! و هل لا تحتاج تلک المسألة إلی بیان من الشرع و عدمه، و إلّا فلا یصحّ الحکم بالقبح؟

و لو عُدّ مسألة قبح العقاب بلا بیان من العقلیات غیر المحضة لکان أولی، و إن کان غیر وجیه؛ لأنّ جریانها منوطة بعدم تکلیف و أمر من الشارع، بخلاف الحکم بالملازمة فی مقدّمة الواجب، و اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه فی مسألة الضدّ. و اجتماع الأمر و النهی فی موضوع واحد إنّما هو فی الموضوع ذی جهتین، و إن کان مجرّد ذلک لا یوجب أن لا تکون مسألة قبح العقاب بلا بیان مسألة عقلیة محضة.

فتحصّل: أنّ جمیع المسائل المعنونة فی کلامه قدس سره من المستقلّات العقلیة، من غیر فرق بینها، فتدبّر.

ص: 18

الأمر الثالث فی کون هذه المسألة من المسائل الاصولیة

قد سقط منّا ضبط هذا الأمر، و حیث إنّ معرفة موقف المسألة- من حیث کونها مسألة اصولیة، أو من المبادئ الفقهیة، أو غیرهما- لا تخلو عن فائدة، أحببنا عدم خلوّ کتابنا هذا منه، فنشیر إشارة إجمالیة إلی بیان موقفها مقتبساً ممّا أفاده سماحة الاستاد فی «مناهج الوصول»، و ما ذکره بعض مقرّری بحثه، و ما ذکرناه فی مقدّمة کتابنا هذا.

فنقول: قد عرفت منّا مفصّلًا المیزان فی تشخیص المسائل الاصولیة حسب مختار سماحة الاستاد، و إجماله: أنّ المسائل الاصولیة عبارة عن القواعد الآلیة التی یمکن أن تقع کبری لاستنتاج الأحکام الکلّیة الفرعیة الإلهیة، أو الوظیفة العملیة.

و من الواضح: أنّه لو ثبت وجود الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها یستکشف منه وجوب مقدّمة الواجب شرعاً، کالصلاة- مثلًا- فتجب مقدّماتها، بل لو لم تثبت الملازمة فمع ذلک یکون البحث فی المسألة من المسائل الاصولیة؛ لإمکان وقوع نتیجتها فی مقام استنباط الأحکام الشرعیة، و إن لم تکن واقعة بالفعل، نظیر البحث فی حجّیة القیاس و الشهرة و الإجماع المنقول؛ فإنّ البحث عنها بحث فی المسألة الاصولیة مع عدم حجّیتها.

و بالجملة: البحث فی وجود الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها و عدمه لیس لأجل الاطّلاع علی حقیقة من الحقائق حتّی یکون البحث نفسیاً، بل لأجل أنّه ینظر بها إلی مسائل و فروع تکون هی المنظور فیها. فمسألة الملازمة من القواعد الآلیة التی

ص: 19

یمکن أن تقع کبری استنتاج الأحکام الکلّیة الفرعیة.

و أمّا علی مختار استادنا الأعظم البروجردی قدس سره- من أنّ موضوع علم الاصول هو الحجّة فی الفقه(1)- فیکون البحث عن ثبوت الملازمة بحثاً عن المبادئ الأحکامیة؛ لأنّ البحث عن المسألة الاصولیة- علی زعمه قدس سره- لا بدّ و أن یکون بحثاً عن عوارض الحجّة فی الفقه، کالبحث عن حجّیة خبر الثقة و نحوها؛ فإنّها بحث عن عوارض الحجّة.

و أمّا البحث عن ثبوت الملازمة فخارجة عن البحث عن المسألة الاصولیة، و داخلة فی المبادئ الأحکامیة.

و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه فی مقدّمة الکتاب- عدم استقامة ما أفاده قدس سره؛ إمّا لعدم لزوم أن یکون لکلّ علم موضوع معیّن- حتّی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة- بل کلّ علم عبارة عن عدّة مسائل مرتبطة بعضها ببعض فی ترتّب غرض واحد سنخی.

أو لعدم لزوم أن یکون البحث فی العلم عن العوارض الذاتیة، أ لا تری أنّهم جعلوا موضوع علم الفقه أفعال المکلّفین، مع أنّ کثیراً من مسائل الفقه لیست کذلک؟! حتّی الأحکام التکلیفیة- کالوجوب و الحرمة و نحوهما- فإنّها- کما أشرنا فی مقدّمة الکتاب- لیست من العوارض حتّی یقال: إنّها أعراض ذاتیة أو أعراض غریبة.

مضافاً إلی أنّ کثیراً من المسائل الفقهیة لیست کذلک، مثل مسألة «الماء الکرّ لا ینجسه شی ء» و مسألة «أنّ الماء القلیل ینجس بملاقات النجس» و مسألة «الکلب نجس» و مسألة «المیتة نجسة» إلی غیر ذلک من المسائل. هذا إجمال المقال فی المسألة، و من أراد تفصیله فلیراجع ما أوردناه فی مقدّمة کتابنا هذا «جواهر الاصول».


1- نهایة الاصول: 154.

ص: 20

الأمر الرابع فی بعض تقسیمات المقدّمة

منها: تقسیمها إلی الداخلیة و الخارجیة
اشارة

تنقسم المقدّمة إلی المقدّمة الداخلیة و الخارجیة، و المراد بالمقدّمات الداخلیة هی الامور التی یترکّب منها المأمور به، و لها دخل فی ماهیته و حقیقته، و هی لیست إلّا الأجزاء. کما أنّ المراد بالمقدّمات الخارجیة هی الامور الخارجة عن حقیقة المأمور به. و لکن لا یکاد یتحقّق المأمور به بدون واحد منها.

اختلفوا فی وقوع المقدّمات الداخلیة فی محطّ البحث، بعد اتّفاقهم علی کون المقدّمات الخارجیة داخلة فیه.

و الحقّ: أنّ کلًاّ من المقدّمات الخارجیة و الداخلیة داخلة فی محطّ البحث، و یکون فیهما ملاک البحث.

و لکن ربّما قیل باختصاص البحث بالمقدّمات الخارجیة و خروج المقدّمات الداخلیة عن محطّ البحث؛ لأنّ المقدّمة عبارة عمّا یتوقّف علیه ذو المقدّمة؛ فلا بدّ و أن تکون متقدّمة علیه. و المقدّمات الداخلیة التی هی أجزاء المرکّب لیست کذلک؛ لأنّ المرکّب لیس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، فیلزم تقدّم الشی ء علی نفسه، مع أنّه یستلزم اجتماع المثلین، و هو محال.

تصدّی المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» لدفع الإشکال بأنّ المقدّمة هی نفس الأجزاء بالأسر و ذا المقدّمة هی الأجزاء بشرط الانضمام. و بالجملة: المقدّمة هی

ص: 21

الأجزاء لا بشرط و ذو المقدّمة هی الأجزاء بشرط الاجتماع؛ فتحصل المغایرة الاعتباریة بین المقدّمة و ذیها، و هذا المقدار من المغایرة یکفی فی ذلک، نظیر المغایرة الاعتباریة بین المادّة و الصورة، و بین الجنس و الفصل(1)

. و لکن ربّما نوقش فیما أفاده قدس سره: بأنّ مقتضی ذلک کون مقدّمیة المقدّمة اعتباریة لا حقیقیة، مع أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ مقدّمیة المقدّمة و تقدّمها علی ذی المقدّمة حقیقی لا اعتباری.

مع أنّه لم یندفع بما أفاده مشکلة اجتماع المثلین؛ لتعلّق إرادتین علی شی ء واحد حقیقی، و هو إمّا مستحیل أو یکون إحدی الإرادتین لغواً، و هی من المولی الحکیم مستحیل.

و لیعلم: أنّ منشأ هذه المطالب و التکلّفات هو تخیّل کون المقدّمة نفس الأجزاء. و لکن الذی یقتضیه الذوق السلیم و یحکم به الوجدان و یعاضده البرهان هو عدم کون الأجزاء بالأسر مقدّمة حتّی یشکل فی عینیتها لذی المقدّمة؛ فیتکلّف فی دفعه بالمغایرة الاعتباریة، بل کلّ جزءٍ جزءٍ من أجزاء المرکّب مستقلًاّ مقدّمة، بحیث إذا کان للواجب عشرة أجزاء- مثلًا- یکون له عشر مقدّمات.

و بعبارة أوضح: لیس للواجب المرکّب من أجزاء مقدّمة واحدة- و هی الأجزاء بالأسر- بل هناک مقدّمات بعدد الأجزاء، بحیث یکون کلّ جزء منه مقدّمة برأسه، و فی کلّ واحد منها ملاک الغیریة. و واضح: أنّ الجزء یغایر الکلّ الاعتباری و المرکّب فی وعاء الاعتبار.

و لتوضیح هذا الأمر لا بدّ من ملاحظة الإرادة الفاعلی و التکوینی فی المرکّبات


1- کفایة الاصول: 115.

ص: 22

الاعتباریة و الصناعیة لیتّضح حال الإرادة الآمری و التشریعی.

و لا یخفی: أنّ المرکّبات و إن کانت علی أقسام، إلّا أنّ محطّ البحث منها فی مقدّمة الواجب إنّما هو المرکّب الاعتباری- الذی یعبّر عنه بأنّه شی ء مع شی ء و یمکن جریان البحث فی المرکّب الصناعی أیضاً- الذی یعبّر عنه بأنّه شی ء لشی ء مع شی ء- و أمّا المرکّب الحقیقی فخارج عن محطّ البحث.

فینبغی أوّلًا الإشارة الإجمالیة إلی المراد من أقسام المرکّب، ثمّ الورود فیما هو محطّ البحث:

فنقول: المرکّب علی قسمین: حقیقی أو غیر حقیقی.

و المراد بالمرکّب الحقیقی هو المرکّب من الجنس و الفصل، و المادّة و الصورة. و المرکّب الحقیقی بأقسامه خارج عن محطّ البحث بالاتّفاق؛ لأنّ الجنس و الفصل من الأجزاء التحلیلیة العقلیة، و لا وجود لها فی الخارج. و المادّة و الصورة فإن کانتا موجودتین فی الخارج، إلّا أنّه لا امتیاز بینهما و بین المرکّب منهما لیتوقّف علیهما، و هو واضح.

و المراد بالمرکّب غیر الحقیقی هو الملتئم من أشیاء متخالفة و امور متباینة، و هو علی قسمین:

الأوّل: المرکّب الصناعی؛ و هو المؤلّف من امور متعدّدة ملتئمة و مجتمعة علی نحو مخصوص، بحیث یکون للمرکّب نحو وحدة و عنوان واحد و اسم مخصوص مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر، کالمسجد و البیت، و منه المعاجین و الأدویة المرکّبة بالصناعة.

الثانی: المرکّب الاعتباری؛ و هو المؤلَّف من امور متعدّدة ملحوظة بنظر الوحدة بلحاظ مدخلیتها بتمامها فی حصول غرض واحد و مصلحة واحدة.

ص: 23

و بعبارة اخری: المرکّب الاعتباری هو ما یکون ترکّبه و وحدته بحسب الاعتبار، کالفوج من العَسکر و العشرة، و منه الماهیات الاختراعیة، کالصلاة و الصوم و الحجّ و نحوها؛ فإنّها مرکّبات اعتباریة جعلیة.

و ذلک لأنّ الفوج من العسکر ألفاً أو عشرة آلاف- مثلًا- إنّما هو بحسب الجعل و الاعتبار. و العشرة مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة لیست إلّا الوحدات المستقلّات. و هکذا الأمر فی الصلاة و الصوم و الحجّ و غیرها من الماهیات المخترعة؛ فإنّ الوحدة فیها لیست إلّا بحسب الجعل و الاعتبار، و مع قطع النظر عن الاعتبار فهی وحدات عدیدة مستقلّة.

ثمّ إنّ الغرض قد یکون قائماً بوجود کلّ واحد من أشخاص أو أشیاء مستقلّة، من غیر ارتباط بین الوحدات، کمن کان له عدّة أصدقاء یشتاق لقاء کلّ واحد منهم مستقلًاّ، من غیر ارتباط بعضهم ببعضٍ، فعند تصوّر کلّ واحد یرید لقاءه بإرادة مستقلّة. فقد لا یکون اجتماعهم مورداً لعلاقته و إرادته، بل ربّما یکون اجتماعهم مبغوضاً عنده.

و قد یکون قائماً بالمجموع لا بالأفراد، کمن یرید فتح بلد لا یمکن فتحه إلّا بفوج من العسکر، فعند ذلک لا یکون کلّ واحد منه مراداً له و لا متعلّقاً لغرضه، بل الغرض إنّما یکون قائماً بالفوج، فیتصوّره و یشتاقه و یرید إحضاره. ففی هذا اللحاظ تکون الآحاد مندکّة فانیة فی الفوج، و لا یکون کلّ واحد مشتاقاً إلیه، و لا تتعلّق به إرادة نفسیة؛ لفرض عدم حصول الغرض به.

نعم، لو تصوّر کلّ واحدٍ واحدٍ من العسکر و رأی توقّف الفوج علی وجود کلّ واحد منهم، أراده لأجل غیره لا لنفسه؛ ففی کلّ واحد منهم ملاک الغیریة لا النفسیة، کما أنّ فی الفوج ملاک النفسیة لا الغیریة.

ص: 24

فکلّ واحد منهم مقدّمة، و یتوقّف علیه عنوان الفوج بالاستقلال، و لا یکون الاثنان منهم أو الثلاثة و هکذا مقدّمة، و لا فیها ملاک الإرادة الغیریة. فهناک إرادة نفسیة واحدة متعلّقة بفوج من العسکر، و إرادات غیریة متعلّقات بعدد الأفراد.

و بالجملة: هاهنا أمران:

أحدهما: الفوج من العسکر الذی یراه والی الأمر فاتحاً للبلد، ففیه ملاک الإرادة النفسیة لا غیر.

ثانیهما: کلّ واحدٍ واحدٍ من الفوج و فی کلّ واحد منهم- لتوقّف الفوج علیه- ملاک الإرادة الغیریة.

و أمّا فی الاثنین منهم أو الثلاثة منهم و هکذا سائر الترکیبات الاعتباریة فلیس فیها ملاک الإرادة؛ لا النفسی منها، و هو واضح، و لا الغیری؛ لعدم توقّف الفوج علیها زائداً علی توقّفه علی کلّ واحد منهم.

و لا یخفی: أنّ الغرض فی المرکّبات الاعتباریة قائم بالمجموع الخارجی- کالفوج من العسکر فی المثال المذکور- لا بالاعتبار الذهنی، و لا بکلّ فردٍ فردٍ من أفراد العسکر فی المثال؛ فیکون متعلّق الغرض مقدّماً علی لحاظ الوحدة، و علی الأمر المتعلّق به. هذا فی المرکّبات الاعتباریة.

و أوضح من ذلک المرکّبات الصناعیة التی لها وحدة عرفیة و ترکّب صناعی، کالمسجد و البیت و نحوهما. فإذا کان الغرض قائماً بمرکّب صناعی، کالمسجد بلحاظ ما ورد مثلًا:

«أنّ من بنی مسجداً کمفحص قطاة بنی اللَّه له بیتاً فی الجنّة»

(1)،


1- الفقیه 1: 152/ 704، وسائل الشیعة 5: 204، کتاب الصلاة، أبواب أحکام المسجد، الباب 8، الحدیث 2.

ص: 25

فیلاحظ أوّلًا عنوان المسجد، و فی ذلک اللحاظ لا تکون أجزاء المسجد- من الأخشاب و الأحجار و اللبنات و غیرها- ملحوظة، بل مُندکّة فیه. فالمسجد متعلّق لإرادته النفسیة، و لیس فیه ملاک الإرادة الغیریة.

نعم إذا رأی توقّف تحقّق المسجد فی الخارج علی کلّ من الأحجار و اللبنات و الأخشاب و غیرها، یریدها لأجل بناء المسجد، و یکون فیها ملاک الغیریة لا النفسیة.

و بالجملة: فی المسجد- مثلًا- ملاک النفسیة، فیریده مستقلًاّ و فی کلّ واحد من أجزائه ملاک الغیریة، فیریدها لأجل تحصیل المسجد. فعند إرادة بناء المسجد تحصل له إرادات کثیرة بعدد الأحجار و اللبنات و الأخشاب و غیرها.

نعم، لم تکن تلک الإرادات أصلیة مستقلّة بنفسها، بل غیریة بلحاظ توقّف بناء المسجد علی وضع کلّ واحد من الأحجار و اللبنات و الأخشاب و غیرها علی وضع مخصوص و کیفیة خاصّة.

فقد ظهر لک: عدم اجتماع المثلین فی المرکّبات الاعتباریة و الصناعیة؛ لأنّ الواجب نفساً و ما تعلّق به الإرادة النفسیة هو المجموع المرکّب، و الواجب مقدّمةً، و ما تعلّق به الإرادة الغیریة هو کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء.

هذا ما یقتضیه الوجدان فی المرکّبات الاعتباریة و الصناعیة، و هو أصدق شاهدٍ و دلیل فی أمثال هذه المباحث.

إذا عرفت کیفیة تعلّق الإرادة الفاعلیة فی المرکّبات الاعتباریة و الصناعیة، یظهر لک حال الإرادة الآمریة؛ لأنّ الکلام فیها هو الکلام فیها؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بما له وحدة اعتباریة فی المرکّب الاعتباری- کالصلاة مثلًا- أو وحدة صناعیة فی المرکّب الصناعی- کالمسجد- ملازمة لإرادة ما یراه مقدّمة، و هی کلّ واحدٍ واحدٍ

ص: 26

من الأجزاء؛ لتوقّف المرکّب علیها، من غیر فرق فی ذلک بین المقدّمات الخارجیة و الداخلیة؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه.

و لیس الأجزاء بالأسر واجباً فی قبال کلّ واحد من الأجزاء، کما توهّمه المحقّقون، کالشیخ(1) و الخراسانی(2) و النائینی(3) و العراقی(4) و غیرهم- قدّس اللَّه أسرارهم- فوقعوا فی حیص و بیص فی ذلک؛ فقد أنکر بعضهم- من أجل ذلک- کون المقدّمات الداخلیة داخلة فی محطّ البحث، و تشبّث بعضهم فی دخولها فیه، بلحاظ اختلاف الأجزاء بالأسر مع المرکّب اعتباراً، مع أنّه لم یمکنهم دفع مشکلة اجتماع المثلین.

مع أنّک قد عرفت بما لا مزید علیه: أنّه لم یکن للأجزاء ملاک المقدّمیة، و لا تحقّق لها فی الخارج مضافاً إلی کلّ جزءٍ جزءٍ، بل کلّ واحد من الأجزاء مقدّمة، و هو غیر المرکّب حقیقة، لا اعتباراً؛ لأنّ المجموع المرکّب من حیث المجموع شی ء غیر کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء وجوداً و اعتباراً و لحاظاً؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه.

فظهر و تحقّق ممّا ذکرنا: أنّ کلًاّ من المقدّمات الخارجیة و الداخلیة حیث یکون فیها ملاک البحث یکون محطّ البحث.


1- مطارح الأنظار: 40/ السطر 1.
2- کفایة الاصول: 115.
3- فوائد الاصول 1: 264- 268، أجود التقریرات 1: 218.
4- نهایة الأفکار 1: 262.

ص: 27

ذکر و تعقیب

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره تصدّی لخروج المقدّمات الداخلیة عن محطّ البحث بذکر إشکالات علی دخولها فیه، ثمّ ذکر تحقیقاً فی المسألة. و لکن لا یخلو ما أفاده من النظر، و بعض ما ذکره لا یخلو عن تناقض:

فبعد أن قال قدس سره: إنّ الحقّ أنّ أجزاء الماهیة بجمیع أقسامها خارجة عن حریم البحث، و بعد أن ذهب إلی أنّ الجزئیة و الکلّیة لا یصحّ انتزاعهما من المرکّب الاعتباری المؤتلف من عدّة امور متباینة إلّا بالإضافة إلی الوحدة الاعتباریة التی صارت تلک الامور المتباینة شیئاً واحداً بالاعتبار.

قال: إنّ مطابق- بالفتح- هذا الواحد الاعتباری ربّما تکون له هیئة فی الخارج تجعله واحداً حسّیاً یشار إلیه بإشارة واحدة، کالسریر و الدار، و ربّما لا تکون له هیئة کذلک، کالحجّ و شبهه من المرکّبات الجعلیة(1)

. إلی أن قال: إنّ الوحدة الاعتباریة علی نحوین:

فقد یکون فی الرتبة السابقة علی الأمر و فی ناحیة متعلّقه؛ بأن یعتبر عدّة امور متباینة شیئاً واحداً بلحاظ تحصیلها لغرض واحد، فیوجّه أمره إلیه.

و قد یکون فی الرتبة اللاحقة، بحیث تنتزع من نفس الأمر بلحاظ تعلّقه بعدّة امور؛ فیکون تعلّقه بها منشأ لانتزاع الوحدة الملازمة لاتّصافها بعنوانی الکلّ


1- قلت: یشیر بذلک إلی ما ذکرنا: أنّ محطّ البحث إنّما هو فی المرکّبات الصناعیة و الاعتباریة؛ أشار إلی الأوّل بقوله: ما تکون لمطابقة هیئة فی الخارج، و أشار إلی الثانی بقوله: ما لا تکون له هیئة تطابقه، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 28

و الأجزاء، کما کانت الوحدة فی الرتبة السابقة مستلزمة لاتّصاف المتعلّق بالعنوانین المزبورین.

ثمّ قال: إنّ ما یکون محلّ النزاع هو ما إذا کانت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی الأمر. و أمّا الوحدة الطارئة فی الرتبة المتأخّرة عن الأمر فلا یکون محلّا للبحث؛ لعدم تعقّل ترشّح الوجوب من الکلّ إلی الأجزاء بملاک المقدّمیة؛ لأنّ الجزئیة و الکلّیة الملزومتین لهذه الوحدة ناشئة من الأمر حسب الفرض؛ فتکون المقدّمة فی الرتبة المتأخّرة عن تعلّق الأمر بالکلّ، و معه لا یعقل ترشّحه علی الأجزاء؛ لأنّ الأمر الغیری إنّما یتعلّق بما یکون مقدّمة مع الغضّ عن تحقّق الأمر، و لا یمکن تعلّقه بما لا تکون مقدّمة فی الرتبة السابقة علی الأمر.

ثمّ إنّه قدس سره بعد أن ذهب إلی أنّ محطّ البحث فی تعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء، ما إذا کانت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی تحقّق الأمر، قال: الحقّ أنّ الأمر الغیری لا یترشّح من الکلّ علی الأجزاء؛ لمنع الصغری- أعنی المقدّمیة- أوّلًا، و منع الکبری ثانیاً:

أمّا منع الصغری: فلأنّ الأجزاء و إن تغایر الکلّ اعتباراً من حیث اللابشرطیة و بشرط الانضمامیة- حیث إنّه باعتبار الأوّل تکون أجزاءً، و باعتبار الثانی تکون کلًاّ- بل یمکن القول بتقدّم الأجزاء علی الکلّ بالتجوهر، و لکن المغایرة الاعتباریة و التقدّم و التأخّر بالتجوهر لا یقتضیان صحّة انتزاع المقدّمیة من الأجزاء؛ إذ مقدّمیة شی ء لشی ء آخر تستلزم ترتّب وجود الثانی علی وجود الأوّل، و من الواضح: أنّ الکلّ فی الخارج عین الأجزاء بلا اثنینیة بینهما فی الوجود، و المغایرة الاعتباریة لا توجب المغایرة الوجودیة.

هذا، مضافاً إلی أنّ عنوانی الجزئیة و الکلّیة- کما عرفت- لا ینتزعان إلّا بعد

ص: 29

اعتبار الوحدة؛ فیکون کلّ من عنوانی الجزء و الکلّ طارئاً علی الذات، بلا تقدّم لعنوان الجزء علی عنوان الکلّ.

و أمّا منع الکبری- و هی کون الأجزاء واجبة بالوجوب الغیری؛ لکونها مقدّمة للکلّ- فلأنّ الأجزاء لا تکون واجبة بالوجوب الغیری لأجل کونها مقدّمة للکلّ؛ لأنّ الأجزاء و إن کانت مقدّمة علی الکلّ المرکّب منها بالتجوهر، إلّا أنّ ذلک لا یجدی فی إمکان تعلّق الوجوب الغیری بها؛ ضرورة أنّها نفس الکلّ المرکّب منها وجوداً فی الخارج، و البعث إلی الکلّ بعث إلیها؛ فأیّ فائدة فی البعث إلیها ثانیاً؟! و إذا کان الغیری لغواً استحال صدوره من الحکیم.

و لأنّ مجرّد المغایرة الاعتباریة بین الجزء و الکلّ لا تفی بصحّة تعلّق الوجوب بکلّ منهما؛ لأنّ تعدّده إنّما ینشأ عن تعدّد ملاکه مع تعدّد موضوعه وجوداً و خارجاً، و واضح: أنّ التعدّد الاعتباری لا یوجب ذلک.

مضافاً إلی استلزام ذلک اجتماع المثلین فی موضوع واحد.

و توهّم أنّ کثیراً ما یجتمع ملاک الوجوب الغیری مع ملاک الوجوب النفسی فی الواجبات النفسیة، أو ملاک الوجوب النفسی مع آخر مثله، و یکون اجتماعهما سبباً لتأکّد البعث إلی ذلک الواجب، و لا یلزم اجتماع المثلین؛ فلیکن مورد النزاع کذلک.

مدفوع بوجود الفرق؛ لأنّ فی بعض الواجبات النفسیة إذا اجتمع ملاک وجوب الغیری مع النفسی یکون فی عرضه لا محالة؛ فیکون أثره- و هو الوجوب الغیری- أیضاً کذلک؛ فیحدث منهما وجوب قوی.

و أمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک؛ لأنّ ملاک الوجوب الغیری فی الأجزاء فی طول ملاک الوجوب النفسی فی الکلّ، و مع الاختلاف فی الرتبة یستحیل اتّحاد المتماثلین بالنوع.

ص: 30

ثمّ قال: إنّ هذا کلّه لو کان متعلّق الأمر هو الکلّ- أعنی به الأجزاء مع قید الوحدة اعتباراً- أو مصلحة، کما علیه المشهور.

و لکن التحقیق یقتضی کون متعلّق الأمر نفس ذوات الأجزاء التی تطرأ علیها الوحدة الاعتباریة؛ إمّا بلحاظ قیام مصلحة واحدة بها، أو بلحاظ أمر آخر تطرأ علیها الوحدة الاعتباریة.

فکما تطرأ علیها الوحدة الاعتباریة یتعلّق بها الأمر، فیکون تعلّق الأمر بها فی عرض طروّ الوحدة علیها، لا لأنّه یتعلّق الأمر بالأجزاء المتّصفة بالوحدة الاعتباریة؛ لتکون تلک الوحدة مقوّمة لتعلّق الأمر و متقدّمة بالطبع علیه. بل لا یعقل أن تکون الامور المتعدّدة الملحوظة بنحو الوحدة الاعتباریة- المعبّر عنها بالکلّ فی هذا اللحاظ- هی متعلّق الأمر؛ لأنّ المصلحة دعت إلی الأمر، و هی تقوم بذوات تلک الامور المتعدّدة، المعبّر عنها بالأجزاء.

و لا دخل للوحدة الاعتباریة فی المصلحة بالضرورة؛ لأنّ تلک الوحدة اعتباریة قائمة بنفس المعتبر، و المصلحة أمر حقیقی خارجی، و لا یعقل تقوّم الأمر الحقیقی فی وجوده الخارجی بالأمر الاعتباری القائم فی نفس معتبره.

و أیضاً لو کانت الوحدة الاعتباریة مقوّمة للمصلحة الداعیة إلی الأمر بذیها، فلا محالة تکون الوحدة متأخّرة بالطبع عن المصلحة المزبورة؛ فلا یعقل أخذها قیداً مقوّماً فیها، و إلّا یلزم تقدّم المتأخّر و تأخّر المتقدّم، کما لا یخفی، انتهی کلام المحقّق العراقی قدس سره بطوله مع اختصارٍ منّا(1).


1- بدائع الأفکار 1: 313- 317.

ص: 31

و فی کلامه مواقع للنظر:

منها: قوله قدس سره بأنّ الوحدة الاعتباریة قد تکون فی الرتبة السابقة علی الأمر، و قد تکون فی الرتبة المتأخّرة.

ففیه: أنّ الوحدة فی جمیع الموارد تکون فی الرتبة السابقة، و لا تکون لنا مورد تعرض الوحدة بعد تعلّق الأمر؛ و ذلک لأنّ المولی منّا لا یأمر إلّا لغرض یراه فی متعلَّق أمره.

فإن لاحظ المولی عدّة أشیاء فإن کان کلّ واحد منها محصّلًا لغرضه فلا یکاد یتعلّق أمره بالمجموع، بل لا بدّ له من أوامر متعدّدة، و إن عبّر عنها بعبارة واحدة؛ بأن یقول: «أکرم کلّ عالم».

و أمّا إن لم یکن کلّ منها محصّلًا لغرضه، بل ربّما تکون فیه المفسدة، بل المصلحة قائمة بالمجموع- کالفوج من العسکر لفتح البلد- فیلاحظ المجموع أمراً واحداً، و عند ذلک یتحقّق عنوان الکلّ و الأجزاء.

نعم، لم تکن الأجزاء و الأفراد، أجزاء المأمور به و أفراده بما أنّه مأمور به؛ بداهة أنّه لا تکون کذلک إلّا بعد تعلّق الأمر به.

و الحاصل: أنّ المولی قبل تعلّق الأمر یتصوّر الموضوع- و هو المجموع الذی قام به المصلحة- و فی ذلک اللحاظ تکون الأفراد و الأجزاء مغفولة عنها، فتحقّقت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی الأمر.

و قد عرفت: أنّ المراد بلحاظ الوحدة لحاظ المجموع و تصوّره، لا اعتبار المجموع شیئاً مستقلًاّ؛ بأن یلاحظ مفهوم الوحدة مضافاً إلی ملاحظة المجموع.

و إن شئت مزید توضیح لما ذکرنا فاختبر نفسک فی قولک: «إنّ مسجد الجامع- مثلًا- خیر من مسجد السوق» و «إنّ الصلاة- مثلًا- معراج المؤمن»؛ فإنّ

ص: 32

المحکوم بالخیریة أو المعراجیة هو عنوان المسجدیة أو الصلاتیة، لا الأحجار و اللبنات و الأخشاب و غیرها فی المثال الأوّل، و التکبیر و الحمد و السورة و غیرها فی المثال الثانی.

و بالجملة: عند قیام المصلحة بالمجموع فتعلّق الأمر بالأُمور المتعدّدة، یتوقّف علی تصوّر اجتماع کلّ منها مع الآخر. فالاجتماع قبل الأمر ملحوظة لا محالة، و لا نعنی بلحاظ الوحدة قبل تعلّق الأمر إلّا هذا، لا مفهوم الوحدة کما لا یخفی.

فتحصّل: أنّه لا فرق بین القسمین فی أنّ الوحدة ملحوظة فی کلیهما قبل تعلّق الأمر، فتدبّر.

و منها: أنّه لو سلّم أنّ الوحدة أحیاناً متأخّرة عن الأمر و تنتزع الکلّیة و الجزئیة فی الرتبة المتأخّرة عن الأمر، و لکن لا یوجب ذلک خروجه عن محطّ البحث؛ لأنّ البحث لم یکن فی عنوان الجزئیة و الکلّیة؛ لأنّه لم یکن فی الجزئیة ملاک المقدّمیة، بل لیس لها تأخّر عن عنوان الکلّیة- لأنّهما متضایفان ینتزعان فی رتبة واحدة، و المتضایفان متکافئان فعلًا و قوّة- بل البحث فی الجزء و الکلّ؛ لأنّ البحث فی توقّف شی ء علی شی ء آخر، و لا إشکال فی أنّ الکلّ و المجموع- الذی قام به المصلحة- یتوقّف علی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء، و هو غیر الکلّ.

و لعلّ منشأ الاشتباه هو توهّم ترشّح الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة، و أنّ إرادة المقدّمة مترشّحة من إرادة ذی المقدّمة؛ فتوهّم: أنّه إذا کانت الوحدة متأخّرة عن الأمر فلا یعقل ترشّحه إلی ما لا یکون مقدّمة فی الرتبة السابقة علی الأمر.

و قد عرفت: أنّه بمکان من الفساد؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة لم تکن مبدأ للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة بنحو النشوء و الرّشح و الإیجاد، فإذا کان حال الإرادات

ص: 33

کذلک- کما تقدّم- فالوجوب أسوأ حالًا؛ لأنّه ینتزع من تعلّق البعث بالشی ء، و لا یعقل أن یترشّح بعث من بعث آخر، کما هو واضح إلی النهایة.

و منها: قوله بمنع الصغری- و هی المقدّمیة- لعدم ترشّح الوجوب الغیری من الکلّ إلی الأجزاء؛ لأنّ منشأ ذلک هو توهّم کون الأجزاء بالأسر مقدّمة، فلا فرق بین المقدّمة و ذیها إلّا بالاعتبار.

و قد عرفت: أنّ الأجزاء بالأسر لم تکن مقدّمة، بل المقدّمة إنّما هی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء؛ فتحصّل المغایرة الوجودیة بین المقدّمة و ذیها، فإذن: لا وجه لمنع الصغری، کما لا یخفی.

و بهذا یظهر النظر فیما رتّبه علی ذلک؛ من ممنوعیة الکبری من ناحیة لغویة البعث، فلاحظ.

و منها: تعلیله لعدم تعلّق الوجوب الغیری علی الأجزاء بلزوم اللغویة، یناقض ما سیأتی منه عند ذکر الأقوال فی مقدّمة الواجب؛ فإنّه قدس سره بعد أن اختار وجوب المقدّمة أورد علی نفسه بأنّه: ما ثمرة الإرادة التبعیة المتعلّقة بإیجاد المقدّمات، بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمات؟ و هل هو إلّا من اللغو الواضح؟!

فأجاب: بأنّ هذه الإرادة لیست إلّا إرادة قهریة ترشّحیة معلولة لإرادة الواجب- کما تقدّم فی البرهان- و مثلها لا یتوقّف علی وجود غایة و ثمرة(1)

. و حاصل ما أجابه هو: أنّ إرادة المقدّمة لم تکن من الأفعال الاختیاریة حتّی تحتاج إلی غایة، بل هی قهریة تحصل من تعلّق الإرادة بذی المقدّمة.

و هذا المقال و إن لم نسلّمه، بل عرفت آنفاً: أنّ إرادة المقدّمة معلولة لمبادئها،


1- بدائع الأفکار 1: 399.

ص: 34

و لا تکون معلولة و مقهورة لإرادة ذیها، و لکن نقول: إنّ إرادة إتیان المقدّمات الخارجیة إذا کانت قهریة لا تحتاج إلی غایة، فلیکن إرادة إتیان المقدّمات الداخلیة أیضاً قهریة غیر محتاجة إلی غایة، فتدبّر.

و منها: أنّ حدیث اللغویة إنّما یکون برهاناً و دلیلًا علی عدم کون المقدّمات الداخلیة واجبة، و لکن ذلک لا یکون دلیلًا و برهاناً علی عدم وجود ملاک البحث فیها، فکم من موضوع یجعل محطّاً للبحث و النظر، لکن یثبته شخص و ینفیه آخر!

و منها: أنّ إشکال اجتماع المثلین- الذی أشار إلیه هذا المحقّق، وفاقاً لبعض الأعلام، کالمحقّق الخراسانی(1) و المحقّق النائینی(2) و غیرهما قدّس اللَّه أسرارهم- قد عرفت حاله، و حاصله: أنّه إنّما یلزم إذا کانت المقدّمة عبارة عن الأجزاء بالأمر، و أمّا إذا کانت هی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء فیکون المجموع واجباً نفسیاً، و کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء واجباً غیریاً، فأنّی اجتماع المثلین فی موضوع واحد؟!

و منها- و هو فی الحقیقة تقریب آخر للإشکال السابق- و هو: أنّ منشأ الإشکال هو خلط محیط تعلّق الأمر بمحیط الخارج، و لا یخفی: أنّ اتّحاد المقدّمات الداخلیة مع ذیها خارجاً لا ینافی اختلافهما عنواناً فی محیط تعلّق الحکم، أ لا تری أنّ عنوان الصلاة غیر عنوان الغصبیة و مع ذلک قد یتّحدان خارجاً؟! فلیکن عنوان الأجزاء غیر عنوان الکلّ و مع ذلک یتّحدان خارجاً.

فعلی هذا: یمکن تعلّق الوجوب الغیری بعنوان الأجزاء، و تعلّق الوجوب النفسی بالکلّ.


1- کفایة الاصول: 115.
2- فوائد الاصول 1: 265- 268، أجود التقریرات 1: 217- 218.

ص: 35

فلو سلّم أنّ ذوات الأجزاء مقدّمة، لا یلزم منه اجتماع المثلین؛ لاختلاف ذوات الأجزاء مع ذیها بحسب العنوان؛ بداهة أنّه قد تلاحظ عنوان الکلّ و یکون الأجزاء عند ذلک مغفولة عنها فی ذلک اللحاظ، و قد یعکس و تکون الأجزاء ملحوظة و یکون عنوان الکلّ مغفولًا عنه.

و الشاهد علی التعدّد: ما أشرنا إلیه فی بناء المسجد أو الدار ثمّ إرادة وضع الأحجار و اللبنات و الأخشاب و نحوها، فلاحظ.

و منها: أنّه لو سلّمنا أنّ المقدّمة هی الأجزاء بالأسر، و لکن مع ذلک لا یتوجّه الإشکال؛ لما سنشیر إلیه فی محلّه: أنّ ذوات الأجزاء علی فرض وجوب المقدّمة لم تکن واجبة، بل هی بعنوان الموصلیة، و واضح: أنّ عنوان الموصلیة غیر عنوان الکلّ و یختلفان عنواناً. و مجرّد اتّحاد عنوان الموصلیة مع عنوان الکلّ خارجاً لا یوجب اجتماع المثلین، کما لا یخفی.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لا ینبغی الإشکال فی کون الأجزاء مقدّمة، فلا وجه لمنع الصغری و الکبری، فتدبّر.

و منها: أنّه لا دلیل علی اعتبار الوحدة و کون المجموع واحداً و غیر محتاج إلیه، بعد ملاحظة أنّ المصلحة حاصلة بإتیان الأجزاء.

و بالجملة: مجرّد لحاظ کون المصلحة قائمة بالمجموع یکفی فی أخذه موضوعاً للحکم، و بدون ذلک اللحاظ لا معنی لتعلّق الأمر به؛ فهو لا محالة تکون فی الرتبة السابقة علی الأمر، لا فی رتبته، فضلًا عن کونها متأخّرة عنه.

و منها: أنّ الوحدة و إن کانت أمراً اعتباریاً، و لکنّه یکون منشأ للأثر عند العرف و العقلاء، و لا یکون من قبیل لحاظ أنیاب الأغوال و اعتبارها، التی لا تتجاوز

ص: 36

حریم اللحاظ و الاعتبار، بل لحاظ الوحدة و اعتبارها نظیر سائر الامور الاعتباریة الدارجة عند العقلاء، التی تدور بها رحی معاشهم و معادهم، و تستقیم امور دنیاهم و آخرتهم. فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّ جمیع المقدّمات الداخلیة داخلة فی محطّ البحث، و یکون فیها ملاک البحث.

هذا کلّه فی المقدّمات الداخلیة.

و أمّا المقدّمات الخارجیة: فهل محطّ البحث جمیع المقدّمات الخارجیة؛ سواء کانت مقتضیة، أو معدّة، أو شرطاً، أو عدم المانع؛ حتّی إذا کانت علّة تامّة، بل إذا کانت سبباً تامّاً تولیدیاً(1) أو خصوص ما لم تکن علّة تامّة، أو لم یکن تولیدیاً. و ربّما یظهر من بعضهم خروج العلّة التامّة من محطّ البحث، کما یظهر من بعض آخر خروج ما یکون سبباً تولیدیاً بحیث لم یکن له وجود منحاز عن وجود المعلول.

و الحقّ: کون جمیع المقدّمات الخارجیة داخلة فی محطّ البحث، من غیر فرق بین العلّة التامّة و غیرها، و الأسباب التولیدیة و غیرها.


1- قلت: المراد بالعلّة- کما افید- ما یترشّح منه وجود المعلول، و بإفاضته یتحقّق المعلول. کما أنّ المراد من المُعدّ ما له دخل فی وجود الشی ء، من دون أن یکون وجود ذلک الشی ء مترشّحاً منه، بحیث یکون مقتضیاً لوجوده، بل کان لجهة التهیئة و الاستعداد لإفاضة العلّة وجود معلولها، کدرجات السلَّم- ما عدا الدرجة الأخیرة- حیث إنّ کلّ درجة تکون معدّة للکون علی السطح، کما تکون معدّة أیضاً للکون علی الدرجة التی فوقها؛ بمعنی أنّه یتوقّف وجود الکون علی الدرجة الثانیة علی الکون علی الدرجة الاولی. و قد یطلق المُعدّ علی ما یکون له دخل فی وجود المعلول، من دون أن یکون له دخل فی وجود الجزء اللاحق، کالبذر حیث إنّ له دخلًا فی وجود الزرع، و لا یتوقّف وجود الشمس أو الهواء علیه، و إن توقّف تأثیرهما علیه.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 37

و السرّ فی ذلک: وجود ملاک البحث فی جمیع ذلک، یظهر ذلک من ملاحظة الإرادة الفاعلی بالنسبة إلی أفعاله.

و قد ظهر لک لعلّه بما لا مزید علیه آنفاً: أنّ وزان الإرادة الآمری وزان الإرادة الفاعلی.

فإذا تمهّد لک ذلک: یظهر لک ضعف ما عن المحقّق النائینی قدس سره، حیث فصّل فی العلّة التامّة بین ما إذا کان لکلّ من العلّة و المعلول وجود مستقلٌّ و کان ما بحذاء أحدهما غیر ما بحذاء الآخر، کطلوع الشمس بالنسبة إلی ضوء النهار؛ لأنّ لکلّ من الشمس و الضوء وجوداً یخصّه.

و بین ما إذا لم یکن کذلک، بل کان هناک وجود واحد معنون بعنوانین طولیین:

عنوان أوّلی و عنوان ثانوی، کالإلقاء و الإحراق فی الامور التکوینیة، و الغسل و الطهارة فی الامور الشرعیة؛ فإنّه لم یکن هناک إلّا فعل واحد، و یکون هو بعنوانه الأوّلی إلقاءً أو غسلًا، و بعنوانه الثانوی إحراقاً أو تطهیراً، و لیس ما بحذاء الإلقاء أو الغسل غیر ما بحذاء الإحراق أو الطهارة، بل هو هو؛ و لذا یحمل أحدهما علی الآخر؛ فیقال: الإلقاء إحراق و بالعکس، و الغسل طهارة و بالعکس؛ لما بین العنوانین من الاتّحاد فی الوجود ... إلی أن قال قدس سره: الحقّ أنّ العلّة التامّة علی الأوّل داخلة فی محطّ النزاع و تکون واجبة بالوجوب المقدّمی، و الذی یکون واجباً بالوجوب النفسی هو المعلول.

و أمّا علی الوجه الثانی فالحقّ: أنّها لیست محطّاً للنزاع؛ لأنّه لیس هناک إلّا فعل واحد معنون بعنوانین: عنوان أوّلی و عنوان ثانوی.

بل لیس ذلک فی الحقیقة من باب العلّة و المعلول؛ إذ العلّة و المعلول یستدعیان وجودین، و لیس هنا إلّا وجود واحد و فعل واحد؛ فلیس الإحراق معلولًا للإلقاء،

ص: 38

بل المعلول و المسبّب التولیدی هو الاحتراق، لا الإحراق الذی هو فعل المکلّف.

و کذا الکلام فی الغسل و التطهیر، حیث إنّ التطهیر لیس معلولًا للغسل، بل المعلول هو الطهارة؛ فإذن الإلقاء أو الغسل لیس واجباً بالوجوب المقدّمی، بل هو واجب بالوجوب النفسی، غایته لا بعنوانه الأوّلی- أی بما أنّه إلقاء أو صبّ الماء- بل بعنوانه الثانوی؛ أی بما أنّه إحراق و إفراغ للمحلّ عن النجاسة.

و هکذا الکلام فی الانحناء و التعظیم و غیر ذلک من العناوین التولیدیة.

و بالجملة: فی تلک الموارد لم یصدر من المکلّف فعلان، بل فعل واحد معنون بعنوانین:

عنوان أوّلی، و عنوان ثانوی، إلی آخر ما أفاده، فلاحظ(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ ما ذکره لیس تفصیلًا فی بعض المقدّمات؛ لأنّه لو تمّ ما ذکره قدس سره تخرج العلّة التامّة- التی لا تختلف وجوداً مع معلولها- عن کونها علّة؛ و ذلک لأنّ العلّة دائماً تکون وجودها غیر وجود المعلول، و لا معنی لأن توجد العلّة و معلولها بوجود واحد، کما هو ثابت فی محلّه.

و ثانیاً: أنّ الأمثلة التی ذکرها للعناوین التولیدیة لا تخلو عن المناقشة.

فالمناقشة فی المثال و إن لم یکن من دأب المحصّلین، لکنّها حیث تکون کثیرة ارتباط بتصدیق المطلب أو تکذیبه، فنشیر إلیها:

فنقول: أمّا قضیة الإلقاء و الإحراق: فلأنّ الإلقاء فی الحقیقة فعل الملقی- بالکسر- و الإحراق فعل النار، و انتساب الإحراق إلی الملقی انتساب إلی غیر ما هو له، کقولک: «بنی الأمیر المدینة»، فإذا کان کذلک فکیف یحمل أحدهما علی الآخر؟! و إلّا یصحّ أن یقال: «ألقی النار»، و هو کما تری.


1- فوائد الاصول 1: 269- 271.

ص: 39

و کذا قضیة الغسل و التطهیر؛ فإنّ الغاسل هو الشخص و التطهیر هو فعل الماء، و الشخص وسیلة للتطهیر، و انتساب التطهیر إلی الشخص انتساب إلی غیر ما هو له، و إلّا یلزم أن یکون الشخص الغاسل من المطهّرات، و هو کما تری.

و کذا فَری الأوداج لم یکن قتلًا، بل هو سبب لزهوق الروح الذی هو القتل، و هذا مثل الشمس و الإشراق الذی مثله.

فتحصّل: أنّ شیئاً من الأمثلة التی ذکرها لا یکون من أمثلة تلک العنوان. نعم، لو وجد شی ء یکون کذلک یتمّ ذلک، فتدبّر.

و منها: تقسیمها إلی المقدّمة المقارنة و المتأخّرة و المتقدّمة

قد قسّموا المقدّمة إلی المقدّمة المقارنة مع وجود ذیها فی الوجود، و المقدّمة المتقدّمة علیه، و المقدّمة المتأخّرة عنه کذلک.

و قد وقع الاستشکال فی تصویر المقدّمة المتأخّرة و إمکانها، بلحاظ أنّ المقدّمة من أجزاء العلّة، فلا معنی لتأخّرها عنه بحسب الوجود. بل وقع الاستشکال فی المقدّمة المتقدّمة بلحاظ امتناع انفکاک المعلول عن علّته.

و بالجملة: قد استشکل فی مقدّمیة المقدّمة السابقة علی ذیها و المتأخّرة عنه، بلحاظ امتناع انفکاک المعلول عن علّته، و امتناع تقدّم المعلول علی علّته، و انحصروا المقدّمیة فی المقدّمة المقارنة.

و لعلّ منشأ عنوان هذا البحث بلحاظ وقوع مسائل فی الفقه أوهم تأخّر الشرط عن مشروطه، فعنونوا البحث للدفاع عن حریم المسائل المطروحة فی الفقه.

ص: 40

و ما توهم تأخّر الشرط عن مشروطه، فتارة یکون فی شرائط المکلّف به، کأغسال اللیلة المستقبلة بالنسبة إلی صوم المستحاضة، حیث قال بعضهم بأنّه یشترط فی صحّة صوم المستحاضة غسل اللیلة الآتیة؛ فإنّ ظاهره یعطی بأنّ صحّة الصوم الماضی مشروط بغسل اللیلة الآتیة، مع أنّه متأخّر عنه.

و اخری فی شرائط الحکم الوضعی کالإجارة فی بیع الفضولی، علی القول بکون الإجازة کاشفاً حقیقیاً بالنسبة إلی الأحکام الوضعیة المترتّبة علی العقد الفضولی من حین وجوده، فصحّة العقد و ترتّب الآثار مشروطة بالإجازة المتأخّرة.

و ثالثة فی شرائط نفس التکلیف، کالقدرة المتأخّرة عن المکلّف بالنسبة إلی التکلیف المتقدّم الصادر من المولی؛ فإنّهم یرون أنّ القدرة شرط لصحّة التکلیف، فإذا کلّف المولی عبده بشی ء یصحّ منه ذلک و إن لم یکن العبد قادراً عند ذلک، و لکن یقدر علیه فی المستقبل؛ فیصحّ للمولی أن یکلّف عبده بشرط یکون متأخّراً.

فهذه المسائل أوقعهم فی حیص و بیص؛ لأنّ ظاهرها مخالفة للقاعدة العقلیة، من غیر فرق بین کون الشرط شرطاً للمکلّف به، أو للوضع، أو للتکلیف؛ فقد تصدّوا لتوجیهها بوجه:

فمنهم: من وجّه إمکان الشرط المتقدّم أو المتأخّر مطلقاً؛ فی التکوینیات أو التشریعیات.

و منهم: من أنکر ذلک مطلقاً، و لکن تصدّی لتصحیح ما یتراءی خلاف ذلک فی الشریعة بوجه.

و منهم: من فصّل بین التکوینیات و بین التشریعیّات؛ لعدم الإمکان فی الأوّل، و جوازه فی الثانی.

ص: 41

کلام المحقّق العراقی لدفع الإشکال فی الشرط المتأخّر

و ممّن تصدّی لذلک: المحقّق العراقی قدس سره؛ فإنّه قال:

قد وقع الخلاف بین أهل النظر فی جواز عدم مقارنة الشرط للمشروط به؛ فذهب جمهور الفلاسفة إلی لزوم مقارنة الشرط للمشروط به و امتناع تقدّمه علیه أو تأخّره عنه. و فصّل بعضهم بین الشروط التکوینیة و الشروط التشریعیة؛ فوافق الفلاسفة فی الأوّل و خالفهم فی الثانی.

و احتجّ المانع بأنّ الشرط من أجزاء العلّة التامّة، و من الضروری عدم جواز انفکاک العلّة التامّة عن معلولها أو انفکاکه عنها- سواء کان ذلک بتقدّم العلّة علیه أم بتقدّمه علیها- و جواز تقدّم الشرط علی المشروط و تأخّره عنه یستلزم ذلک، و مستلزم الممتنع ممتنع، کما لا یخفی.

إلی أن قال ما حاصله: الحقّ إمکان تقدّم الشرط علی المشروط به و تأخّره عنه مطلقاً؛ سواء کان الشرط تکوینیاً أو تشریعیاً.

و ذلک لأنّه لا ریب فی امتناع انفکاک ما یترشّح عن العلّة عنها؛ لأنّ جواز ذلک یستلزم جواز تأثیر المعدوم فی الموجود، و هو مساوق لجواز وجود الممکن لا عن علّة، هذا.

و حیث إنّ المقتضی للتأثیر فی المعلول لیس نوع المقتضی و طبیعته، بل حصّة خاصّة منه، مثلًا لم یکن نوع النار مؤثّراً و مقتضیاً فی الإحراق الخارجی، بل المؤثّر منها هی حصّة خاصّة منها؛ و هی النار التی تماسّ الجسم المستعدّ بالیبوسة لقبول الاحتراق.

ص: 42

فالمؤثّر إنّما هی الحصّة المتحصّصة بالخصوصیة، و واضح: أنّ الحصّة الکذائیة لا بدّ لها من محصّل فی الخارج، فما به تحصّل خصوصیة الحصّة المقتضیة یسمّی شرطاً، و الخصوصیة المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلک الحصّة المقتضیة حاصلة من إضافة الحصّة المزبورة إلی شی ء ما، و ذلک الشی ء المضاف إلیه هو الشرط. فالمؤثّر فی المعلول هو نفس الحصّة الخاصّة، و الشرط محصّل لخصوصیتها، و هو طرف الإضافة المزبورة.

و ما یکون شأنه کذلک جاز أن یتقدّم علی ما یضاف إلیه أو یقترن به أو یتأخّر عنه، هذا فی الشرط التکوینی.

و کذلک الکلام فی شرط المکلّف به أو شرط التکلیف، بل هو أولی؛ فنقول: إنّ ذات الصوم- مثلًا- لم تکن مؤثّرة تأثیراً شرعیاً، بل المؤثّر منها حصّة خاصّة منه؛ و هی الحصّة المضافة إلی غسل اللیلة الآتیة، و کذا فی شرط التکلیف(1)، انتهی ملخّصاً.

و فیه مواقع للنظر:

منها: أنّه لا مجال لإسراء أمر المقام إلی التکوین؛ لأنّ المقتضی و المؤثّر التکوینی هو نحو وجود للشی ء بحیث یکون تقیّده و تشخّصه بعلل وجوده و مبادئه الحقیقیة، و لا یکون تشخّصه بالإضافات و الاعتبارات المتأخّرة عنه؛ فما هو المؤثّر فی التکوین لیست الحصّة الحاصلة بالإضافة إلی المقارن و لا إلی غیره، بل المؤثّر نحو وجوده المتشخّص من ناحیة علله الفاعلی، أو هو مع ضمّ القابل إذا کان مادّیاً.

فالنار- مثلًا- بوجودها مؤثّرة لإحراق ما وقعت فیه بما هو قابل للاحتراق،


1- بدائع الأفکار 1: 319- 323.

ص: 43

من غیر أن یکون الوقوع و التماسّ و قابلیة التأثّر و نحوها محصّلات للحصّة المتأثّرة.

نعم بعد وجودها تکون لها إضافة إلی هذا الشی ء أو ذاک الشی ء، إلی غیر ذلک.

و بالجملة: المؤثّر فی العلل التکوینیة هو نحو وجود الشی ء المتشخّص بمبادئ حقیقیة، لا بالإضافات و الاعتبارات المتأخّرة عنه.

و ما ذکرنا و إن کان واضحاً لا یحتاج إلی مزید بیان، و لکن مع ذلک: الحقیق بنا عدم مقایسة المقام بالتکوین و أن لا نَحُوم حول التکوینیات و إیکال أمرها إلی أهله و محلّه.

و منها: أنّ ما ذکره قدس سره و أیّده بالمثال لم یکن المؤثّر هی الحصّة، بل الفرد؛ فإنّ النار التی تماسّ الجسم المستعدّ للاحتراق هی الفرد منها، لا الحصّة، کما سبق مکرّراً، فتدبّر.

و منها: أنّ الإضافة و التضایف بین الشیئین لا بدّ و أن یکونا موجودین فعلًا إن کان المتضایفان موجودین فعلًا، أو قوّة إن کانا موجودین قوّة. و أمّا إذا لم یکن الطرفین أو أحدهما موجوداً فلا یمکن تحقّق الإضافة، أ لا تری أنّ الابوّة لا تحصل إلّا بعد حصول الابن خارجاً؟!

فعلی هذا لا یمکن أن تکون الإضافة إلی أمر معدوم محصّل الحصّة.

و بالجملة: الإضافة الفعلیة تستلزم تحقّق الطرفین فعلًا، کما تجد ذلک فی الابوّة و البنوّة الفعلیین؛ فإنّهما یستلزمان وجود الأب و الابن فعلًا.

ففیما نحن فیه حیث لم یکن المضاف إلیه موجوداً لا یعقل صدق الإضافة؛ فلا معنی لأن یقال: إنّ صوم المستحاضة مضاف إلی الغسل الذی لم یوجد بعد، و إنّ البیع الفضولی له إضافة إلی الإجازة التی لم تکن موجودة بعد.

إن قلت: نفرض وجود المضاف إلیه فی الذهن؛ فتصحّ الإضافة إلیه.

ص: 44

قلت: نعم یکفی ذلک فی تحقّق الإضافة الفرضیة و التخیّلیة، لا الإضافة الواقعیة، و مؤثّریة الشی ء إنّما هی واقعیة لا فرضیة، فتدبّر.

و منها: أنّ ما ذکره أخیراً- من أنّ شرائط التکلیف کالقدرة دخیلة فی اتّصاف الشی ء بکونه صلاحاً- خلط بین الشرط الشرعی و الشرط العقلی؛ ضرورة أنّ ما هو دخیل فی المصلحة و فی ملاک الحکم هی الشرائط الشرعیة، و أمّا القدرة- التی هی شرط عقلی- فغیر دخیلة فی اتّصاف المتعلّق بالمصلحة و فی ملاک الحکم؛ فإنّ فی إنقاذ المؤمن الموحِّد من الغرق و الهلاک کلّ الصلاح؛ قدر علیه المکلّف أم لا.

و قریب من مقالة هذا المحقّق قدس سره ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره فی شرائط المأمور به؛ فإنّه أراد تصحیح المطلب فی شرائط المأمور به من طریق الإضافة، فقال:

کون شی ء شرطاً للمأمور به لیس إلّا ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه و عنوان به یکون حسناً، أو متعلّقاً للغرض، بحیث لولاها لما کان کذلک.

فکما تکون إضافة شی ء إلی مقارن له موجباً لکونه معنوناً بعنوان یکون بذلک العنوان حسناً و متعلّقاً للغرض، فکذلک إضافته إلی متقدّم و متأخّر تکون حسناً و متعلّقاً للغرض(1)، انتهی ملخّصاً.

یظهر ضعفه ممّا ذکرنا فی مقالة تلمیذه المحقّق العراقی قدس سره.

کما یظهر ضعف ما عن صاحب «الفصول» قدس سره فی الجواب عن الإشکال؛ من أنّ الشرط إنّما هو العناوین الانتزاعیة- یعنی عنوانی التعقّب و التقدّم- و هی کانت حاصلة عند تحقّق الموضوع بعد العلم بوجود المتعقّب و المتأخّر(2).


1- کفایة الاصول: 119- 120.
2- الفصول الغرویة: 80/ السطر 36.

ص: 45

و کذا یظهر ضعف ما هو علی هذا المنوال، کالقول بأنّ الشرط فی صحّة العقد الفضولی هو عنوان تعقّب العقد بالإجازة، و هو حاصل عند تحقّق العقد.

و السرّ فی ذلک کلّه هو: أنّ العناوین و إن کانت انتزاعیة، لا یمکن أن تکون حاصلة بالفعل عند تحقّق الصوم و العقد- مثلًا- فإنّ الإجازة أو غسل اللیلة الآتیة معدومة حین العقد و الصوم.

الجواب الحقیق عن الإشکال

قد أشرنا: أنّ منشأ وقوع هذا البحث و النزاع هو ما یتراءی من وقوع الشرط المتأخّر فی التکلیف و الوضع و المأمور به فی الشریعة المقدّسة:

فالأوّل: کما إذا کان العبد قادراً فی الغد فقط علی إتیان فعل، فیأمره مولاه الیوم بإتیانه فی الغد؛ فإنّه لا إشکال فی صحّة التکلیف کذلک مع تأخّر القدرة عن زمان التکلیف.

و أمّا الثانی: فلصحّة البیع الفضولی مع تأخّر وقوع الإجازة من المالک.

و أمّا الثالث: کصوم المستحاضة المأمور به فعلًا بشرط فعل أغسال اللیلة الآتیة. فأوقعهم فیما أوقعوا فیه، کما أشرنا.

و لکن التحقیق فی حلّ الإشکال أن یقال:

أمّا فی شرائط التکلیف- کالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلی التکلیف المتقدّم- فنقول: إنّ القدرة المعتبرة فی تکلیف المولی لیست هی القدرة الواقعیة- من غیر فرق بین التکالیف الجزئیة و الخطابات الشخصیة، أو التکالیف الکلّیة و الخطابات القانونیة- لإتمام الموضوع للحکم، بل و لا جزءه، حتّی یتوهّم عدم صحّة التکلیف فیما لم تکن حال التکلیف موجودة، و إنّما تحدث فی ظرف العمل، کما فی المثال.

ص: 46

بل المعتبر و الشرط فی صحّة الخطابات الشخصیة إحراز المولی و تشخیصه قدرة العبد علی الفعل حال التکلیف، کما فی المثال.

و یشهد لذلک الوجدان؛ فإنّه أصدق شاهدٍ علی أنّه إذا علم و أحرز أنّ عبده قادر علی إتیان المکلّف به غداً- و لو بالجهل المرکّب- یریده منه حقیقةً و ینحدر البعث نحوه، و إن لم یکن قادراً واقعاً. و إذا کان العبد قادراً واقعاً و لکن لم یعلمه المولی و لم یحرزه لا یکاد یصدر من المولی الحکیم بعث نحوه.

فالقدرة الواقعیة غیر دخیلة فی صحّة التکلیف؛ لا بعنوان تمام الموضوع، و لا جزئه.

و بالجملة: القدرة الواقعیة لیست شرطاً لصحّة التکلیف فی التکالیف الشخصیة، بل الذی یکون شرطاً لها هو تشخیص المولی قدرة العبد علی المتعلّق و علمه بالصلاح، و عند ذلک یصحّ له الأمر الجدّی، و یبعث العبد حقیقة نحوه.

نعم، تنجّزه علی العبد مرهونة بقدرته علی إتیانه فی وقته، فإذا لم یکن قادراً فی نفس الأمر لم یکن التکلیف منجّزاً فی حقّه؛ لعدم إمکان انبعاثه، و یکون التکلیف لغواً غیر مؤثّر. و لکنّه غیر القول بعدم وجود الإرادة الجدّیة من المولی عند أمره و بعثه.

و بالجملة: إذا تبیّن عجز العبد فی ظرف الإتیان لا یکشف ذلک عن عدم الأمر و البعث الحقیقی فی موطنه، بل یکشف ذلک عن خطأ المولی فی التشخیص، و أنّ بعثه الحقیقی کان لغواً غیر مؤثّر.

فظهر: أنّ قدرة العبد واقعاً لم تکن شرطاً فی صحّة التکلیف، بل المعتبر هو علم المولی و استحضاره قدرة العبد فی موطنه عند تکلیفه؛ فلم یتأخّر الشرط عن مشروطه. هذا فی التکالیف الجزئیة.

ص: 47

و کذا الحال فی التکالیف الکلّیة القانونیة المتوجّهة إلی العناوین الکلّیة، مثل:

«أیّها الناس» و «أیّها المؤمنون»؛ فإنّ تمشّی الإرادة و البعث الحقیقی من المقنّن هو تشخیصه کون خطابه صالحاً لانبعاث طائفة من المکلّفین کلّ فی موطنه، من غیر لزوم تقییده بالقدرة و سائر الشرائط العقلیة. بل ربّما یوجب ذلک إخلالًا فی بعض الموارد. فشرط التکلیف حاصل حین تعلّق الأمر فی الخطابات القانونیة أیضاً.

و بالجملة: لم تکن قدرة آحاد المکلّفین معتبرة فی الخطابات القانونیة، بل و لا تشخیص قدرتهم أیضاً، بل المعتبر فی عدم لغویة الخطاب القانونی تشخیص المقنّن و علمه بتأثیر القانون لأکثر الناس. و ملاحظة وضع القوانین المدنیة و الاجتماعیة أصدق شاهدٍ علی ما ذکرنا.

و لو لزم إحراز انبعاث جمیعهم فی جعل القوانین الکلّیة فربّما یلزم الإخلال و الاغتشاش فی حکومته؛ لأنّه کثیراً ما یری المقنّن أنّ أفراد حکومته لا یعملون بالقوانین، و مع ذلک یضع القانون، و لکنّه یقارنه بالتحدیدات و التعزیرات.

هذا إجمال المقال فی وضع القوانین الکلّیة، و تفصیله یطلب من مبحث الترتّب.

و کیف کان: المعتبر فی وضع القوانین الکلّیة إحراز المقنّن انبعاثهم أو انبعاث عدّة منهم و کون القانون صلاحاً لأکثرهم؛ فشرط التکلیف حاصل حین تعلّق الأمر.

فظهر: أنّ شرط التکلیف فی التکالیف الجزئیة و التکالیف الکلّیة- و هو لحاظ قدرة العبد أو قدرة کثیر منهم- حاصل عند التکلیف، من دون لزوم تأخّر الشرط عن مشروطه، فتدبّر و اغتنم.

هذا کلّه فی شرائط التکلیف.

و أمّا فی شرائط الوضع، کإشکال اشتراط صحّة بیع الفضولی بالإجازة المتأخّرة عنه- علی القول بالکشف الحقیقی- بأنّه کیف یکون البیع حال وقوعه

ص: 48

صحیحاً و مؤثّراً، مع أنّ شرطه- و هو إجازة المالک- متأخّرة عنه؟

و کذا فی شرائط المأمور به، کإشکال اشتراط صحّة صوم المستحاضة بأغسال اللیلة الآتیة؛ بأنّه کیف یکون صومها صحیحاً، مع اشتراطها بأمر متأخّر؟

فالجواب الحقیقی عنهما بأحد وجهین: أحدهما من ناحیة حکم العقل، و الثانی من ناحیة الفهم العرفی:

الوجه الأوّل- و هو الجواب عن الإشکال- من ناحیة حکم العقل- و لیعلم أوّلًا: أنّا لا نرید تصحیح الشرط المتأخّر، بل هو باقٍ علی محالیته، و غایة همّنا هو رفع الإشکال العقلی عن حریم الأدلّة الموهمة لاعتبار الشرط المتأخّر حتّی یصحّ الأخذ بها. و لا یجوز طرحها بزعم مخالفتها لحکم العقل، و إن کان ما نذکره فی هذا الوجه مخالفاً لظواهر الأدلّة.

إذا تمهّد لک هذا فنقول: فرق بین صدق عنوان المتقدّم علی شی ء، و بین کونه متقدّماً بحسب الواقع؛ لأنّ عنوان التقدّم و التأخّر من المفاهیم ذات الإضافة، تنتزعان فی عرض واحد، و لا یعقل انتزاع عنوان التقدّم بدون انتزاع عنوان التأخّر. و لکن لا یلزم من ذلک کون شی ء متقدّماً بحسب الواقع.

أ لا تری أنّ العلّة متقدّمة علی معلولها، و لکن مع ذلک لا ینتزع عنوان العلّیة و المعلولیة إلّا بعد وجود المعلول و ترشّحه من العلّة؟! و مع وجود المعلول ینتزع عنوانی العلّیة و المعلولیة فی رتبة واحدة.

و بالجملة: إذا کان بین العنوانین نسبة التضایف لا یلزم من ذلک أن یکون مصداق المعنی الإضافی أیضاً إضافیاً؛ ضرورة أنّ عنوانی العلّیة و المعلولیة متضائفان تنتزعان فی رتبة واحدة، و مع ذلک لا یکون ما ینطبق علیه العنوانان إضافیاً، بل من مقولة الجوهر، بل ربّما یکون أعلی منه، کذات الباری تعالی بالنسبة إلی سائر

ص: 49

الموجودات. و إن کان مع ذلک فی خواطرک ریب و شبهة، فلاحظ الضدّین؛ فإنّ النسبة بین ذاتی الأسود و الأبیض نسبة التضادّ، مع أنّ عنوان التضادّ من الامور المتضایفة.

و بعبارة اخری: السواد و البیاض ضدّان مقابل المتضائفین، لکن عنوان الضدّیة من التضایف و ذاتهما ضدّان، فتدبّر.

فإذن نقول: إنّ الزمان بهویته الذاتیة لها تصرّم و تدرّج، بحیث لا یتمتع زمانان، بل لبعضها تقدّم علی بعض، بحیث یکون کلّ من التقدّم و التأخّر عین ذاته- و یعبّر عنه فی الاصطلاح بواقع التقدّم- کان فی الخارج عناوین إضافیة، أم لا.

و بالجملة: أنّ الزمان مع قطع النظر عن لحاظ اللاحظ له نحو تصرّم و تجدّدٍ و تقدّم و تأخّر بواقع التقدّم، لا مفهوم التقدّم و التأخّر.

فزمان نوح- علی نبینا و آله و علیه السلام- مقدّم علی زماننا هذا بواقع التقدّم، و مع ذلک لا یصدق علیه مفهوم التقدّم؛ لما أشرنا أنّ عنوانی التقدّم و التأخّر إضافیان، لا یصحّ انتزاع أحدهما إلّا فی رتبة انتزاع الآخر. فانتزاع عنوان القبلیة لزمان نوح علیه السلام لا یصحّ حقیقة؛ لأنّ منشأ الانتزاع- و هو تلک القطعة الموهومة- قد تصرّمت و انعدمت، نعم یصحّ اتّصافه بها عرفاً.

و الحاصل: أنّ للزمان سعة طولیة، کما أنّ للمکان سعةً عرضیة، بحیث یتصرّم و یتدرّج أجزاؤه وهماً، فیکون لبعضها تقدّم علی بعض و تأخّر، بواقع التقدّم و التأخّر، لا بمفهوم التقدّم و التأخّر؛ لأنّه إذا لم یکن طرف الشی ء موجوداً کیف یصحّ انتزاع العنوان؟!

نعم، یمکن تخیّلًا تصوّر المتقدّم و المتأخّر، و لکن ذلک لا یکون حقیقیاً، بل تخیّلیاً، و محلّ الکلام فی الاتّصاف الحقیقی الخارجی. هذا حال الزمان.

ص: 50

و أمّا الزمانیّات: فحیث إنّ وقوعها فی الزمان لیس مثل المظروف و الظرف المنحازین، بل لها نحو اتّحاد مع الزمان- کما تقرّر فی محلّه- فعلی هذا: لبعض الحوادث الموجودة فی الزمان- بتبع الزمان- تقدّم علی بعض الحوادث الاخر بواقع التقدّم، و لکنّه عرضاً و بتبع الزمان. فنوح- علی نبینا و آله و علیه السلام- مقدّم علینا بواقع التقدّم عرضاً، کما أنّه یتقدّم شخص علی آخر بواقع التقدّم بتبع المکان.

و لا یخفی: أنّ هذا إنّما یتحقّق إذا لم تنحصر الحادثة، بل وقعت حادثة اخری، و إلّا لو انحصرت الحادثة به لا تکون لها تقدّم بواقع التقدّم.

و بالجملة: الغَزوة- مثلًا- إنّما تکون أوّلیاً إذا وقعت بعدها غَزوة اخری، و إلّا لا تکون أوّلیاً. فوجود الشی ء متأخّراً دخیل فی کون شی ء متقدّماً بواقع التقدّم علیه.

و إن شئت مزید توضیح فنقول: إنّ یوم الجمعة مقدّم علی یوم السبت بواقع التقدّم إذا وجد یوم السبت بعده، و إلّا لم یکن لیوم الجمعة تقدّم علی یوم السبت.

و تقدّم الحوادث الواقعة فی الزمان بعضها علی بعض أیضاً کذلک، فتدبّر.

إذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول: یمکن التخلّص عن الإشکال بجعل موضوع الحکم الوضعی أو المکلّف به، هو ما یکون متقدّماً بحسب الواقع علی حادث خاصّ.

فالعقد الفضولی الذی هو متقدّم بتبع الزمان علی الإجازة تقدّماً واقعیاً موضوع للنقل و الانتقال، و لا یکون مقدّماً علیها بواقع التقدّم التبعی إلّا أن تکون الإجازة متحقّقة فی ظرفها.

کما أنّ تقدّم الحوادث الیومیة علی الحوادث الآتیة إنّما تکون بواقع التقدّم التبعی، لا علی ما لم یحدث بعدُ من غیر أن تکون بینها إضافة، کما عرفت.

و کذا موضوع الصحّة فی صوم المستحاضة ما یکون متقدّماً تقدّماً واقعیاً تبعاً للزمان، علی أغسال اللیلة الآتیة. و التقدّم الواقعی علیها لا یمکن إلّا مع وقوع

ص: 51

الأغسال فی ظرفها، و مع عدم الوقوع یکون الصوم متقدّماً علی سائر الحوادث فیها، لا علی هذا الذی لم یحدث، و الموضوع هو المتقدّم علی الحادث الخاصّ.

و بما ذکرنا یندفع جمیع الإشکالات، و الغرض من إتعاب النفس- کما أشرنا- هو تصحیح الأدلّة التی دلّت علی اشتراط أمر استقبالی فی شی ء سابق و الفرار عن الإشکال العقلی بوجه معقول، لا تصحیح الشرط المتأخّر، بل هو باقٍ علی محالیته، و لا استظهار الحکم من الأدلّة.

الوجه الثانی: و هو الجواب عن الإشکال من ناحیة الفهم العرفی، و حاصله:

أنّ هذه التدقیقات العقلیة ممّا لا تنالها الأفهام العرفیة التی تدور علیها الفقه و الفقاهة، و لا بدّ من حمل الأخبار الواردة علی المتفاهم العرفی، و إن کان مخالفاً للتدقیقات العقلیة.

و لذا لو وقعت قطرة دم- مثلًا- علی ثوب، فاغتسل الثوب، فبقی أثر الدم علی الثوب، لا یری العرف أنّ الأثر الباقی علی الثوب دم، بل أثر الدم، مع أنّ الفیلسوف یری أنّ الدم باقٍ بعد؛ لأنّه اقیم البرهان فی محلّه علی أنّ العرض لا یوجد بدون الموضوع؛ فالأثر الباقی بعد الغسل عنده إنّما هو ببقاء الأجزاء الدمیة. و لذا تراهم یحکمون بطهارة الثوب عند ذلک؛ لعدم بقاء الدم عندهم، مع بقائه عند الفیلسوف.

و بالجملة: الخطابات الشرعیة لا تنزّل علی التدقیقات الفلسفیة، و إنّما تنزّل علی المتفاهمات العرفیة، فلا بدّ و أن تحمل علیها.

و حیث إنّ العرف فیما نحن فیه کما یری صحّة إضافة الشی ء إلی المقارن، کذلک یری صحّة إضافته إلی المتقدّم و المتأخّر، کما یری تقدّم الزمان الماضی علی الزمان الحال و الاستقبال بعنوانه، و تأخّر زمان الاستقبال عن الحال و الماضی کذلک.

ص: 52

و بالجملة: لا یری العرف فی صحّة صدق العنوان لزوم وجود طرف الإضافة، و الخطابات الشرعیة منزّلة علی المتفاهم العرفی.

فیکون موضوع النقل و الانتقال العقد المتعقّب بنظره و الصوم المتعقّب کذلک، و لو کان العقل لا یساعد علیه و البرهان یضادّه، کما هو الحال فی سائر الموضوعات الشرعیة. فیصحّ البیع الفضولی المتعقّب بالإجازة المتأخّرة. و کذا یصحّ صوم المستحاضة المتعقّب بأغسال اللیلة الآتیة.

فعلیه: یکون الشرط فی صحّة البیع الفضولی المتعقّب بالإجازة و فی صحّة صوم المستحاضة المتعقّب بأغسال اللیلة الآتیة شرطاً مقارناً، و هذا الوجه یرجع إلی ما ذهب القوم، فتدبّر.

مقال المحقّق النائینی فی تحریر محطّ النزاع و دفعه

ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره ذکر اموراً، فیها خروج البحث العلل العقلیة، و العلل الغائیة، و الإضافات و العناوین الانتزاعیة، و شرائط متعلّق التکلیف عن البحث فی الشرط المتأخّر. ثمّ ذکر تحقیقاً و أراد بذلک تغییر محلّ النزاع عمّا هو المعروف فی محطّ البحث، فجعل محطّ البحث فی شرائط موضوعات الأحکام.

و حاصل ما ذکره هو: أنّه لا إشکال فی خروج العلل العقلیة- من المقتضی و الشرط و عدم المانع و المعدّ و غیر ذلک- عن حریم النزاع؛ لأنّ امتناع تأخّر بعض أجزاء العلّة التامّة عن المعلول من القضایا التی قیاساتها معها، و لا یحتاج إلی مئونة البرهان؛ لأنّ أجزاء العلّة التامّة بجمیع أقسامها تکون ممّا لها دخل فی وجود المعلول، علی اختلاف مراتب الدخل، و یشترک الکلّ فی إعطاء الوجود للمعلول.

ص: 53

کما لا إشکال فی خروج العلل الغائیة و علل التشریع عن حریم النزاع أیضاً(1)؛ لأنّ العلل الغائیة و کذا علل التشریع و إن کانت مؤخّرة فی الوجود غالباً، لکنّها متقدّمة تصوّراً، و لیست هی بوجودها العینی علّة حتّی یلزم تأثیر المعدوم فی الموجود و تقدّم المعلول علی علّته، بل العلّة و المحرّک هو وجودها العلمی.

و لیست الإضافات و العناوین الانتزاعیة- کالتقدّم و التأخّر، و السبق و اللحوق، و التعقّب و غیرها- ممّا یقع النزاع فیها؛ و ذلک لأنّ عنوان التقدّم إذا کان شرطاً لتکلیفٍ أو وضعٍ ینتزع من ذات المتقدّم عند تأخّر شی ء عنه، و لا یتوقّف انتزاعه عن شی ء علی وجود المتأخّر فی موطن الانتزاع، بل فی بعض المقامات ممّا لا یمکن ذلک، کتقدّم بعض أجزاء الزمان علی بعض؛ لأنّه لا یصحّ انتزاع عنوان التقدّم للیوم الحاضر علی الغد؛ لتصرّم الیوم الحاضر عند مجی ء الغد، و لا معنی لاتّصافه بالتقدّم حال تصرّمه و انعدامه. و کذا حال الزمانیات.

کما أنّه ینبغی خروج شروط متعلّق التکلیف عن حریم النزاع؛ لأنّ وزان الشرط وزان الجزء فی ترتّب الامتثال علیه؛ فکما لا إشکال فی تأخّر بعض أجزاء المرکّب عن الآخر فی الوجود و منفصلًا عنه فی الزمان- بأن یؤمر بمرکّب یکون بعض أجزائه فی أوّل النهار، و بعضها فی آخرها- کذلک لا ینبغی الإشکال فی کون شرط الواجب متأخّراً عنه فی الوجود و منفصلًا عنه فی الزمان.

و بالجملة: لا یلزم من تأخّر شرط متعلّق التکلیف شی ء من المحذورات التی تجری فی الشرط المتأخّر؛ من لزوم الخلف و المناقضة، و تقدّم المعلول علی علّته،


1- و لا فرق بینهما إلّا من جهة أنّهم اصطلحوا فی التعبیر عنها فی الشرعیات بعلل التشریع، و فی التکوینیات بالعلل الغائیة.

ص: 54

و تأثیر المعدوم فی الموجود؛ لأنّه بعد ما کان الملاک و الامتثال و الخروج عن عهدة التکلیف موقوفاً علی حصول التقیّد- الحاصل بحصول ذات القید- فأیّ خلف یلزم؟! و أیّ معلول یتقدّم علی علّته؟! و أیّ معدوم یؤثّر فی الموجود؟! فلا یلزم محذور أصلًا إذا کان غسل اللیل المستقبل شرطاً فی صحّة صوم المستحاضة؛ لأنّ حقیقة الاشتراط یرجع إلی أنّ الإضافة الحاصلة بین الصوم و الغسل شرط فی صحّة الصوم، بحیث لا یکون الصوم صحیحاً إلّا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.

فإذا عرفت ما ذکر یظهر لک: أنّ محلّ النزاع فی الشرط المتأخّر إنّما هو فی الشرعیات فی خصوص شروط الوضع و التکلیف.

و بعبارة اخری: محلّ الکلام فی موضوعات الأحکام؛ وضعیة کانت أو تکلیفیة.

و توضیح امتناع شرط المتأخّر فی موضوعات الأحکام یتوقّف علی بیان المراد من الموضوع، و هو یتوقّف علی بیان الفرق بین القضایا الحقیقیة و الخارجیة.

و مجمل الفرق بینهما هو: أنّ الموضوع فی القضیة الحقیقیة- حملیة کانت أو شرطیة، خبریة کانت أو إنشائیة- هو العنوان الکلّی الجامع بین ما ینطبق علیه من الأفراد، و فی القضیة الخارجیة یکون الموضوع هو الشخص الخارجی الجزئی.

و یتفرّع علی هذا الفرق امور تقدّمت الإشارة إلیها:

منها: أنّ العلم إنّما یکون له دخل فی الخارجیة دون الحقیقیة؛ لأنّ المدار فی القضیة الخارجیة- حملیة کانت أو إنشائیة- هو العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول، لا الثبوت الواقعی. مثلًا إذا کان لفضل زید دخل فی إکرامه فمتی علم الشخص بفضله یُقدم علی إکرامه مباشرة أو بتسبّب الأمر؛ سواء کان زید فی الواقع فاضلًا أم لا. و إذا لم یکن الشخص عالماً بفضله لا یباشر إکرامه و لا یأمر به، و إن کان

ص: 55

فی الواقع فاضلًا. فدخالة العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول یلحق بالعلل الغائیة التی عرفت أنّها إنّما تؤثّر بوجودها العلمی، لا بوجودها الواقعی.

و بالجملة: الحکم فی الخارجیة دائر مدار علم الحاکم و الفاعل- سواء کان المعلوم مقارناً، أم مؤخّراً- فهو خارج عن محلّ النزاع. ففی الحقیقة الدواعی و الامور الدخیلة فی جعل الحکم تکون کالعلل الغائیة التی قد عرفت أنّها خارجة عن حریم النزاع.

و أمّا ما یکون موضوعاً للحکم- و هو عنوان کلّی جامع لما یعتبر فیه من القیود و الشرائط، و قد اخذ مفروض الوجود- فالشرائط دخیلة فی الموضوع و من قیوده.

و محلّ البحث فی الشرط المتأخّر هو هذا القسم من الشرائط؛ فوقع الخلاف فی أنّه إذا جعل المولی حکماً وضعیاً أو تکلیفیاً بنحو القضیة الحقیقیة علی العنوان المتقیّد، فهل یصیر الحکم فعلیاً قبل حصول القید، أم لا؟ فحقیقة النزاع فی الشرط المتأخّر ترجع إلی تأخّر بعض ما فرض دخیلًا فی الموضوع علی جهة الجزئیة أو الشرطیة عن الحکم التکلیفی أو الوضعی؛ بأن یتقدّم الحکم علی بعض أجزاء موضوعه.

أضف إلی ذلک: أنّ الأحکام الشرعیة مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة.

فإذا أمعنت النظر فیما ذکرنا یظهر لک: أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضایا التی قیاساتها معها، و لا یحتاج إلی برهان، بل یکفی فی امتناعه نفس تصوّره.

من غیر فرق فی ذلک بین القول بکون المجعول هی السببیة، أو نفس الحکم الشرعی مرتّباً علی موضوعه.

لأنّه بناءً علی جعل السببیة یکون حال الشرعیات حال العقلیات التی تقدّم امتناع تأخّر العلّة فیها، أو جزئها، أو شرطها، أو غیر ذلک ممّا له أدنی دخل فی تحقّق المعلول.

ص: 56

و أمّا بناءً علی جعل الحکم عند وجود السبب- کما هو المختار عندنا- فللزوم الخلف؛ لأنّ الموضوع و إن لم یکن علّة للحکم؛ إلّا أنّه ملحق بالعلّة من حیث ترتّب الحکم علیه. فلو تقدّم الحکم علیه بعد فرض أخذه موضوعاً یلزم الخلف، و أنّ ما فرض موضوعاً لم یکن موضوعاً، انتهی ملخّصاً و محرّراً(1)

. و لا یخفی: أنّ بعض المقدّمات التی أوردها و إن کان مورداً للتصدیق و تماماً، إلّا أنّ بعضها الآخر غیر تمام و لا یمکن تصدیقه؛ و ذلک لأنّ إخراج العلل العقلیة و العلل الغائیة و العلل التشریعیة عن محطّ البحث و إن کان أمراً لا سترة فیه، إلّا أنّ إخراج شرائط متعلّق التکلیف عنه لا وجه له، بل هو محطّ البحث بینهم، لا شرائط موضوع التکلیف.

و ذلک لما أشرنا: أنّ منشأ البحث عن الشرط المتأخّر هو ما رأوا موارد فی الفقه توهّم فیها کون الشرط متأخّراً، کالإجازة فی البیع الفضولی- علی القول بکونها کاشفاً حقیقیاً- و غسل اللیلة المستقبلة فی صحّة صوم المستحاضة، و القدرة وقت العمل لصحّة التکلیف حال العجز، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

و ظاهر: أنّ الشرط المتأخّر فی هذه المسائل- التی وقعت محطّ البحث عندهم و صارت معرکة الآراء- من شرائط متعلّق التکلیف، لا شرائط موضوع التکلیف؛ فإخراج البحث عمّا هو البحث و النزاع و عقد البحث فی أمر بدیهی یکون قیاسه معه ممّا یعجب المُلتفت المتدرّب، کیف یصحّ أن یقال: إنّ الأعاظم و الأکابر تنازعوا فی أمر بدیهی یکون قیاسه معه؟! حاشاهم!


1- فوائد الاصول 1: 271- 280.

ص: 57

و بعبارة اخری: الإشکال العقلی فی المقام- الذی أوقع الأعاظم فی حیص و بیص- إنّما هو فی تأخّر شرائط متعلّق التکلیف، و التکلیف، و الوضع علیه، و لا یکون الإشکال مخصوصاً بالشرط، بل یجری فی الجزء أیضاً.

و حاصله: عدم معقولیة تأثیر الشی ء المعدوم فی الأمر الموجود؛ لأنّ صوم المستحاضة- مثلًا- قبل غسل اللیلة الآتیة إمّا أن یکون صحیحاً، أو لا یکون صحیحاً إلّا عند الغسل؛ فعلی الأوّل فلأیّ شی ء یقیّد بأمر معدوم؟ و علی الثانی یلزم تأثیر الغسل المعدوم فیه و إضافته إلیه و اتّصافه بالصحّة بأمر معدوم، مع أنّه یکون لیساً.

و بالجملة: لا وجه لعقده قدس سره البحث فی أمر لم یکن محطّاً للنزاع بین الأعلام و یکون بدیهیاً قیاسه معه.

ثمّ إنّ ما ذکره فی الإضافات و العناوین الانتزاعیة فقد فرغنا عن أنّها لا یمکن انتزاعها عقلًا إذا کان طرف الإضافة معدوماً. نعم إن أراد انتزاعها عرفاً فهو کلام آخر خارج عمّا هم بصدده؛ لأنّ ظاهر مقالاتهم یدلّ علی أنّهم بصدد تتمیم الأمر من ناحیة العقل، کیف و قد عرفت منّا أیضاً جوازه بالنظر العرفی؟! فلاحظ.

مضافاً إلی أنّه لم یدّع أحد کون الإضافات و العناوین الانتزاعیة محطّاً للبحث، و لعلّه یظهر منه قدس سره أنّها کانت محطّاً للبحث، و لم یتشبّث أحدٌ بها إلّا للتخلّص عن الإشکال، فتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذکره فی الفرق بین القضیة الحقیقیة و الخارجیة غیر صحیح؛ لما عرفت منّا: أنّ القضیة الخارجیة لم تکن جزئیة، بل من القضایا الکلّیة التی تقع کبری القیاس، و الحکم فی کلتا القضیتین تعلّق بالعنوان، غایة الأمر فی القضیة الخارجیة

ص: 58

تعلّق الحکم بعنوان لا ینطبق إلّا علی الموجودین فی الخارج، بخلاف القضیة الحقیقیة؛ فإنّه تعلّق الحکم فیها بعنوان ینطبق علی الموجودین فعلًا و ما یوجد بعد أو وجد قبلًا.

فحینئذٍ: لو تمّ ما ذکره فی الحقیقیة یجری أیضاً فی الخارجیة؛ لوحدة الملاک، فتدبّر.

ثمّ إنّ قوله: «إنّ المدار فی الخارجیة إنّما هو العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول، لا الثبوت الواقعی» لیس بصحیح علی إطلاقه؛ لأنّ کلًاّ من الحقیقة و الخارجیة یتوقّف علی کلّ من الشرائط العلمیة و العینیة.

و منشأ ما ذکره ملاحظة الأمثلة الجزئیة، و إلّا فلو قال الشارع- مثلًا: یعتبر فی صحّة صوم المرأة المستحاضة الخاصّة غسل اللیلة الآتیة، تکون قضیة خارجیة و یتوجّه علیه الإشکال، و لو أحرز المقنّن فی القضیة الحقیقیة: أنّ إکرام العالم- مثلًا حسن فیریده و ینحدر البعث إلی من یکون تحت نفوذه و سیطرته، و إن لم یکن فی الواقع حسناً، فتدبّر.

هذا بعض ما یتوجّه علی مقالة هذا المحقّق قدس سره.

بقی بعض اعتراضات اخر لا یهمّ التعرّض له، فطوینا عنه کشحاً.

فظهر بما ذکرنا بطوله: أنّ محطّ البحث عند الأعلام و الأساطین فی متعلّقات الأحکام، و فی الأحکام الوضعیة و التکلیفیة، و فی شرائط التکلیف. فإخراج متعلّقات الأحکام عن محطّ البحث و عقد البحث فی شرائط موضوع التکلیف ممّا لا وجه له، فتدبّر.

ص: 59

الأمر الخامس فی بعض تقسیمات الواجب

الواجب المطلق و المشروط
اشارة

قسّموا الواجب إلی المطلق و المشروط، و لا یخفی: أنّ الإطلاق و الاشتراط هنا نظیر الإطلاق و التقیید فی باب المطلق و المقیّد، وصفان إضافیان لا حقیقیّان؛ فیمکن أن یکون الواجب مطلقاً بالنسبة إلی قیدٍ، و مشروطاً بالنسبة إلی قیدٍ آخر، کما أنّه یمکن أن یکون اللفظ مطلقاً من جهةٍ، و مقیّداً من جهة اخری.

و لقد أجاد المحقّق الخراسانی قدس سره حیث قال: الظاهر أنّ وصفی الإطلاق و الاشتراط وصفان إضافیان لا حقیقیّان، و إلّا لم یکد یوجد واجب مطلق؛ ضرورة اشتراط وجوب کلّ واجب ببعض الامور، لا أقلّ من الشرائط العامّة، کالبلوغ و العقل، فالحریّ أن یقال: إنّ الواجب مع کلّ شی ء یلاحظ معه؛ إن کان وجوبه غیر مشروط به فهو مطلق بالإضافة إلیه، و إلّا فمشروط کذلک، و إن کان بالقیاس إلی شی ء آخر بالعکس(1)، انتهی.

ثمّ إنّ تحقیق الأمر فی الواجب المشروط و تبیین المرام فیه یستدعی البحث فی جهات:


1- کفایة الاصول: 121.

ص: 60

الجهة الاولی: فی میزان الفرق بین الواجب المطلق و المشروط
اشارة

و لیعلم: أنّ المهمّ فی المقام- و قد وقع البحث و الکلام فیه- هو بیان میزان الفرق بین الواجب المطلق و المشروط و عدم إرجاع أحدهما إلی الآخر، و قد اضطربت کلماتهم فی ذلک، و أتعبوا أنفسهم فی إرجاع القیود الراجعة إلی الهیئة إلی المادّة.

فنقول: الظاهر أنّ القیود الواقعة فی الکلام بصورة الشرط- مثلًا کقولنا: «إن جاءک زید فأکرمه» و «إن استطعتَ فحجّ»- راجعة إلی الهیئة و قیود لها، و هو المتفاهم منه عرفاً و تقتضیه القواعد الأدبیة.

و إرجاع تلک القیود إلی المادّة- کما نُسب إلی الشیخ الأعظم قدس سره(1)- لا بدّ و أن یکون لأحد أمرین علی سبیل مانعة الخلوّ:

إمّا لامتناع تقیید الهیئة، لکونها معنی حرفیاً غیر قابل للتقیید، فیرجع ما ظاهره تقیید الهیئة إلی تقیید المادّة.

أو لأجل رجوع القیود کلّها إلی المادّة لبّاً.

فإن أمکن تقیید الهیئة و المعنی الحرفی- کما هو الحقّ عندنا- و قلنا بعدم رجوع جمیع القیود الواقعة فی الکلام إلی المادّة لبّاً- نعم قد یکون راجعة إلیها، کما أنّه قد یکون راجعة إلی الهیئة فعلی هذا لا بدّ من الأخذ بظواهر الأدلّة و ما تقتضیه القواعد الأدبیة، و لا وجه لتأویلها و ارتکاب خلاف الظاهر فیها- فنقول من رأس:

إنّ رجوع القید إلی المادّة أو الهیئة لیس جزافیاً و بلا ملاک؛ فقد یکون راجعاً


1- مطارح الأنظار: 49/ السطر 5.

ص: 61

إلی المادّة، کما أنّه قد یکون راجعاً إلی الهیئة، و لا معنی لرجوع القید المربوط بأحدهما إلی الآخر؛ و ذلک لأنّ تعلّق الطلب و الوجوب- مثلًا- علی شی ء لا بدّ و أن یکون لأجل غرض مترتّب علیه، و إلّا یکون طلبه و تعلّق الوجوب به جزافیاً.

فربّما یترتّب الغرض علیه بلا قید و شرط، فینحدر البعث علیه بلا قید و علی سبیل الإطلاق، فیکون الواجب مطلقاً؛ فیجب إتیانه و لو مع القید.

و قد یترتّب الغرض علیه مع قید؛ لوجود الملاک فیه، دون قید آخر و دون عدم القید أصلًا.

فعند ذلک تارةً یکون القید دخیلًا فی أصل تعلّق الغرض، بحیث لو لم یکن القید لم یکن له غرض أصلًا، کإکرام الحاکم الظالم الجائی بلده، حیث یخاف من ظلمه؛ فإنّه لم یکن لأصل إکرامه غرض و مصلحة، بل ربّما یکون الغرض و الصلاح فی إهانته، و لکن مع ذلک إذا ورد فی بلده یکون له غرض فی إکرامه لدفع شرّ ظلمه عنه؛ فإکرام الظالم لیس مطلوباً علی سبیل الإطلاق و من جمیع الجهات، بل إذا جاء بلده.

و اخری لا یکون القید دخیلًا فی أصل الغرض، بل یکون دخیلًا فی حصول الغرض المحقّق، و ذلک کإکرامه العالم الورع الجائی بلده، حیث یکون له غرض مطلق فی إکرامه؛ لدرک المثوبات الکثیرة المترتّبة علی إکرام العالم الورع.

فغرضه عند ذلک مطلق محقّق، لا یکون له حالة منتظرة؛ و لذا یدعوه و یُرسل رسولًا نحوه لیدخل بلده؛ فالقید- و هو دخوله البلد- یکون دخیلًا فی حصول الغرض فی الخارج.

و بالجملة: غرض المولی یتصوّر علی نحوین: فتارة یکون غرضه مقیّداً بقید،

ص: 62

بحیث لو لا القید لم یکن له غرض أصلًا.

و اخری لا یکون غرضه مقیّداً بقید، بل مطلق، و لکن تعلّق بأمر مقیّد.

فإذا تصوّر المولی القسمین و صدّق بفائدتهما، یریدهما، فیبعث نحوهما، و واضح: أنّ البعث إلی ما یکون القید دخیلًا فی أصل الغرض یکون مشروطاً، بحیث لو لا القید لم یکن بعث. فالقید الکذائی یرجع إلی الهیئة لا محالة، و لا معنی لإرجاعه إلی المادّة.

کما أنّه إذا بعث إلی ما یکون القید دخیلًا فی حصول الغرض المطلق المحقّق یکون البعث مطلقاً، و القید یرجع إلی المادّة، و لا معنی لإرجاعه إلی الهیئة. فللمولی عند ذلک أمره بالمقیّد؛ بأن یأمر بالصلاة فی المسجد، فإن کان المسجد موجوداً فیصلّی فیه، و إلّا فیجب بناء مسجدٍ و الصلاة فیه. و لیس له الأمر کذلک إذا کان القید دخیلًا فی أصل الغرض، بل لا بدّ له أن یقول: إن کان المسجد محقّقاً فصلِّ فیه.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ القیود الراجعة إلی المادّة تخالف القیود الراجعة إلی الهیئة لبّاً و فی متن الواقع، فلا یصحّ إرجاع قیود المادّة إلی الهیئة و بالعکس فی مقام الإثبات.

نعم، إن لم یمکن إرجاع القید إلی الهیئة فی مقام الإثبات لبعض الشبهات- مثل کون معنی الهیئة حرفیاً و قلنا بأنّه غیر قابل للتقیید- فلا بدّ و أن ترجع إلی الهیئة لبّاً و فی متن الواقع.

فبما ذکرنا کلّه ظهر میزان الفرق بین الواجب المطلق و الواجب المشروط، و حاصله: أنّ الغرض فی الأوّل مطلق متحقّق، و فی الثانی مشروط و معلّق علی وجود القید.

ص: 63

ذکر و تعقیب

ثمّ إنّه ذکر المحقّق العراقی قدس سره میزاناً لتمییز القیود الراجعة إلی المادّة عن القیود الراجعة إلی الهیئة، و لعلّه یرید إفهام ما ذکرنا. و لکن ظاهر ما یعطیه عبارة «بدائع الأفکار» مخالف له. فنذکر حاصل ما ذکره ثمّ نعقّبه بما وقع فیه:

فقال: إنّ القیود علی نحوین:

أحدهما: ما یتوقّف اتّصاف الفعل بکونه ذا مصلحة علی حصوله فی الخارج، کالزوال و الاستطاعة بالنسبة إلی الصلاة و الحجّ؛ فإنّ الصلاة لا یکون ذات مصلحة إلّا بعد تحقّق الزوال، و کذلک الحجّ بالإضافة إلی الاستطاعة، و أمّا قبل تحقّق هذین القیدین فلا یری المولی مصلحة فی الصلاة و الحجّ؛ و لذا یأمر بهما معلّقاً أمره علی تحقّق هذین القیدین فی الخارج.

ثانیهما: ما یتوقّف فعلیة المصلحة و حصولها فی الخارج علی تحقّقه، بحیث لا تحصل تلک المصلحة فی الخارج إلّا إذا اقترن الفعل به، کالطهارة و الستر و الاستقبال و نحوها.

و بلحاظ هذا الفرق بین النحوین من القیود صحّ أن یقال للنحو الأوّل:

«شروط الأمر و الوجوب»، و للنحو الثانی: «شروط المأمور به و الواجب»(1)، انتهی.

و لا یخفی: ما فی کلا شقّی کلامه؛ لأنّه ربّما یکون بعض القیود دخیلًا فی اتّصاف الموضوع بکونه ذا مصلحة، و مع ذلک لا یکون الوجوب مشروطاً به، و ذلک مثل الطهور بالنسبة إلی الصلاة مثلًا؛ فإنّ الطهارة دخیلة فی اتّصاف الصلاة بالصلاح


1- بدائع الأفکار 1: 335.

ص: 64

بضرورة من الدین، بحیث لا تکون الصلاة ذات مصلحة بدون الطهارة. بل یمکن أن یقال: إنّ جمیع القیود الراجعة إلی اتّصاف الموضوع بالصلاح قیود المادّة، علی عکس دعوی هذا المحقّق؛ لأنّ الطهارة و الستر و الاستقبال و غیرها لیست کالآلات الفاعلیة فی إیجاد موضوع ذی صلاح بالضرورة؛ لأنّ اتّصاف الموضوع بالصلاح إنّما هو عند وجدانه القید.

نعم، القیود الدخیلة فی اتّصاف الموضوع بالمصلحة علی نحوین:

فتارةً: یکون غرض المولی متعلّقاً به علی الإطلاق- کان القید موجوداً أم لا- فلا بدّ له من تحصیل الطبیعة المتقیّدة و لو بإیجاد قیدها.

و اخری: لا یتعلّق غرضه المطلق به، بل تعلّق غرضه علی فرض حصول قیده، فلا یریده مطلقاً، فیرجع القید إلی الهیئة.

فتحصّل: أنّ قیود المادّة علی قسمین: فقد یکون الواجب مشروطاً بها، و قد لا یکون مشروطاً بها. فلا بدّ لرجوع القید لأحدهما دون الآخر من ضابط آخر، و هو الذی ذکرناه؛ من أنّه إذا کان غرضه مطلقاً فالقید یرجع إلی المادّة و یکون الواجب مطلقاً، و إذا کان غرضه مقیّداً بحصول قید فالواجب مشروط به، فتدبّر.

ذکر و إرشاد

قد ظهر لک بما ذکرنا: أنّ القیود الراجعة إلی الهیئة تخالف القیود الراجعة إلی المادّة لبّاً و فی متن الواقع، و لا یمکن إرجاع قید إحداهما إلی الاخری.

و لکن یظهر من تقریرات شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره إرجاع جمیع القیود إلی المادّة. قال فی بیانه ما حاصله: أنّه علی مذهب التحقیق تختلف المصالح و المفاسد فی الأفعال الاختیاریة بالوجوه و الاعتبارات:

ص: 65

فتارةً: یکون الفعل مع قطع النظر عن التکلیف به حسناً و مقتضیاً للأمر به، أو قبیحاً موجباً للنهی عنه.

و اخری: یکون الفعل علی وجه لو أمر به و أتی به المکلّف امتثالًا لأمر المولی یصیر حسناً، فعند ذلک یأمر بالفعل أوّلًا تحصیلًا لموضوع الفعل الحسن، ثمّ یُنبّه المکلّف بأن یأتی بالفعل المذکور علی وجه الامتثال.

و ثالثة: یکون الفعل حسناً علی تقدیر عدم الإلزام به، فیختلف حکمه بحسب اختلاف مراتب عدم الإلزام.

و رابعة: یکون الفعل المقیّد بقیدٍ ذا مصلحة ملزمة علی وجه یکون التکلیف متعلّق کلیهما.

و خامسة: یکون ذا مصلحة، لکن علی تقدیر وقوع القید لا علی وجه التکلیف.

فلا بدّ للحکیم لو قصد واحدة من تلک الصور أن یُعبّر عن مقصوده بلفظٍ یکون وافیاً بمقصوده. فلو کان الأمر مشروطاً بشرط- بأن قال: «إن استطعت فحجّ» مثلًا- فیستفاد منه وجوب الفعل المتعقّب بالاستطاعة، و حیث إنّ الدالّ علیه هو حرف الشرط الدالّ بحسب العرف و اللغة علی الملازمة بین الشرط و الجزاء، فالواجب هو الحجّ عند حصول الاستطاعة، فلا یجب عند عدمه بمقتضی اللفظ، فیکشف ذلک عن وجود المصلحة فی الفعل المتقیّد بالقید المذکور، لکن علی وجه کان وجوده غیر متعلّق للتکلیف.

و أمّا إذا عُبّر عن القید المذکور لا علی هذا الوجه- کأن یقول: «حجّ مستطیعاً»- یکشف ذلک عن وجود المصلحة فی الحجّ المتقیّد بالاستطاعة؛ بمعنی أنّ عدم التکلیف ممّا لا مدخلیة له فی إیراث الفعل حسناً، فتکون من المقدّمات

ص: 66

الوجودیة، و یجب تحصیلها عند إرادة امتثال ذیها. و بالجملة: قید الأمر لو کان فی ظاهر اللفظ فإنّما یرجع إلی المأمور به و المطلوب(1)، انتهی.

و لیعلم: أنّ هذا المقال منه قدس سره- مع جودة ذهنه و نقاوته- إنّما هو لأجل شبهة عرضت له؛ و هی عدم إمکان تقیید الهیئة التی معناها حرفی، و إلّا فهو قدس سره أجلّ شأناً و أرفع منزلة من أن یتعب نفسه الزکیة و یرتکب هذه التمحّلات الباردة، فکأنّه قدس سره وقع فی ذلک بلازم مبناه، من دون إمعان النظر فی حقیقة الأمر.

و ذلک لأنّه لو سلّمنا دخالة الاستطاعة فی مصلحة الحجّ- کما ذکره- لکن هنا قیود لا یمکن إرجاعها إلی المادّة أصلًا. مثلًا: لو قال المولی: «من سرق یقطع یده» أو «من أفطر عمداً فی شهر رمضان فعلیه الکفّارة»، فلازم ما أفاده: کون السرقة أو الإفطار عمداً دخیلین فی مصلحة قطع الید أو الکفّارة، مع أنّه لا یعقل أن تکون السرقة أو الإفطار دخیلین فی مصلحة قطع الید و الکفّارة، بحیث یکون للقطع المتقیّد بالسرقة أو الکفّارة المتقیّدة بالإفطار عمداً مصلحة؛ ضرورة أنّ الکفّارات و الحدود و التعزیرات إنّما شرّعت للتأدیب و إصلاح المجتمع، بل لعلّ ذلک لتطهیر المرتکبین فی هذه النشأة، فتدبّر.

و من هذا القبیل الأمر بالمهمّ عند عصیان الأمر بالأهمّ؛ فإنّه لا یمکن أن یقال:

إنّ عصیان الأمر بالأهمّ دخیل فی مصلحة الأمر بالمهمّ، کدخالة عدم إنقاذ العالم الورع الهاشمی مثلًا- فی مصلحة الأمر بالمهمّ- و هو إنقاذ المسلم غیر العالم الهاشمی- بل إنقاذه مطلوب من أوّل الأمر، غایته: أنّه لا یمکن العبد إنقاذه مع إنقاذ العالم الورع الهاشمی- لعدم قدرته علی إنقاذهما- فالمادّة غیر متقیّدة، و القید راجع إلی الهیئة.


1- مطارح الأنظار: 48/ السطر 22.

ص: 67

و بالجملة: فی بعض القیود و إن أمکن بتکلّف إرجاعه بوجهٍ إلی المادّة- کالاستطاعة- إلّا أنّه لا یمکن ذلک فی بعض قیود اخر، کما أشرنا، فتدبّر.

فتحصّل ممّا ذکرنا: عدم استقامة مقال الشیخ قدس سره.

إشکالات و أجوبة

و لکن ذُکر إشکالات لامتناع رجوع القید إلی الهیئة، فلو تمّت تلک الإشکالات فلا بدّ من التمحّل و التجشّم بإرجاع القید إلی الهیئة لبّاً، و إلّا فلا بدّ من إبقاء القید علی ظاهره:

من الإشکالات: أنّ الهیئة معناها حرفی، فتکون ملحوظة تبعاً، فلا یمکن فیها التقیید و الاشتراط؛ لأنّهما إنّما یکونان فیما إذا لوحظتا مستقلّتین.

و بعبارة اخری: معنی الهیئة بما أنّها من المعانی الحرفیة مندکّة فی متعلّقها غیر ملتفت إلیها مستقلّة، و التقیید و الاشتراط متوقّفان علی اللحاظ الاستقلالی للمقیّد و المشروط(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ التقیید أو الاشتراط فی المعانی الحرفیة إنّما هو بلحاظ ثانوی استقلالی، بل و کذلک الحال فی جمیع القیود حتّی الاسمی منها؛ و ذلک لأنّ قولک:

«أکرم زیداً» حینما لم تقیّده بکونه عالماً لم یکن هناک وصف و لا اتّصاف، ثمّ تلاحظه ثانیاً و توصیفه بأنّه عالم، هذا فی المعانی الاسمیة.

و کذلک فی المعانی الحرفیة؛ فإنّ الهیئة استعملت فی معناها الحرفی عند الإلقاء، ثمّ تلاحظ بالمعنی الاسمی، فیرد علیه القید.


1- فوائد الاصول 1: 181.

ص: 68

و بعبارة اخری: أنّ التقیید أو الاشتراط- حتّی فی المعانی الاسمیة- إنّما هو بلحاظٍ ثانٍ استقلالی؛ إذ اللفظ لا تستعمل إلّا فی معناه و لا یحکی إلّا عن نفس معناه، فإذا وصف بوصف- کالعدالة فی قولک: «رأیت العالم العادل»- فإنّما هو بلحاظ ثان، هذا فی المعنی الاسمی.

و قس علیه التقیید فی المعنی الحرفی، مثلًا الهیئة لا تستعمل إلّا فی معناها المطلق، لا فی المعنی المشروط، و التقیید یرد علیها فی لحاظ آخر؛ تقدّم أو تأخّر، و عند ذاک تصیر حال التقیید معنی اسمیاً؛ فلا منع من تقییده، فتدبّر.

و ثانیاً: أنّه لا دلیل علی احتیاج التقیید إلی اللحاظ الاستقلالی، و إن کان لحاظه کذلک بمکان من الإمکان. و غایة ما یقتضیه الاعتبار هو أن یکون ملحوظاً و لو فی ضمن الکلام الخبری فی الجُمل الخبریة أو الکلام الإنشائی فی الجمل الإنشائیة. فعلی هذا یمکن تقیید المعنی الحرفی- الذی هو معنی الهیئة- عند الإلقاء.

و إیّاک أن تتوهّم من جواز تقیید المعنی الحرفی صحّة وقوع المعنی الحرفی مسنداً أو مسنداً إلیه؛ لوجود الفرق بینهما کما لا یخفی، فتدبّر.

و بعبارة اخری: الوجدان أصدق شاهدٍ علی تقیید المعانی الحرفیة فی نوع المحاورات و التفهیمات، بل قلّما یتعلّق الغرض بإفهام المعنی الاسمی بدون تفهیم المعانی الحرفیة، بل المطلوب الأوّلی فی نوع المحاورات تفهیم المعانی الحرفیة.

مثلًا: إذا أراد الإخبار عن کون زید علی السطح- مثلًا- و قال: «زید علی السطح» فهو کما یحکی عن زید و السطح، یحکی عن الکون الرابط- أی کون زید علی السطح- فهو یحکی عن المقیّد و القید و التقیّد فی عرض واحد، من دون احتیاج إلی لحاظ مستأنف، بل حکایته عن زید و السطح بلحاظ حکایته عن المعنی الحرفی و الکون الرابط.

ص: 69

و لا فرق فی ذلک بین کون المعنی الحرفی حکائیاً- کالمثال المذکور- و بین کونها معنی إیجادیاً. فالمتکلّم قبل استعمالها یقدّر المعانی و الألفاظ فی ذهنه و یری أنّ مطلوبه لا یکون مطلوباً إلّا علی تقدیر، فیوجده کذلک.

و ثالثاً: أنّ الذی یقتضیه التحقیق و یعاضده الوجدان: أنّ التقیید لا یحتاج إلی لحاظ مستأنف- و لو تبعاً- بل إذا لوحظ الشی ء أوّلًا، ثمّ عُقّب بذکر قید أو قیود، یحصل التقیید و إن لم تلحظ ثانیاً. مثلًا قولک: «ضربت زیداً، یوم الجمعة، عند الزوال، ضرباً شدیداً» لم یلحظ فی کلّ من التقییدات الجملة من الصدر بأن یلاحظ «ضربت زیداً» عند تقییده بیوم الجمعة، ثمّ ملاحظة ذلک مقیّداً بکونه یوم الجمعة عند تقییده بعند الزوال، و هکذا. و غایة ما هناک: لحاظ «ضربت زیداً» أوّلًا، و یکفی ذلک فی تقییده لو قارنه بالقیود.

و منها: أنّ هیئة الأمر و النهی بما أنّها إیجادی یمتنع علیها طروّ التقیید و التعلیق؛ لامتناع التعلیق فی الامور التکوینیة؛ لأنّ أمرها دائر بین الوجود و العدم؛ فکما أنّ تعلیق الوجود فی الامور التکوینیة مساوق للعدم، فکذلک التعلیق فی الإیجاد؛ لأنّه مساوق لعدم الإیجاد(1)

. و فیه: أنّه خلط باب التکوین بباب التشریع و إسراء حکم الامور التکوینیة إلی الامور الاعتباریة، مع وجود الفرق بینهما. و التعلیق إنّما یمتنع فی الامور الحقیقیة التکوینیة، و أمّا الامور الاعتباریة التی لم تشمّ رائحة الوجود فلا یجری علیه أحکام الوجود.

و بالجملة: معنی التعلیق فی الإیجادی الاعتباری هو کون البعث و الإلزام من


1- راجع حاشیة کفایة الاصول، المشکینی 1: 493.

ص: 70

المولی إنّما هو علی تحقّق شرط و قید؛ فالبعث و الوجوب لم یکن خارجیاً، بل أمراً اعتباریاً؛ فیمکن طروّ التقیید و التعلیق علیه، فتدبّر.

و منها: أنّ الحروف- و منها الهیئة- موضوعة بالوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ؛ فمعنی الهیئة جزئی حقیقی، و هو غیر قابل للتقیید(1)

. و فیه أوّلًا: أنّه قد عرفت فیما سبق: أنّ الموضوع له فی الحروف- و منها الهیئة- کالوضع عامّ، فلاحظ.

و ثانیاً: لو سلّم کون الموضوع له فیها خاصّاً، و لکن تعلیق الجزئی و تقییده بلحاظ حالاته و أطواره ممکن، بل واقع؛ و لذا تجری فی الجزئی الحقیقی مقدّمات الإطلاق إذا وقع موضوعاً للحکم.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّ القیود الراجعة إلی المادّة تخالف القیود الراجعة إلی الهیئة لُبّاً و ثبوتاً، و لم یکن محذور فی تقیید الهیئة إثباتاً؛ فلا محذور فی الأخذ بظواهر الکتاب و السنّة الظاهرین فی تقیید الهیئة، فتدبّر.


1- مطارح الأنظار: 46/ السطر 2- 7.

ص: 71

الجهة الثانیة فی حکم وجوب الواجب المشروط قبل تحقق شرطه
اشارة

اختلف فی کون الوجوب فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه، فعلیاً أم لا؟

ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی کونه فعلیاً، و مع ذلک فرّق بین الواجب المشروط، و المعلّق، و المطلق، نشیر إلیه قریباً فارتقب.

و ذهب المشهور إلی عدم فعلّیته(1). و الحقّ ما ذهب إلیه المشهور. و لتوضیح ذلک نمهّد مقدّمة و هی أنّه کثیراً ما یدوم فی الألسن و یقال: الإرادة التکوینیة، و الإرادة التشریعیة، و الغافل یتوهّم أنّ هنا قسمین من الإرادة مختلفین ذاتاً، مع أنّ الأمر لیس کذلک؛ بداهة أنّه لم یکن لنا فی اللّب و الواقع سِنخان من الإرادة، بل حقیقة واحدة تتعلّق تارةً: بوضع القانون فیعبّر عنها بالإرادة التشریعیة، و تتعلّق اخری: بغیره فیعبّر عنها بالإرادة التکوینیة؛ و الأولی دفعاً لتوهم الاثنینیة أن یعبّر عن الاولی بإرادة التشریع و عن الثانیة بإرادة التکوین.

و واضح أن إرادة التشریع من الامور التکوینیة، فکما تحتاج إرادة الأکل أو الشرب إلی المبادئ فکذلک إرادة التشریع و التقنین محتاجة إلیها.

فعلی هذا: تقسیم الإرادة إلیها لم یکن لأجل خصوصیة فی ذات الإرادتین بل فی متعلّقهما، و لعلّ التقسیم کذلک لأجل بعض الفوائد المترتّبة علیه و إلّا یمکن تقسیم الإرادة بلحاظ المتعلّق إلی أقسام کثیرة لا تعدّ و لا تحصی.


1- الفصول الغرویة: 80/ السطر 10، کفایة الاصول: 121.

ص: 72

و الحاصل: أنّه لم تکن إرادة التشریع و التقنین سنخ آخر وراء إرادة التکوین بل هما مصداقاً حقیقة واحدة. إذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول:

قد یقال: إنّ الحکم عبارة عن الإرادة، أو الإرادة المظهرة، فیقال بأنّ اختلاف الوجوب و الاستحباب إنّما هو بتحکّم الإرادة بإتیان الفعل فی الواجب و عدم تحتّمها بإتیان الفعل فی المستحب، و کذا فی الحرام و المکروه؛ فإنّ الحرمة عبارة عن حتمیّة إرادة الترک و الکراهة عبارة عن عدمها.

و فیه: أنّ الذی یقتضیه الوجدان هو کون الحکم غیر الإرادة، و غیر الإرادة المظهرة، بل الإرادة من مبادئه، و ذلک لأنّه لو تصوّر المولی لإتیان عمله مصلحة ملزمة فیصدّق بفائدته، فیرید إیجاب العمل علی المکلّف فیبعث نحوه، فالبعث هو الحکم و الإرادة أو الإرادة المظهرة من مبادئه لا من مقدّماته.

فإذا لم تکن الإرادة من مقوّمات الحکم فلا معنی لامتیاز الحکم الوجوبی عن الندبی، بالإرادة، و کذلک فی الحرمة و الکراهة.

و لعلّ منشأ توهّم ذلک خلط إرادة الفاعل بالنسبة إلی فعل نفسه بإرادة التشریع و قیاس إحداهما بالأخری، مع أنّه مع الفارق؛ لأنّ إرادة التشریع لا تتعلّق بإیجاد فعل العبد؛ بداهة أنّ إیجاد فعله، فعل اختیاری له، فکیف یریده الشارع.

مضافاً إلی أنّ لازم ذلک عدم انفکاک المراد عن إرادته تعالی إذا تعلّقت إرادته تعالی بإیجاد فعل أو ترک فعل آخر، فلیزم أن لا یکون علی وجه الأرض عاصٍ أصلًا، مع أن العصاة بمرأی منک و مسمع فی الخارج.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ القول بأنّ الوجوب و الاستحباب أو الحرمة و الکراهة متمایزان بحتمیة الإرادة و غیرها لا یرجع إلی محصل؛ لأنّ لازمه امتیاز أحد الشیئین عن الآخر بما لا یکون مفرّقاً بینهما.

ص: 73

فلو صحّ امتیاز الوجوب عن الندب- مثلًا- بالإرادة التی من المبادئ، فلیصحّ امتیازهما بغیرهما من المبادئ و هو کما تری، و الفرق بینها من ناحیة اخری لا ترتبط بحالة بما نحن بصدده.

فلو تصوّر المولی أنّ لإتیان الفعل مصلحة ثمّ صدّق بفائدته و صلاحه فیریده، ثمّ یری أنّ أمره وسیلة إلی تذکّر العبد أو خشیته فیرید إیجاب العمل، فینبعث نحوه.

فإذن: الحکم عبارة عن إنشاء البعث الاعتباری الناشئ عن إرادة جدّیة، فإذا لم یکن البعث ناشئاً عن إرادة جدّیة، لا ینتزع منه الوجوب أو الإیجاب، بل انتزاعهما عند العرف و العقلاء مرهون کونهما منبعثین عن إرادة جدّیة.

فإذا تبیّن لک أنّ الحکم أمر اعتباری ناشئ عن حتمیة الإرادة فنقول:

غرض المولی تارةً: یتعلّق بشی ء علی نحو الإطلاق و فی جمیع الأحوال و اخری یتعلّق به مشروطاً و مقیّداً یتحقّق شی ء؛ فلو تعلّق غرض المولی به علی نحو الإطلاق فیریده کذلک، فیبعث نحوه کذلک، و ینتزع منه الوجوب المطلق؛ و أمّا لو تعلّق غرض المولی به مطلقاً علی حصول أمر و شرط، فیریده کذلک فیبعثه علی تقدیر حصول ذلک الأمر و الشرط.

و حیث إنّ البعث اعتباری، لا حقیقی، فلا مانع من إنشائه معلّقاً؛ فإذا صحّ البعث علی تقدیر فلا ینتزع العقلاء الوجوب من نفس بعثه قبل حصول الشرط، بل غایة ما یرون هی إنشاء البعث علی تقدیر من دون فعلیته للوجوب قبل تحقّق شرطه، فالوجوب فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه لم یکن فعلیاً.

فهل تری من نفسک أنّ غیر المستطیع یکون تکلیفه بالحجّ فعلیاً قبل تحقّق الاستطاعة، حاشاک؟!

و کم لما ذکرنا من تعلیق الإنشاء نظیر فی الفقه کالوصیة علی تقدیر الموت بنحو

ص: 74

شرط النتیجة؛ فإنّ المال یکون للموصی له بمجرّد فوت الموصی، فالمال مالک للموصی له علی تقدیر الموت. و کذا لو أوصی أنّ ماله بعد موته صدقة إلی غیر ذلک من موارد تعلیق الإنشاء. فإنشاء الملکیة للموصی له- مثلًا- علی تقدیر حصول الموت لا یفید الملکیة الفعلیة له قبل الموت، بل إنّما یفیدها بعد الموت.

فتحصّل ممّا ذکرنا صحة تصویر الواجب المشروط و أنّ الوجوب فیه قبل تحقّق الشرط لم یکن فعلیاً. و غایة ما ناک هو إنشاء الحکم علی تقدیر، و کم له نظیر فی أبواب الفقه، بل عند العرف و العقلاء أیضاً، فاختبرهم حتی تحصل لک الیقین إن لم تکن من الموقنین.

فظهر لک: أنّ الإرادة التشریعیة تتعلّق بإیجاب العمل علی المکلّف، لا بإیجاد العمل عنه و إلّا یلزم فیما لو أراد اللَّه تعالی إیجاد الأفعال من العباد لزوم إتیانهم الأفعال و امتناع ترکهم إیّاها؛ لاستحالة انفکاک المراد عن الإرادة. و معنی إیجاب العمل هو أن المقنن یری أنّ فی الفعل الکذائی مصلحة، فیرید إلزامه علی من یکون تحت نفوذه و سیطرته بإیجاب العمل علیهم، و یشفّع إیجابه بالوعد بالثواب بإتیانه، أو الوعید بالعقاب علی ترکه.

و واضح: أنّ إرادة المولی إیجاب العمل إرادة تکوینیة، لا شی ء آخر، و لا فرق فی ذلک بین الواجبات المطلقة و المشروطة، و الفرق بینهما إنّما هو فی المنشأ و المراد؛ لأنّه فی الواجب المطلق تکون إرادة الإیجاب غیر مقیّدة و فی الواجب المشروط تکون مفیدة.

فتحصّل: أنّ تقسیم الواجب إلی المطلق و المشروط، إنّما هو فی ناحیة المنشأ و الوجود الاعتباری، لا فی ناحیة الإرادة؛ لأنّها لا قید لها لا فی المطلق و هو واضح، و لا فی المشروط؛ لأنّه یریده إیجاباً معلّقاً و علی تقدیر، نظیر الوصیة کما أشرنا؛

ص: 75

حیث إنّها توجد ملکیة فعلیة بعد الموت. فالإیجاب المنشأ تارةً منشأ مطلقاً و بدون القید، فینتزع منه الوجوب المطلق و اخری ینشأ معلّقاً فینتزع منه الوجوب المشروط.

نقل و تعیب

یظهر من المحقّق العراقی قدس سره: أنّ الوجوب قبل تحقّق الشرط فعلی، فقال: هل الإرادة فی الواجب المشروط متعلّق بالمراد علی تقدیر خاص عند حصول ذلک التقدیر و تحقّقه فی الخارج، بحیث لا یکون الفعل مراداً قبل تحقّق ذلک التقدیر، أو أنّ الإرادة تتعلّق به فعلًا، لکنّه علی تقدیر حصول أمر خاص، فیکون الفرق بین الواجب المشروط بهذا المعنی و الواجب المعلّق هو أنّه فی الواجب المعلّق تعلّق وجوب مطلق بأمر خاصّ، و أمّا فی الواجب المشروط فتعلّق الوجوب الخاص- و هو الوجوب علی تقدیر- بأمر مطلق وجهان، المختار عندنا هو الثانی، لکن ذهب المشهور إلی الأوّل ..

تحقیق المقام یتوقّف علی تنقیح الکلام فی مرحلتی الثبوت و الإثبات.

أمّا فی مرحلة الثبوت فیحتاج إلی مقدّمات:

الاولی: أنّ حقیقة الحکم هی الإرادة التشریعیة التی یظهرها المرید بأحد مظهراتها من القول أو الفعل، و الحکم بهذا المعنی لا یکاد یتحقّق فی الخارج لمصلحة کامنة فیه، بل لا بدّ و أن یکون لأجل مصلحة فی متعلّقها.

الثانیة: أی قیود متعلّق الحکم علی نحوین: أحدهما: ما یوجب بوجوده فی الخارج تحقّق المصلحة فی متعلّق الحکم، و الثانی: ما یتوقف علی وجوده فی الخارج فعلیة تلک المصلحة و ترتّبها علی متعلّق الحکم حین الإتیان به کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة.

ص: 76

الثالثة: أنّ تحقّق المصلحة فی متعلّق الحکم تتوقّف علی تحقّق شرطها، و هو شرط الوجوب فی الخارج. و أمّا تحقّق الإرادة التشریعیة تتوقّف علی تصوّر ذلک الشرط و ملاحظته بما هو علیه من التأثیر بحدوث المصلحة فی متعلّق الحکم، فإذا التفت العاقل إلی فعلٍ ما؛ فإمّا أن یجده ذا مصلحة مطلقاً أو علی تقدیر دون تقدیر، فعلی الاوّل: یکون تصوّره لذلک الفعل کذلک و اعتقاده بکونه ذا مصلحة مطلقاً موجباً لهیجان شوقه إلیه، حتی یصیر ذلک الشوق إرادة؛ إمّا تکوینیة تحرّک المرید علی فعل متعلّقها، و إمّا تشریعیة تبعث صاحبها علی إنشاء طلب متعلّقها، و علی الثانی فإمّا أن یجد ذلک التقدیر حاصلًا فی الخارج أم لا؟

و علی الأوّل: یکون حاله حال القسم الأوّل فی فعلیة الإرادة- تکوینیة کانت أم تشریعیة- لأنّ کون الفعل ذا مصلحة و إن کان مشروطاً بأمر خاص و علی تقدیر دون تقدیر إلّا أنّ العاقل لمّا التفت إلیه وجد التقدیر حاصلًا فی الخارج، و وجد الفعل ذا المصلحة بالفعل لحصول شرطه کما هو المفروض.

و علی الثانی: فلا محالة یرید ذلک الفعل علی تقدیر حصول الشرط المتوقّف علی حصوله فی الخارج اتّصاف ذلک الفعل بالمصلحة.

و هذه الأقسام و إن اشترکت فی فعلیة الإرادة فی نفس الملتفت المزبور إلّا أنّ الإرادة فی القسمین الأخیرین لها ارتباط ذاتی بالتقدیر المزبور- سواء کان المرید قد وجد ذلک التقدیر حاصلًا فی الخارج حینما التفت إلیه أم لم یجده- و لذا لا یخرج الواجب المشروط عن کونه واجباً مشروطاً حین تحقّق شرط الوجوب فی الخارج- سواء کانت الإرادة متعلّقه بالفعل المراد علی نحو القضیة الحقیقیة أو الخارجیة(1).


1- قلت: یشیر بذلک إلی دفع مقالة المحقّق النائینی قدس سره.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 77

إذا عرفت ذلک فنقول: إنّ الآمر إذا التفت إلی کون فعل غیره ذا مصلحة علی تقدیر خاص لا مطلقاً أراده منه علی ذلک التقدیر، فإن لم یجد مانعاً من إظهار إرادته، یظهرها بمظهر، من قول أو فعل، کأن یقول: افعل کذا إن کان کذا، أو یُشیر إلی هذا المعنی ببعض حرکاته، فإن أظهر إرادته التشریعیة کذلک یعتبر العرف من هذه الإظهار حکماً و طلباً، و هذا هو الحکم الفعلی المشترک فیه العالم و الجاهل، فالوجوب- مثلًا- سواء کان مطلقاً أم مشروطاً إذا أنشأه المولی بالنحو المزبور صار حکماً فعلیاً، علم به المکلف أو لم یعلم، حصل شرطه فیما لو کان مشروطاً أم لم یحصل، و لا یعقل أن یکون للحکم بالمعنی الذی ذکرنا نحوان من الوجود و إن کان مشروطاً، لیکون الحکم المشروط حکماً إنشائیاً قبل تحقّق شرطه و حکماً فعلیاً بعد تحقّق شرطه.

فأورد علی نفسه بأنّا نری الفرق وجداناً بین الوجوب المطلق و المشروط؛ لأنّ المکلّف المنقاد إذا علم الواجب المطلق یشرع بامتثاله من دون انتظار شی ء؛ لأنّه یری تمامیة التکلیف فی حقّه من ناحیة مولاه، بخلاف ما لو علم الوجوب المشروط علی أمر لم یوجد بعد؛ فإنّه لا یعقل کذلک لأنّه یری نفسه غیر مکلف بشی ء قبل تحقّق شرطه. و بهذا المعنی من الفرق بین الحکمین صار أحدهما فعلیاً و الآخر إنشائیاً.

فأجاب بأنّ الفرق بینهما لیس من جهة أنّ أحدهما فعلی و الآخر إنشائی؛ لأنّ کلًاّ منهما بعد تحقّق الأمر فعلی، و الفرق إنّما هو من جهة الفرق فی سنخ الفعلیة؛ لأنّ حقیقة الوجوب المطلق إرادة الفعل من المکلّف علی کلّ تقدیر، و من آثاره انبعاث المکلّف المنقاد إذا علم به نحو الفعل بلا حالة منتظرة، و أمّا حقیقة الوجوب المشروط فحیث إنّها عبارة عن إرادة الفعل من المکلّف علی تقدیر خاص فیکون أثره عدم انبعاثه نحو الفعل قبل تحقّق المعلّق علیه، فکلا هذین النوعین من الوجوب مشترک فی

ص: 78

الفعلیة عند تحقّقها من المولی و لکن تختلف آثارهما لاختلاف حقیقتهما، و فعلیة الوجوب لا یستلزم الانبعاث لیستدلّ بعدمه علی عدمها.

لا یقال: إنّ من یقول برجوع الشرط إلی الهیئة یری أنّ إرادة الواجب فی نفس المولی معلّق علی تحقّق الشرط فی الخارج، فقبل حصول الشرط لإرادة و لا وجوب، و بعد حصول الشرط یتحقّق کلّ منهما بخلاف الواجب المعلّق عند قائله؛ فإنّ الوجوب فیه مطلق و الواجب مقیّد بعکس الواجب المشروط فیما أشرتم إلیه؛ فإنّ الوجوب فیه مقیّد و الواجب مطلق.

لأنّا نقول: بأنّ توقّف الإرادة فی نفس المرید علی حصول الشرط خارجاً خلاف الوجدان؛ لأنّا نجد من أنفسنا إرادة العمل الذی یکون فیه مصلحة علی تقدیر خاص و إن لم یکن ذلک التقدیر متحقّقاً بالفعل، و رجوع القید إلی الهیئة و إن کان حقّاً لا محیص عنه لکنّه لا یقتضی عدم تحقّق الإرادة قبل تحقّق القید فی الخارج، بل تحقّق الإرادة بالفعل منوطة بالقید فتکون نتیجة الهیئة بعد رجوع القید إلیها الإرادة الفعلیة المنوطة فی قبال الواجب المعلّق الذی تکون الإرادة المطلقة فیه معلّقة بالفعل المقیّد(1)، انتهی محرّراً.

أقول: فیما ذکره مواقع للنظر:

فأوّلًا: فیما انتسبه إلی المشهور فی معنی الواجب المشروط من أنّ الإرادة فی الواجب المشروط تعلّق بالمراد علی تقدیر خاص و لم یثبت لنا ذلک؛ لأنّهم قسّموا الوجوب إلی المطلق و المشروط، و الظاهر أنّ الوجوب عندهم عبارة عن البعث و الإیجاب لا الإرادة و لا الإرادة المظهرة، فتدبّر.


1- بدائع الأفکار 1: 338- 342.

ص: 79

و ثانیاً: فیما ذهب إلیه من أنّ الحکم عبارة عن الإرادة المظهرة، ربما یظهر من بعض کلامه قدس سره أنّ متعلّق الإرادة التشریعیة الواجب و الفعل، و قد یظهر من بعض کلامه الآخر- کما فی ذیل کلامه- أنّ متعلّق الإرادة هو الطلب.

و کیف کان: یمکن أن یکون مراده بمتعلّق الإرادة أحد هذه المعانی:

الأوّل: أن یراد وجود الشی ء و إیجاده فی الخارج أو إرادة عدمه فیه، فینتزع من إرادة الوجود الوجوب و من إرادة العدم الحرمة.

الثانی: أن یراد وجود الفعل و إیجاده من المکلّفین.

الثالث: أن یراد إرادة الإیجاب و الإلزام علی المکلّفین فی الواجبات، و إرادة الاستحباب فی المستحبّات، و إرادة التحذیر فی المحرّمات، إلی غیر ذلک.

فإن کان مراده المعنی الأوّل فلازمه انتزاع الوجوب من إرادة اللَّه تعالی إیجاد الحجر أو المدر،- مثلًا- و هو کما تری ممّا یضحک منه الثکلی.

و إن کان مراده المعنی الثانی، فمقتضاه أن لا یکون فی الخارج ماصٍ أصلًا؛ لاستحالة انفکاک مراده تعالی عن إرادته؛ لأنّه إن أراد تعالی من المکلّفین إیجاد الفعل، فالإرادة الأزلیة تلزمهم إیجاده و لو عن اختیار، و لا یمکنهم التخلّف، و من أجل هذا المحذور قال الأصحاب بالإرادة التشریعیة، لکن بالمعنی الذی لا یلزم منه المحذور.

هذا بالنسبة إلی إرادته تعالی.

و یلزم إشکال آخر و هو أنّه إذا تعلّق إرادة أحد من المولی العرفیة بإیجاد فعل من عبیده، و یعلم المولی أنّه لو طلب من عبده بنحو الالتماس و الاستدعاء شیئاً لیوجده فی الخارج حتماً، فإرادته منه مشفوعاً بالالتماس و الاستدعاء لا یکون واجباً بل التماساً و استدعاءً.

ص: 80

فتحصّل: أنّه لو کان المراد إرادة الإیجاد من المکلّفین، فمضافاً إلی لزوم محذور عقلی بالنسبة إلی إرادته تعالی یلزم فیما لو قارن المولی العرفی إرادته إیجاد الفعل من عبیده بالالتماس و الاستدعاء، أن یکون واجباً مع أنّه لیس بواجب بل التماساً.

فإذا بطل الأمران فیتعیّن أن یراد المعنی الثالث، و هو إرادة إیجاب الفعل و إلزامه علی المکلّفین مشفوعاً بذکر الوعد علی إتیانه أو الوعید علی مخالفته لعلّه یتذکر أو یخشی.

فالإرادة المتعلّقة بالواجبات إرادة التشریع فهی إرادة تکوینیة لکنها تتعلّق بالتشریع، فإذن تکون الإرادة من مبادئ الإیجاب و الوجوب(1) و مقدّماته و هو الأثر الحاصل من الإرادة، فلا یعقل أن تکون الإرادة من مقدّمات الإیجاب و الوجوب، فالقول بأنّ الحکم هی الإرادة المظهرة غیر وجیه، فالإرادة مطلقة تتعلّق تارةً بإیجاب شی ء مطلقاً أو علی تقدیر، فتدبّر.

و ثالثاً: لو نسلّم أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة و لکن لا معنی لکون الإرادة منوطة؛ لأنّ الإرادة من الحقائق و الکیفیات الموجودة فی النفس، و لا یمکن التعلیق و الإناطة فی الحقائق سواء کانت خارجیة أو ذهنیة، فهل یمکن أن یکون الحب أو العشق موجودین فی شخص و لکن تکونان منوطتین.

و بالجملة: وزان الإرادة وزان الحب و العشق و العلم و الإدراک و غیر ذلک من الحقائق الموجودة فی الزمن، فکما لا یمکن أن یکون الحب متحقّقاً فی الذهن و مع


1- قلت: کما نشیر إلیه فی المتن أنّ الإیجاب و الوجوب واحد حقیقة، و الفرق بینهما إنّما هو بالاعتبار فهو من حیث انتسابه إلی الفاعل إیجاب من حیث أنّه نحو وجوب، نظیر الإیجاد و الوجود.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 81

ذلک منوطة بقید، فکما لا یمکن أن یکون النهار موجوداً فی الموجودات الخارجیة و مع ذلک منوطة بقید، فکذلک لا معنی لکون الإرادة متحقّقة فی الذهن و لکنها منوطة بقید.

و الحاصل: أنّه لو سلّم أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة و لکن محال أن یقال فی الواجب المشروط أنّ الإرادة منوطة؛ لأنّ الإناطة فی الوجودات الحقیقیة خارجیة کانت أو ذهنیة لا معنی لها و یکون تناقضاً، بل لا معنی للإناطة فی الاعتباریات أیضاً؛ لأنّ الاعتبار علی تقدیر لا یکون متحقّقاً.

و بالجملة: لا فرق بین الاعتباریات و التکوینیات من عدم طروّ الإناطة فیهما، فأمرها دائر بین الوجود و العدم، نعم یمکن أن یعتبر الشی ء منوطة، و فرق واضح بین عدم الإناطة فی الاعتبار و جوازها فی المعتبر، فتدبّر.

و رابعاً: لو سلّم جمیع ذلک فنقول: هل الحکم عبارة عن نفس الإرادة المظهرة، أو أنّه ینتزع من مرتبة منها، و لا أظن أن یقول به، و لو صحّ انتزاع الوجوب من مرتبة الإرادة المظهرة فنقول: إنّ العرف یفرّق فی انتزاع الوجوب من الإرادة المطلقة، و الإرادة المعلّقة و المنوطة فینتزع من الأوّل الوجوب المطلق، و من الثانی الوجوب المشروط، و لو کان الوجوب نفس الإرادة، فحیث إنّ الوجوب و الإیجاب واحد ذاتاً و حقیقةً، و الفرق بینهما بالاعتبار فهو من حیث انتسابه إلی الفاعل إیجاب و من حیث إنّه شی ء وجوب، نظیر الإیجاد و الوجود، فلا بدّ و أن ینتزع الإلزام و الإیجاب عنهما أیضاً مع أنّ الإرادة لا تسمّی إلزاماً و إیجاباً.

و للمحقّق النائینی قدس سره فی المقام کلام طویل الذیل، و حیث إنّه لبعض الجهات نتعرض له فی الواجب المطلق، فلا یهمّ ذکره هنا، فارتقب حتی حین.

ص: 82

الجهة الثالثة فی دفع بعض الإشکالات علی مذهب المشهور فی الواجب المشروط

ربّما یورد علی مذهب المشهور فی الواجب المشروط- مضافاً إلی ما تقدّم من امتناع تقیید الهیئة و قد عرفت ضعفه- بعض الإشکالات:

الأوّل: ما أورده المحقّق العراقی قدس سره علی مقال المشهور، و صرّح فی مفتتح کلامه: أنّه مؤیّد لما ذهب إلیه فی الواجب المشروط؛ من أنّ التکلیف المشروط فعلی قبل تحقّق شرطه. و لکن یظهر من أثناء کلامه: أنّه بصدد إثبات وجهٍ لمقالته.

فالأولی أن یقول: «و یدلّ علیه»، و ما ذکره انحراف صناعی عن البحث.

و کیف کان: حاصل إشکاله هو: أنّ إنشاء التکلیف من المقدّمات التی یتوصّل بها المولی إلی تحصیل المکلّف به فی الخارج، فإذا لم یکن الواجب المشروط قبل تحقّقه فی الخارج مراداً للمولی- کما هو مذهب المشهور- فلا یعقل أن یتوصّل العاقل إلی تحصیل ما لا یریده فعلًا بإنشاء التکلیف المشروط.

و لا مخلص للمشهور فی دفع هذا الإشکال إلّا أن یلتزموا بوجود غرضٍ نفسی فی نفس إنشاء التکلیف المشروط به قبل تحقّق شرطه، و هو کما تری.

و لکن من التزم بما ذهبنا إلیه فی الواجب المشروط- من کون التکلیف فعلیاً قبل تحقّق شرطه- لا یرد علیه هذا الإشکال؛ لکون الإرادة فعلیة قبل تحقّق الشرط؛ فللمولی أن یتوصّل بإنشائه إلی ما یریده فعلًا، و إن کان علی تقدیر(1)، انتهی.


1- بدائع الأفکار 1: 346.

ص: 83

و فیه: أنّه من عجیب الکلام، و لا یکون ما ذکره إشکالًا علی مقال المشهور.

و ذلک لأنّه لو أغمضنا عن إمکان تعلّق الإرادة فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه، و سلّمنا أنّ البعث لا بدّ و أن یکون لغرض فی المکلّف به، و لم نقل بکفایة وجود الغرض فی نفس التکلیف و البعث، کالأوامر الامتحانیة، نقول: إنّ إنشاء البعث فی الواجب المشروط لیس للتوصّل به إلی المبعوث إلیه فعلًا حتّی یتوهّم عدم معقولیته، بل للتوصّل إلیه علی تقدیر تحقّق الشرط، و کم فرق بینهما؟! مثلًا إنشاء إیجاب الحجّ علی تقدیر الاستطاعة إنّما هو للتوصّل به إلی إیجاب الحجّ فی ظرف الاستطاعة لا قبله، و کم له نظیر فی الأوامر العرفیة! کما هو أوضح من أن یخفی.

نعم، یمکن أن یتوجّه علیهم إشکال، و هو: أنّه إذا لم یرده فعلًا قبل تحقّق شرطه، فلا فائدة فی الإنشاء و البعث الکذائی، و هل هو إلّا بعث عبث؟! فللمولی الحکیم أن یصبر إلی أن یتحقّق الشرط، فیأمره عند ذلک بإتیانه.

و لکن یجاب عن الإشکال: بأنّه إنّما یتطرّق فی الخطابات الشخصیة القائمة بمخاطب واحد- مثلًا- و تصویره فیها بمکان من الإمکان. و أمّا فی الخطابات و الأحکام القانونیة الکلّیة المتوجّهة إلی عامّة المکلّفین بخطاب واحد فلا مخلص للمقنّن إلّا بجعله مشروطاً بعد ما یری اختلاف آحاد المکلّفین فی واجدیتهم الشرط و عدمه. فإذن: لا مناص له إلّا من جعل الحکم علی العنوان مشروطاً بالشرط لینبعث کلّ مَن کان واجداً للشرط، و ینتظر الفاقد إلی أن یتحقّق له الشرط.

و الشارع الأقدس حیث رأی مصلحة الحجّ- مثلًا- علی فرض الاستطاعة، و رأی اختلاف المکلّفین فی واجدیتهم للاستطاعة و عدمها، فأمر بالحجّ علی فرض الاستطاعة، فقال عزّ من قائل: «وَ لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ

ص: 84

سَبِیلًا»(1)، فمن کان مستطیعاً یَحُجّ، و ینتظر الفاقد لها إلی أن یرزقه اللَّه الاستطاعة.

فظهر: أنّ إشکال هذا المحقّق غیر وارد علی مقال المشهور.

ثمّ إنّه لو تمّ الإشکال فهو مشترک الورود و یتوجّه علی مقالته أیضاً؛ و ذلک لأنّه لا یری أنّ الإرادة الفعلیة متعلّقة بإیجاد العمل قبل تحقّق الشرط، و إلّا یکون الواجب مطلقاً عنده، بل یری أنّ الإرادة منوطة بحصول الشرط و فی ظرفه، فنسأل من جنابه: أنّه إذا أراده بعد حصول شرطه فأیّ فائدة فی طلبه فعلًا؟ فإن قال: إنّه لأجل الإعلام حتّی ینبعث فی محلّه، فنحن أیضاً نقول مثله، فتدبّر.

الثانی:- و هو الإشکال المعروف فی المسألة، و لأجل هذا الإشکال قال صاحب «الفصول» قدس سره بالواجب المعلّق(2)، و المحقّق العراقی بالإرادة المُظهرة(3)- و حاصله: أنّ وجوب المقدّمة ناشٍ عن وجوب ذیها و أنّ إرادة المقدّمة لازمة لإرادة ذیها، فبین المقدّمة و ذیها ملازمة؛ إمّا بین الوجوبین و الإیجابین، أو بین الإرادتین.

فإذن: یمتنع وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها؛ لاستلزامه وجود المعلول قبل وجود علّته، أو وجود إحدی المتلازمتین قبل الاخری.

فإذن: لا وجه لوجوب المقدّمات المفوّتة فی الواجب المشروط قبل وجوب ذیها؛ لعدم وجوب ذیها قبل تحقّق الشرط، فلا بدّ لإثبات وجوب المقدّمة کوجوب الغسل قبل طلوع الفجر، من غیر جهة وجوب ذیها.

فتخلّص صاحب «الفصول» قدس سره عن الإشکال بتصویر الواجب المعلّق، و المحقّق العراقی قدس سره بالإرادة المظهرة.


1- آل عمران( 3): 97.
2- الفصول الغرویة: 79/ السطر 36.
3- مقالات الاصول 1: 314- 321.

ص: 85

و لکن إذا أحطت خُبراً بما ذکرناه فی معنی تلازم الإرادتین و الوجوبین، یظهر لک دفع هذا الإشکال أیضاً.

و حاصل ما ذکرناه هو: أنّ المراد بالملازمة بین المقدّمة و ذیها لم یکن بین وجوبیهما، بحیث یستلزم من إیجاب ذی المقدّمة إیجاب و إنشاء آخر علی المقدّمة؛ لأنّه ربّما لا یکون للمولی بعث إلی المقدّمات؛ لأنّه قد یأمر المولی بشی ء و یغفل عمّا هو مقدّمته، فضلًا عن إیجابه الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و مقدّمتها، بحیث تکون إرادة المقدّمة ناشئة من إرادتها، بل تحصل إرادتها قهراً علی مرید ذیها؛ لما عرفت: أنّ الإرادة لا تکاد تکون منشأً و مبدأً لوجود إرادة اخری.

فالذی یمکن أن یراد بالملازمة هو أن یقال: إنّ المرید لإتیان فعل إذا رأی أنّ له مقدّمة أو مقدّمات لا یکاد یحصل بدونها، فکما یتصوّر الفعل و یصدّق بفائدته فیحصل له الشوق أحیاناً فیریده، فکذلک یتصوّر المقدّمة أو المقدّمات فیصدّق بفائدتها فیحصل له الشوق أحیاناً فیریدها، من دون أن تکون إرادة المقدّمة قهراً علی مرید ذیها و معلولة لإرادة ذیها، فإرادتها غیری تبعی.

فإذا رأی الشخص لزوم ضیافة صدیقه فی الغد- مثلًا- و رأی أنّه لا تکاد تحصل الضیافة فی الغد إلّا بتهیئة مقدّمات الضیافة فی هذا الیوم، فالعقل یری لزوم تهیئة مقدّمات الضیافة فی هذا الیوم، مع کون الضیافة واجبة فی الغد.

هذا حال الإرادة الفاعلی.

و کذلک الحال فی الإرادة الآمری؛ فإنّ المولی الحکیم إذا رأی أنّ الفعل مشروطاً بشرط ذو مصلحة، فیأمر عبده بإیجاده مشروطاً، فإذا رأی توقّف إیجاده فی الوقت علی تهیئة مقدّمات قبل حصول المعلّق، بحیث لو لم یحصّلها من قبل لفاته الواجب فی وقته، لیریدها البتّة.

ص: 86

و الحاصل: أنّ إرادة المقدّمة لم تکن ناشئة من إرادة ذیها حتّی یشکل وجوبها عند عدم وجوبه، بل إرادة ناشئة و معلولة عن مبادئها المخصوصة بها. نعم إرادتها تبعیة و غیریة، و معناها: أنّه لو لم یکن ذو المقدّمة مطلوباً فی محلّه المضروب له لما کانت المقدّمة مرادة.

فظهر لک: أنّ الإرادة فی الواجب المشروط لم تکن فعلیة قبل حصول شرطه، و مع ذلک تجب المقدّمة أو المقدّمات التی یفوت الواجب فی محلّه لو لم یأت بها من ذی قبل، من دون توجّه إشکال.

و لیعلم: أنّه لو لم یتمّ ما ذکرنا فلا یتمّ جواب المحقّق العراقی قدس سره؛ لأنّ إرادة ذیها إذا کانت منوطة فکیف تتولّد منها إرادة مطلقة بمقدّماته؟! فتدبّر.

و الحاصل: أنّ الإرادة المتعلّقة بشی ء کما لا تکاد تؤثّر فی البعث إلی ذلک الشی ء قبل حصول شرطه، فکذلک لا تؤثّر فی البعث نحو مقدّماته؛ فلو لم یتمّ ما ذکرناه لا تکون الإرادة المنوطة التی أبدعها المحقّق العراقی قدس سره مخلصاً عن الإشکال، بل لو توجّه الإشکال علی المشهور یتوجّه علیه أیضاً، فتدبّر و کن من الشاکرین.

الواجب المعلّق و المنجّز
اشارة

قد تقدّم: أنّ الوجوب فی الواجب المشروط لم یکن فعلیاً قبل تحقّق شرطه، مثلًا الصلاة المشروطة وجوبها بالوقت لم تکن واجبة قبل الوقت.

و أمّا الواجب المنجّز و المعلّق فیشترکان فی أنّ الوجوب فیهما فعلی، و لکن یفترقان فی أنّ الواجب فی المنجّز أیضاً غیر معلّق علی شی ء. و بعبارة اخری: لم یکن الواجب أیضاً معلّقاً علی أمر غیر مقدور، کالمعرفة باصول الدین؛ فإنّها واجبة علی المکلّف، من دون توقّفها علی أمر خارج عن قدرته. و أمّا فی الواجب المعلّق فیتوقّف

ص: 87

حصوله علی شی ء لم یکن تحت اختیار المکلّف- کالزمان- و ذلک مثل الحجّ فی الموسم؛ فإنّ وجوبه تعلّق بالمکلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، و لکن یتوقّف إتیان المناسک علی مجی ء وقته، و هو غیر مقدور له.

و المناقشة فی تصویر الواجب المعلّق- کما عن الشیخ الأعظم قدس سره- من حیث امتناع رجوع القید إلی الهیئة(1)، قد عرفت حالها فی البحث المتقدّم، و عرفت: أنّ تقیید الهیئة بمکان من الإمکان، فلاحظ(2)

. و لا یخفی: أنّ تقسیم الواجب إلی المعلّق و المنجّز نشأ من صاحب «الفصول» قدس سره، و لعلّ تقسیمه الواجب إلیهما بلحاظ ما رأی أنّه فی بعض الموارد یکون الواجب مشروطاً بأمر لم یتحقّق بعد، و مع ذلک یجب تحصیل مقدّماته المفوّتة، کما أشرنا إلیه آنفاً فی المبحث المتقدّم، و قد عرفت: أنّ وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذیها بمکان من الإمکان؛ فلا یحتاج إلی تصویر الواجب المعلّق. کما أنّه لو أمکننا تصویر الشرط المتأخّر أو المتقدّم- کما تقدّم إمکان تصویرهما فلا نحتاج إلی تصویر الواجب المعلّق، فیکون ما نحن فیه شرطاً متقدّماً، فتدبّر.

و کیف کان: فتصویر الواجب المعلّق بمکان من الإمکان، لکنّه غیر محتاج إلیه.

إشکالان علی تصویر الواجب المعلّق و دفعهما

و لکن استشکل علی تصویر الواجب المعلّق بوجوه من الإشکال، عمدتها إشکالان، فنقتصر بذکرهما، ثمّ الإشارة إلی ما فیهما من الخلل و الضعف:


1- مطارح الأنظار: 48- 49.
2- تقدّم فی الصفحة

ص: 88

الإشکال الأوّل: و هو الذی حکاه المحقّق الخراسانی قدس سره عن بعض أهل النظر من أهل عصره(1)، و هو: أنّ الطلب و الإیجاب إنّما یکونان بإزاء الإرادة المحرّکة للعضلات نحو المراد؛ فکما لا تکاد تکون الإرادة منفکّة عن المراد فی الإرادة التکوینیة، فلیکن الإیجاب و الإرادة التشریعیة غیر منفکّ عمّا یتعلّق بأمر استقبالی، فلا یکاد یصحّ الطلب فعلًا نحو أمر متأخّر(2)

. و تصدّی المحقّق الأصفهانی قدس سره لتأیید هذا المعنی و أوضحه مبسوطاً(3)

. و حاصله بتقریب منّا فی بعض مطالبه: أنّ الإرادة التی عبارة عن تصمیم


1- قلت: قد یقال: إنّه المحقّق النهاوندی قدس سره، کما أنّه قد یقال: إنّه المحقّق السیّد الفشارکی قدس سره. و حاصل الإشکال علی ما أفاده بعض هو: أنّ الإرادة التشریعیة کالإرادة التکوینیة فی کونهما مشترکتین فیما تتوقّف علیه الإرادة؛ من التصوّر و التصدیق بالفائدة و المیل، و فیما یترتّب علی الإرادة؛ من تحریک العضلات و حصول الفعل بعده. و من المعلوم: أنّ المراد التکوینی لا ینفکّ عن زمان الإرادة، و لا بدّ و أن یکون المراد التشریعی کذلک؛ فلا ینفکّ عن زمان الأمر الذی لا ینفکّ عن زمان الإرادة التشریعی. و الواجب المعلّق لیس کذلک؛ لکون المراد فیه متأخّراً زماناً عن الإرادة؛ لأنّ المفروض استقبالیة الواجب، فیکون من قبیل تخلّف المعلول عن علّته.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- کفایة الاصول: 128.
3- قلت: و لا یخفی: أنّ حاصل ما حکاه عنه سماحة الاستاد مع کونه طویل الذیل، لیس له کثیر الربط بالمسائل الاصولیة، إلّا أنّه لا تخلو عن فائدة فی حدّ نفسه؛ فلذا أوردناه و تعرّضنا لما أورده علیه سماحة الاستاد- دام ظلّه- فلیعذر فی الأعزّاء الکرام المطالعین بذکر حاصل ما أفاده المحقّق الأصفهانی قدس سره و ما أورده علیه سماحة الاستاد، و اللَّه ولیّ التوفیق.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 89

العزم، موطنها النفس، و هی- کما عن بعض- مجرّدة من وجه، و موطن القوّة العاملة هی العضلات، فإذا کان بین الموطنین تباین فکیف یؤثّر ما یکون فی موطنٍ فیما یکون فی موطن آخر مع ما فیهما من التباین؟!

و سرّ هذا التأثیر و التأثّر هو: «أنّ النفس فی وحدتها کلّ القوی»، فهی مع أنّ لها وحدة شخصیة خارجیة، ذات عرض عریض و له تطوّرات مختلفة فی العوالم المختلفة؛ فتطوّرٌ فی عالم التجرّد و إدراک الکلّیات، و تطوّر فی عالم الخیال البرزخ بین التجرّد و المادّة، و تطوّر فی عالم المادّة، مع ما لتلک العوالم من المراتب.

و لذا ربّما تری شیئاً بعینه ثمّ إذا شَمَمته تحکم بأنّه هو الذی رأیته، مثلًا إذا رأیت لون تفّاحة ثمّ شممتها تحکم بأنّ التفّاحة التی لونها کذا رائحتها کذا، مع أنّ الذی یدرک اللون غیر الذی یدرک الرائحة، و هکذا. و لا بدّ لحضور المقضیّ و المقضیّ علیه عند الحاکم.

و قد یدرک الشی ء فی عالم العقل و یتطبّقه علی مصداق، و یقال: إنّ الإنسان المجرّد هذا مصداقه، فإذا کان بینهما تباین فمحال أن یحکم المجرّد علی المادّی أو بالعکس.

و بالجملة: لا بدّ للتصدیق فی کلّ قضیة من حضور کلّ من الموضوع و المحمول عند المصدِّق؛ فالتصدیق بأنّ الذی رآه هو الذی سمعه، أو الذی تخیّل هو الذی تعقّله، و هکذا، لا بدّ من حضورهما لدی المصدّق بالوحدة، فیستفاد: أنّ المدرک حقیقة واحدة یختلف مراتبه؛ ف «النفس فی وحدتها کلّ القوی»(1).


1- قلت: لا یخفی أنّ ما ذکره هو إثبات وحدة النفس مع قواها من ناحیة الإدراک، و یمکن إثبات الوحدة من غیر ناحیة الإدراک أیضاً حسبما قرّر فی محلّه.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 90

فإذن: إدراک النفس بالقوّة العاقلة: أنّ فی الفعل الکذائی مصلحة و فائدة عائدة إلی جوهر ذاتها، أو إلی قوّة من قواها، ففی الرتبة المتأخّرة عن القوّة العاقلة؛ و هی قوّة الشوق ینبعث لها شوق إلی ذلک الفعل. فإذا لم یجد الشوق مزاحماً و مانعاً أخذ فی الاشتداد و یخرج عن حدّ النقصان إلی حدّ الکمال، و فی تلک الحدّ یعبّر عنه تارةً بالإجماع، و اخری بتصمیم العزم، و ثالثة بالقصد و الإرادة.

فإذا بلغ الشوق حدّ نصاب الباعثیة ینبعث منه هیجان فی مرتبة القوّة العاملة، فتحصل منها حرکة فی العضلات.

و واضح: أنّ الشوق و إن أمکن تعلّقه بأمر استقبالی، و لکن لا یمکن تعلّق الإرادة به؛ و ذلک لأنّ الإرادة لیست نفس الشوق- بأیّة مرتبة کانت- بل هی الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثیة بالفعل، فلا یتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة المنبثّة فی العضلات؛ و هو هیجانها لتحریک العضلات الغیر المنفکّ عن حرکتها؛ و لذا قالوا: إنّ الإرادة هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة لحرکة العضلات.

فمن یقول بإمکان تعلّق الإرادة بأمر استقبالی: إن أراد حصول الإرادة التی هی علّة تامّة لحرکة العضلات، إلّا أنّ معلولها حصول الحرکة فی ظرف کذا، فهی عین انفکاک العلّة عن المعلول، و جعله- بما هو متأخّر- معلولًا کی لا یکون له تأخّر، لا یجدی، بل أولی بالفساد؛ لصیرورة تأخّره عن علّته کالذاتی له فهو کاعتبار أمر محال فی مرتبة ذات الشی ء، فهو أولی بعدم الوجود من غیره.

و إن أراد أنّ ذات الإرادة موجودة من قبل، إلّا أنّ شرط تأثیرها- و هو حضور وقت المراد- لم یحصل بعد، ففیه: أنّ حضور الوقت لا یخلو إمّا أن یکون شرطاً فی بلوغ الشوق البالغ حدّ النصاب أو لا.

ص: 91

فعلی الأوّل یکون عین ما رمناه؛ من أنّ حقیقة الإرادة لا تتحقّق إلّا حین إمکان انبعاث القوّة المحرِّکة للعضلات.

و علی الثانی فهو غیر معقول؛ لأنّ بلوغ القوّة الباعثة إلی حدّ النصاب مع عدم انبعاث القوّة العاملة تناقض بیّن؛ لعدم انفکاک البعث الفعلی، عن الانبعاث؛ لأنّ لازمه انفکاک المعلول- و هو انبعاث القوّة العاملة فی العضلات- عن علّتها، مع أنّه ذکرنا: أنّ الشرط هنا لا معنی له؛ لأنّه متمّم لقابلیة القابل أو مصحّح لفاعلیة الفاعل، و دخول الوقت خارجاً لیس من خصوصیات الشوق النفسانی حتّی یقال:

إنّ هذا الشوق الخاصّ فاعل دون غیره. و کذا وجوده العلمی، فلا معنی لأن یکون دخول الوقت مصحّحاً لفاعلیة الشوق. و کذا القوّة المنبثّة فی العضلات تامّة القابلیة، لا یکون دخول الوقت متمّماً لقابلیتها. نعم الشی ء الخارجی یمکن أن یکون شرطاً للفعل؛ لتعلّق القدرة و الشوق به.

مضافاً إلی وجود الفرق بین الإرادة التی تکون فعلًا للنفس و سائر الأسباب؛ فإنّه یمکن أن یقال فی الأسباب الخارجیة: إنّ لوجودها مقاماً، و لتأثیرها مقاماً آخر؛ فیتصوّر اشتراط تأثیرها بشی ء دون وجودها. و أمّا الإرادة فلا یمکن فیها ذلک؛ لأنّ الإرادة عبارة عن میل النفس و الإشراف علی المعنی، فلم تکن لها مرتبتان: مرتبة الفاعلیة، و مرتبة القابلیة ... إلی أن قال قدس سره: و ممّا یشهد- لکون الشوق المتعلّق بأمر استقبالی لیس عین الإرادة الباعثة للقوّة المنبثّة فی العضلات نحو تحریکها- هو: أنّ الشوق المتقدّم ربّما یتعلّق بأمر کلّی، کما هو کذلک غالباً، مع أنّه غیر قابل لتحریک العضلات نحو المراد؛ بداهة أنّ استواء نسبته إلی الأفراد المتصوّرة لهذا الکلّی و فعلیته لبعض الأفراد تخصیص بلا مخصّص، و هو محال.

ص: 92

و أمّا ما قاله الاستاد قدس سره فی المتن(1) من أنّ نوع الإرادات متعلّقة بأمر استقبالی؛ لأنّ من یفعل شیئاً، یریده أوّلًا، ثمّ یشرع فی إتیان مقدّماته، فیأتی بذی المقدّمة. و لا فرق فی عدم الاستحالة بین المدّة القلیلة و الکثیرة.

ففیه: أنّ ما یکون تبعاً هو الشوق إلی المقدّمة؛ فإنّه منبعث عن الشوق إلی ذیها، و لکن حیث إنّ الشوق إلی ذیها لمّا لم یکن بالغاً حدّ نصاب الباعثیة- لتوقّفه علی مقدّمات- فلا محالة یقف فی مرتبته إلی أن یمکن الوصول؛ و هو بعد طیّ المقدّمات. فالشوق بالمقدّمة لا مانع من بلوغه حدّ الباعثیة الفعلیة، بخلاف الشوق إلی ذیها.

هذا کلّه فی الإرادة التکوینیة.

و أمّا فی الإرادة التشریعیة- و هی إرادة فعل الغیر منه اختیاراً- فحیث إنّ المشتاق إلیه فعل الغیر الصادر باختیاره فلا یکون بنفسه تحت اختیاره، بل بالتسبّب إلیه بجعل الداعی إلیه؛ و هو البعث نحوه، فیتحرّک القوّة العاملة نحو تحریک العضلات بالبعث إلیه. فالشوق المتعلّق بفعل الغیر إذا بلغ مبلغاً ینبعث منه الشوق نحو البعث الفعلی کان إرادة تشریعیة، و إلّا فلا.

و من الواضح: أنّ جعل الداعی للمکلّف لیس ما یوجب الدعوة علی أیّ حالٍ؛ إذ المفروض تعلّق الشوق بفعله الصادر منه باختیاره، لا قهراً علیه، فهو جعل ما یمکن أن یکون داعیاً عند انقیاده و تمکینه، و علیه: فلا یعقل البعث نحو أمر استقبالی؛ إذ لو فرض حصول جمیع مقدّماته و انقیاد المکلّف لأمر المولی، لما أمکن انبعاثه نحوه بهذا البعث، و لیس ما سمّیناه بعثاً فی الحقیقة بعثاً، و لو إمکاناً.


1- یعنی استاده المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 93

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّه لا یعقل تعلّق الإرادة بحدّها بأمر استقبالی، و کذلک تعلّق البعث به(1)، انتهی بطوله.

أقول: فی کلامه الطویل مواقع للنظر:

منها: أنّ حاصل ما ادّعاه قدس سره هو أنّ الإرادة التکوینیة علّة تامّة لحرکة العضلات، فلو تعلّقت بأمر استقبالی یلزم انفکاک المعلول عن علّته، و لم یقم برهاناً علی ذلک لننظر فیه و نلاحظ مقدار دلالته؛ لأنّ الذی أقام علیه البرهان و یکون معتضداً بالوجدان، هو أنّ النفس فی وحدتها کلّ القوی، و معناه: أنّ النفس واحدة شخصیة، لها درجات و کمالات و ذوات منازل، فهی مع کلّ قوّة عینها، و لم تکن قوی النفس اموراً منفصلة عنها حتّی یسأل عن أنّها کیف ینفصل قوّة عن قوّة اخری؟

فللنفس مع وحدتها سلطنة و تصرّف فی قواها، بحیث تتّحد معها؛ فهی التی تبصر و تسمع و تذوق و هکذا. و لذا تحمل إحداهما علی الاخری، و هی التی تتخیّل و تتعقّل.

فالنفس لها منازل و مراتب بعضها فوق بعض، و تکون المرتبة النازلة ظهوراً للمرتبة السابقة؛ فالقوی مراتب وجود النفس، و لازم هذا الأمر هو: أنّ النفس إذا أراد شیئاً فلا بدّ و أن لا تتعصّی القوی عنها، بل تطیعها و تتّحد هی بها، إلّا إذا کان فی القوّة فَلَج و فساد.

و بالجملة: غایة ما یقتضیه البرهان علی کون النفس فی وحدتها کلّ القوی هی: أنّ النفس فی محیط سلطنتها فعّال لما تشاء؛ إذا أرادت التکلّم فمتکلّم، و إذا أرادت الحرکة فمتحرّک، و إذا أرادت السکون فساکن، و هکذا ... و لا یستفاد من ذلک عدم إمکان تعلّق إرادتها بأمر استقبالی، بل استفادة ذلک أجنبی، فتدبّر.


1- نهایة الدرایة 2: 73- 77.

ص: 94

فتحصّل: أنّ غایة ما یقتضیه البرهان نفی عدم تعصّی القوی عن إرادة النفس، و تتّحد النفس معها إدراکاً، و أنّی له و لعدم إمکان تعلّق إرادة النفس بأمر استقبالی؟! فتدبّر. و الذی ینبغی أن یقال- و علیه البرهان و الوجدان- هو صحّة تعلّق الإرادة بأمر استقبالی، کما یصحّ تعلّقها بأمر حالی:

أمّا البرهان فإجماله: أنّ البرهان قائم علی أنّ اللَّه تعالی مرید، و إرادته تعالی عین ذاته المقدّسة.

و لا وجه لما ذهب إلیه بعض المحدّثین(1) من کون الإرادة من صفات الفعل، جموداً بظواهر بعض الأخبار. و ذلک لأنّه لو لم تکن واجدة لهذه الصفة الکمالیة یلزم النقص فی ذاته؛ فیلزم الترکیب، فتدبّر.

کما لا وجه لأن یقال: إنّ الإرادة مفهوماً عبارة عن العلم بالصلاح؛ لأنّه إن ارید بذلک: أنّ جمیع صفاته تعالی لم تکن منحازة بعضها عن بعض و جمیعها عن ذاته تعالی، بل جمیع صفاته یرجع إلی کماله الوجودی، فنقول: إنّه لا یثبت ذلک کونها متّحدة مفهوماً؛ و ذلک لاختلاف الصفات بعضها مع بعض مفهوماً، و المجموع مع الذات کذلک؛ ضرورة أنّ مفهوم کونه عالماً غیر مفهوم کونه قادراً، و هکذا ... فإذن:

مفهوم الإرادة غیر مفهوم العلم، فضلًا عن کونها العلم بالصلاح.

فالإرادة بأیّ معنی تکون فینا تطلق علیه تعالی، و إن کانت خصوصیة الموارد مختلفة؛ فإنّ الإرادة فینا تصمیم العزم و الإجماع، و لم تکن فی ذاته تعالی کذلک. کما أنّ العلم کذلک؛ فیطلق علیه تعالی أنّه عالم کما یطلق علینا العالم، و لکن علمه تعالی عین ذاته المقدّسة و حضوری، و علمنا زائد علی الذات و حصولی.


1- الکافی 1: 11، التوحید: 148، مرآة العقول 2: 15.

ص: 95

و بالجملة: اللَّه تعالی مرید للأشیاء بالإرادة الذاتیة الأزلیة علی نظام السببی و المسبّبی، فلا تتأخّر الأشیاء و لا تتجافی عن محالّها التی ارید إیجادها فیها، و إلّا لزم تخلّف المراد عن الإرادة. فتحصّل: أنّ إرادته القدیمة الأزلیة تعلّقت بإیجاد امور فیما لا یزال و فی هذا الزمان مثلًا.

فظهر بالبرهان صحّة تعلّق الإرادة بأمر استقبالی، فتدبّر.

و أمّا الوجدان: فلما نشاهد بعین البصیرة من أنّا نرید أشیاء فی المستقبل، مثلًا نرید إکرام الضیف عند مجیئه غداً، فإن جاء فی الغد فربّما لا نضیفه و نعتذر منه بأنّ القضاء و القدر حال بیننا و بین إرادتنا، فالوجدان أصدق شاهدٍ علی تعلّق الإرادة بأمر استقبالی، فتدبّر.

و منها: أنّ ما ذکره قدس سره من مبدئیة الشوق للإرادة دائماً ممنوع؛ لما أشرنا إلیه مکرّراً: أنّ کثیراً ما یرید الإنسان فعلًا و لا یشتاق إلیه، بل ربّما یکون مع الکراهة.

مثلًا: إنّ الإنسان قد یرید قطع یده الفاسدة بدستور الطبیب الحاذق؛ لما یجده من الصلاح لبدنه، و لم یکن له اشتیاق، بل یکون له انزجار شدید عنه. و قد یشرب الدواء المرّ الذی یتنفّر عنه؛ لعلمه بصلاح بدنه فیه، إلی غیر ذلک.

فالاشتیاق و الإرادة بمعناهما المعروف قد یتخلّف کلّ منهما عن الآخر؛ فقد تکون إرادة و لا شوق، کما ربّما لا یشتاق إلی الحجّ و لکن یریده خوفاً من العذاب المتوعّد علیه فی ترکه. و قد یعکس فیکون له اشتیاق و لا إرادة، کما إذا علم بعدم قدرته علیه، فهو لا یریده مع اشتیاقه إلیه. نعم کثیراً ما یکون الشوق سابقاً علی الإرادة.

و الشاهد علی أنّ الإرادة لم تکن مسبوقة دائماً بالشوق هو وجود الإرادة فی المبادئ العالیة و المجرّدات؛ خصوصاً ذاته المقدّسة، مع عدم وجود الشوق هناک، لأنّ

ص: 96

الشوق صفة انفعالیة، و المجرّدات فعلیات محضة لا یکون فیها شائبة النقص، فتدبّر.

و منها: قوله قدس سره: إنّ الشوق یکمل شیئاً فشیئاً، فتصیر إرادة. و بعبارة اخری قوله: إنّ الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثیة هی الإرادة، غیر مستقیم؛ لأنّ الشوق یشبه أن یکون من مقولة الانفعال، و الإرادة تشبه أن تکون من مقولة الفعل.

فالشوق- بلغ ما بلغ- لا یمکن انقلابه عمّا هو علیه و صیرورته مقولة اخری.

فإن اشتدّ شوقه إلی لقاء صدیقه- مثلًا- اشتیاق یعقوب علیه السلام إلی لقاء یوسف علیه السلام و لکن مع ذلک لا تکون له إرادة. أ لا تری أنّ الصائم المؤمن العطشان فی أیّام الحرّ ربّما یشتاق إلی شرب الماء البارد اشتیاقاً شدیداً تامّاً- لا یوجد له ذلک فی شی ء آخر فی أیّام حیاته- و مع ذلک لا یریده؟!

و بالجملة: الوجدان أصدق حاکمٍ علی أنّه إذا جعل فی مرأی من الإنسان و مسمع منه شیئان، بحیث یشتاق إلی أحدهما، و لکن لا یری فی ارتکابه مصلحة، و لا یشتاق الآخر بل ینزجر عنه، و لکن یری صلاحه فی ارتکابه، فیرید الثانی دون الأوّل؛ تحکیماً لمقتضی حکم العقل.

فظهر ممّا ذکرنا: إمکان تعلّق الإرادة بأمر استقبالی، بل أقمنا البرهان علیه، فلاحظ.

و منها: أنّه لو سلّم جمیع ما ذکره فی الإرادة التکوینیة فلا وجه لمقایسة الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة؛ بداهة إمکان تعلّق الإرادة التشریعیة بالأمر الاستقبالی؛ و ذلک لأنّ الإرادة التشریعیة- کما ذکرنا غیر مرّة- هی إرادة التشریع لا إرادة فعل الغیر منه اختیاراً، کما ذکره قدس سره.

فإذا رأی المولی: أنّ إتیان فعل فی الغد- مثلًا- فیه صلاح، و لکن لا یمکنه أن یأمر به فی الغد- إمّا لضیق الوقت المضروب للعمل عن العمل، أو لمانع آخر-

ص: 97

فیتصوّره أوّلًا، ثمّ یصدّق بفائدته، فیرید البعث إلیه فی الغد، فیبعثه کذلک. و أکثر الأوامر العرفیة بالبعث إلی أمر استقبالی.

فالبعث یوجد الداعی فی نفس المکلّف فی الغد. و حیث إنّ البعث و الدعوة إلی إیجاد أمر استقبالی فلا یکاد ینبعث إلّا فی الوقت المضروب له. فالمکلّف إن کان مطیعاً و منقاداً لا ینبعث بالبعث الاستقبالی إلّا فی الظرف المعدّ له.

و منها: أنّه لو أغمضنا عن ذلک کلّه فنقول: لعلّ منشأ ما ذکره قدس سره توهّم أنّ البعث و الانبعاث أمران حقیقیان خارجیان، مع أنّهما لیسا کذلک، بل هما أمران اعتباریان. فإذا لم یکن البعث علّة للانبعاث خارجاً فلا یلزم محذور تخلّف المعلول عن علّته.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ إشکال شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره علی الواجب المعلّق، و کذا إشکال بعض مدقّقی عصر المحقّق الخراسانی 0 مع التأیید الأنیق الذی حقّقه یراعة المحقّق الأصفهانی قدس سره غیر وجیه، و لا محذور فی تصویر الواجب المعلّق.

هذا، و قد سبق منّا أنّا مع ذلک غیر محتاجین إلی تصویر الواجب المعلّق؛ لما أشرنا: أنّ ذلک لأجل وجوب المقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذیها، و قد أشرنا إمکان إثبات وجوبها من غیر احتیاج إلی الواجب المعلّق، فلاحظ.

الإشکال الثانی: و هو ما أورده المحقّق النائینی قدس سره فی کلام طویل، ذکر فی خلاله مطالب کثیرة، بعضها مربوط بواجب المعلّق و بعضها غیر مربوط به(1)؛ فإنّه


1- قلت: و لیعذرنی المراجع الکریم فی إیراد شقص آخر من مقال المحقّق النائینی قدس سره و عدم الاقتصار بذکر لبّ مقاله فیما یرجع بالمقام؛ لأنّ ما أوردناه هو ترسیم ما حکاه عنه سماحة الاستاد فی مجلس البحث.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 98

ورد أوّلًا فی تفسیر القضیة الحقیقیة و القضیة الخارجیة، ثمّ ذکر جهات التی تمتاز الحقیقیة عن الخارجیة، و الامور المترتّبة علیهما. و ظاهر أنّها لا ترتبط بما نحن فیه، کما لا یخفی. ثمّ ورد فی أنّ الأحکام الشرعیة مشروطة بموضوعاتها ثبوتاً و إثباتاً.

و مراده بالثبوت: أنّ القضیة الحقیقیة عبارة عن ترتّب حکم أو وصف علی عنوان اخذ منظرة لأفراده المقدّرة وجودها، فلا یمکن جعل الحکم إلّا بعد فرض الموضوع. فالحکم ثبوتاً مشروط بوجود الموضوع، نظیر اشتراط المعلول بوجود علّته. و مراده بالإثبات: مرحلة الإبراز و إظهار الجعل.

فقال قدس سره: إنّ الإبراز تارة لا یکون بصورة الاشتراط، کما إذا قیل: «المستطیع یحجّ». و اخری یکون کذلک، کما إذا قیل: «إن استطعت فحجّ». و لکن لا یتفاوت الحال؛ لأنّ مآل الشرط إلی الموضوع، و بالعکس. و النتیجة واحدة؛ و هی عدم تحقّق الحکم إلّا بعد وجود الموضوع و الشرط.

نعم، یختلف الحال بحسب الصناعة العربیة؛ لأنّ القضیة إذا لم تکن مصدّرة بأداة الشرط تکون حملیة طلبیة أو خبریة، و إن کانت مصدّرة بها تکون شرطیة.

فینبغی أن یعلم محلّ الاشتراط، و الذی یقع الشرط علیه بحسب القواعد العربیة فی القضیة الشرطیة، فیمکن تصوّراً أحد امور:

إمّا یرجع الشرط إلی المادّة أو الهیئة الترکیبیة، أو إلی المنشأ بتلک النسبة، أو إلی المحمول المنتسب فی رتبة الانتساب و فی الرتبة المتأخّرة رتبةً أو زماناً.

فاختار من بین هذه الوجوه رجوع التقیید إلی المحمول المنتسب بوصف کونه منتسباً. فالمقیّد فی «إن جاءک زید فأکرمه» وجوب الإکرام، أو الإکرام الواجب؛ لأنّ القضیة الشرطیة إنّما هی تعلیق جملة بجملة اخری، و لا یستقیم ذلک إلّا بأن یرجع إلی مفاد الجملة الخبریة أو الطلبیة؛ و هو وجوب الإکرام أو الإکرام المتلوّن بالوجوب.

ص: 99

و علی أیّ تقدیر: یحصل المطلوب- و هو أخذ الشرط مفروض الوجود- و مرجعه بالأخرة إلی الموضوع، و یکون مفاد «إن استطعت فحجّ»: «یجب الحجّ علی المستطیع».

ثمّ ورد فی أنّ القیود علی قسمین: فبعضها واقعة فوق دائرة الطلب- و هی المقدّمات الوجوبیة- فالطلب لا یکاد یدعو إلیها، و بعضها الآخر واقعة تحت دائرة الطلب.

ثمّ قال: إنّ القیود و الإضافات التی اعتبرت فی ناحیة المتعلّق أو المکلّف- علی اختلافها من حیث کونها من مقولة الزمان أو المکان و غیرهما من ملابسات الفعل؛ حتّی الحال- لا تخلو إمّا أن تکون اختیاریة تتعلّق بها إرادة الفاعل، و إمّا أن تکون غیر اختیاریة.

فعلی الثانی لا محیص من خروجها عن تحت دائرة الطلب؛ إذ لا یعقل التکلیف بأمر غیر اختیاری، و القطعة غیر الاختیاریة لا بدّ من أخذها مفروضة الوجود واقعة فوق دائرة الطلب، و تکون- حینئذٍ- من المقدّمات الوجودیة، و تکون الواجب مشروطاً بالنسبة إلیها.

و أمّا علی الأوّل- أی إذا کانت الملابسات اختیاریة- فوقوعها تحت دائرة الطلب- کوقوعها فوق دائرة الطلب- بمکان من الإمکان؛ فتصلح أن تکون مقدّمة وجودیة بحیث یتعلّق الطلب بها و تلزم تحصیلها، کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة، و تصلح أن تکون مقدّمة وجوبیة غیر لازمة التحصیل، کالاستطاعة فی الحجّ.

إلی أن قال: إنّ القید إذا کان غیر اختیاری فلا بدّ من أن یؤخذ مفروض الوجود، و یکون من الشرائط الوجوبیة الواقعة فوق دائرة الطلب؛ سواء کان ذاک القید من مقولة الزمان، أو کان من سائر المقولات- إذ العبرة فی أخذه مفروض

ص: 100

الوجود هو کونه غیر اختیاری غیر قابل لتعلّق الطلب به- و سواء کان القید له دخل فی مصلحة الوجوب بحیث لا یتمّ ملاک الأمر إلّا بعد تحقّق القید، أو کان له دخل فی مصلحة الواجب بحیث لا یمکن أن تستوفی المصلحة التامّة به إلّا بعد تحقّق قیده.

و خالف فی ذلک صاحب «الفصول» قدس سره و قال بإمکان تعلّق الطلب بقید غیر اختیاری إذا لم یکن القید ممّا له دخل فی مصلحة الوجوب، و إن کان له دخل فی مصلحة الواجب. و التزم بإمکان کون الوجوب حالیاً و الواجب استقبالیاً، و سمّاه بالواجب المعلّق و جعله قبال الواجب المشروط و المطلق. و علیه بنی لزوم تحصیل مقدّماته قبل حضور وقت الواجب إذا لم یمکن تحصیلها فی وقته ... إلی أن قال ما حاصله: یمتنع کون الواجب معلّقاً؛ أمّا أوّلًا: فلأنّ مقتضی کون الأحکام مجعولة أزلًا علی نحو القضایا الحقیقیة هو أخذ العنوان الملحوظ مرآةً لمصادیقه المفروض وجودها موضوعاً للحکم، فیکون کلّ حکم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القیود، لا مطلقاً، و لا فرق فی ذلک بین کون الحکم من الموقّتات أو غیرها، و إن کان بینهما فرق من جهة اخری؛ و هی أنّ للموضوع فی الموقّتات قیداً آخر سوی القیود المعتبرة فی موضوعات سائر الأحکام من الشرائط العامّة، کالبلوغ و العقل و غیرهما.

و بالجملة: التکلیف مشروط بالنسبة إلی جمیع القیود المعتبرة فی الموضوع، من غیر فرق فی ذلک بین الزمان و غیره.

و ثانیاً: کیف یفرّق القائل بالواجب المعلّق بین الزمان و سائر القیود؛ و یقول بتقدّم الوجوب قبل الوقت، و لم یقل ذلک فی سائر القیود، مع اشتراک الکلّ فی أخذه قیداً للموضوع؟! ولیت شعری ما الفرق بین الاستطاعة فی الحجّ و الوقت فی الصوم؟! فیقال: بأنّ وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة، و أمّا وجوب الصوم فلم یکن مشروطاً بالوقت، بل یتقدّم الوجوب علیه. بل الأمر فی الزمان و أمثاله من

ص: 101

الامور غیر الاختیاریة التی لا بدّ من أخذها مفروض الوجود أوضح، و إلّا یلزم تکلیف العاجز.

فظهر: أنّه لا وجه لدعوی إمکان الواجب المعلّق و تثلیث الأقسام، بل الواجب ینقسم إلی مطلق و مشروط؛ لأنّ کلّ خصوصیة لم تؤخذ مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إلیها مطلق، و إن اخذت مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إلیها مشروط.

و الذی أوقع صاحب «الفصول» قدس سره فیما وقع هو وجوب المقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذیها، و لکن وجوبها لم یکن بملاک المقدّمیة، بل بملاک آخر. ثمّ ورد قدس سره فی ملاکها، فلاحظ(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ القائل بالواجب المعلّق لا یرید الفرق بین الزمان و سائر القیود، بل یرید تقسیم الواجب المطلق إلی منجّز و معلّق، و قد عرفت أنّ الواجب المطلق الذی یکون الواجب المعلّق أحد مصادیقه یفترق عن الواجب المشروط ملاکاً و ثبوتاً، بحیث لا یمکن إرجاع أحدهما إلی الآخر.

و حاصله: أنّ القید تارةً یکون دخیلًا فی نفس تعلّق غرض المولی، بحیث لو لا القید لما کان له غرض أصلًا، بل ربّما یکون مبغوضاً، مثلًا شرب المُسهل إنّما یحسن للمریض إذا شربه بعد المنضج- مثلًا- فشرب المسهل لا یکون مطلوباً و مراداً مطلقاً، بل مشروطاً و علی تقدیر شرب المنضج.

و اخری لا یکون القید دخیلًا فی أصل تعلّق غرضه، بل یکون غرضه مطلقاً غیر مقیّد، و إنّما یکون القید دخیلًا فی تحصیل غرضه المطلق المحقّق. فالإرادة المطلقة محقّقة فعلًا.


1- فوائد الاصول 1: 178- 196.

ص: 102

و هذا علی قسمین: مُنجّز و معلّق. و المنجّز معلوم. و أمّا المعلّق فهو کلّ شی ء یترتّب علیه آثار الوجوب، و لکنّه یتوقّف وجوده علی أمر لم یجعل بعد؛ إمّا لعدم کونه تحت الاختیار- کالزمان- أو کان تحت الاختیار و لکن لم تحصل بعد.

فتحصّل: أنّ القیود بحسب اللبّ و نفس الأمر مختلفة؛ فبعضها قید للمادّة، و بعضها راجع إلی الهیئة. و لیست جزافیة و تحت اختیارنا حتّی یمکن إرجاعه إلی المادّة. فلکلٍّ من الواجب المشروط و المطلق- منجّزاً أو معلّقاً- ملاک یخصّه، لا ینقلب عمّا هو علیه، و لا یصیر المشروط مطلقاً بحصول الشرط، و لا المطلق منجّزاً بحصول القید المعلّق علیه.

فظهر ممّا ذکرنا: إمکان تصویر الواجب المعلّق، و کم فرق بین الواجب المعلّق و المشروط؟! نعم عرفت: أنّه لا نحتاج إلی تصویره، و قلنا: إنّ منشأ القول به هو ما رأی وجوب المقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذیها، و قد سبق غیر مرّة: أنّ وجوبها بملاک غیر المقدّمیة، فتدبّر و اغتنم.

و ثانیاً: فبعد ما ظهر لک أنّ القائل بالواجب المعلّق لا یرید الفرق بین الزمان و سائر القیود، فسؤال الفرق بین الاستطاعة و التقیید بالزمان علی فرض کونه دخیلًا فی تحصیل الغرض عجیب مع وضوحه- بل بصدد بیان أنّه فی بعض الموارد تکون مقدّمات شی ء واجباً مع عدم وجوب ذیها، فیستکشف بذلک عن أنّ القید قید الواجب. و أمّا الوجوب فمطلق.

و ظاهر: أنّ الفرق بین الاستطاعة و الزمان لأجل أنّ المستفاد من الأدلّة: أنّ الاستطاعة شرط وجوب الحجّ، و أمّا الزمان فی الصوم فشرط للواجب؛ لعدم کونه تحت اختیار المکلّف علی ما ذکره.

و ثالثاً: أنّ ما ذکره من أنّ القیود إذا کانت غیر اختیاریة فلا محیص من

ص: 103

خروجها عن تحت دائرة الطلب و تکون واقعة فوق دائرة الطلب؛ معلّلًا بأنّ التکلیف بأمر غیر اختیاری غیر معقول.

ففیه: أنّ الأمر یتعلّق بالمقیّد بالقید، لا بالقید. مثلًا لو أمر بالصلاة تحت السماء یکون المأمور به إتیان الصلاة المقیّدة بکونها تحت السماء، و هو مقدور للمکلّف، مع أنّ القید- و هو السماء- لم یکن تحت اختیاره؛ فالمأمور به هو المقیّد لا القید.

نعم، إذا کان القید اختیاریاً للمکلّف و لم یکن حاصلًا فلا بدّ من تحصیله، لا لأجل تعلّق الأمر به، بل بحکم العقل لتحصیل المقیّد. فلو أمر المولی بإتیان فعل فی زمان کذا أو مکان کذا لم یکن المأمور به إیجاد المکان أو الزمان حتّی یقال بأنّه غیر اختیاری للمکلّف- حتّی تکون واقعة فوق دائرة الطلب- بل المأمور به هو إیقاع الفعل فی ذلک الزمان أو المکان، و إیقاع الفعل فی ذلک الزمان- کقبله أو بعده- أمر ممکن مقدور.

و لعلّ منشأ ما ذکره قدس سره هو توهّم أنّ القائل بالواجب المعلّق یری أنّ القیود داخلة تحت الطلب؛ ففرق بین القیود التی تکون تحت اختیار المکلّف و ما تکون خارجة عنه، مع أنّ التقیّدات داخلة تحت الطلب، و إلّا فلو کان الأمر متعلّقاً بنفس القید لم یبق فرق بین الجزء و الشرط، و واضح: أنّه لا ملازمة بین کون القید خارجاً عن تحت الاختیار، و مع ذلک یمکن إیجاد الفعل مقیّداً به. نعم إذا لم یکن للقید وجود فی الخارج أزلًا و أبداً فلا معنی لتقیید الأمر به.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّ تصویر الواجب المعلّق أمر ممکن لا غبار علیه، و لکنّه- کما ذکرنا غیر مرّة- یتوجّه علی صاحب «الفصول» قدس سره أنّه لا نحتاج إلی تجشّم ذلک، و إلی تثلیث الواجب؛ لما أشرنا من إمکان وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذیها، فتدبّر.

ص: 104

حکم تردّد القید بین رجوعه إلی المادّة أو الهیئة

قد عرفت اختلاف القیود الراجعة إلی الهیئة عن القیود الراجعة إلی المادّة لبّاً و بحسب نفس الأمر؛ فإن احرز کون القید قیداً للمادّة أو الهیئة فیعمل علی طبقه.

و إن شکّ فی ذلک و دار الأمر بین رجوع القید إلی المادّة أو الهیئة: فإن کان القید متّصلًا بالکلام فلا إشکال فی صیرورة الکلام بذلک مجملًا، لو لم یکن ظهور لغوی أو انصراف أو قرینة تعیّن المراد.

و أمّا إن کان القید فی کلام منفصل فالظاهر أنّه- أیضاً- کذلک؛ إذ لا مرجّح لرجوعه إلی إحداهما دون الاخری.

نعم، حکی عن المحقّق الأصفهانی صاحب «الحاشیة» و الشیخ الأعظم الأنصاری 0 رجوع القید إلی المادّة، و لکلٍّ منهما فی ذلک وجهة هو مولّیها:

مقال صاحب الحاشیة فی رجوع القید عند الدوران إلی المادّة و دفعه

ثمّ إنّ صاحب «هدایة المسترشدین» قدس سره ذکر عن بعض أنّ مقتضی الأصل فی دوران الأمر بین رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة رجوعه إلی المادّة؛ لأنّ تقیید الهیئة مستلزم لتقیید المادّة أیضاً، دون العکس(1)

. توضیح ما ذکره بتقریب منّا هو: أنّه بعد ما علم إجمالًا بطروّ تقیید فی الکلام، و دار أمره بین تقییدٍ و تقییدین، فأحد القیدین معلوم و الآخر مشکوک فیه، و الأصل


1- هدایة المسترشدین 2: 98.

ص: 105

عدمه؛ فلو کان القید راجعاً إلی الهیئة یستلزم تقیید المادّة أیضاً؛ إذ لا یمکن إطلاق المادّة مع تقیید الهیئة، بخلاف العکس؛ لأنّه لو رجع القید إلی المادّة فلا تتعدّی حریمها. فتقیید المادّة معلوم تفصیلًا علی أیّ تقدیر، بخلاف تقیید الهیئة؛ فإنّه مشکوک فیه؛ فمقتضی الأصل رجوع القید إلی المادّة.

ذکر و تعقیب

و قد أورد المحقّق النائینی قدس سره علی مقال المحقّق صاحب «الحاشیة» إشکالین(1)

: الأوّل: أنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة، فحیثما امتنع الإطلاق امتنع التقیید. و فیما نحن فیه: لو رجع القید إلی الهیئة و کان وجوب الحجّ- مثلًا- مشروطاً بالاستطاعة فلا یعقل الإطلاق فی طرف المادّة؛ إذ بعد ما کان وجوب الحجّ بعد فرض حصول الاستطاعة فکیف یکون الحجّ واجباً فی کلتا صورتی الاستطاعة و عدمها، الذی هو معنی الإطلاق؟!

الثانی: أنّ کلّ قید یرجع إلی المادّة یقتضی لزوم تحصیلها، و مقتضی کونه قیداً للهیئة أخذه مفروض الوجود- کما سبق- فالاستطاعة فی الحجّ إن اخذت قیداً للهیئة فلا بدّ و أن تکون مفروضة الوجود؛ فلا معنی بعده لتقیید المادّة بها أیضاً، المقتضی للزوم تحصیلها؛ لأنّه تحصیل للحاصل. فتحصّل: أنّ دعوی کون تقیید الهیئة مستلزماً لتقیید المادّة ممّا لا یرجع إلی محصّل.

نعم، النتیجة المقصودة من تقیید المادّة حاصلة قهراً عند تقیید الهیئة؛ لأنّ


1- قلت: و لا یخفی أنّ ما نعدّه إشکالًا ثانیاً ذکره العلّامة المقرّر رحمه الله تقریباً للوجه الأوّل، و لعلّه اشتباه منه، و إلّا فکلّ منهما وجه علی حدة، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 106

المقصود من تقیید الحجّ بالاستطاعة لیس إلّا وقوع الحجّ بعد التلبّس بالاستطاعة، و هذا المعنی حاصل بعد تقیید الهیئة.

و لکن هذا غیر تقیید المادّة بحیث یکون رجوع القید إلی الهیئة موجباً لتعدّد التقیید(1)، انتهی.

و فیه: أنّه لا یتوجّه علی المحقّق صاحب «الحاشیة» قدس سره شی ء من الإشکالین:

أمّا الإشکال الأوّل: فلأنّ معنی قولهم: إنّ التقیید فی مورد یمکن فیه الإطلاق هو لحاظ الشی ء بحیاله مجرّداً عن طروّ التقیید علیه، فإن کان مطلقاً یمکن فیه التقیید، و إلّا فلا. و أمّا فرض التقیید فی شی ء و توقّع الإطلاق منه فأمر غیر مترقّب.

و بالجملة: المدار ملاحظة الشی ء نفسه مع قطع النظر عن طروّ التقیید؛ ففی المثال المفروض لا بدّ و أن یفرض الحجّ قبل ورود التقیید من ناحیة الهیئة، و واضح:

أنّه یقبل الإطلاق کما یقبل التقیید.

و ما أورده المحقّق النائینی قدس سره علی صاحب «الحاشیة» یکون دلیلًا علی مقالته؛ لأنّه حیث یری أنّ تقیید الهیئة مستلزم لتقیید المادّة، فهنا أیضاً حیث یرجع القید إلی الهیئة و کان وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة فلا محالة قیّدت المادّة أیضاً.

و إن شئت مزید توضیح فنقول: لا إشکال فی أنّه لقوله تعالی: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا»(2) إطلاق و ملاحظة الإطلاق فیه بالنسبة إلی الربوی و غیره إنّما هو قبل ملاحظة طروّ التقیید علیه بکونه غیر ربوی، و إلّا فبعد فرض تقیید الحلّیة بکونها غیر ربوی لا معنی للإطلاق بالنسبة إلیه.


1- فوائد الاصول 1: 213- 214.
2- البقرة( 2): 275.

ص: 107

فما افید- مضافاً إلی أنّه غیر متوجّه علی قول صاحب «الحاشیة»- یمکن أن یکون تأییداً له، فتدبّر.

و أمّا الإشکال الثانی: فلأنّ القیود علی قسمین: فقسم منهما یکون فی الرتبة السابقة علی الأمر و البعث، و القسم الآخر یکون فی الرتبة المتأخّرة عن الأمر و البعث.

فإن کانت القیود واقعة فی الرتبة السابقة تکون من قیود الموضوع و تکون تحت دائرة الطلب، فلا بدّ للمکلّف تحصیلها. و أمّا القیود المتأخّرة عن تعلّق الهیئة بالموضوع فلا تکاد تدعوا الهیئة إلیها؛ لأنّها لا تدعوا إلّا إلی موضوعه، و المفروض:

أنّ التقیید حصل بعد تقیّد الهیئة بالموضوع.

فحینئذٍ: للمحقّق صاحب «الحاشیة» أن یقول: إنّ تقیید الهیئة حیث یستلزم تقیید المادّة، فتقیید المادّة یکون فی الرتبة المتأخّرة عن تعلّق الهیئة بالموضوع، فلا تکاد تبعث الهیئة إلی ما تأخّر، هذا.

عدم تمامیة مقالة المحقّق صاحب الحاشیة

و لکن الذی یقتضیه التحقیق: عدم تمامیة مقالة المحقّق الأصفهانی قدس سره، فینبغی مقدّمةً ذکر معنی الإطلاق و التقیید مجملًا، ثمّ عطف النظر فیما أفاده:

فنقول: معنی الإطلاق فی الموضوع أو المادّة، هو أنّ العاقل المختار إذا أخذ لفظاً موضوعاً لهیئة قابلة للصدق علی مصادیق موضوعاً للحکم، و لم یذکر له قیداً، فیستکشف العقل من ذلک: أنّ نفس الماهیة تمام الموضوع للحکم، و یحتجّ العقلاء بعضهم علی بعض بذلک.

ص: 108

و لو قیّد بقید یکون الموضوع له الماهیة المتقیّدة مثلًا إذا قال المولی إذا کان فی مقام البیان: «أعتق رقبة»، و تمّت سائر مقدّمات الحکمة فیه، یستفاد من ذلک: أنّ نفس ماهیة الرقّیة- مؤمنة کانت أم کافرة- تمام الموضوع للحکم علیه بالإعتاق.

و أمّا لو قیّدها بقید الإیمان فتکون الرقّیة جزء الموضوع، و جزؤه الآخر الإیمان.

و دلالة ذلک و احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض فی ذلک لیس من باب دلالة اللفظ، بل من باب دلالة العقل.

و الإطلاق أو التقیید المبحوث عنهما فی المقام إنّما هو بلحاظ ورود الحکم علیه؛ فالمطلق هو الذی اخذ موضوعاً للحکم بلا قید، و المقیّد هو الذی اخذ موضوعاً للحکم مع القید.

و بما ذکرنا یظهر سرّ إفرادهم مبحث الإطلاق و التقیید عن مبحث العامّ و الخاصّ؛ لأنّ سنخ دلالة أحدهما غیر الآخر؛ فیکون ذکر مبحث الإطلاق و التقیید فی مباحث الألفاظ مسامحة.

و لا یخفی: أنّ المطلق و المقیّد غیر الطبیعة اللابشرط و بشرط شی ء؛ لطروّ الإطلاق و التقیید فی الموضوعات الشخصیة بلحاظ حالاتها، مثلًا لو قال المولی:

«أکرم زیداً»، و لم یقیّد إکرامه بحالة دون اخری، یستکشف منه: أنّ زیداً بدون تقییده بقیدٍ تمام الموضوع لوجوب الإکرام. فذکر الاعتبارات من اللابشرط أو بشرط الشی ء هناک أجنبی.

هذا إجمال المقال فی المطلق و المقیّد، و سیوافیک تفصیله فی مبحث المطلق و المقیّد، فارتقب.

إذا تمهّد لک: أنّ الإطلاق أو التقیید إنّما هو بعد تعلّق الحکم، فإن أراد المحقّق «صاحب الحاشیة» «من استلزام تقیید الهیئة تقیید المادّة» أنّه بتقیید الهیئة یتقیّد

ص: 109

المادّة، ففیه: أنّ الموضوع فی الواجب المشروط هو الذات، و الشرط خارج عنه مثلًا الموضوع فی «إن استطعت فحجّ» هو الحجّ، و الاستطاعة خارجة عنه غیر مربوطة به، نعم دخیلة فی تعلّق الحکم و الوجوب علیه. فهنا قیّدت الهیئة، و لم تقیّد المادّة و الموضوع، و هو واضح.

و إن أراد قدس سره بالاستلزام: أنّه بتقیید الهیئة تحصل تضیّقاً فی المادّة تبعاً لأنّه بعد تقیید وجوب الحجّ بالاستطاعة یستفاد أنّ الحجّ قبل الاستطاعة لم یکن واجباً، و إنّما هو بعد الاستطاعة ففیه: أنّ هذا تقیید للهیئة لا المادّة، و مجرّد تضییق تبعی فی المادّة لا یطلق علیه التقیید، و کم فرق بین تقیید شی ء و بین تضییق دائرته؟! فتدبّر.

و لو کفی هذا المقدار فی صدق التقیید فنقول: إنّ تقیید المادّة یستلزم تقیید الهیئة کذلک؛ بداهة أنّه إذا کانت الصلاة المتقیّدة بالطهور- مثلًا- مطلوباً و مأموراً بها توجب تضییقاً فی ناحیة الطلب، و تکون الهیئة متعلّقة بالطبیعة المتقیّدة، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّه قد سبق بما لا مزید علیه: أنّ لکلّ من تقیید المادّة و الهیئة ملاکاً و مناطاً یخصّه، تجب عنده و تمتنع دونه.

و بالجملة: تختلف القیود الراجعة إلی المادّة عن القیود الراجعة إلی الهیئة ثبوتاً، و لکلٍّ منهما ملاک خاصّ به؛ فلا ملازمة فی البین، فتدبّر.

هذا کلّه فی مقالة المحقّق صاحب «الحاشیة» قدس سره فی رجوع القید إلی المادّة عند الدوران، و قد عرفت ضعفه.

مقالة الشیخ فی رجوع القید إلی المادّة عند الدوران و دفعها
اشارة

و أمّا ما عن الشیخ الأعظم قدس سره فی ذلک، فذکر لترجیح رجوع القید إلی المادّة وجهین:

ص: 110

و لیعلم: أنّ هذا منه قدس سره مبنی علی الفرض، و إلّا فهو یری أنّ مرجع تقیید الهیئة إلی تقیید المادّة، فلا بدّ علی مبناه أن یقول: إذا دار الأمر بین تقییدٍ و تقییدٍ فالشأن ما ذا؟ لدوران الأمر بین نحوی التقیید، کما لا یخفی، فتدبّر.

الوجه الأوّل: أولویة تقیید إطلاق البدلی من الشمولی
اشارة

إنّ إطلاق الهیئة شمولی و إطلاق المادّة بدلی. و قال فی معنی الإطلاق الشمولی بأنّه إذا کان لوجوب الإکرام- مثلًا- إطلاق یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیراً للمادّة. و قال فی معنی الإطلاق البدلی بأنّه لا یشمل فردین فی حالة واحدة؛ فلو دار الأمر بین تقیید أحدهما فتقیید الثانی أولی(1)

. ثمّ إنّ الشیخ قدس سره لم یذکر وجهاً لتقدیم الإطلاق الشمولی علی الإطلاق البدلی.

نعم، ذکر المحقّق النائینی قدس سره لذلک وجهین:

أحدهما: أنّ تقدیم الإطلاق البدلی یقتضی رفع الید عن الإطلاق الشمولی فی بعض مدلوله- و هی حرمة إکرام الفاسق فی قوله: «لا تکرم فاسقاً»- بخلاف تقدیم الإطلاق الشمولی؛ فإنّه لا یقتضی رفع الید عن مدلول الإطلاق البدلی أصلًا، کقولک: «أکرم عالماً»؛ لأنّ معنی الإطلاق البدلی هو أحد الأفراد علی سبیل البدلیة، و هذا المعنی ثابت و محفوظ مع الإطلاق الشمولی. غایة الأمر: کانت دائرته وسیعة، فصارت ضیّقة، و لکن لا یعدّ هذا تصرّفاً فی مدلوله.

و بعبارة اخری: تقیید الإطلاق الشمولی یوجب تصرّفاً فی دلیله، و لا یوجب تصرّفاً و تقییداً فی إطلاق البدلی؛ فإنّه باقٍ علی مفاده عند ذلک.


1- مطارح الأنظار: 49/ السطر 19.

ص: 111

نعم، غایة ما یقتضیه تقیید الإطلاق الشمولی هو تضییق دائرة الإطلاق البدلی، و کم فرق بین التصرّف فی دلیله و تقییده، و بین تضییق دائرته.

ثانیهما: أنّ الإطلاق البدلی یحتاج- زائداً علی کون المولی فی مقام البیان و عدم نصب القرینة علی الخلاف- إلی إحراز تساوی الأفراد فی الوفاء بالغرض، حتّی یحکم العقل بالتخییر بینهما، بخلاف الإطلاق الشمولی؛ فإنّه لا یحتاج إلی ذلک، بل یکفی فی ذلک تعلّق النهی بالطبیعة غیر المقیّدة- مثلًا- فیسری الحکم إلی الأفراد قهراً. فمع الإطلاق الشمولی لا یحرز العقل تساوی الأفراد فی الوفاء بالغرض؛ فیکون الإطلاق الشمولی حاکماً علی الإطلاق البدلی من حیث دلیلیّته و حجّیته(1)، انتهی.

و فیه: أنّ لنا کلاماً مع الشیخ الأعظم قدس سره و کلّ من یحذو حذوه من إثبات الشمولیة و البدلیة للإطلاق، و کلاماً آخر مع المحقّق النائینی و من وافقه علی کلامه:

أمّا الکلام مع الشیخ قدس سره فهو: أنّه- کما سیوافیک مفصّلًا فی مبحث المطلق و المقیّد- یمکن تعقّل الاستغراقیة و البدلیة و المجموعیة فی العموم، و أمّا فی الإطلاق فلا.

أمّا إمکان تعقّلها فی العموم: فلوجود لفظ یدلّ علی العموم، کلفظة «کلّ»؛ فإنّها وضعت لتدلّ علی کثرة مدخوله، و «التنوین» و «أیّ الاستفهامیة» وضعتا للبدلیة، و لفظة «المجموع» وضعت علی المجموعی. و دلالة «کلّ عالم» علی الأفراد و الشمول لیست بدالّ واحد، بل بدوالّ متعدّدة؛ لأنّ لفظة «کلّ» یدلّ علی الکثرة الإجمالیة، و «العالم» لا یدلّ إلّا علی المعنی الذی وضع له- و هو: مَن له العلم- و إضافة «الکلّ» إلی «العالم» تفید کثرة أفراد العالم؛ فهناک دوالّ متعدّدة و مدلولات کذلک.


1- أجود التقریرات 1: 161- 162.

ص: 112

و أمّا عدم تعقّلها فی الإطلاق: فلأجل أنّ غایة ما تقتضیه مقدّمات الحکمة فی مورد جریانها هی أنّ ما جعل موضوعاً تمام الموضوع للحکم، من غیر دخالة قید آخر فیه، و هذا لیس من قبیل دلالة اللفظ. و لا دلالة لها علی الأفراد؛ بداهة أنّه لا شأن لمقدّمات الحکمة لإثبات ما یکون خارجاً عن مدلول اللفظ؛ و هو الأفراد.

و بالجملة: اللفظ إذا کان موضوعاً لمعنی فحکمة الوضع تقتضی أن لا یدلّ إلّا علی ما وضع له و لا یتجاوزه إلی غیره. فاللفظة الموضوعة لنفس الطبیعة لا تکاد تدلّ علی الخصوصیات و الأفراد إلّا بدالّ أو دوالّ اخر.

و غایة ما تقتضیه مقدّمات الحکمة و یکون موضوع احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض، إنّما هی نفس الطبیعة، و أمّا حکایتها عن الخصوصیات الشخصیة و الفردیة فلا. أ لا تری أنّ الإطلاق فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(1) هو أنّ تمام الموضوع للحکم بالحلّیة عند العقلاء هو نفس طبیعة البیع و ماهیّته، لا أفرادها؟! فإنّها لیست مفاد اللفظ، و لا مفاد الإطلاق و مقدّمات الحکمة.

فالإطلاق الشمولی ممّا لا معنی محصّل له، کما أنّ الأمر کذلک فی الإطلاق البدلی؛ لأنّه لا یستفاد من قوله: «أعتق رقبة» البدلیة؛ لا من اللفظ، و لا من التنوین؛ لأنّ الرقّیة وضعت لنفس الطبیعة، و التنوین إذا کان للتنکیر یدلّ علی تقیّدها بقید الوحدة غیر المعیّنة، و أمّا کونها تمام الموضوع فیستفاد من مقدّمات الحکمة.

فظهر: أنّ مفاد الإطلاق فی المقامین شی ء واحد؛ و هو کون ما جعل موضوعاً تمام الموضوع للحکم، من غیر تقیید. و أمّا الشمولیة و البدلیة فغیر مربوطتین بالإطلاق رأساً، بل هما من تقسیمات العامّ.


1- البقرة( 2): 275.

ص: 113

نعم، یشترک الإطلاق مع العموم الاستغراقی فی النتیجة، و لکن إفادة الإطلاق ذلک إنّما هی لانطباق مفاد اللفظ علی الموجودات الخارجیة، لا بدلالة اللفظ، و کم فرق بین إفادة اللفظ الکثرة، و بین إفادة اللفظ معنی ینطبق علی الأفراد! و کذا فی مورد تکون النتیجة البدلیة؛ فإنّه یشترک مع العموم البدلی، و لکنّه فرق بینهما من حیث إنّ العموم یدلّ باللفظ، و أمّا المطلق فیدلّ علی معنی ینطبق علی ذلک.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الشمولیة و البدلیة خارجتان عن مدلول المطلق، و لا یکاد یمکن إثباتهما بمقدّمات الحکمة. فإن ارید بالشمولیة- مثلًا- دلالة لفظ المطلق علی کلّ فردٍ فردٍ- نظیر العموم- فقد عرفت حاله. و إن ارید بالشمول أنّه بعد تمامیة مقدّمات الحکمة یحکم العقلاء بأنّ الطبیعة موضوعة للحکم، بحیث کلّما تحقّقت الطبیعة یتعلّق بها الحکم، فله وجه، و لکنّه لا یرتبط بمقام الدلالة و مقام اللفظ.

فدوران الأمر بین الإطلاق الشمولی و البدلی ممّا لا معنی محصّل له، فلا تصل النوبة إلی تعارضهما حتّی یقدّم أحدهما علی الآخر.

فانقدح ممّا ذکرنا: عدم استقامة کلام شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره و من وافقه علی ذلک فی إثبات الشمولیة و البدلیة للإطلاق.

و أمّا الکلام المختصّ بالمحقّق النائینی قدس سره و من وافقه علی مقالته فهو: أنّه قد عرفت عدم تمامیة الشمولیة و البدلیة فی الإطلاق؛ فلو تمّتا فی الإطلاق و لکن الوجهین اللذین ذکرهما هذا المحقّق لتقدیم الإطلاق البدلی علی الإطلاق الشمولی غیر خالیتین عن الإشکال.

أمّا ما ذکره فی الوجه الأوّل؛ من أنّ تقدیم الإطلاق البدلی یقتضی رفع الید عن الإطلاق الشمولی، دون العکس؛ لأنّه لا یقتضی رفع الید عن مدلول الإطلاق البدلی، غایة الأمر: أنّه کانت وسیعة فتضیّقت بالتقیید، ففیه:- مضافاً إلی المناقشة

ص: 114

فیما مثّل للإطلاق الشمولی بقوله: «لا تکرم فاسقاً»؛ لأنّه بلحاظ وقوع النکرة فی سیاق النفی من ألفاظ العموم و لا یصلح مثالًا للمطلق- أنّ التضیّق لا یکاد یعقل إلّا بعد التقیید.

ولیت شعری کیف لا یکون التضیّق تصرّفاً فی الدلیل مع أنّ التضیّق مرهون التقیید، و هو عین التصرّف فی الدلیل؟! مثلًا لو قلت: «أعتق رقبة» فهو مطلق بدلی ینطبق علی جمیع الرقبات علی سبیل البدلیة، فإذا قیّدتها بالمؤمنة فقد ضیّقتها.

و بالجملة: إرجاع القید إلی کلّ من الإطلاق الشمولی و البدلی یستلزم التصرّف فیه- و لو بالتضیّق- و معه کیف یصحّ أن یقال: إنّه لو رجع القید إلی الهیئة لا یرفع الید عن إطلاق المادّة؟!

و أمّا ما ذکره فی الوجه الثانی- من احتیاج الإطلاق البدلی إلی أمرٍ زائد علی مقدّمات الحکمة- ففیه: أنّه- کما عرفت- لا فرق بین الإطلاق الشمولی و البدلی فی أنّه بعد تمامیة مقدّمات الحکمة یستفاد الشمولیة و البدلیة؛ و ذلک لأنّه لو تمّت المقدّمات فی قولک: «أکرم العالم»، و استفید منه الشمولیة، فکذلک لو قیل: «أکرم عالماً» تمّت المقدّمات یستفاد منه البدلیة.

و بالجملة: بعد تمامیة المقدّمات فکما یستفاد الإطلاق الشمولی و تساوی الأفراد فی موضوعیتها للحکم، فکذلک یستفاد البدلیة و تساوی الأفراد فی موضوعیتها للحکم.

فظهر: أنّه لو دار الأمر بین تقیید الإطلاق الشمولی أو البدلی لا مرجّح لأحدهما علی الآخر فی أنّ تقیید کلّ منهما تصرّف فی الآخر، و لا یحتاج إطلاق البدلی إلی أمر زائد علی مقدّمات الحکمة، و قبل جریان مقدّمات الحکمة یدلّ کلّ منهما علی نفس الطبیعة.

ص: 115

عدم تصویر الإطلاق الشمولی و البدلی فی الهیئة و المادّة

هذا کلّه فی تصویر الإطلاق الشمولی و البدلی فی بابه. فلو سلّم أنّ الإطلاق علی نحوین: شمولی و بدلی، و لکن إجراؤهما فی المقام و القول بأنّ الإطلاق فی الهیئة شمولی و فی المادّة بدلی، ممنوع عقلًا، و لا یکاد یمکن تصویر الإطلاق الشمولی فی الهیئة و البدلی فی المادّة أصلًا؛ و ذلک لوجهین:

الوجه الأوّل: أنّ الشمولی الذی یعتقده الشیخ قدس سره و غیره فی المطلق هو کالعامّ من حیث الشمولیة للأفراد فی عرض واحد؛ فالبیع- مثلًا- فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(1) یشمل جمیع أفراد البیوع فی عرض واحد، فجمیع أفراد البیع فی عرض واحد یکون موضوعاً للحکم، و أمّا الإطلاق البدلی فلا یشمل الفردین فی عرض واحد.

فإذن: إطلاق الهیئة فی قولک: «أکرم العالم» مثلًا هو کون جمیع التقادیر المتصوّرة للعالم أو الإکرام یتعلّق بها الوجوب فی عرض واحد. و مقتضی بدلیة المادّة هو أنّ مصداقاً من العالم بجمیع تقادیره یتعلّق به وجوب الإکرام، و لا یمکن اجتماعهما؛ للزوم ذلک تعلّق وجوبات کثیرة علی فردٍ ما.

و بالجملة: لو کانت مادّة «أکرم» بدلیاً فمعناه فردٌ ما من الإکرام، فإذا کان للهیئة إطلاق شمولی- الذی معناه الوجوب علی جمیع التقادیر- یلزم أن یکون إکرامٌ ما متعلّقاً للوجوبات، و هو محال؛ لامتناع تعلّق إرادات و وجوبات فی عرض واحد علی فردٍ ما.


1- البقرة( 2): 275.

ص: 116

و إن ارید بالإطلاق الشمولی فی الهیئة: أنّ الوجوب و البعث واحد لکن لا قید له، فالمراد من وجوبه علی کلّ تقدیر: أنّه لا یتعلّق الوجوب بتقدیر خاصّ، فهو صحیح معقول، و لکنّه رجوع عن الإطلاق الشمولی.

و لکن المادّة مطلقة بهذا المعنی؛ فلا فرق بین إطلاق الهیئة و المادّة. فلا مرجّح لتقدیم الإطلاق فی الهیئة علی الإطلاق فی المادّة.

الوجه الثانی: أنّ البدلیة أو الشمولیة فی کلّ مورد إنّما هی بلحاظ الموضوع و المتعلّق، مثلًا شمولیة قوله: «أکرم کلّ عالم» أو «العالم» إنّما هی باعتبار متعلّقه، و البعث المتعلّق بالأفراد أو الطبیعة المنحلّة فی اعتبار العقل و العقلاء إلی الأفراد- کما یرون- یکون شمولیاً بالتبع، و کذا فی البدلیة.

و بالجملة: الشمولیة و البدلیة إنّما هما للمتعلّق أوّلًا و بالذات، و تعرضان للهیئة تبعاً.

ففیما نحن فیه: شمولیة الهیئة أو بدلیتها تابعة للمادّة، فإذا کان للمادّة التی تکون متعلّقاً و مرکوباً للهیئة إطلاق بدلی فبتبع المادّة لا بدّ و أن یکون إطلاق الهیئة بدلیاً.

فالقول بکون إطلاق الهیئة شمولیاً و إطلاق المادّة بدلیاً تناقض، فتدبّر.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لو دار الأمر بین رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة فلا یمکن التشبّث لتقدیم أحدهما علی الآخر من ناحیة الشمولیة و البدلیة.

فظهر: أنّ الإطلاق الشمولی و البدلی ممّا لا محصّل له، و لو فرض لهما معنی معقول ففیما نحن فیه- أعنی الهیئة و المادّة- غیر معقول، و مع فرض تعقّلهما لا وجه لتقدیم التقیید فی إحداهما علی الآخر، فتدبّر.

ص: 117

الوجه الثانی: بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة بتقیید الهیئة

إنّ تقیید الهیئة و إن لم یستلزم تقیید المادّة، إلّا أنّه مع ذلک فالحکم بتقیید المادّة أولی؛ لدوران الأمر بین تقییدین یکون أحدهما مبطلًا لمحلّ الإطلاق فی الآخر و یرفع مورده، و لکن الآخر لا یؤثّر فی مورد إطلاقه شیئاً، و لا شکّ أنّ التقیید الثانی أولی؛ و ذلک لأنّه لا یکاد یستریب أحد فی أنّ المرجع فی أمثال المقام العرف و العقلاء، و لا شکّ فی أنّ التقیید و إن لم یکن مجازاً إلّا أنّه خلاف الأصل. و لا فرق فی لبّ المعنی بین تقیید الإطلاق و بین أن یعمل عملًا یبطل محلّ الإطلاق.

هذا فی إثبات الکبری؛ و هی أنّه فی دوران الأمر بین نحوی التقیید فالاعتبار یساعد تقدیم ما لا یوجب إبطال محلّ الإطلاق فی الآخر.

و أمّا إثبات الصغری و أنّ ما نحن فیه من موارد تلک الکبری فلأنّه لو قیّدت الهیئة لزم أن لا یکون لإطلاق المادّة محلّ حاجة و بیان؛ لأنّها مقیّدة به؛ بمعنی أنّ وجودها لا ینفکّ عن وجود القید، فلا یکون لإطلاقها بعد محلٌّ، بخلاف تقیید المادّة؛ فإنّ الأخذ بإطلاق الهیئة مع ذلک فی محلّه، فیمکن الحکم بوجوب الفعل علی تقدیر وجود القید و عدمه(1)، انتهی محرّراً.

أقول: یظهر من الذین تصدّوا دفع مقالة الشیخ قدس سره- کالمحقّق العراقی قدس سره حیث یری أنّ تقیید المادّة قهری تبعی، کما سیجی ء- أنّهم یرون تمامیة الصغری، و مناقشتهم إنّما هی فی الکبری.

و لکن الذی یقتضیه النظر: عدم تمامیة الصغری و الکبری جمیعاً؛ و ذلک:


1- مطارح الأنظار: 49/ السطر 22.

ص: 118

أمّا عدم تمامیة الصغری: فلما ذکرنا غیر مرّة أنّه تختلف قیود الهیئة و المادّة ثبوتاً و واقعاً، و لکلّ منهما ملاک یخصّه، فلا یختلف و لا یختلط بعضها ببعض. فلا وجه لأن یرید الشیخ قدس سره بقوله: «إنّه لو قیّدت الهیئة یلزم أن لا یکون لإطلاق المادّة محلّ» أنّ تقیید الهیئة فی الحقیقة یرجع إلی تقیید المادّة، أو أنّه تتقیّد المادّة قهراً و تبعاً تقییداً اصطلاحیاً.

فإن أراد بقوله ذلک: أنّ تقیید الهیئة یوجب نحو تضییق فی دائرة ما کانت موسّعة- و هی المادّة- ففیه: أنّه و إن کان کذلک، إلّا أنّه لا یختصّ ذلک بتقیید الهیئة، بل العکس أیضاً کذلک؛ فإنّه بتقیید المادّة أیضاً یوجب نحو تضیّق فی دائرة الهیئة بعد ما کانت موسّعة. بیان ذلک علی عهدة مثال، مثلًا: قولک: «أکرم زیداً» لا یکون للهیئة- و هی الوجوب- و لا المادّة- و هی الإکرام- قید، بل لکلّ منهما إطلاق، و مقتضی البعث المطلق نحو المادّة المطلقة هی وجوب أنحاء الإکرامات لزید.

فإن ورد قید و علمنا برجوعه و تعلّقه بالهیئة و البعث، کأن قال: «إن جاءک زید فأکرمه»، و علمنا أنّ المجی ء قید للوجوب، فمعناه: أنّ البعث و الوجوب إنّما یتعلّقان بطبیعة الإکرام فی حال مجی ء زید؛ و بذلک تتضیّق دائرة الإکرام قهراً، لا بمعنی تقیّده، بل بمعنی إبطال محلّ الإطلاق فیه؛ لکون المطلوب الإکرام حال المجی ء بعد ما کانت مطلوباً فی جمیع الأحوال.

و إن ورد قید و علمنا برجوعه إلی المادّة، کأن قال: «أکرم زیداً إکراماً حال مجیئه»، فطبیعة الإکرام قُیّدت بحال المجی ء، و یتقیّد بذلک محلّ إطلاق الهیئة و یعرض له تقیید قهری، فتدبّر.

فقد ظهر لک ممّا قرّرنا: أنّه بتقیید کلّ من الهیئة و المادّة یتضیّق صاحبتها، و لا مزیة لتقیید الهیئة علی تقیید المادّة فی ذلک.

ص: 119

فإن أراد الشیخ قدس سره بقوله: «إنّه لو قیّدت الهیئة ...» إلی آخره، أنّ تقیید الهیئة یوجب نحو تضییق فی المادّة، فقد عرفت أنّ العکس أیضاً کذلک.

و بذلک یظهر الضعف فی قوله: إنّ بعد تقیید المادّة یمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید و عدمه.

و إن أراد بقوله ذلک- کما لا یبعد- أنّ تقیید الهیئة یبطل محلّ إطلاق المادّة، و لکن إذا کان الواجب مقیّداً بقید لا یوجب ذلک تضیّقاً فی الوجوب؛ لأجل أنّ الوجوب فی الواجب المعلّق فعلی و لم یکن مقیّداً، مع أنّ الواجب معلّق و منوط علی حصول قیده.

ففیه: أنّ ذلک إنّما یتمّ إذا کان الواجب معلّقاً علی الزمان؛ فإنّ الوجوب قبل تحقّق الزمان فعلی، و لکن الواجب معلّق علی الشرط. و أمّا إذا کان الواجب معلّقاً علی غیر الزمان فیوجب تقیید الواجب نحو تضییق فی الوجوب أیضاً؛ و ذلک لأنّه لو کان الإکرام معلّقاً علی مجی ء زید- مثلًا- فیوجب ذلک نحو تضیّق فی دائرة الوجوب؛ فإنّه لا یکاد ینهدر الوجوب إلی الطبیعة المطلقة، بل إلی الطبیعة المقیّدة.

و بالجملة: دعوی أنّ قید الواجب لا یوجب إبطال محلّ إطلاق الهیئة مطلقاً غیر وجیه.

فتحصّل: أنّ ما أفاده الشیخ قدس سره لترجیح رجوع القید إلی المادّة بأحد الاحتمالین غیر مفید. هذا کلّه فی عدم تمامیة الصغری.

و أمّا عدم تمامیة الکبری: فلأنّ الکبری المدّعاة هی أنّه لو دار الأمر بین نحوی التقیید فالاعتبار یساعد تقیید ما لا یوجب إبطال محلّ الإطلاق فی الآخر.

ففیه: أنّ المرجع فی أمثال المقام هو الظهور، و لا خصوصیة لما ذکر فی انعقاد الظهور فی طرف الهیئة، بل ربّما ینعکس الأمر، کما لا یخفی.

ص: 120

و بالجملة: الملاک کلّ الملاک فی ذلک هو الظهور، و لم یکن ذلک مرهوناً بهذه التدقیقات المدرسیة أو ما بحکمها.

فظهر: أنّ الوجه الثانی الذی أفاده الشیخ قدس سره لترجیح رجوع القید إلی المادّة دون الهیئة أیضاً ممّا لا یمکن المساعدة علیه، فتدبّر.

نقل و تعقیب

و قد تصدّی المحقّق العراقی قدس سره لدفع ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره بوجه آخر، لکنّه غیر تمام، فقال ما حاصله:

التحقیق فی المقام أن یقال: إنّ القید المزبور إمّا یکون متّصلًا بالکلام، أو منفصلًا عنه، فعلی الأوّل: إمّا یوجب صیرورة الکلام مجملًا أو لا، فإن أوجب إجماله- کما هو الحقّ- فلا وجه للترجیح الذی ذکره الشیخ قدس سره، و لا لما اورد علیه من أنّ مخالفة الأصل العقلائی هو ترک الأخذ بالظهور المنعقد؛ لاحتمال قرینیة الموجود. و أمّا إرجاع القرینة الموجودة فی الکلام إلی بعضه بنحو یوجب رجوعها إلیه انتفاء ظهور بعضه الآخر فیما کان ظاهراً فیه فلیس ذلک بمخالف للأصل؛ لانتفاء موضوع الأخذ بالظاهر، کما هو المفروض.

و أمّا إن لم یوجب اتّصال القید إجمال الکلام فلا یتّجه الإیراد المذکور علی ما أفاده الشیخ قدس سره من رجحان رجوع القید إلی المادّة؛ لأنّ ما أفاده الشیخ أقلّ مخالفةً للأصل العقلائی؛ لأنّه إذا کانت قلّة مخالفة الأصل من المرجّحات یکون اختیار إرجاع القید إلی المادّة أولی من اختیار إرجاعه إلی الهیئة؛ لأنّ إرجاعه إلی الهیئة ترک للأخذ بظهورین، و أمّا إرجاعه إلی المادّة ترک للأخذ بظهور واحد، و لا ریب فی أنّ الثانی أقلّ مخالفةً للأصل؛ فیلزم الأخذ به. هذا إذا کان القید متّصلًا بالکلام.

ص: 121

و أمّا إذا کان منفصلًا عنه فلا ریب فی دخله فی المادّة؛ لأنّه فی الواقع إن کان راجعاً إلیها فهی مقیّدة به ذاتاً، و إن کان راجعاً إلی الهیئة، فالمادّة مقیّدة به تبعاً، و علی کلٍّ: نعلم تفصیلًا بتقیّدها به، و یکون احتمال رجوعه إلی الهیئة و تقیّدها به شکّاً بدویاً یصحّ التمسّک بإطلاقها لإلغائه.

و لکن مع ذلک لا یجب تحصیل القید؛ لأنّ تقیید المادّة لا یکون متیقّناً من هذه الجهة؛ إذ تقیید الهیئة- الذی یوجب تقیید المادّة- هو جهة عدم إمکان الامتثال إلّا بعد وجود ذلک القید، و أمّا حیث وجوب تحصیل ذلک القید فلا یترتّب علیه، بل هو مترتّب علی تقیید المادّة أصالةً، فإطلاقها ینفیه عنها و یثبت بذلک رجوعه إلی الهیئة؛ للعلم الإجمالی برجوعه إلی إحداهما، و واضح: أنّ مثبتات الاصول اللفظیة حجّة، کما أنّ إطلاق الهیئة منتفیة عنها، و یثبت بذلک رجوعه إلی المادّة بالنحو المزبور.

فالإطلاقان متعارضان، و إذ لا مرجّح لأحدهما علی الآخر فیتساقطان، و یکون احتمال وجوب تحصیل القید شکّاً بدویاً یجری فیه البراءة. و نتیجة ذلک: رجوع القید إلی الهیئة، علی عکس النتیجة فی الأوّل، کما لا یخفی(1)، انتهی.

و فی کلامه مواقع للنظر:

منها: أنّ القید فی الکلام المتّصل یوجب إجمال الکلام قطعاً، من دون ریب و إشکال؛ للعلم الإجمالی برجوعه إمّا إلی الهیئة أو المادّة، فلا وجه لقوله قدس سره: إن أوجب الإجمال فکذا ... و إلّا فکذا(2).


1- بدائع الأفکار 1: 365- 366.
2- قلت: کذا أفاد الاستاذ- دام ظلّه- و لکن الإنصاف: أنّ هذا الإشکال غیر وارد علیه؛ لأنّه قدس سره قال: الحقّ أنّ القید المتّصل یوجب إجمال الکلام، و بحثه إنّما هو علی الفرض و علی تقدیر عدم الإجمال لاستیفاء البحث، و کم له نظیر فی المباحث؛ خصوصاً المباحث الاصولیة، کما لا یخفی.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 122

منها: ما ذکرنا غیر مرّة: أنّ لکلّ من تقیید الهیئة و المادّة ملاکاً یخصّه، فلا یستلزم تقیید أحدهما تقیید الآخر.

و منها: ما فی قوله قدس سره: یدور الأمر بین ترک ظهور واحد أو ظهورین ... إلی آخره؛ لأنّه کما أشرنا- و سیوافیک مفصّلًا- أنّ جریان مقدّمات الحکمة لا یوجب أن یکون مجراها ظاهراً بالدلالة اللفظیة، بل دلالته بنحو آخر بحکم العقل، فلم تکن دلالة الهیئة بالظهور اللفظی، کما لا یخفی.

و منها: أنّه لو سلّم ذلک لا یکون مربوطاً بکلام الشیخ قدس سره؛ لأنّه بصدد بیان أنّ تقیید الهیئة مستلزم لبطلان محلّ الإطلاق من المادّة، دون العکس. و لم یُرد تتمیم الأمر بالظهور، و إنّما أراد حلّ الإشکال بالإجمال الطارئ للکلام بدواً من حیث دوران القید بین رجوعه إلی المادّة أو الهیئة من طریق حکم العقل بأنّه إذا أوجب تقیید أحد الإطلاقین إبطال محلّ إطلاق الآخر، دون العکس، فتقیید ما لم یوجب ذلک أولی بحکم العقل.

و منها: ما فی قوله فی القید المنفصل: إنّ تقیید المادّة متیقّن إمّا ذاتاً أو تبعاً؛ لما عرفت: أنّ تقیید الهیئة لا یوجب تقیید المادّة، بل لکلّ منهما ملاک یخصّه یجب عنده و یمتنع دونه. و غایة ما یمکن أن یقال هی: أنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ إطلاق المادّة، و کم فرق بین التقیید و إبطال محلّ الإطلاق! و قد عرفت: أنّ ذلک غیر مخصوص بتقیید الهیئة، بل یبطل محلّ إطلاق الهیئة من قبل تقیید المادّة أیضاً.

مضافاً إلی أنّ ذلک خارج عن فرض الشیخ قدس سره؛ فإنّه یری أنّ تقیید الهیئة یوجب إبطال محلّ الإطلاق فی المادّة، لا أنّه یوجب تقییداً فیها، فتدبّر فیما ذکرنا.

ص: 123

و منها: أنّه لو سلّم القدر المتیقّن، و لکن لا یوجب ذلک انحلال العلم الإجمالی؛ للزوم الدور؛ لأنّ العلم التفصیلی هنا متولِّد عن العلم الإجمالی و متقوّم به، و الشی ء لا یرتفع و لا ینحلّ بما یتولّد منه، و بارتفاعه یرتفع الأثر المتولّد منهما. فانحلال العلم الإجمالی متوقّف علی العلم الإجمالی.

و بالجملة: لا معنی لانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی المتولّد منه، و الذی یمکن أن یقال فیه بالانحلال- کما علیه المشهور- هو مورد دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر غیر الارتباطیین- کالدین المردّد بین عشرة دراهم أو عشرین- فإنّ الأقلّ متیقّن علی کلّ حال، و الشکّ إنّما هو فی الزائد.

و لکن- کما سیظهر لک فی محلّه- أنّ هناک لا یکون علم إجمالی حتّی ینحلّ، بل لیس هناک إلّا تخیّل الإجمال أوّلًا، و إلّا فالمقدار الأقلّ- و هو العشرة فی المثال- متیقّن أوّلًا، و الزائد مشکوک فیه.

و لو سلّم انحلال العلم فی ذلک، و لکن لا یصحّ ذلک فیما نحن فیه؛ لمکان تلازم تقیید المادّة من قبل تقیید الهیئة، و أنّ العلم التفصیلی ینعدم بانعدام العلم الإجمالی.

فظهر: أنّ المورد الذی یمکن أن یقال فیه بالانحلال هو خصوص الأقلّ و الأکثر الارتباطیین- علی مسلک التحقیق- أو ما یعمّ الأقلّ و الأکثر غیر الارتباطی أیضاً- علی مسلک المشهور- و کیف کان: لا یکون ما نحن فیه منهما.

و منها: أنّه لو سلّم انحلال العلم الإجمالی الأوّلی- کما أفاد- فلا وجه لقوله أخیراً بعدم الانحلال من جهة وجوب تحصیل القید؛ لأنّه بعد العلم إجمالًا بطروّ القید فی الکلام یکون تقیید کلّ من الهیئة و المادّة مشکوکاً فیه. فإذا جرت أصالة الإطلاق فی الهیئة فحیث إنّ الأصل من الاصول اللفظیة التی تکون لوازمها حجّة فمقتضاه و لازمه تعلّق القید علی المادّة أصالةً.

ص: 124

و بالجملة: أصالة الإطلاق فی طرف الهیئة یثبت کون القید علی المادّة مستقلًاّ.

إن قلت: أصالة الإطلاق فی الهیئة معارضة بأصالة الإطلاق فی طرف المادّة، و کلّ منهما یثبت لازمه.

قلت: تقیید المادّة علی مذهب هذا المحقّق الذی نتکلّم علی تسلیم مبناه قدر متیقّن، فلا یمکن التمسّک بأصالة الإطلاق فی المادّة، فتدبّر.

استدراک و إرشاد

ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره تنظّر فی جمیع ما أفاده و قال بما حاصله: إنّ المراد من تقیید الهیئة هو تقیید المادّة المنتسبة، علی ما عرفت من أنّ تقیید الهیئة بما أنّها معنی حرفی لا یعقل، فلا بدّ من رجوع القید إلی المادّة المنتسبة.

و یکون الفرق بین تقیید الهیئة و تقیید المادّة هو أنّه تارةً یکون التقیید للمادّة بلحاظ ما قبل الاستناد، و اخری یکون تقییداً لها بلحاظ الاستناد- کما تقدّم تفصیل ذلک- و حینئذٍ یکون رجوع القید إلی المادّة متیقّناً، و الشکّ یرجع إلی أمر زائد- و هو تقییدها بلحاظ الاستناد- و إطلاق الهیئة ینفی هذا الأمر الزائد، من غیر فرق بین کون المقیّد متّصلًا أو منفصلًا؛ إذ رجوع القید المتّصل إلی المادّة أیضاً متیقّن، و رجوعه إلی المادّة المنتسبة مشکوک فیه، و أصالة الإطلاق الجاریة فی طرف الهیئة تنفی ذلک.

إلی أن قال: هذا، مع أنّ رجوع القید إلی الهیئة و الوجوب لا یصحّ إلّا بعد أخذ القید مفروض الوجود- کما تقدّم- و ذلک أیضاً أمر زائد ینفیه إطلاق القید، حیث إنّه لم یتعقّب بمثل أداة الشرط(1)، انتهی.


1- فوائد الاصول 1: 217- 218.

ص: 125

و فیه: أنّه لو سلّم أنّ المعنی الحرفی غیر قابل للتقیید، و أنّ تقیید الهیئة فی الحقیقة إلی المادّة، و لکن غایة ما یثبته العلم الإجمالی رجوع القید إلی المادّة. و أمّا رجوعه إلیها قبل الانتساب أو حینه أو بعده فأمر زائد یرفع بالأصل. و لم تکن القبلیة و مقابلاتها من قبیل الأقلّ و الأکثر- حتّی یکون رجوع القید إلی المادّة متیقّناً- بل متباینان؛ فکما أنّ رجوع القید إلیها قبل الانتساب أمر زائد مرفوع، فأصالة إطلاق کلٍّ یعارض الآخر.

ثمّ إنّ ما ذکره أخیراً- من أنّ رجوع القید إلی الهیئة لا یصحّ إلّا بعد أخذ القید مفروض الوجود ... إلی آخره- لم یکن شیئاً زائداً علی ما ذکره من ذی قبل، بل هو عبارة اخری عنه؛ فإنّه یعبّر عن لحاظ القید بعد الانتساب به.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّه لو ورد قید فی کلام منفصل، و دار أمره بین الرجوع إلی الهیئة أو المادّة، لم یکن لنا أصل لفظی یصحّ الاتّکال علیه رفع المحذور؛ فلا بدّ من الرجوع إلی الاصول العملیة، فتدبّر و اغتنم.

الواجب النفسی و الغیری
اشارة

الواجب النفسی و الغیری(1)

قد یقسّم الواجب إلی النفسی و الغیری؛ فیقال فی تعریفهما؛ إنّ الواجب النفسی ما امر به لنفسه، و الواجب الغیری ما امر به لأجل غیره.

و نوقش فی تعریف الواجب النفسی: بأنّه یلزم أن تکون جمیع الواجبات الشرعیة التی بأیدینا واجبات غیریة؛ لأنّ الأحکام الشرعیة عند العدلیة تابعة للمصالح و المفاسد و الأغراض المترتّبة علیها- و لذا اشتهر: أنّ الواجبات الشرعیة


1- تاریخ شروع البحث یوم الثلاثاء 14/ ج 2/ 1379 ه. ق.

ص: 126

ألطاف فی الواجبات العقلیة- فوجوب الشی ء إنّما هو لأجل غرض مترتّب علیه، کما أنّ حرمة الشی ء لمفسدة مترتّبة علیه. فجمیع الواجبات الشرعیة إنّما امر بها للتوصّل إلی ما یترتّب علیها من المصالح. فعلی هذا: لا یکون للواجب النفسی مصداق من بین الواجبات الشرعیة(1)

. و لکن الذی یقتضیه التحقیق: هو تمامیة التعریف و عدم استقامة الإشکال.

و ذلک لأنّ المتبادر من هذا التقسیم: أنّ المقسم لذینک القسمین هو البعث و الوجوب لا الإرادة و الغرض، و قد ذکرنا أنّ الوجوب أو الحرمة و غیرهما من الأحکام لا تکاد تکون عبارة عن الإرادة أو الإرادة المظهرة؛ لأنّه إمّا أن یراد بها إرادة الإیجاد، فیلزم أن لا یتحقّق عاصٍ فی الخارج؛ بداهة أنّه إذا تعلّقت إرادته- تعالی- بإیجاد فعل من المکلّف- و لو باختیاره- فیجب وجوده و یمتنع الانفکاک بین إرادته- تعالی- و تحقّق مراده؛ للزوم التوالی الفاسدة المعنونة فی بابه.

أو یراد بها إرادة التشریع، فواضح أنّها من مبادئ الحکم؛ فلا یصحّ أن یعدّ ما یکون من مبادئ الشی ء من مقوّماته.

و بالجملة: مقسم القسمین: البعث الاعتباری القانونی فی الأحکام القانونیة، أو البعث الشخصی فی الأحکام الشخصیة.

و لا یذهب علیک: أنّ هذا التقسیم غیر منافٍ لما تقرّر فی محلّه: أنّ المعنی الحرفی جزئی شخصی، فکیف یکون مقسماً و جامعاً بین القسمین؟! و ذلک لما ذکرنا فی محلّه:

أنّ إمکان تصویر الجامع العرضی الاسمی بمکان من الإمکان، مثلًا کما یصحّ أن یقال:

إنّ لفظة «من» لمعنی کذا و معنی کذا فتکون لفظة «من» هناک اسماً، فکذلک نقول هنا:


1- انظر هدایة المسترشدین 2: 89، الفصول الغرویة: 80/ السطر 37، مطارح الأنظار: 66/ السطر 21.

ص: 127

إنّ الهیئة و إن کانت معناها جزئیاً، و لکنّه یمکن لحاظ الجامع العرضی لها، و التقسیم بلحاظ ذاک الجامع الکذائی.

و الحاصل: أنّ تقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری إنّما هو فی الأمر الاعتباری.

فعلی هذا: المولی الذی یوجب شیئاً لغرض فی وجوبه، و لغرضه غرض إلی أن ینتهی إلی غرض ذاتی له:

فتارةً یوجبه و یلزمه لا للتوسّل به إلی أمر آخر و خطاب فوقه- و إن کان وجوبه لغرض- کما إذا أمر المولی عبده ببناء مسجد، فینتزع من البعث الکذائی الوجوب، و یسمّی الواجب الکذائی واجباً نفسیاً.

و اخری یوجبه و یأمر به للتوسّل به إلی أمر و خطاب موقوف علیه، کما إذا أمره بإحضار الأحجار و الأخشاب لبناء المسجد، أو أمره بالذهاب إلی السوق لاشتراء اللحم، فالأمر و البعث بإحضار الأحجار و الأخشاب و الذهاب إلی السوق أمر غیری؛ لتوقّف الأمر ببناء المسجد أو اشتراء اللحم علیه.

ففی الواجب الغیری قیدان: 1- وجود واجب آخر هناک، 2- توقّف الواجب الآخر علیه. فإن لم یکن فوقه واجب آخر، أو کان و لکن لا یکون متوقّفاً علیه، فلا یکون واجباً غیریاً، بل نفسیاً.

نعم، ینقسم الواجب النفسی إلی الواجب بالذات و إلی الواجب بالغیر؛ فإنّ أوامر الاحتیاط أوامر نفسیة، و لکنّها لا تکون ذاتیة، بل للغیر.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الدواعی و الغایات خارجة عن حریم التقسیم، بل التقسیم وارد علی البعث الاعتباری، و الهیئة و إن کانت معناها جزئیاً شخصیاً، و لکن التقسیم بلحاظ مفهومها الاسمی الانتزاعی الصادق علی کلّ من النفسی و الغیری صدقاً عرضیاً.

ص: 128

فإذن: قد یوجب شیئاً للتوصّل به إلی أمر آخر فوقه المتوقّف علیه، کما إذا قال: «اشتر اللبنات و الأخشاب فابن مسجداً»، و قد لا یوجب کذلک، بل یقول:

«اشتر اللبنات». فالأمر باشتراء اللبنات و الأخشاب فی الصورة الاولی أمر غیری، بخلاف الأمر بها فی الصورة الثانیة؛ فإنّها أمر نفسی. فعلی هذا: فقد یکون شی ء واحد واجباً نفسیاً من جهة فی خطاب، و واجباً غیریاً من جهة اخری فی خطاب آخر.

ثمّ إنّه- کما أشرنا- الواجب النفسی تارةً یجب لذاته، و اخری للغیر، کأوامر الاحتیاط و الأمر بالمعروف؛ فإنّ لزوم إتیان أربع صلوات إلی أربع جهات عند اشتباه القبلة واجب نفسی؛ لعدم توقّف الصلاة إلی القبلة علی غیر جهة القبلة- کالیمین و الیسار و دبر القبلة- و هو واضح. نعم العلم بتحقّق الصلاة إلی القبلة یتوقّف علی إتیان الصلاة إلی أربع جهات. فوجوب صلاة الاحتیاط لم یکن مطلوباً ذاتیاً، بل مطلوب للغیر.

فظهر ممّا ذکرنا صحّة تقسیم مطلق الواجب إلی النفسی و الغیری، ثمّ تقسیم الواجب النفسی إلی الواجب بالذات و الواجب بالغیر. و لک أن تقول من رأس:

الواجب علی أقسام ثلاثة:

1- الواجب الغیری.

2- الواجب النفسی الذاتی.

3- الواجب النفسی للغیر.

و ما ذکرناه هو مقتضی الاعتبار فی تعریف الواجب النفسی و الغیری، و إن وقع بعض الکلام منهم فی ذلک.

و کیف کان: فلا یترتّب علی ما ذکر فائدة مهمّة، و المهمّ بیان صورة الشکّ فی کون واجب أنّه نفسی أو غیری:

ص: 129

حکم صورة الشکّ فی کون شی ء واجباً نفسیاً أو غیریاً
اشارة

و لیعلم: أنّ مقتضی کون شی ء واجباً نفسیاً هو لزوم إتیانه؛ کان هناک واجب آخر أم لا. کما أنّ مقتضی کون شی ء واجباً غیریاً عدم وجوب تحصیله إلّا فی صورة وجوب ذلک الشی ء.

فإذا شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری فهل لنا أصل لفظی یعیّن أحدهما، أم لا؟ ثمّ إنّه لو لم یکن لنا أصل لفظی یعیّن أحدهما فمقتضی الأصل العملی ما ذا؟

فالکلام یقع فی موردین:

المورد الأوّل: فیما یقتضیه الأصل اللفظی
اشارة

الظاهر: تسالم الأصحاب علی النفسی فی دوران الأمر بین کون الواجب نفسیاً أو غیریاً، و لکن اختلفوا فی وجه إثباته، و لکلّ وجهة هو مولّیها، و لکنّها لا تخلو عن إشکال. فنذکر الوجوه التی ذکروها، و نعقّبها بما فیها، ثمّ نشیر إلی الوجه المختار فیه:

قال المحقّق الخراسانی قدس سره: إنّ الهیئة و إن کانت موضوعة لما یعمّهما، إلّا أنّ إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً؛ فإنّه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه علی المتکلّم الحکیم(1)، انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّ الهیئة معناها إیجادی جزئی، و یمتنع تصویر جامع حقیقی بین المعانی الإیجادیة.

و ثانیاً: لو سلّم تصویر جامع اسمی انتزاعی، فنقول: ظاهر عبارته یعطی


1- کفایة الاصول: 136.

ص: 130

أنّه قدس سره بصدد إثبات النفسیة من طریق مقدّمات الحکمة- أعنی إثبات النفسیة من ناحیة الإطلاق بمعونة مقدّمات الحکمة- و فیه: أنّ غایة ما تقتضیه المقدّمات هی استفادة المعنی الجامع القابل للصدق علی النفسی و الغیری، و أمّا خصوص أحدهما دون الآخر فیحتاج إلی بیان آخر.

و بالجملة: بأصالة الإطلاق لا یمکن إثبات النفسیة، کما لا یمکن إثبات الغیریة؛ فإنّ غایة ما تفیده المقدّمات هی المعنی الأعمّ و القدر الجامع، و صدقه علی کلٍّ من النفسیة و الغیریة علی حدٍّ سواء، و تعیّنه للدلالة علی أحدهما دون الآخر مرهونة بدلالة الدلیل؛ لأنّه بانضمام خصوصیة و قید للمعنی یحصل قسم؛ فیدور الأمر بین المتباینین.

إن قلت: إنّ کلًاّ من النفسیة و الغیریة و إن کان قسماً، و کلّ قسم یحتاج إلی انضمام قید للمقسم، و لکن حیث إنّ القید المأخوذ فی الواجب الغیری وجودی لکونه واجباً إذا کان هناک واجب، بخلاف الواجب النفسی؛ فإنّه غیر مقیّد بذلک فإذا دار الأمر بینهما فعدم إحراز الأمر الوجودی یکفی فی إثبات الطرف المقابل.

قلت: کون القید فی الواجب النفسی عدمیاً لا یوجب أن یکون التقیّد به أیضاً عدمیاً؛ فکلّ من التقیید بالأمر الوجودی و الأمر العدمی یحتاج إثباته إلی بیان زائد علی بیان الجامع، فتدبّر.

و یحتمل بعیداً أن یکون مراد المحقّق الخراسانی قدس سره بالإطلاق غیر الإطلاق المصطلح علیه المبنی علی مقدّمات معلومة، بل المراد ما هو نتیجة الإطلاق. بتقریب:

أنّ المتکلّم الحکیم لا بدّ له من أن لا یخِلّ بغرضه، فلو دار الأمر بین النفسی و الغیری فإن کان غرضه الغیری فلا بدّ له من بیانه، و إلّا لأخلّ بغرضه، بخلاف النفسی؛ لأنّه واجب؛ وجب هناک شی ء أم لا.

ص: 131

و لکن فیه: أنّ العکس أیضاً قد یوجب الإطلاق فیه الإخلال بالغرض، فلا بدّ له من بیانه. بل یمکن أن یقال: إنّ الغالب ذلک؛ لأنّه لو تردّد شی ء بین کونه واجباً نفسیاً أو غیریاً لواجب مشروط علی شرط لم یحصل بعد- کالوقت- فلو کان ذلک الشی ء واجباً غیریاً لا یجب بیانه قبل حصول شرط الواجب الذی یکون هذا الشی ء واجباً لأجله. و أمّا لو کان واجباً نفسیاً فلا بدّ له من بیانه، و إلّا لأخلّ بالغرض.

مثلًا إذا کان نصب السلّم واجباً غیریاً لا یلزم أن یُبیّنه قبل الغد، و لا یوجب ذلک إخلالًا بغرضه. و أمّا لو کان واجباً نفسیاً فلا بدّ له من بیانه، و إلّا لأخلّ بالغرض. فإذا دار الأمر بین النفسی و الغیری فالحکمة المقتضیة لعدم الإخلال بالغرض توجب إرادة الغیریة.

فتحصّل ممّا ذکر: أنّ الإخلال بالغرض کما یمکن أن یکون أحیاناً بالنسبة إلی الواجب الغیری، فکذلک ربّما یکون بالنسبة إلی الواجب النفسی، بل الإخلال بالغرض بالنسبة إلی الواجب النفسی أکثر؛ و ذلک لأنّ تردّد الواجب بین النفسی و الغیری ینبغی أن یفرض فی مورد یکون منشأ للأثر و له ثمرة، فلا بدّ و أن یفرض الواجب الذی احتمل وجوب هذا الشی ء منوطاً و مشروطاً به غیر واجب بعد، و إلّا فلو فرض کونه واجباً فعلًا لا یکاد یتردّد کون هذا الشی ء واجباً نفسیاً أو غیریاً؛ للزوم إتیانه علی کلّ تقدیر، فتدبّر.

ثمّ إنّه تصدّی العلّامة القوچانی قدس سره لحمل الواجب علی النفسی عند الدوران و جعله وجهاً لمقال استاذه المحقّق الخراسانی قدس سره فقال بما حاصله: إنّ النفسی و الغیری و إن کانا قسمین من الواجب، لکن بحسب الظاهر و الإثبات تعارف ذکر القید فی الواجب الغیری؛ فما لم یذکر قید الغیری یحمل علی النفسی(1).


1- حاشیة کفایة الاصول، العلّامة القوچانی 1: 97/ الهامش 195.

ص: 132

أقول: إن رجع التعارف الذی ادّعاه إلی الانصراف الموجب لظهور اللفظ، فلا مضایقة فیه؛ فإنّه لا یبعد أن یقال: إنّ الواجب کثیراً ما یستعمل فی النفسی فی المحاورات و المتفاهمات العرفیة، أو یقال بأکثریة ذکر القید فی الواجب الغیری. و لکن ما ادّعاه لا یکون بیاناً لمقال استاذه المحقّق الخراسانی؛ لأنّه قدس سره یرید إثبات النفسیة من ناحیة الإطلاق و مقدّمات الحکمة، و مقتضی ما وجّهه رحمه الله هو التمسّک بالانصراف الموجب لظهور اللفظ، فتدبّر.

کلام العلمین النائینی و العراقی فی الحمل علی النفسیة عند الدوران

لکلٍّ من المحقّقین النائینی و العراقی 0 کلام یظهر منهما: أنّ الواجب الغیری مشروط و الواجب النفسی مطلق، و لکن ذکر الأوّل منهما فی بیانه مقالًا مفصّلًا، و أمّا الثانی فذکر مجملًا منه.

فنذکر أوّلًا مقالة المحقّق النائینی قدس سره، ثمّ نعقّبه بکلام المحقّق العراقی قدس سره، ثمّ نشیر إلی ما یقتضیه النظر فیهما:

قال المحقّق النائینی قدس سره ما ملخّصه: إنّ الواجب الغیری لمّا کان وجوبه مترشّحاً من الغیر کان وجوبه مشروطاً بوجوب الغیر، کما أنّ وجود الغیر یکون مشروطاً بالواجب الغیری؛ فیکون وجوب الغیر من المقدّمات الوجوبیة للواجب الغیریة، و وجود الواجب الغیری من المقدّمات الوجودیة لذلک الغیر.

مثلًا یکون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة، و تکون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء؛ فالوضوء بالنسبة إلی الصلاة یکون من قیود المادّة، و وجوب الصلاة بالنسبة إلی الوضوء یکون من قیود الهیئة بالمعنی المتقدّم- من تقیید

ص: 133

الهیئة بحیث لا یرجع إلی تقیید المعنی الحرفی- فحینئذٍ یرجع الشکّ فی کون الوجوب غیریاً إلی شکّین: أحدهما الشکّ فی تقیید وجوبه بوجوب الغیر، ثانیهما الشکّ فی تقیید مادّة الغیر به.

فإن کان لکلا طرفی الغیر و الواجب الغیری إطلاق- کما إذا کان دلیل الصلاة مطلقاً لم یؤخذ الوضوء قیداً لها، و کذا إیجاب الوضوء مطلقاً لم یقیّد وجوبه بالصلاة- فلا إشکال فی صحّة التمسّک بکلٍّ من الإطلاقین، و تکون النتیجة هی الوجوب النفسی للوضوء، و عدم کونه قیداً وجودیاً للصلاة؛ لأنّ مقتضی إطلاق دلیل الوضوء النفسیة، و مقتضی إطلاق دلیل الصلاة نفی قیدیة الوضوء لها.

و أمّا إن کان لأحدهما- الغیر و الواجب الغیری- إطلاق دون الآخر، فیکفی فی إثبات النفسیة أیضاً؛ لأنّ مثبتات الاصول اللفظیة حجّة. فلو فرض أنّه لم یکن لدلیل الوضوء إطلاق و کان لدلیل الصلاة إطلاق؛ فمقتضی إطلاق دلیلها هو عدم تقیّد مادّتها بالوضوء، و یلزمه عدم تقیّد وجوب الوضوء بها؛ لما عرفت من الملازمة بین الأمرین. و کذا الحال لو انعکس الأمر و کان لدلیل الوضوء إطلاق دون دلیل الصلاة.

فتحصّل: أنّ الأصل اللفظی یقتضی النفسیة عند الشکّ فیها؛ سواء کان لکلٍّ من الدلیلین إطلاق، أو کان لأحدهما إطلاق فقط(1)، انتهی.

و قال المحقّق العراقی قدس سره: إذا شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری، فإن کان هناک إطلاق فمقتضی الإطلاق هو کون الوجوب نفسیاً؛ و ذلک لأنّ الوجوب النفسی مطلق من حیث التعلّق بواجب آخر، کما هو مقتضی تعریفه. بخلاف الوجوب الغیری؛ فإنّه مقیّد بواجب آخر یتبعه فی جمیع شئونه، کما هو مقتضی الملازمة.


1- فوائد الاصول 1: 220- 222.

ص: 134

فإطلاق الکاشف عن الوجوب- أعنی الإرادة التشریعیة- یکشف عن عدم تعلّق الإرادة المزبورة بإرادة اخری، و إلّا لزم بیان تعلّقها و تقیّدها بها؛ لکون الإرادة التشریعیة الغیریة من شئون الإرادة التشریعیة النفسیة(1)، انتهی.

و لا یخفی: أنّه إن أمکننا الجواب عن مقال الأوّل منهما، یظهر الخلل فیما ذهب إلیه ثانیهما، من غیر تجشّم لردّه.

فنقول: فیما ذهب إلیه المحقّق النائینی قدس سره وجوه من الضعف:

منها: قوله بأنّ وجوب المقدّمة مترشّح من وجوب ذیها؛ و ذلک لما عرفت فی ابتداء مسألة مقدّمة الواجب عدم معقولیة ترشّح وجوب المقدّمة من وجوب ذیها، بحیث یکون ذی المقدّمة علّة موجدة لوجوب المقدّمة.

کما أنّ القول بأنّ إرادة المقدّمة مترشّحة من إرادة ذیها غیر معقولة، بل لکلٍّ من وجوب المقدّمة و ذیها و إرادة المقدّمة و إرادة ذیها مبادئ یخصّه، فلاحظ.

و منها: قوله إنّ وجوب المقدّمة حیث کان مترشّحاً من وجوب ذیها فلا محالة یکون مشروطاً به، غیر صحیح؛ لأنّه لو سلّم کون وجوبها مترشّحة من وجوب ذیها فتکون معلولة له و متأخّرة عنه، و علّتها واقعة فی الرتبة السابقة، و لا یعقل أن یکون المعلول مستنداً و مشروطاً بوجوب ذیها؛ لأنّ الاشتراط- حیث یکون وصفاً وجودیاً- إمّا یکون حال وجوده، و هو یستلزم أن یوجد المعلول بتمام شئونه ثمّ یرتبط بعلّته بعد استقلاله، و هو باطل؛ قضاءً لحقّ المعلولیة. و إمّا فی حال عدمه، و هو أیضاً باطل؛ لأنّ المعدوم باطل محض، کیف یکون ظرفاً للإضافة و یعرضه وصف الاشتراط؟!


1- بدائع الأفکار 1: 372.

ص: 135

فالقول بکون وجوب المقدّمة مترشّحاً عن وجوب ذیها لا یکاد یجتمع مع القول بکونه مشروطاً بوجوب ذیها، فتدبّر.

و منها: قوله إنّ وجود الغیر مشروط و مقیّد بذلک الواجب الغیری، فإنّه بإطلاقه ممنوع، و إنّما یتمّ فی بعض الواجبات الغیریة کالشرائط، لا فی جمیعها کنصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح.

و بعبارة اخری: عدّ الواجب الغیری من قیود مادّة الواجب النفسی غیر مستقیم، إلّا بالنسبة إلی الشروط.

فکأنّ هذا المحقّق قصّر نفسه إلی الصلاة بالنسبة إلی الوضوء، فرأی تقیّد الصلاة بالوضوء، و لم یتعدّ نفسه و ذهنه الشریف عن ذلک إلی ما لا یکون الغیر مشروطاً به، مثلًا نصب السلّم مقدّمة للکون علی السطح، و مع ذلک لم یکن الکون علی السطح منوطاً و مشروطاً به؛ و لذا بعد أن تدرّج العبد السلّم و جلس علی السطح لو ألقی السلّم علی وجه الأرض أو أحرقه لما کان یضرّ بالکون علی السطح، فتدبّر.

و بالجملة: الواجبات الغیریة علی قسمین: فقد تکون مادّة الغیر مشروطة بالغیر- کالصلاة بالنسبة إلی الوضوء- و قد لا یکون کذلک- کنصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح- و لذا یشترط بقاء الطهارة حال إتیان الصلاة، و لا یعتبر بقاء السلّم منصوباً حال کونه علی السطح، و کم فرق بین توقّف شی ء علی وجود شی ء، و بین تقیّده به!

فإذن: لا یرجع الشکّ فی کون الوجوب غیریاً إلی شکّین، فتدبّر.

و منها: ما ذکره من حجّیة مثبتات الاصول اللفظیة؛ فإنّه- کما سیجی ء فی محلّه- عدم تمامیته فی جمیع الطرق و الأمارات؛ و لذا فی الظنّ بجهة القبلة لا یثبت بذلک مثبتاته.

ص: 136

نعم، لو کانت الأمارة من الظنون العقلائیة الکاشفة عن الواقع- کخبر الثقة- فمثبتاتها حجّة، فلم یثبت حجّیة مثبتات الاصول مطلقاً، و سیوافیک تفصیله فی محلّه.

و بالجملة: غایة ما یستفاد من الإطلاق و یصحّ الاحتجاج علیه لذلک الحکم، هی نفس ذلک الشی ء لیس إلّا، و إلّا لبیّنه. و أمّا إثبات لوازمه العقلیة أو العادیة فلا، فتدبّر.

الوجه المختار فی الحمل علی النفسیة

هذا حال ما تقدّم من الوجوه التی ذکروها للحمل علی النفسیة عند الدوران، و أمّا الوجه المختار فیمکن تقریبه بأحد الوجوه:

الوجه الأوّل: انصراف الهیئة إلی الوجوب النفسی فی محیط العرف و الشرع، و الانصراف المقصود به هنا لیس انصراف الکلّی و الطبیعی إلی أفراده و مصادیقه؛ لما عرفت أنّ الهیئة معناها حرفی جزئی، فلا تکاد تستعمل إلّا فی نفس البعث و الإغراء النفسی أو الغیری، بل المراد من الانصراف هو أکثریة استعمال الهیئة فی النفسی بالنسبة إلی استعمالها فی المعنی الغیری، فلو شکّ فی مورد أنّه نفسی أو غیری فالاعتبار یساعد حمله علی النفسی؛ لأنّ الظنّ یلحق الشی ء بالأعمّ الأغلب.

و بالجملة: الهیئة وضعت للبعث و الإغراء، و النفسیة و الغیریة خارجتان عن الموضوع له، نظیر الإشارة؛ فکما أنّها آلة للإیجاد تکویناً، فکذلک الأمر فی عالم الاعتبار. و لکن حیث إنّ المبعوث إلیه علی قسمین: قسم یکون مطلوباً نفسیاً، و قسم آخر یکون مطلوباً غیریاً.

و استعمال البعث إلی ما یکون مطلوباً نفسیاً کثیر، بخلاف البعث إلی ما یکون مطلوباً غیریاً؛ فإنّه قلیل. فبمجرّد انقداح البعث فی الذهن یتوجّه الذهن إلی ما یکون معروفاً- و هی النفسیة- إلی أن یثبت خلافه.

ص: 137

الوجه الثانی: أنّ للأمر ظهوراً عرفیاً فی النفسیة، بتقریب أنّه کما إذا قال المولی: «أکرم العالم»، و شکّ العبد فی أنّ موضوع الحکم شی ء آخر و أخذ عنوان العلم بلحاظ أنّه طریق إلیه، أو احتمل أنّه عنوان ملازم لما یکون موضوعاً للحکم، فیقال: إنّ الظاهر عند العرف و العقلاء هو کون عنوان العلم تمام الموضوع للحکم، لا طریقاً إلی ما یکون موضوعاً و لا ملازماً لما یکون موضوعاً له.

فکذلک یقال فیما نحن فیه: إذا أمر بشی ء فعند فقد القرینة یری العرف و العقلاء أنّه هو المطلوب؛ وجب هناک شی ء آخر أم لا، و هذا معنی النفسیة.

و بالجملة: کما یکون للعناوین المأخوذة فی لسان الأدلّة ظهور فی موضوعیتها للأحکام، فکذلک لو امر بشی ء یکون الظاهر منه عند العرف و العقلاء: أنّ المأمور به هو المطلوب و المحبوب لنفسه و لا ینقدح فی ذهنهم کونه مطلوباً لأجل أمر آخر.

الوجه الثالث: أنّ المقام مقام احتجاج الموالی علی العبید و بالعکس، بتقریب أنّ البعث المتعلّق بعنوان یکون حجّة علی العبد و المولی، یکون کلّ منهما مأخوذاً بذلک العنوان، و لا یجوز تقاعد العبد عن امتثاله باحتمال کونه مقدّمة لغیره الذی لم یجب بعد.

و هذا مثل ما ذکرناه فی إثبات التعبّدیة فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر، فکما قلنا هناک: إنّه إذا قال المولی: «أکرم زیداً» مثلًا، و احتمل عدم وجوبه تعییناً فلا یجوز للعبد ترک إکرام زید و إکرام عمرو، و لا یکون عند ذلک له حجّة علی مولاه عند العرف و العقلاء، بل لمولاه حجّة علیه، فکذلک فیما نحن فیه یکون البعث المتعلّق علی عنوانٍ حجّة علی العبد، و لا یرون العقلاء التقاعد عنه باحتمال کونه واجباً لأجل غیره.

و لیعلم: أنّ غایة ما یقتضیه هذه الوجوه هی أن یتعامل مع البعث الکذائی معاملة الوجوب عند الشکّ، و لکن لا یثبت بها الوجوب النفسی بخصوصه حتّی

ص: 138

یترتّب علیه ما یترتّب علی هذا العنوان، کما لا یخفی.

هذا فیما یقتضیه الأصل اللفظی، فلو تمّ فلا مجال معه للأصل العملی. نعم مع عدم تمامیته تصل النوبة إلی الأصل العملی.

المورد الثانی: فیما یقتضیه الأصل العملی

لو فرض عدم کون المولی فی مقام البیان، و لم یکن ما هو المرجع من الأصل اللفظی، فهل هنا أصل عملی یعیّن به النفسیة أو الغیریة، أم لا؟

و حیث إنّه لم یکن لمقتضی الأصل العملی فی المقام ضابط مخصوص، بل یختلف باختلاف الموارد، و أشار کلّ من المحقّق النائینی و المحقّق العراقی 0 إلی تلک الموارد، و لمّا کان ما ذکره الأوّل منهما أحسن جمعاً، فنذکره أوّلًا، ثمّ نشیر إلی وجه الضعف فیما أفاده. و بذلک یظهر وجه الخلل فی کلام الثانی منهما. و من أراد فلیراجع مقاله(1)

. قال المحقّق النائینی قدس سره: إنّ الشکّ فی الوجوب الغیری علی ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما إذا علم بوجوب کلّ من الغیر و الغیری(2)، من دون أن یکون وجوب الغیر مشروطاً بشرط غیر حاصل، کما إذا علم بعد الزوال بوجوب کلّ من الوضوء و الصلاة، و شکّ فی وجوب الوضوء من کونه غیریاً أو نفسیاً؛ فالشکّ فی هذا القسم یرجع إلی الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء و أنّ الوضوء شرط لصحّتها أم لا؟

فتکون ما نحن فیه من صغریات مسألة الأقلّ و الأکثر الارتباطی، و القاعدة تقضی فیها بالبراءة، و أصالة البراءة تقتضی عدم شرطیة الوضوء للصلاة و صحّتها بدونه؛


1- بدائع الأفکار 1: 373.
2- قلت: فی التعبیر أدنی مسامحة، کما لا یخفی، و لکن المقصود واضح.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 139

فمن هذه الجهة تکون النتیجة النفسیة. و أمّا الوضوء فواجب علی کلّ حال؛ نفسیاً کان أو غیریاً.

و الحاصل: أنّ أصل وجوب الوضوء- نفسیاً أو غیریاً- معلوم، فیجب إتیانه.

و لکن تقیید الصلاة به حیث إنّه مشکوک فلا یجب؛ للبراءة(1)

. و فیه: أنّه وقع خلط فی کلامه قدس سره، و ما ذکره هنا مخالف لما أفاده فی مبحث الاشتغال، و یتّضح ذلک بعد تمهید مقدّمة، و هی: أنّه کما تقدّم أنّ المقدّمات علی قسمین:

1- المقدّمات الداخلیة.

2- المقدّمات الخارجیة.

و بینهما فرق من حیث تعلّق الحکم علیهما؛ فإنّه- علی ما أفاده- لم یکن الوجوب المتعلّق بالأجزاء و المقدّمات الداخلیة مترشّحاً و متولّداً من الوجوب المتعلّق بالمجموع، بحیث یکون وجوب الأجزاء وجوباً غیریاً، بل الأجزاء واجبة بالوجوب النفسی الضمنی. نعم الوجوب المتعلّق بالمقدّمات الخارجیة وجوب ترشّحی غیری، و مورد الأقلّ و الأکثر عندهم إنّما هو فی المقدّمات الداخلیة لا الخارجیة، و ذلک لأنّه لو شکّ أنّ للصلاة- مثلًا- عشرة أجزاء أو تسعة فمرجع شکّه إنّما هو فی أنّ متعلّق الوجوب هل هو تسعة أجزاء أو عشرة. و أمّا لو شکّ فی وجوب نصب السلّم فلم یکن کذلک؛ فإنّ الشکّ فی ترشّح الوجوب الغیری من الوجوب المتعلّق بالکون علی السطح إلی نصب السلّم.

إذا عرفت هذا فنقول: الکلام فیما نحن فیه فی أنّ الشی ء مقدّمی غیری أو


1- فوائد الاصول 1: 222- 223.

ص: 140

نفسی، بلحاظ أنّ وجوب الصلاة- مثلًا- معلوم تفصیلًا، و علم إجمالًا بوجوب الوضوء؛ إمّا لنفسه أو لکونه مقدّمة للصلاة.

و بعبارة اخری: یکون هناک علم إجمالی بکون الصلاة المتقیّدة بالوضوء واجباً أو نفس الوضوء، و لا یمکن الانحلال فی مثل ذلک.

و قد صرّح هذا المحقّق قدس سره بعدم الانحلال فی مبحث الاشتغال، و إلیک نصّ عبارته: إنّ العلم التفصیلی بوجوب أحد طرفی المعلوم بالإجمال مع تردّد وجوبه بین کونه نفسیاً أو غیریاً متولّداً من وجوب الطرف الآخر علی تقدیر أن یکون هو الواجب المعلوم بالإجمال، لا یوجب الانحلال. أ لا تری: أنّه لو علم إجمالًا بوجوب نصب السلّم أو الصعود علی السطح من باب الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها، فالعلم التفصیلی بوجوب نصب السلّم لا یوجب انحلال العلم الإجمالی بوجوب النصب أو الصعود؟! فإنّ العلم التفصیلی بوجوبه یتوقّف علی وجوب الصعود علی السطح؛ إذ مع عدم وجوب الصعود- کما هو لازم الانحلال- لا یعلم تفصیلًا بوجوب النصب؛ لاحتمال أن یکون وجوبه غیریاً متولّداً من وجوب الصعود(1)، انتهی.

و بالجملة: أنّ العلم التفصیلی المتولّد من العلم الإجمالی لا یمکن أن یوجب انحلال العلم الإجمالی، و لازم الانحلال إذهاب المعلول علّته. و من قال بالانحلال فی الأقلّ و الأکثر إنّما هو لأجل أنّ الأقلّ یعلم بوجوبه تفصیلًا- ضمنیاً أو استقلالیاً بخلاف ما نحن فیه؛ فإنّه لو جرت أصالة البراءة فی الصلاة فمقتضاها نفی تقیید الصلاة بالوضوء، فلا یکون الوضوء واجباً علی أیّ حال. فانحلال العلم الإجمالی موجب لذهاب العلم التفصیلی؛ لأنّه متولّد و معلول للعلم الإجمالی.


1- فوائد الاصول 4: 156- 157.

ص: 141

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ الذی ذکره هذا المحقّق هنا- من جریان البراءة و انحلال العلم الإجمالی- مناقض لما أفاده فی مبحث الاشتغال- من عدم الانحلال- و کأنّه اختلط لدیه المقدّمات الخارجیة بالمقدّمات الداخلیة.

و ما ذکره هناک موافق للتحقیق، و اللَّه الهادی إلی سواء الطریق.

القسم الثانی: قال قدس سره: هو ما إذا علم بوجوب کلٍّ من الغیر و الغیری، و لکن کان وجوب الغیر مشروطاً بشرط غیر حاصل، کالمثال المتقدّم فیما إذا علم قبل الزوال، فمرجع الشکّ فی غیریة الوضوء و نفسیّته فی هذا القسم إلی الشکّ فی اشتراطه بالزوال و عدم اشتراطه؛ إذ لو کان واجباً غیریاً یکون مشروطاً بالزوال- لمکان اشتراط الصلاة به- و حینئذٍ یکون من أفراد الشکّ بین المطلق و المشروط، و قد تقدّم أنّ مقتضی الأصل هو الاشتراط؛ للشکّ فی وجوبه قبل الزوال، و أصالة البراءة تنفی وجوبه، کما تنفی شرطیة الصلاة بالوضوء(1)

. و فیه: أنّ هذا أیضاً مخالف لما بنی علیه قدس سره فی مبحث الاشتغال؛ من تنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیات؛ سواء لم یکن للزمان دخل فی الملاک و الخطاب، أو کان له دخل فی حسن الخطاب و لکن لم یکن له دخل فی الملاک، أو کان للزمان دخل فی الامتثال و الخروج عن عهدة التکلیف من دون أن یکون له دخل فی الملاک و الخطاب، أو کان للزمان دخل فی الخطاب و الملاک(2)

. و الحاصل: أنّه قدس سره ذهب إلی تنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیات؛ حتّی فیما لو کان للزمان دخل فی الخطاب و الملاک. و ما ذهب إلیه هناک هو مقتضی التحقیق، کما سیوافیک فی محلّه- إن شاء اللَّه-.


1- فوائد الاصول 1: 223.
2- نفس المصدر 4: 108- 112.

ص: 142

فإذن نقول: مفروض المسألة یرجع إلی العلم الإجمالی بوجوب الوضوء نفسه، أو لکونه شرطاً للصلاة المتقیّدة به بعد الوقت، و العلم الإجمالی الکذائی إذا علم بتحقّق شرطه فی المستقبل منجّز عقلًا؛ فیجب علیه الوضوء فی الحال و الصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت.

نعم، یتمّ ما ذکره فی بعض الموارد، و هو ما إذا لم یعلم بتحقّق الشرط فیما سیجی ء؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یکاد یکون منجّزاً فی ذلک، و سیوافیک تفصیل هذا الأمر فی مبحث الاشتغال، فارتقب حتّی حین.

القسم الثالث: قال قدس سره: هو ما إذا علم بوجوب ما شکّ فی غیریته و لکن شکّ فی وجوب الغیر، کما إذا شکّ فی وجوب الصلاة فی المثال المتقدّم و علم بوجوب الوضوء، و لکن شکّ فی کونه غیریاً حتّی لا یجب- لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضی البراءة- أو نفسیاً حتّی یجب.

و الأقوی: وجوب الوضوء فی المفروض؛ لأنّ المقام یکون من التوسّط فی التنجیز الذی علیه یبتنی جریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر الارتباطیین، إذ کما أنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشکّ فی وجوبها یقتضی وجوب امتثال ما علم، و لا تجوز البراءة فیه- مع أنّه یحتمل أن یکون ما عدا السورة واجباً غیریاً(1) و مقدّمة للصلاة مع السورة- فکذلک فی المقام، من غیر فرق بینهما(2)، انتهی.

و فیه: أنّه لا یمکن تصویر لما ذکره قدس سره، و منشأ اشتباهه خلط المقدّمات


1- قلت: هذا أیضاً علی خلاف مبناه؛ لأنّه قدس سره یصرّح فی بابه: أنّ وجوب الأجزاء وجوب نفسی، لکنّه ضمنی، و عرفت فی القسم الأوّل: أنّه صرّح بالفرق بین ما یکون واجباً غیریاً و ما یکون واجباً ضمنیاً، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- فوائد الاصول 1: 223- 224.

ص: 143

الخارجیة بالمقدّمات الداخلیة؛ لأنّ وجوب الأقلّ فی المرکّب الارتباطی معلوم تفصیلًا- سواء وجب الأکثر أو لا- بخلاف الوضوء فی المثال؛ فإنّه إذا شکّ فی وجوب الغیر فقد شکّ فی وجوب الوضوء إذا کان مقدّمة للغیر، فلم یعلم بوجوب الوضوء علی أیّ تقدیر.

و بالجملة: فرق بین ما نحن فیه و الأجزاء؛ فإنّ وجوب الأقلّ معلوم بالتفصیل نفسیاً، و الشکّ إنّما هو من جهة الضمنیة و الاستقلالیة، و الشکّ إنّما هو فی الزائد. و أمّا فیما نحن فیه فالشکّ إنّما هو فی ترشّح الوجوب علیه و عدمه. فإذا شکّ فی وجوب الغیر فیوجب ذلک شکّاً فی وجوب الوضوء. فقوله قدس سره: «فإنّه علم بوجوب الوضوء، و لکن شکّ فی کونه غیریاً أو نفسیاً» کلام لا محصّل له، و هو منه عجیب.

و الأولی عدم ذکره هنا؛ لأنّ الکلام فی تعدید أقسام اشتباه الواجب الغیری بالنفسی، و هذا لم یکن کذلک.

و الأولی أن یذکر قسماً آخر، و یجعله قسماً ثالثاً، و هو: أنّه لو تردّدت المقدّمة الخارجیة بین کونها من قبیل الوضوء بالنسبة إلی الصلاة من حیث تقیّد الصلاة به، و بین کونها من قبیل نصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح، من جهة عدم تقیّد الکون علی السطح بنصب السلّم، و القاعدة أیضاً یقتضی الاحتیاط، فتدبّر(1).

ینبغی التنبیه علی امور:
اشارة

1- قلت: و لعلّه یمکن تصویر قسم آخر هنا؛ و هو ما لو تردّدت المقدّمة بین کونها عبارة عن نصب السلّم- مثلًا- أو شی ء آخر، فالقاعدة لعلّها تقضی بالاحتیاط، کما لا یخفی، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 144

التنبیه الأوّل فی ترتّب الثواب و العقاب علی التکالیف الغیریة
اشارة

و حیث إنّ الأنظار و المشارب فی کیفیة الثواب و العقاب الاخرویین مختلفة، و یختلف بذلک ترتّب الثواب و العقاب علی إتیان الواجبات و المحرّمات الغیریة فینبغی الإشارة الإجمالیة إلی آرائهم فی ذلک، و تعقیبها بما هو مقتضاها، و تفصیلها یطلب من محلّه:

آراء القوم فی کیفیة الثواب و العقاب الاخرویین

فمنها ما قاله بعض أهل النظر، إجماله: أنّ الثواب و العقاب فی النشأة الآخرة لم یکن نظیر المثوبات و العقوبات المقرّرة فی النظامات المتمدّنة البشریة؛ بأن یُضرب أحدٌ أو یُسجن- مثلًا- بفعله القبیح، أو یعطی أحدٌ ثواباً و أجراً بفعله الحسن، بل الثواب و العقاب فی تلک النشأة من قبیل لوازم الأعمال، و لها صور مناسبة لتلک النشأة(1)

. و بعبارة اخری: أنّ للأعمال الحسنة و الأفعال القبیحة لوازم و صوراً صالحة أو طالحة فی النشأة الآخرة یحشر الإنسان معها.


1- مجموعة مصنفات شیخ الإشراق 2: 229- 235، الحکمة المتعالیة 9: 4- 5 و 293- 296.

ص: 145

بل مثلُ الأعمال، العقائد الصحیحة أو الفاسدة، لها لوازم و صور غیبیة، و نحوهما الملکات الفاضلة أو الردیئة. ففی تلک النشأة أنواع من المثوبات و العقوبات.

و بالجملة: الأعمال التی تصدر من الإنسان فی هذه النشأة إن کانت صالحة تکون لها صور صالحة بهیئة حسنة فی النشأة الآخرة، و إن کانت سیّئة تکون لها صور طالحة کریهة فیها، و یُحشر الإنسان مع تلک الصور، و تلک الصور لازمة لأعماله.

بل، و کذا للأخلاق الفاضلة أو الردیئة صور غیبیة ملکوتیة؛ فمَن تخلّق بأخلاق حسن أو قبیح یؤجر أو یعذّب معها غیر ما یؤجر أو یعذّب بالأعمال.

بل للعقائد الحسنة و السیّئة صور ملکوتیة یثاب أو یعذّب علیها غیر ما یثاب أو یعذّب بأعماله و ملکاته.

و ربّما یستدلّ لمقاله ببعض الآیات و الروایات، کقوله تعالی: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ»(1)

. و قد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «إنّ هذه الآیة أحکم آیة فی القرآن»

(2)

. و ظاهر الآیة الشریفة یعطی بأنّ للخیر و الشرّ هناک صوراً یراها فاعل الخیر و الشرّ، و قد ورد: «أنّ المتکبّر یُحشر فی صورة الذرّ و یوطأ علیه»(3)، و «أنّ من اغتاب یکون لسانه بین مکّة و المدینة یطأ علیه الخلائق» إلی غیر ذلک من الآیات و الروایات.


1- الزلزلة( 99): 7- 8.
2- انظر تفسیر الصافی 5: 358، مجمع البیان 9- 10: 800.
3- وسائل الشیعة 12: 268، کتاب الحجّ، أبواب أحکام العشرة، الباب 146، الحدیث 10، راجع ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: 265/ 10، المحجّة البیضاء 6: 215.

ص: 146

و بالجملة: لکلّ من الأعمال و الملکات و العقائد فی تلک النشأة صور غیبیة لازمة لها تحشر الإنسان معها، و لکن لا عرفان لنا بکیفیتها و حقیقتها، نعم علمها عند اللَّه تعالی و من خصّه من أولیائه.

فعلی هذا القول تکون نسبة التوبة إلی تلک الصور نسبة اللعان إلی نفی الولد؛ فکما تنفی اللعان الولد شرعاً مع وجود مولود خارجاً، فکذلک التوبة تنفی انتساب الصور القبیحة المجسّمة.

و قریب من هذا القول ما قد یقال: إنّ الإنسان بواسطة الأعمال و تحصیل الملکات و العقائد تحصل له قدرة فی تلک النشأة یمکنه إیجاد ما یریده(1). و لعلّه لذا قد ورد: أنّ بعد استقرار أهل الجنّة فی الجنّة یحضرهم مکتوب قد رقم فیه: من الحیّ القیّوم الذی لا یموت إلی الحیّ القیّوم الذی لا یموت: إذا قلتُ لشی ء کن فیکون، فقل أنت ذلک فیکون(2). هذا حال أهل الجنّة.

و هکذا حال أهل جهنّم؛ فإنّه یحصل لهم قدرة کذلک، و یکونون مجبولین علی إیجاد صور فیتأذّون منها.

و لم یدلّ دلیل علی نفی هذه المَزعمة بأن لا یکون للأعمال و الملکات و العقائد لوازم فی تلک النشأة لا تنفکّ عن الإنسان، و لا یکون للنفس اقتدار علی إیجاد لوازمها و آثارها حسبما فصّل فی محلّه، بل فی الآیات و الروایات إشارات، بل تصریحات إلیها.

نعم، لا یستفاد من الآیات و الروایات انحصار الثواب و العقاب بما ذکر؛ لصراحة دلالة ظواهر الأدلّة علی غیرها أیضاً.


1- انظر الحکمة المتعالیة 9: 43- 44، علم الیقین 2: 1059- 1063.
2- راجع الفتوحات المکیة 3: 295، تفسیر القرآن الکریم، صدر المتألهین: 366، علم الیقین 2: 1061.

ص: 147

فلو تمّت المَزعمة فیشکل الأمر فی باب الشفاعة و التوبة حسبما یتراءی منهما؛ لأنّه علی تلک المزعمة لم یکن رفع العذاب بمجرّد التماس الشفیع و التوبة، بل لا بدّ من توقّف المشفوع له فی عوالم البرزخ و القیامة لیصفو حتّی یتّحد مع نور الشفیع.

و قد ورد فی بعض الروایات: أنّ بعض المنتحلین بالإسلام یدخلون جهنّم لنسیانهم اسم النبی الأعظم، صلوات اللَّه علیه.

فإذن: لا بدّ للإنسان الخبیر من مراعاة أحواله و أعماله و ممارسته لدفع الرذائل و القبائح عن ساحة نفسه، و تحلّیها بالفضائل و المکارم، و دوام الذکر و المراقبة الشدیدة فی جمیع حالاته، و ممارسته و حفظه بالمتکرّرات بحیث لا یخلو عن ذکر اللَّه فی آناء لیله و أطراف نهاره، لئلّا ینساه فی العقبات و الضغطات.

و لعلّ تکرّر العبادات و الفرائض و النوافل لأجل رسوخ العبودیة و الملکات و المکارم و الأخلاق فی النفس، لئلّا یزول عنها فی تلک المواقف.

هذا إجمال مقالهم فی هذا المضمار، و من أراد تفصیل الأمر فلیطلب مظانّه.

فإذا لم یکن لنا دلیل ینفی ما ذکر، و احتمل کون الأمر فی المستقبل کذلک، فلا بدّ للإنسان من المواظبة الکاملة و المراقبة الشدیدة لدفع الرذائل و الصفات السیّئة عن ساحة وجوده، و تصفیة النفس عن الرذائل و تحلیتها بالفضائل.

و واضح: أنّ ذلک فی الشباب أسهل منه فی حالة الکِبر و الشیخوخة؛ لعدم رسوخ الرذائل فی النفس بعدُ و قوّة الشباب. فإذا هَرِم و صار شیخاً تضعف قواه و قد حصدت الرذائل عروقاً فی جمیع نواحی النفس؛ و لذا تکون التوبة و الرجوع إلی اللَّه تعالی عند الهرم و الشیخوخة من أشقّ الأعمال، بل ربّما ینجرّ الأمر إلی خروج الروح من البدن بلا توبة و استغفار، عصمنا اللَّه تعالی و إیّاکم من الزلّات و وساوس الشیطان فی جمیع الحالات؛ لا سیّما عند خروج الروح و الانتقال إلی

ص: 148

نشأة البرزخ، و ثبّتنا علی الصراط المستقیم.

و صعوبة النزع حال الاحتضار لبعض النفوس لاتصال النفس بالشجرة الخبیثة و خراب الآخرة. و أمّا المؤمن الذی ینظر بنور اللَّه و ثواب الآخرة و نعیمها فلا یکاد یکون النزع له صعباً، بل یکون سهلة سمحة، بل یُحبّ الموت و یؤانسه. و لذا

قد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال: «و اللَّه لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی امّه»

(1)

. فعلی هذا المسلک: لم یکن الثواب و العقاب أمراً عقلائیاً؛ لعدم إدراک العقلاء ذلک، بل- کما أشرنا- بابه باب اللوازم و الملزومات العقلیة.

فإذن: یمکن أن یقال فی الواجب الغیری: إنّ کلّ مقدّمة یأتیها المکلّف للَّه تعالی أو یعصی اللَّه تعالی فیها یکون لها تأثیر فی النفس، و لها صورة فی النشأة الآخرة.

و بعبارة اخری: إذا کان الثواب و العقاب من لوازم العقلی للأعمال، فکما یکون للواجب النفسی صورة غیبیة، فکذلک لا یبعد أن یکون للواجب الغیری أیضاً صورة غیبیة تناسبه؛ قال اللَّه تعالی: «وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَی اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی»(2)

. و منها ما قد یقال: إنّ الثواب و العقاب فی النشأة الآخرة بالجعل و المواضعة، نظیر الجزاءات المجعولة الرائجة بین الدول المتمدّنة و الحکومات السیاسیة؛ فکما یجعلون جزاءً علی عمل، فکذلک الشارع الأقدس جعل جزاء سیّئة سیّئة مثلها، و جزاء حسنة عشر أمثالها. فیکون الثواب و العقاب بالنسبة إلی الأعمال نظیر


1- نهج البلاغة: 52/ الخطبة 5.
2- النساء( 4): 100.

ص: 149

الجعالة؛ فکما یقال فی باب الجعالة: «من ردّ ضالتی- مثلًا- فله کذا ...» یقال فی المقام: «من فعل سیّئة فله کذا ... و من أتی بحسنة فله عشر أمثالها»(1)

. و لا یبعد هذا القول بمقتضی ظواهر الآیات و الروایات.

فعلی هذا: یکون الثواب و العقاب تابعین للجعل؛ فإن جُعلتا للمقدّمة- کما جُعلتا لذی المقدّمة و أصل الفعل- فیثاب أو یعاقب علی المقدّمة، کما یثاب أو یعاقب علی فعل ذیها. و قد جعل الثواب علی بعض مقدّمات عمل لأهمّیته، مثل ما ورد:

«أنّ کلّ خطوة یتخطّاها زائر قبر أبی عبد اللَّه الحسین علیه السلام فله من الأجر کذا و کذا»(2)

. و لا یخفی: أنّه علی هذا القول لو وعد اللَّه تعالی الثواب علی عمل أو أخبر عنه فلا یعقل تخلّفه؛ لأنّ الوفاء بالوعد حسن و خلفه قبیح؛ فصدوره منه تعالی محال.

و کذلک الکذب قبیح؛ فیکون صدوره منه تعالی محالًا.

نعم، لو أوعد اللَّه تعالی العقاب علی عمل فله أن یفعل بما أوعده، و له أن لا یعاقبه؛ لأنّ خلف الوعید غیر قبیح، بل ربّما یعدّ حسناً. نعم، إذا کان الوعید بنحو الإخبار فیتحقّق حتماً و لا یمکن تخلّفه؛ لمحالیة الکذب علیه تعالی، فتدبّر.

و منها ما قد یقال: إنّ الثواب و العقاب بنحو الاستحقاق، و إنّ العبد بإطاعته تعالی یستحقّ منه تعالی جزاء عمله، کاستحقاق المستأجر عن الأجیر، و لا یحسن منه تعالی التخلّف عنه عقلًا(3).


1- تشریح الاصول: 103، السطر 13، 176- 181.
2- انظر وسائل الشیعة 14: 439، کتاب الحج، أبواب المزار و ما یناسبه، الباب 41.
3- قلت: قال المحقّق الخراسانی قدس سره فی« الکفایة»: لا ریب فی استحقاق الثواب علی امتثال الأمر النفسی ... إلی آخره. و لا یخفی ما فی نفی الریب؛ لعدم تسالمهم علیه، و إنّما هو مذهب جمهور فقهاء العامّة و أکثر المتکلّمین، و قد خالفهم فی ذلک الأشاعرة و جماعة منّا، کالشیخ المفید قدس سره و من تبعه، حیث إنّهم ذهبوا- کما نشیر إلیه فی المتن- إلی عدم کون الثواب بالاستحقاق، بل بالتفضّل.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 150

و لا یخفی: أنّ محطّ البحث فی ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری و المقدّمة هو هذا المعنی، لا المعنیان الأوّلان. فینبغی الإشارة الإجمالیة أوّلًا إلی أنّ إطاعته تعالی هل یوجب الاستحقاق أو یکون الإعطاء منه تعالی علی سبیل التفضّل؟ ثمّ الإشارة إلی موقف الواجب الغیری و المقدّمة:

فنقول: ذهبت طائفة من المتکلّمین إلی الاستحقاق(1)، و خالفهم فی ذلک الشیخ المفید قدس سره و غیره، فقالوا: إنّ الإعطاء و الثواب منه تعالی علی سبیل التفضّل(2)، و قال المحقّق الأصفهانی قدس سره: إنّ المراد بالاستحقاق غیر ما هو الظاهر منه، و ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی أنّه لیس بالاستحقاق و لا بالتفضّل.

فنذکر أوّلًا ما یقتضیه النظر فی استحقاق الثواب و العقاب، ثمّ نذکر ما تخلّصا به العَلمان؛ فراراً عن مشکلة الاستحقاق، فنشیر إلی ما فیه من الخلل:

فنقول: إنّ ما یقتضیه العقل السلیم هو القول بالتفضّل فی جانب الثواب، و القول بالاستحقاق فی جانب العقاب.

و التفوّه بالاستحقاق فی جانب الثواب إنّما یتفوّه به مَن غفل عن حقیقة العبودیة و الخلقة و قاس حال المکلّف بالنسبة إلیه تعالی حال العبید بالنسبة إلی


1- کشف المراد: 407- 408، إرشاد الطالبین إلی نهج المسترشدین: 411- 413.
2- أوائل المقالات، ضمن مصنّفات الشیخ المفید 4: 111، شرح المواقف 8: 307، شرح المقاصد 5: 125.

ص: 151

موالیهم العرفیة(1)؛ فکما أنّ العبد یستحقّ علی مولاه لإطاعته، فکذلک یستحقّ المکلّف منه تعالی الثواب علی إطاعته.

مع أنّ الفرق بین المقامین أوضح من الشمس و أبین من الأمس؛ و ذلک لأنّه لو لم نَخُضْ فی المطالب العقلیة التی لیس هنا محلّها، و لکن لا یقبل الإنکار: أنّه إذا لاحظنا حال المکلّف بالنسبة إلیه تعالی نری أنّه لا شی ء محض و عدم صِرف أعطاه اللَّه تعالی الوجود و سوّی خلقه و وهب له ما یحتاج إلیه من القوی الباطنیة و الظاهریة و أنواع النعم الباطنیة و الظاهریة، و هو تعالی غنی عن الخلق و عن أعمالهم، و لم یکن إیجاب الأفعال لغرض و نفع عائد إلیه تعالی، بل راجع إلی العباد.

فإذا کان وجود المکلّف و جمیع قواه منه تعالی، فإذا صرف العبد بعض قواه التی وهبت له فیما أمر به المولی فیما یرجع نفعه إلیه نفسه لا إلی مولاه، فلا معنی لاستحقاق الثواب.

و بعبارة اخری: مَن عرف مقامه منه تعالی و نسبته إلیه و تأمّل فی قواه و أعضائه و جوارحه و نسبتها إلیه تعالی لا یتفوّه بأنّ صرف بعض نعمه فی طریق طاعته تعالی موجب لاستحقاق الثواب. نعم إذا خالف أمر مولاه و عصاه فیستحقّ العقاب بلا إشکال.

فالحقّ أن یقال: إنّ إعطاء الثواب فی إطاعة المکلّف أمره تعالی إنّما هو بالتفضّل. و أمّا عقوبته فی مخالفته و عصیانه تعالی فبالاستحقاق.


1- قلت: بل یمکن أن یقال بعدم الاستحقاق؛ حتّی بالنسبة إلی إطاعة العبد مولاه أیضاً فیما إذا قام المولی بتمام شئون عبده؛ من إعطاء ملبسه و مسکنه و مأکله و جمیع ما یحتاج إلیه فی أمر معاشه؛ فإن أمره المولی بعد ذلک بإتیان عمل أو أعمال فلا یرون لإطاعة العبد مولاه استحقاق ثواب، کما لا یخفی.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 152

نقل و تعقیب

قال المحقّق الأصفهانی قدس سره: و المراد بالاستحقاق لیس إیجاب الثواب علی المولی أو العقاب- کما یشعر به لفظ «الاستحقاق»- حتّی یناقش فیه فی طرف الثواب؛ إمّا لجواز الاکتفاء بالنعم العاجلة، أو لأنّ حقّ المولی علی عبده أن ینقاد له فی أوامره و نواهیه، فلا معنی لاستحقاق العبد علیه عوضاً عنه.

بل المراد: أنّ المدح و الثواب علی الإطاعة فی محلّه، نظیر قولهم باستحقاق المدح و الذمّ علی فاعل القبیح و الحسن؛ فإنّه لیس المراد إیجاب المدح و الذمّ علی العقلاء، بل المدح و الذمّ منهم علی أحد الأمرین فی محلّه(1)، انتهی.

و قال المحقّق العراقی قدس سره: التحقیق هو أن یقال: إنّ الاستحقاق المتنازع فیه إن کان المراد به هو ثبوت حقّ للمکلّف علی اللَّه تعالی بطاعته إیّاه، کما یثبت حقّ لبعض المکلّفین علی بعض إذا أمره بعمل فعمله ناویاً به أخذ العوض منه، فالحقّ مع النافی؛ لأنّ وجود المکلّف و قدرته و توفیقه للطاعة و جمیع ما یستعدّ به لها هو من اللَّه تعالی.

فکما لا یستحقّ العبد فی العرف و الشرع عوضاً و أجراً علی مولاه إذا کلّفه بعمل فعمله له، فبالطریق الأولی أن لا یستحقّ المکلّف ذلک علی مولی الموالی تعالی فی الأعمال التی کلّفه بها.

و إن کان المراد به معنی اللیاقة و الاستعداد للثواب و النعیم فی الدار الآخرة لیکون معنی أنّ العبد المطیع یستحقّ الثواب هو أنّه لائق و أهل لذلک فالحقّ مع مدّعی ذلک؛ لأنّ العبد بطاعته یستعدّ لدخول دار النعیم و جوار ربّه الکریم، بخلاف العاصی.


1- نهایة الدرایة 2: 112.

ص: 153

و لا یتوهّم: أنّ هذا المعنی هو نفس القول بالتفضّل؛ لوضوح أنّ العاصی و إن کان مستعدّاً للتفضّل علیه بالعفو و الغفران و الخلود فی الجنان، و لکن لم یکن مستعدّاً و أهلًا لنفس الثواب، و إلّا لم یبق فرق بین المطیع و العاصی، و ذلک باطل بالضرورة.

و أمّا التوبة: فهی و إن کانت من الواجبات علی العبد العاصی، إلّا أنّه یحتمل قریباً أنّ المعصیة لا توجب استحقاق العاصی للعقاب إلّا إذا تجرّدت عن التوبة، و أمّا المعصیة التی تتعقّبها التوبة فلا توجب استحقاق العقاب، و علیه: لا یکون العفو أو سقوط استحقاق العقاب عن التائب بالتفضّل؛ إذ لا استحقاق للعاصی التائب لیسقط بالتفضّل، بل التوبة تکشف عن عدم استحقاق العاصی بمعصیته قبل التوبة للعقاب(1)، انتهی.

و لا یخفی: أنّه لو لم یتمّ ما ذکرناه لا یستقیم کلام العلمین:

أمّا ما قاله المحقّق الأصفهانی قدس سره- حیث إنّه من أهل النظر و المعقول- فمراده بکون الثواب علی الإطاعة فی محلّه أحد الأمرین:

الأوّل: أن یراد أنّ کلّ قوّة حیث إنّها محلّ للصورة، فکذلک العبد یکون محلّا للثواب و العقاب؛ أی مستعدّاً لائقاً فی ذلک العالم للثواب و العقاب.

و لکن فیه: أنّهم لا یقولون بذلک فی ذلک العالم؛ لأنّه لم یکن هناک هیولی و لا صورة و لا استعداد.

و الثانی: أن یراد- کما هو الظاهر منه- أنّ العبد المطیع محلّ للثواب، و یکون إعطاؤه فی محلّه و ممّا ینبغی.

و لکن فیه: أنّ کلّ ما کان فعله حسناً فهو بالنسبة إلیه تعالی واجب؛ لأنّ


1- بدائع الأفکار 1: 374.

ص: 154

عدم إعطائه الثواب إمّا للعجز أو الجهل أو النجل، و کلّ ذلک محال فی حقّه تعالی، تعالی اللَّه عمّا یقول الظالمون علوّاً کبیراً. فإذا کان الفعل أولی من الترک فیجب علیه تعالی فعله، و لا یجوز منه تعالی ترکه. و واضح: أنّ وجوب الإعطاء منه تعالی لا یوجب أن لا یکون تحت اختیاره، کما أنّ امتناع الظلم منه تعالی لا یوجب ذلک، کما تقرّر فی محلّه.

فقیاس ما نحن فیه بمدح العقلاء و ذمّهم فاعل القبیح أو الحسن، قیاس مع الفارق. مضافاً إلی أنّ الأمر فی المقیس علیه أیضاً غیر تمام؛ لأنّ العقلاء یرون أنّ من أمر عبداً بعمل فعمله یستحقّ المدح، و إن ترکه فیستحقّ الذمّ.

و ممّا ذکرناه فی جواب المحقّق الأصفهانی قدس سره یظهر الخلل فی بعض ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره.

و لکن نقول من رأس: إنّه لا یبعد أن یقول هذا المحقّق علی خلاف مسلک المحقّق الأصفهانی قدس سره بالاستعداد و اللیاقة فی ذلک العالم.

فیتوجّه علیه: أنّ المراد بالاستحقاق إن کان الاستحقاق التکوینی فیخرج عمّا نحن فیه؛ لأنّ البحث إنّما هو فی الاستحقاق العقلائی لا العقلی التکوینی، و یدخل فی الوجه الأوّل، مع أنّ القائلین به لا یقولون بالاستعداد، و إن کان المراد بالاستحقاق، الاستحقاق العقلائی فمحال علی اللَّه تعالی ترکه؛ لأنّ من یکون لائقاً و لم یعطه إمّا لعجزه أو لجهله أو لبخله، تعالی اللَّه عن ذلک علوّاً کبیراً.

فالحقّ- کما أشرنا- أنّ الثواب إنّما هو بالتفضّل؛ فالمحسن لا یستحقّ المثوبة و لا العقاب، و لکن حیث وعد اللَّه عباده بالثواب فیفی بما وعده تعالی حتماً. و لکن لا یدلّ ذلک علی لزوم التفضّل له بنحو یکون مجبوراً فیه، کما أشرنا فی جواب المحقّق الأصفهانی قدس سره. و أمّا المسی ء فیعاقب علی معصیته و یستحقّ العقاب، بلا إشکال.

ص: 155

و أمّا ما ذکره قدس سره فی التوبة فمخالف لمرتکز العرف و العقلاء فی ذلک، بل خلاف مقتضی ظواهر الکتاب و السنّة الدالّتین علی أنّ نفس العمل القبیح موجب للعقوبة و الذمّ، و لکن من تاب بعد ذلک فوعد اللَّه تعالی له بعدم العقاب و قبول توبته.

و بالجملة: ما ذکره فی التوبة- مضافاً إلی أنّه خلاف حکم العقل و العقلاء- مخالف لظواهر الکتاب و السنّة.

فتحصّل ممّا ذکر: أنّ الذی یقتضیه التحقیق أن یقال بالتفضّل فی جانب الإطاعة و الامتثال، و الاستحقاق فی جانب المخالفة و العصیان، تدبّر و اغتنم.

عدم استحقاق الثواب بإتیان الواجب الغیری

ثمّ إنّه علی فرض صحّة المبنی و أنّ العباد یستحقّون الثواب بإطاعتهم إیّاه تعالی، یقع الکلام فی أنّ استحقاق الثواب هل هو مخصوص بإتیان الواجبات و المطلوبات النفسیة، أو یعمّها و الواجبات و المطلوبات الغیریة؟

و بعبارة اخری: هل یستحقّ العباد الثواب علی إتیان الواجبات و المطلوبات الغیریة، کما یستحقّونه علی إتیان الواجبات و المطلوبات النفسیة، أم لا؟ وجهان.

و الحقّ- علی صحّة المبنی- عدم استحقاق الثواب علی إتیان الواجبات و المطلوبات الغیریة، و الظاهر أنّهم تسالموا علی أنّ الثواب إنّما هو فی الواجبات النفسیة(1)؛ و لذا تراهم یخرجون الطهارات الثلاث عن حکم سائر الواجبات الغیریة


1- قلت: یظهر من تقریری المحقّق النائینی و المحقّق العراقی 0: أنّ الثواب فی فعل الواجب الغیری لم یکن مسلّماً عندهم، بل محلٌّ للخلاف بینهم، فذکروا أقوالًا ثلاثة، بل أربعة، فلاحظ فوائد الاصول 1: 224، بدائع الأفکار 1: 375.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 156

- کما یستظهر لک عن قریب- و الاختلاف إنّما هو فی وجهه، و لکلّ وجهة هو مولّیها.

و الذی یظهر لنا فی عدم استحقاق الثواب علی الواجب الغیری هو: أنّ استحقاق الثواب إنّما یترتّب علی إطاعة المولی و انبعاثه ببعث المولی، و الأوامر الغیریة لا تکاد تصلح لإمکان الباعثیة، فلا موافقة لها و لا مخالفة حتّی یقال بالثواب فی الاولی و العقاب فی الثانیة، و ذلک لأنّه لو قلنا بالواجب الغیری- تبعاً للقوم- فی الأجزاء(1)، فمعناه الوجوب القهری.

و قد صرّح بذلک المحقّق العراقی فی وجوب المقدّمة عند ما أورد علی نفسه بأنّه ما ثمرة هذه الإرادة التشریعیة التبعیة بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمات؟ و هل هو إلّا من اللغو الواضح؟! فأجاب بأنّ هذه الإرادة لیست إلّا إرادة قهریة ترشّحیة معلولة لإرادة الواجب- کما تقدّم- و مثلها لا یتوقّف علی وجود غایة و ثمرة(2)

. و بالجملة: نحن و إن نخالف مبناه- کما أشرنا- و لکن نبحث هنا علی الفرض و التقدیر، و هو: أنّه إذا کان الواجب غیریاً فیکون وجوبه قهریاً، و هو غیر قابل لباعثیة المکلّف و انبعاثه به؛ لأنّ المکلّف لا یخلو من أحد أمرین: إمّا یلتفت إلی أنّ الشی ء الفلانی- مثلًا- مقدّمة و ذاک الشی ء ذو المقدّمة و ترشّح الوجوب منه إلی


1- قلت: و أمّا علی مسلک المختار فلا یکون للأجزاء وجوب غیری، و لا نفسی ضمنی. فالأوامر الواردة فی الأجزاء و الشرائط إنّما هی إرشاد إلی الجزئیة و الشرطیة- أی إلی الحکم الوضعی- فالأجزاء لم یتعلّق بها التکلیف، بل التکلیف إنّما تعلّق بعنوان الصلاة- مثلًا فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- بدائع الأفکار 1: 399.

ص: 157

الشی ء الفلانی، أو لم یلتفت إلی ذلک، بل له غفلة عنه و یتوهّم أنّ الشی ء الفلان واجب نفسی.

ففی صورة الالتفات إلی تعلّق التکلیف بالکون علی السطح- مثلًا- و یترشّح منه وجوب قهری علی نصب السلّم- الذی هو مقدّمة له- فإذا قصد إتیان ذی المقدّمة، فیرید إتیان المقدّمة حتماً؛ للارتباط الوجودی بینها و بین ذیها، و عدم الانفکاک الوجودی بینهما، کما هو المفروض.

و بعبارة اخری: البعث إلی ذی المقدّمة عند ذاک یحرّک العبد القاصد إلی إتیانه نحو مقدّمته، فیکون له باعثیة إلیها تبعاً و ترشّحاً، فلا یکاد یمکن أن یکون للأمر المقدّمی- حینئذٍ- باعثیة فعلیة؛ لأنّ الباعثیة الفعلیة هی استقلاله فی الباعثیة، و قد ظهر: أنّ البعث إلی ذی المقدّمة بعث إلی مقدّمته تبعاً.

و أمّا إذا لم یرد إیجاد ذی المقدّمة أو أراد عدم إیجاده، فلا یعقل أن یرید إتیان المقدّمة بما أنّها مقدّمة.

فتحصّل: أنّ المکلّف لا یکاد ینبعث من الأمر الغیری؛ لا عند إرادة ذی المقدّمة، و لا عند عدم إرادته أو إرادة عدمه، فلا یکون له إطاعة یستحقّ الثواب.

هذا فی صورة الالتفات إلی مقدّمیته.

و أمّا إذا لم یلتفت إلیها و کان غافلًا عن مقدّمیته فلا یکاد ینبعث بالأمر الغیری، و لو انبعث فإنّما هو عن تخیّل الأمر النفسی، فإذا أتی به یکون منقاداً مطیعاً، فلا یستحقّ الثواب بإطاعة الأمر الغیری، و الکلام إنّما هو فیه.

فظهر لک ممّا ذکرنا: أنّ الذی یقتضیه التحقیق و یعاضده الوجدان هو أن لا یکون للأمر الغیری بما أنّه أمر غیری إطاعة، فلا یوجب استحقاقاً للثواب.

ص: 158

توجیه لعدم استحقاق الثواب بإتیان الواجب الغیری و دفعه

ربّما یوجّه لعدم استحقاق الثواب بإتیان الواجب الغیری بغیر ما ذکرنا:

منها: ما وجّه به المحقّق العراقی قدس سره، قال فی وجه ذلک: إنّ الثواب و العقاب اللذین ینشئان من موافقة التکلیف و مخالفته إنّما جعلا علی ذلک تحصیلًا للغرض النفسی الداعی للمولی إلی التکلیف بالواجب النفسی، و لا شبهة فی أنّ الواجب الغیری لیس فیه غرض نفسی لیترتّب علی موافقته ثواب و علی مخالفته عقاب(1)، انتهی.

و فیه: أنّ قوله قدس سره: «إنّما جعلا علی ذلک ...» إلی آخره، خلط باب الاستحقاق بباب الجعل، و قد مضی الکلام علی تقدیر جعل الثواب و العقاب، و الکلام هنا علی تقدیر استحقاق الثواب و العقاب.

نعم، لو أراد بقوله «ذلک»: أنّ استحقاق الثواب أو العقاب إنّما هو فی الواجب الذی تعلّق به غرض نفسی، و الواجب الغیری لا یتعلّق به غرض کذلک، فلا یکون ذلک خلط باب بباب، مع أنّه لا یخلو عن مصادرة.

و بعبارة اخری: یکون تکراراً للمدّعی؛ لأنّ المدّعی هی: أنّ موافقة الواجب الغیری لم یکن فیها ثواب، و تصدّی لإثباتها بأنّ الواجب الغیری حیث إنّه لا غرض نفسی فیه فلا یکون فی موافقته و مخالفته ثواب و عقاب، و هو- کما تری- أوّل الکلام.

و منها: ما وجّه به المحقّق الأصفهانی قدس سره، و لعلّ المحقّق النائینی قدس سره یشیر إلیه،


1- بدائع الأفکار 1: 375.

ص: 159

و إن کانت عبارته توهّم غیر ذلک(1)

. و حاصل ما أفاد هو: أنّ الأمر الغیری أمر تبعی، لا بمعنی أنّه بعث بالعرض، و لا بمعنی التبعیة فی الوجود و مجرّد ترتّب أحد الأمرین علی الآخر، بل المراد: أنّ المقدّمة بما هی حیث إنّها خالیة عن الغرض، بل الغرض منها مجرّد الوصلة إلی الغیر فکذلک البعث نحوها لمجرّد الوصلة إلی الغیر فکأنّه لا نظر إلیها بما هی کالمعنی الحرفی، فکذا موافقته لیست إلّا لمجرّد الوصلة إلی موافقة الأمر النفسی. فهذه الموافقة لا تعدّ موافقة اخری فی قبال موافقة الأمر النفسی فی نظر العقلاء حتّی یمدح علیها أو یذمّ علی ترکها(2)، انتهی.

أقول: إن أراد بقوله: «لا نظر إلیها بما هی کالمعنی الحرفی ...» إلی آخره أنّ العقلاء کما یکونون غافلین عن المعانی الحرفیة و غیر قاصدین لها- و لذا لا یحکم علیها و لا بها- فکذلک فی الواجبات الغیریة.

ففیه أوّلًا: أنّ الوجدان أصدق شاهدٍ علی خلافه؛ فإنّ العقلاء ببابک، تراهم غیر غافلین عن المعانی الحرفیة، بل هم متوجّهون إلیها أشدّ التوجّه.

و ثانیاً: لو سلّم غفلتهم عنها فلو خرجوا عن الغفلة و توجّهوا إلیها فما ذا یحکمون؟

و إن أراد: أنّ الواجبات الغیریة حیث إنّها خالیة عن الغرض، بل الغرض منها مجرّد الوصلة إلی الغیر، فلا توجب موافقتها ثواباً.


1- قلت: لأنّه قدس سره قال: إنّ امتثال الواجب الغیری إنّما یکون بعین امتثال ذی المقدّمة الذی تولّد أمره منها، و لیس له أمر بحیال ذاته حتّی یبحث عن استحقاق الثواب عند امتثاله، من غیر فرق فی ذلک بین المقدّمات الشرعیة أو العقلیة؛ یعنی المقدّمات الداخلیة و الخارجیة. لاحظ فوائد الاصول 1: 225.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- نهایة الدرایة 2: 114.

ص: 160

ففیه: أنّه مصادرة و عین المدّعی. مضافاً إلی ما أشرنا إلیه فی معنی النفسیة و الغیریة، حیث قلنا: إنّهما لم تکونا بلحاظ الغایات و الأغراض، بل الضابط فیهما هو أنّه لو أمر بشی ءٍ لأن یتوصّل به إلی أمر آخر فوقه فهو أمر غیری کما إذا قال: «اذهب إلی السوق فاشتر اللحم». و أمّا إذا أمر لا لذلک فلا یعدّ ذلک واجباً غیریاً، بل یکون واجباً نفسیاً، و إن لم یکن هناک غرض مترتّب علیه، مثل ما إذا قال: «اذهب إلی السوق» فی المثال المذکور.

فترتّب الثواب و العقاب لا یدور مدار وجود الغرض فی متعلّقه و خلوّه عنه، بل- کما أشرنا- یدور مدار الإطاعة و العصیان، و قد عرفت عدم إمکان الانبعاث بالأمر الغیری. و قد لا یکون فی متعلّق بعض الأوامر مصلحة، کالأوامر الامتحانیة، و مع ذلک یستحقّ المأمور المثوبة إن أطاع، و العقوبة إن خالف.

و بالجملة: باب الأغراض خارجة عن حریم نزاع النفسیة و الغیریة، و الذی یقتضیه التحقیق و مطابق للوجدان فی عدم استحقاق الثواب و العقاب فی الواجبات الغیریة هو الذی ذکرنا، فلاحظ و تدبّر.

توجیه لترتّب الثواب علی الواجب الغیری و دفعه

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره بعد أن اختار أنّ امتثال الواجبات الغیریة لا یستتبع ثواباً، قال: یمکن تصویر ترتّب الثواب علی موافقة الواجب بوجهین:

حاصل الوجه الأوّل هو: أنّ الآتی بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی ذیها یراه العرف و العقلاء متلبّساً بامتثال الواجب النفسی، و مستحقّاً للمدح و الثواب فی ذاک الحین الذی لم یتلبّس بعد بالواجب النفسی، کما أنّه لو لم یأت بشی ء من مقدّماته فی الوقت الذی یلزم الامتثال فیه یرونه متلبّساً بعصیانه و مستحقّاً للذمّ و العقاب فی ذاک الحین،

ص: 161

و إن لم یدخل فی الوقت الذی یکون ظرفاً للواجب النفسی.

و هذا المدح و الثواب و الذمّ و العقاب إنّما هما من رشحات ثواب الواجب النفسی و عقاب ترکه، لا أنّهما شی ء آخر ثبت فی حقّ المکلّف بسبب آخر؛ إذ لا قیمة لشی ء من المقدّمات عند العقلاء، مع قطع النظر عن ذیها. نعم لا بدّ من قصد التوصّل بفعل المقدّمة إلی الواجب النفسی فی استحقاق المدح و الثواب، و إلّا لا یستحقّ ذلک.

الوجه الثانی: أنّ الآتی بالمقدّمة بقصد أمرها من دون التفات إلی غیریته، و إن لم یتحقّق منه قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة بالفعل، إلّا أنّه بإیجاد المقدّمة بذلک النحو یکون لبّاً فی مقام امتثال الواجب النفسی، فینبسط علی المقدّمة ثواب ذی المقدّمة(1)، انتهی(2)

. أقول: ینبغی الإشارة إلی محطّ البحث لیظهر الخلط فی مقال هذا المحقّق؛ و ذلک لأنّ محطّ البحث إنّما هو علی مبنی الاستحقاق فی الثواب و العقاب، و معناه: أنّ المکلّف إذا أطاع یکون له علی اللَّه تعالی الثواب، کما یستحقّ المأمور منّا بفعل إذا أتاه علی ما امر به؛ فکما یستحقّ المأمور اجرة المسمّی أو اجرة المثل علی أمره، فکذلک المکلّف یستحقّ الثواب علیه تعالی.

فعلی هذا: یکون البحث فی الثواب و العقاب فی الواجبات الغیریة إنّما هو فی أنّ الآتی بها دون الواجب النفسی هل لها استحقاق الثواب، أم لا؟ و لم یکن البحث فی أنّ الآتی بالمقدّمات ممدوح و یکون منقاداً و له صفاء الذهن و الباطن. و یفترق هذا الرجل


1- بدائع الأفکار 1: 375- 376.
2- قلت: لم یتعرّض سماحة الاستاذ هذا الوجه، و اکتفی بذکر الوجه الأوّل، و لعلّه لمشارکة هذا الوجه مع الوجه الأول فی بعض الجهات الدخیلة فی ترتّب الثواب، و إن کان بینهما فرق من جهتین، کما صرّح به المحقّق العراقی قدس سره أیضاً، أو نسی ذکره، و اللَّه العالم.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 162

الآتی بالمقدّمات و لو لم یصل إلی ذیها مع من ترک المقدّمات من رأس.

و بالجملة: البحث فی أنّ الآتی بالمقدّمات علی کثرتها- سواء أتی بذیها أو لا هل له استحقاق للثواب- مضافاً إلی ما یستحقّه بإتیان ذی المقدّمة- أم لا؟

و أمّا استحقاق الثواب علی المقدّمات لأجل الأمر النفسی المتعلّق بذیها لأجل الترشّح و انبساط الثواب المتعلّق علی ذیها علیها، ففیه: أنّه علی مبنی الاستحقاق یکون أوامره تعالی نظیر الأوامر العرفیة، و المثوبة الاخرویة بمنزلة الاجرة فی هذه النشأة. فکما أنّه لو قال أحدٌ: «من ردّ ضالّتی فله عشر دراهم» مثلًا، فإذا تجسّس رجل و تحمّل المشاقّ فی تحصیل الضالّة و لکن لم یجد الضالّة، لا یستحقّ الدراهم بحیث یصحّ له إقامة الدعوی علیه، فکذلک بالنسبة إلی أمره تعالی بالحجّ- مثلًا- و جعله المثوبات له؛ فمن تحمّل مشقّة السفر و طیّ المنازل إلی أن وصل المیقات و لکن عند وصوله المیقات بدا له و لم یأت بعمل الحجّ فلا یستحقّ ثواب الحجّ، و هذا واضح.

و إطلاق المتلبّس بذی المقدّمة عند التلبّس بالمقدّمات إطلاق مسامحی، فهو مشغول بالمقدّمات لا بذیها، و المصلحة قائمة بذیها لا بها؛ فلا معنی لترشّح الثواب و انبساط الثواب المترتّب علی الواجب النفسی علیها.

نعم، یکثر الثواب بکثرة المقدّمات؛ فکلّما کانت المقدّمات أکثر کان الثواب أکثر، و لکن ذلک لیس لأجل أنّ المقدّمات لها ثواب، بل الثواب مترتّب علی نفس ذیها، و کثرة المقدّمات توجب شأناً فی ذیها و یرتفع شأن الواجب النفسی بها، و إلّا فلو لم یأت بذی المقدّمة لا بدّ و أن یترتّب علیها الثواب، مع أنّه لیس کذلک.

فقد ظهر آنفاً و سیتلی علیک قریباً: أنّه لو قلنا باستحقاق الثواب فی الواجبات النفسیة، و لکن لا یمکن أن یقال ذلک فی الواجبات الغیریة؛ لعدم صدق الإطاعة؛ لأنّها تتوقّف علی إمکان الانبعاث بالأوامر الغیریة، و لا یکاد ینبعث المکلّف بها.

ص: 163

التنبیه الثانی فی تصحیح ترتّب الثواب علی الطهارات الثلاث مع کونها مقدّمات
اشارة

قد ظهر لک ممّا ذکرنا فی التنبیه الأوّل: أنّه لا یترتّب علی الواجبات الغیریة ثواب مع ترتّب الثواب علی الطهارات الثلاث- الوضوء و الغسل و التیمّم- مع کونها مقدّمات للعبادة، فصارت الطهارات الثلاث مطرحاً للأنظار.

و قد استشکل فیها من وجوه:

الوجه الأوّل- و هو العمدة-: أنّ الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات توصّلیة لا یعتبر فیها قصد القربة، و هذه الطهارات الثلاث مع کونها مقدّمات للصلاة- مثلًا- یعتبر فیها قصد القربة، بلا إشکال.

الوجه الثانی: أنّ الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات غیری لا یترتّب علیها الثواب- کما مرّ آنفاً- و الطهارات الثلاث مع أنّها مقدّمات یترتّب علیها الثواب.

الوجه الثالث: لزوم الدور؛ بأنّ الطهارات الثلاث بما هی عبادات جعلت مقدّمة، و عبادیتها تتوقّف علی الأمر الغیری، و لا یترشّح الوجوب الغیری إلّا إلی ما هو مقدّمة؛ فکلّ من الأمر الغیری و العبادی یتوقّف علی صاحبه.

و بتقریب آخر: کلّ أمر له داعویة إلی متعلّقه، و لا یمکن أن یکون محرّکاً و داعیاً إلی داعویة نفسه، فإذا کانت عبادیة الوضوء- مثلًا- بالأمر الغیری یلزم أن یکون الأمر بالوضوء یدعو إلی داعویة هذا الأمر نفسه(1).


1- قلت: لا بأس بإعزاز التقریبین بثالث اقتبسناه من« فوائد الاصول»، و هو: أنّ الطهارات الثلاث قد اعتبرت مقدّمة للصلاة بنحو العبادیة؛ لأنّ نفس أفعال الوضوء- مثلًا- من الغسلات و المسحات لیست مقدّمة للصلاة، و عبادیتها تتوقّف علی الأمر الغیری؛ لأنّ عبادیة شی ء تتوقّف علی قصد امتثال الأمر، و لم یکن حسب الفرض أمر سوی ذلک. و الأمر الغیری یتوقّف علی أن تکون الطهارة عبادة؛ لأنّ الأمر الغیری لا یتعلّق إلّا بما یکون بالحمل الشائع مقدّمة؛ لأنّ الوضوء العبادی- مثلًا- یکون مقدّمة بالحمل الشائع؛ فلا بدّ و أن تکون عبادة قبل تعلّق الأمر الغیری به، و المفروض: أنّ عبادیته تتوقّف علی الأمر الغیری، لاحظ فوائد الاصول 1: 227.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 164

و یمکن الجواب عن الإشکال الأخیر بوجه حسن، حاصله: أنّ مقدّمیة الطهارات الثلاث لم تکن مثل سائر المقدّمات ممّا یصحّ لنا درکها و فهمها، بل إنّما هی بکشف الشارع إیّاها، حیث رأی توقّف الصلاة- مثلًا- علی عبادیتها. فأخذها بما هی عبادة مقدّمة للصلاة، فعبادیتها لا تتوقّف علی الأمر الغیری، بل لها أمر نفسی؛ فلا یلزم الدور.

فوزان مقدّمیة الطهارات الثلاث للصلاة- مثلًا- وزان مقدّمیة صلاتی الظهر و المغرب لصلاتی العصر و العشاء؛ فکما أنّ صلاة الظهر أو المغرب عبادة و مع ذلک اخذت مقدّمة لصلاة العصر أو العشاء، فکذلک الطهارات الثلاث عبادة و مع ذلک اخذت مقدّمة و شرطاً للصلاة.

و بهذا یندفع الإشکال الثانی، بل الإشکال الأوّل؛ و هو إشکال التوصّلیة، کما لا یخفی، فتدبّر.

نعم، یتوجّه علی هذا الجواب: أنّ الفقهاء و إن قالوا: إنّ الوضوء و الغسل مطلوبان نفسیان(1)، کاستحباب الظهر فی نفسه،

و قد ورد: «إنّ الوضوء علی


1- قلت: ربّما یناقش استحباب الغسل نفسیاً بحیث یصحّ الغسل التجدیدی کما یصحّ الوضوء التجدیدی.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 165

الوضوء نور علی نور»

(1)، و لکن لم یقولوا بمطلوبیة التیمّم بحیث یکون مطلوباً و مستحباً نفسیاً؛ فلا بدّ و أن یجاب عن الإشکال فی خصوص التیمّم بوجه آخر.

و لکن یمکن أن یقال: إنّ التیمّم و إن لم یکن عبادة و مطلوباً مطلقاً- کالوضوء- و لکن لا ینبغی الإشکال فی عبادیته فی ظرف خاصّ؛ و هو صورة فقدان الماء عقلًا و شرعاً، و بالجملة: فی صورة تعذّر استعمال الماء، و قد ورد فی بعض الأخبار: «أنّ التراب أحد الطهورین»(2).

عدم تمامیة ما تکلّف به المحقّق النائینی فی الجواب عن الإشکالات

إذا تمهّد لک ما ذکرناه یظهر لک: أنّه لا نحتاج فی الجواب عن الإشکالات إلی ما تکلّف به المحقّق النائینی قدس سره فی الجواب عنها؛ فإنّه قال: إنّ هذه الإشکالات کلّها مبنیة علی أنّ جهة عبادیة الوضوء إنّما تکون من ناحیة أمره الغیری، و هو بمعزل عن التحقیق، بل الوضوء- مثلًا- إنّما یکتسب العبادیة من ناحیة الأمر النفسی المتوجّه إلی الصلاة بما لها من الأجزاء و الشرائط، بداهة: أنّ نسبة الوضوء إلی الصلاة کنسبة الفاتحة إلیها من الجهة التی نحن فیها، حیث إنّ الوضوء قد اکتسب حصّة من الأمر بالصلاة؛ لمکان قیدیته لها، کاکتساب الفاتحة حصّتها من الأمر الصلاتی؛ لمکان جزئیتها. فکما أنّ الفاتحة اکتسبت العبادیة من الأمر الصلاتی، فکذلک الوضوء اکتسب العبادیة من الأمر الصلاتی بعد ما کان الأمر الصلاتی عبادیاً. و کذا الحال فی الغسل و التیمّم.


1- وسائل الشیعة 1: 377، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 8، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة 3: 381، کتاب الطهارة، أبواب التیمّم، الباب 21، الحدیث 1.

ص: 166

ثمّ أورد قدس سره علی نفسه: بأنّ نسبة الوضوء إلی الصلاة نسبة الستر أو الاستقبال إلیها، فکیف اکتسب الوضوء العبادیة و لم یکتسب الستر أو الاستقبال العبادیة؟!

فأجاب: بأنّ التفاوت و الفرق إنّما هو من ناحیة الملاک، حیث إنّ الملاک الذی اقتضی قیدیة الوضوء للصلاة اقتضاه علی وجه العبادیة؛ بخلاف ملاکات سائر الشروط، حیث لم یقتضِ ذلک ... إلی أن قال: و الحاصل: أنّ عبادیة الأمر الصلاتی إنّما یکون بمتمّم الجعل، و ذلک المتمّم إنّما اقتضی عبادیة الأمر بالنسبة إلی خصوص الأجزاء و الطهارات الثلاث، دون غیرها من الشرائط(1)، انتهی.

و فیه: أنّ هذا تکلّف غیر وجیه؛ لأنّه فرق بین الأجزاء و الشرائط؛ لأنّ الأمر بالصلاة- مثلًا- یتعلّق بذوات أجزائها؛ فذات فاتحة الکتاب أو الرکوع أو السجود- مثلًا مأمور بها.

و أمّا الشرائط فلم تکن کذلک، بل تعلّق الأمر بتقیید الصلاة بالطهور- مثلًا فلا یکاد یتعلّق الأمر بالصلاة بذات الوضوء، کما کان متعلّقاً بفاتحة الکتاب و سائر الاجزاء.

فقد ظهر تمامیة ما أجبنا به عن الإشکالات، من دون هذا التکلّف، و واضح:

أنّ ارتکاز المتشرّعة علی التفرقة بین الستر و الطهارات الثلاث، مع أنّ الجمیع شرائط، حیث إنّهم یقصدون التعبّد بها دون الستر، و فی ارتکازنا أیضاً یکون الوضوء- مثلًا- عبادة، و أمّا سبب عبادیته و علّته فلم نعلمه.

بقی الکلام فیما ذکره فی الجواب عمّا أورده علی نفسه من التفرقة بین الوضوء و الستر و الاستقبال.


1- فوائد الاصول 1: 228.

ص: 167

فنقول: التأمّل فی الجواب یعطی أنّه بصدد الجواب عن الإیراد بوجهین:

أحدهما من ناحیة الملاک، و الثانی من ناحیة متمّم الجعل.

و لکن ذکر العلّامة المقرّر رحمه الله متمّم الجعل بعنوان الحاصل لما تقدّم، و کیف کان: لا یصحّ الجواب بکلا الوجهین:

أمّا من ناحیة الملاک: فلأنّه لو تمّ فهو رجوع عن جمیع ما أسّسه أوّلًا؛ لأنّه صرّح بأنّ عبادیة الأجزاء و الشرائط اکتسابیة من ناحیة الأمر النفسی المتعلّق بالصلاة، و الآن یرید إثبات العبادیة من ناحیة الملاک. فعلی ما ذکره أخیراً لا بدّ و أن یفصّل: بأنّ مجرّد تعلّق الأمر بالطبیعة بأجزائها و شرائطها لا یوجب صلاحیة الشرط لاکتساب العبادیة، و إلّا یلزم أن یکون جمیع الشرائط عبادة، و لیس کذلک.

و أمّا من ناحیة متمّم الجعل فنقول: إن أراد أنّ المتمّم یجعل الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة منبثّة علی الأجزاء و الشرائط، و بعد اکتساب کلّ جزء و شرط حصّة من الأمر بالصلاة عبادیاً، فلازمه صیرورة جمیع الأجزاء و الشرائط عبادیاً، و هو عین الفرار عن الإشکال.

و إن أراد: أنّه یحتاج کلٌّ من الشرائط إلی متمّم الجعل، فکلّ ما تمّمه یصیر عبادة، و متمّم الجعل جعل الطهارات الثلاث عبادة، و لم یکن بالنسبة إلی الستر و الاستقبال.

ففیه: أنّ هذا رجوع إلی أصل المطلب- و هو: أنّ للطهارات الثلاث خصوصیة من بین سائر الشروط- فلا بدّ له من الجواب عن أنّه مع کون الطهارات الثلاث مقدّمة کیف صارت عبادة(1)؟!


1- قلت: و یتوجّه علیه أیضاً ما أورده سماحة الاستاد- دام ظلّه- فی ناحیة الملاک، و هو: أنّه لو تمّ فهو رجوع عمّا أسّسه؛ من أنّ عبادیة الشرائط من ناحیة الأمر النفسی المتعلّق بالطبیعة بما لها من الأجزاء و الشرائط، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 168

إشکال و دفع

ربّما اشکل: بأنّه و إن کانت الطهارات الثلاث مستحبّات نفسیة، و لکن تجب للغیر و بعد دخول وقت الواجب النفسی، فإذن: کیف یجمع بین استحبابها و وجوبها، بل بین إرادة استحبابها و إرادة وجوبها؟ فإن ذهب ملاک الاستحباب و إرادته، و تخلّف مقامه الإرادة الوجوبی و الوجوب، فیعود المحذور؛ من تعلّق الثواب بالواجب الغیری.

و فیه: أنّ الطهارات الثلاث بعد حلول وقت الواجب أیضاً مستحبّة، و لا یلزم اجتماع الحکمین أو إرادتهما؛ و ذلک لأنّه سیتلی علیک قریباً أنّ ذات المقدّمة لم تکن واجبة- خلافاً للمحقّقین الخراسانی(1) و النائینی 0(2) و غیرهما- بل الواجب إنّما هی المقدّمة الموصلة بما أنّها موصلة، کما ذهب إلیه صاحب «الفصول» قدس سره(3)

. فعلی هذا نقول: إنّ الوضوء- مثلًا- بما أنّه وضوء مستحبّ و له ملاک الاستحباب و تعلّق به إرادة الاستحباب، و بعد دخول وقت الصلاة و وجوب الصلاة نفساً لا یُصیّر الوضوء واجباً غیریاً لیلزم المحذور، بل الواجب الغیری هو عنوان الموصل بما أنّه موصل، و واضح: أنّ هذا العنوان غیر عنوان الوضوء، و إن کان ینطبق علی الوضوء عرضیاً، فاختلف مرکز تعلّق الحکمین.

و هذا نظیر اجتماع الأمر و النهی فی شی ء؛ فکما لا محذور هناک؛ لاختلاف


1- کفایة الاصول: 143.
2- فوائد الاصول 1: 285- 291.
3- الفصول الغرویّة: 86/ السطر 12.

ص: 169

متعلّق الأمر و النهی فی مقام تعلّق التکلیف و إن اتّحدا خارجاً، و بعبارة اخری: مورد تعلّق الأمر غیر مورد تعلّق النهی، و الاجتماع إنّما هو فی المصداق الخارجی، و هو لا یضرّ، فکذلک هنا یکون لنا عنوانان: أحدهما واجب غیری- و هو عنوان الموصل بما أنّه موصل- و الآخر مستحبّ نفسی- و هو عنوان الوضوء مثلًا- و لکنّه یتّحد العنوانان خارجاً؛ فلم تصر عناوین الطهارات الثلاث بعد الوقت واجبة لیلزم اجتماع الحکمین، فتدبّر.

و یمکن أن یجاب عن الإشکال بوجه آخر، و هو: أنّ ملاک الاستحباب بعد دخول وقت الواجب باقٍ بهویته و حدوده، و لا یندکّ فی ملاک الآخر. نعم، لم یکن الأمر الاستحبابی باقیاً. و مجرّد وجود الملاک بعد الوقت یکفی للتقرّب به؛ لعدم احتیاج العبادیة عندهم إلی الأمر المتعلّق بها، بل یکفی صلوح الشی ء للتعبّدیة و إتیانه للتقرّب به إلیه تعالی، فتدبّر.

تفصی المحقّق النائینی عن الإشکالات فی خصوص الوضوء و الغسل و دفعه

ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره قال: لو أغمضنا عن ذلک کلّه: یمکن لنا التفصّی عن الإشکالات بوجه آخر یختصّ بالوضوء و الغسل فقط، و لا یجری فی التیمّم.

و حاصله: أنّ الوضوء و الغسل لهما محبوبیة ذاتیة نفسیة أوجبت استحبابهما قبل الوقت، و عروض الوجوب لهما بعد الوقت لا ینافی بقاء تلک الجهة، و إن قویت بعد الوقت و حصلت لها شدّة أوجبت الوضوء.

و الحاصل: أنّ عروض ملاک الوجوب علی ملاک الاستحباب لا یوجب انعدام الملاک الاستحبابی و حدوث ملاک آخر للوجوب، بل غایته تبدّل الاستحباب

ص: 170

بالوجوب و فوات الرخصة من الترک التی کانت قبل الوقت مع اندکاک الملاک الاستحبابی فی الملاک الوجوبی، نظیر اندکاک السواد الضعیف فی السواد الشدید(1)

. و فیه: أنّه ثبت فی محلّه: أنّ الحرکة فی الاشتداد لم تکن لَبساً بعد خلع، بل لَبس بعد لَبس و حرکة من النقص إلی الکمال؛ فالسواد الضعیف لا یصیر سواداً قویاً بخلع المرتبة الضعیفة و قلبه إلی المرتبة القویة، بل یضاف إلیه جزءاً فجزءاً.

و بعبارة اخری: هناک حقیقة واحدة تسیر من النقص إلی الکمال، غایة الأمر بتبدّل الحدود. هذا کلّه فی الهویة الحقیقیة الخارجیة.

فظهر: أنّ القول بأنّ السواد الضعیف مندکّ فی السواد الشدید غیر تمام.

و لو سلّم ذلک فی مثل السواد و البیاض- اللذین هما من الهویات الخارجیة و یکون الضعیف من سنخ القوی- و لکن لا یجری فیما نحن فیه؛ لأنّه- مضافاً إلی أنّ الوجوب الغیری و الاستحباب النفسی لم یکونا من الحقائق الخارجیة- لم یکونا من سنخ واحد؛ لأنّ المطلوب الذاتی و هو الاستحباب النفسی یخالف المطلوب الغیری و هو الواجب الغیری لأنّه حیث یحصل بالوضوء طهارة و کمال معنوی للنفس، یکون محبوباً ذاتیاً. و أمّا إذا کانت مقدّمة للصلاة فلا یکون مطلوباً إلّا لأجل موقوفیة الصلاة علیه، لا لأجل قیام مصلحة أقوی به، فتدبّر.

و إن شئت مزید توضیح فلاحظ المقدّمات غیر العبادیة؛ فإنّ من یرید لقاء صدیقه الذی فی ناحیة یتوجّه إلیها و یحتاج الوصول إلیه إلی طیّ المسافة، فطیُّ المسافة مقدّمة للوصول إلی صدیقه، و لا یکون له مصلحة، بل ربّما یبغضه، و لو أمکنه الوصول إلی صدیقه بدون الطیّ لترکه. فملاک وجوب الطیّ هو التوقّف أو التوصّل.


1- فوائد الاصول 1: 229.

ص: 171

و الحاصل: أنّ دعوی التبدّل لو تمّ فإنّما هو فی الوجوب و الاستحباب اللذین هما من سنخ واحد، و لم یکن کذلک فیما نحن فیه. فالملاک الذی کان فی الوضوء- مثلًا- قبل الوقت باقٍ بعد الوقت أیضاً.

هذا ما أفاده سماحة الاستاد- دام ظلّه- فی یوم.

و لکن استدرک فی الیوم الثانی بأنّ هذا المحقّق اعترف ذیلًا بأنّه لا یخفی علیک:

أنّ ما ذکرناه من تبدّل الاستحباب بالوجوب فإنّما هو بالنسبة إلی الوجوب النفسی الثابت للوضوء بعد الوقت، لا الوجوب الغیری له؛ فإنّ التبدّل بالوجوب الغیری لا یعقل؛ لاختلاف المتعلّق(1)، انتهی.

فعلی هذا: لا یتوجّه علیه الإشکال الأخیر.

و لکن الإشکال الأوّل متوجّه علیه بعد، فتأمّل. و کذا إشکال إجراء الشدّة و الضعف اللذین هما فی الحقائق الخارجیة فی الوجوب و الندب اللذین هما من الامور الاعتباریة متوجّه علیه، فتدبّر.

توجیه لدفع الإشکال من المحقّق الأصفهانی و دفعه

و یتلو ما ذکره هذا المحقّق قدس سره فی الضعف، ما أجاب به المحقّق الأصفهانی قدس سره عن الإشکال؛ لأنّه قال: بناءً علی أصالة الوجود تبقی حقیقة الإرادة عند الحرکة فی الاشتداد من مرتبة إلی مرتبة اخری؛ لا أنّها تنعدم و توجد من رأس، غایة الأمر:

تنتزع منها مرتبة ضعیفة فی أوّل أمرها- و هو الاستحباب- و مرتبة شدیدة فی آخرها؛ و هو الوجوب.


1- فوائد الاصول 1: 229.

ص: 172

فعلی هذا: أصل الرجحان المحدود بحدٍّ عدمی- و هو عدم وجدان مرتبة الشدّة- المنبعثة عن ملاک نفسی موجود فعلًا، غایة الأمر: أنّه محدود فی هذا الحال بحدّ آخر؛ إذ المفروض: أنّ الاشتداد دائماً فی الإرادة و منها و إلیها، لا إلی غیر الإرادة. فاشتدادها لملاک غیری لا یوجب زوال ذاتها و أنّها المنبعث عن ملاک نفسی. و إنّما کان محدوداً بحدّ ندبی، لا لخصوصیة الندبیة کی یزول الحکم بزوالها، بل لقصور الملاک عن اقتضاء الزائد علی هذا المقدار، و إلّا فالقرب و الثواب مترتّبان علی إتیان الراجح من حیث الرجحان، لا من حیث الفقدان لمرتبة الشدّة(1)، انتهی.

و فیه: أنّه قد ذکرنا غیر مرّة أنّه لا یکون إرادة الفعل فی الموالی العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم، و علی تقدیر تسلیم ذلک فی الموالی العرفیة لا یمکننا إثباته فی إرادات المبادئ العالیة؛ لأنّ الإرادة التشریعیة تتعلّق بالقانون و البعث، فإذن: کلّ من الإرادة المتعلّقة بالبعث الاستحبابی و الإرادة المتعلّقة بالبعث الوجوبی تخالف الاخری، لا ترتبط إحداهما بالأخری؛ لأنّ لکلٍّ منهما إرادة تخصّه.

و ما ذکره قدس سره إنّما یتمّ فی الإرادات الشخصیة القائمة بالنفس بالنسبة إلی أفعالها، علی إشکال فیه أیضاً؛ لأنّ لازمه الحرکة فی الإرادة، و لم أتحقّقه بعدُ.

و الحاصل: أنّ الاستحباب و مبادئه غیر الوجوب و مبادئه، و قیاس إرادة البعث الاستحبابی و الوجوبی بالإرادات النفسانیة التکوینیة فی غیر محلّه، فتدبّر و اغتنم.


1- نهایة الدرایة 2: 119- 120.

ص: 173

ضابط لتبدّل الأحکام و تزییفه

ذکر المحقّق النائینی قدس سره ضابطاً لتبدّل الأحکام بعضها مع بعض لإیضاح المقصود فی المقام؛ بأنّ تبدّل حکم إلی آخر إنّما هو فی صورة وحدة المتعلّق، بحیث یکون متعلّق أحد الحکمین عین متعلّق الآخر، کما لو نذر صلاة اللیل؛ فإنّ الأمر الاستحبابی إنّما تعلّق بذات صلاة اللیل لا بما أنّها مستحبّة، و النذر أیضاً یتعلّق بالذات؛ إذ لا یمکن أن یتعلّق النذر بصلاة اللیل بوصف کونها مستحبّة- لأنّها بالنذر تصیر واجبة، فلا یمکنه إتیانها بوصف الاستحباب- فلا بدّ و أن یتعلّق النذر بالذات؛ فیکون الأمر الوجوبی الجائی من قبل النذر متعلّقاً بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابی؛ فیتبدّل الأمر الاستحبابی بالأمر الوجوبی، و یکتسب الأمر الوجوبی التعبّدیة، کما اکتسب الأمر الاستحبابی الوجوب، فإنّ الأمر النذری و إن کان توصّلیاً، إلّا أنّه لمّا تعلّق بموضوع عبادی اکتسب التعبّدیة.

و أمّا إذا لم یکن متعلّق أحد الحکمین عین الآخر، بل تعلّق الثانی بغیر ما تعلّق به الأوّل بقید کونه مأموراً به بالأمر الأوّل، فلا یعقل التبدّل، کما فی صلاة الظهر، حیث اجتمع فیها أمران: أمرٌ تعلّق بذاتها؛ و هو الأمر النفسی العبادی الذی لا یکاد یسقط إلّا بامتثاله و التعبّد به، و أمر تعلّق بها لکونها مقدّمة و شرطاً لصحّة صلاة العصر، و لکن الأمر المقدّمی تعلّق بصلاة الظهر بقید کونها مأموراً بها بالأمر النفسی و بوصف وقوعها عبادة امتثالًا لأمرها النفسی، فاختلف موضوع الأمر النفسی مع موضوع الأمر المقدّمی، و لا یتّحدان؛ فلا یمکن التبدّل.

فإذن نقول: الأمر المتعلّق بذات الوضوء، قبل الوقت کان استحبابیاً، و بعد

ص: 174

الوقت یکون الوضوء نفسه واجباً بالأمر الصلاتی، و لمکان اتّحاد المتعلّقین یتبدّل الأمر الاستحبابی بالأمر الوجوبی؛ لما عرفت: أنّ کلًاّ من الأمر الاستحبابی قبل الوقت و الأمر الوجوبی النفسی العارض من جهة الأمر بالصلاة بعد الوقت متعلّقان بذات الوضوء؛ فیتبادلان.

و أمّا الأمر الغیری العارض له بعد الأمر بالصلاة فلا یعقل أن یتّحد مع الأمر الاستحبابی أو النفسی؛ لأنّ الأمر الغیری إنّما یعرض علی ما هو بالحمل الشائع مقدّمة، و الوضوء المأمور به بالأمر یکون مقدّمة؛ فیکون حال الوضوء بالنسبة إلی الأمر النفسی حال نذر صلاة اللیل من حیث التبدّل، و بالنسبة إلی الأمر الغیری حال صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر من حیث عدم التبدّل(1)، انتهی محرّراً.

فیما أفاده مواقع للنظر، نذکر بعضها:

منها: ما یستفاد من مقاله: و هو أنّ الوضوء المستحبّ قد یجب بالنذر و شبهه، و لا یخفی: أنّ هذا المقال غیر مخصوص بهذا المحقّق، بل علیه جمهور الفقهاء، کالمحقّق و العلّامة و غیرهما، حیث قالوا فی کتاب الطهارة: إنّ الوضوء و سائر الطهارات الثلاث مستحبّات نفسیة، لکنّها تجب بالنذر و العهد و القسم، بل قالوا بوجوب صلاة اللیل، بل غیرها من المستحبّات، بالإجارة و نحوها أیضاً(2)

. فیتوجّه علیه و علیهم ما قلناه فی مبحث الطهارة و غیرها، و حاصله: أنّ کلّ عنوان اخذ موضوعاً لحکم، لا یکاد یتعدّی الحکم و لا یتجافی عن العنوان الذی اخذ موضوعاً إلی عنوان آخر، و واضح: أنّ مقتضی ما دلّ علی وجوب الوفاء بالنذر أو


1- فوائد الاصول 1: 229- 231.
2- شرائع الإسلام 1: 3 و 49، تذکرة الفقهاء 1: 148، و 2: 259.

ص: 175

القسم أو العهد أو غیرها هو وجوب الوفاء بالنذر و شبهه. فالواجب بالنذر- مثلًا- هو عنوان «الوفاء بالنذر» لا شی ء آخر، و إن اتّحد معه خارجاً، فمَن نَذر صلاة اللیل- مثلًا- لا تصیر صلاة اللیل بالنذر واجباً، بل هی مستحبّة کما کان قبل النذر، بل لو قلنا باعتبار قصد الوجه- من الوجوب أو الاستحباب- فی العبادة، لم یحصل منه برء النذر إلّا إذا أتی بصلاة اللیل مستحباً.

و ذلک لأنّ الواجب علیه بالنذر هو عنوان «الوفاء بالنذر» لا صلاة اللیل.

نعم، الوفاء بالنذر إنّما هو بإتیان صلاة اللیل المستحبّة، و هو غیر کون الصلاة متعلّقة للوجوب، و بعد النذر لو ترک صلاة اللیل عمداً لا یسأل عنه بأنّه لِمَ ترکتَ صلاة اللیل؟ بل یُسأل عنه: لِمَ لم تَفِ بنذرک؟

فالخلط وقع بین ما هو متعلّق للنذر بالذات، و بین ما هو مصداق له بالعرض.

و إن شئت مزید توضیح لذلک فنقول: إنّ ما ذکرناه هنا نظیر مسألة اجتماع الأمر و النهی.

فکما صحّ أن یقال هناک: إنّ النهی و هو لا تغصب- مثلًا- تعلّق بعنوان الغصب، و الأمر و هو صلّ- مثلًا- تعلّق بعنوان آخر و هو الصلاة و واضح: أنّ عنوان الغصبیة غیر عنوان الصلاتیة، و الحکم المتعلّق بأحدهما لا یکاد یتجاوز إلی العنوان الآخر، و مجرّد اتّحادهما خارجاً أحیاناً لا یکاد یضرّ بذلک؛ لعدم تعلّق التکلیف- الأمر و النهی- بالخارج؛ لأنّ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته، فیکون المصداق الخارجی مجمع العنوانین.

فکذلک نقول فیما نحن فیه؛ لأنّ «فِ بنذرک» مثلًا تعلّق بعنوان «الوفاء بالنذر»، و الأمر به یقتضی إتیان المنذور علی ما هو علیه، و الأمر الاستحبابی تعلّق بعنوان صلاة اللیل. فبعد النذر- کقبله- تکون صلاة اللیل مستحبّة، بحیث لا بدّ و أن تؤتی

ص: 176

مستحبّة. نعم صلاة اللیل مصداق ما وجب علیه بالنذر، و قد عرفت أنّ المصداق الخارجی لم یتعلّق به التکلیف.

فإذن: الوفاء بالنذر واجب توصّلی إلی الأبد، کما أنّ صلاة اللیل مستحبّة تعبّدیاً کذلک. و لا معنی لاکتساب الوجوب التعبّدیة و الاستحباب الوجوب، فتدبّر.

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا ظهر لک: أنّ الطهارات الثلاث المستحبّات لا تتلوّن بلون الوجوب و لو صارت مقدّمة و واجبات غیریة؛ لا قبل وقت الواجب- و هو ظاهر- و لا بعده.

و ممّا یؤیّد ما ذکرنا، بل یدلّ علیه: فتوی الأصحاب بأنّه لو نذر شخص أن یصلّی صلاة الظهر الواجب- مثلًا- یقع نذره صحیحاً(1)؛ فلو خالف و لم یصلّ عمداً فمقتضی القاعدة أن یعاقب عقابین؛ لأنّه خالف أمرین عمداً: أحدهما الأمر المتعلّق بصلاة الظهر، و الثانی الأمر المتعلّق بوفاء النذر لحنث النذر.

و أمّا علی ما علیه المحقّق النائینی قدس سره و من یحذو حذوه- من القول بالتبدّل- فمقتضاه أن یعاقب عقاباً واحداً- و هو مخالفة الأمر النذری- کما کان یعاقب کذلک فی ترک صلاة اللیل المستحبّة المنذورة، و هو کما تری.

و منها: قوله قدس سره بعدم معقولیة التبدّل فی صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر، و وجوب التبدّل فی صلاة المنذور.

فلیته عکس الأمر و یقول بالتبدّل فی صلاة الظهر، حیث إنّها مقدّمة لصلاة العصر؛ لأنّ المقدّمة علی مبناه و مبنی المحقّق الخراسانی 0 فی مقدّمة الواجب- کما سیجی ء- عبارة عمّا یکون مقدّمة بالحمل الشائع(2)، و واضح: أنّ ما یکون مقدّمة


1- تذکرة الفقهاء 4: 200، إیضاح الفوائد 4: 52.
2- کفایة الاصول: 115- 116، فوائد الاصول 1: 227 و 285- 286.

ص: 177

بالحمل الشائع هی الصلاة بقصد الأمر، فینحلّ إلی «الصلاة» و «قصد الأمر»، فکلّ من الصلاة و قصد الأمر مقدّمة لملاک التوقّف و المقدّمیة عقلًا، و إن لم یکن عرفاً.

و البحث فی مقدّمة الواجب فی الملازمة العقلیة لا العرفیة. فصلاة الظهر تعلّق بها الوجوب النفسی، و هو واضح، و الوجوب الغیری لکونها مقدّمة بالحمل الشائع لصلاة العصر.

فعلی هذا: الوضوء المقدّمی عبارة عمّا یکون مأموراً به للصلاة، فذاته مأمور به بالأمر الغیری، و مأمور به بالأمر الذاتی الاستحبابی، فیتبادلان. فالأمر الغیری- علی مَزعمته- یکتسب العبادیة، و الأمر النفسی یکتسب الوجوب، و هو کرٌّ علی ما فرّ؛ لأنّه قدس سره لا یری تبدّل الاستحباب النفسی بالوجوب الغیری، بل إنّما یری تبدّل الاستحباب النفسی بالنسبة إلی الوجوب النفسی الثابت للوضوء بعد الوقت، فتدبّر.

و منها: أنّه قدس سره ذکر أوّلًا و ادّعی البداهة علیه بأنّ الوضوء إنّما یکتسب العبادیة من ناحیة الأمر النفسی المتوجّه إلی الصلاة.

فعبادیة الوضوء إنّما هی بعد ما کان الأمر الصلاتی عبادیاً، فذات الوضوء قد اکتسبت حصّة من الأمر بالصلاة لمکان قیدیته لها. فإذا کان الأمر کذلک فی الوضوء بالنسبة إلی الصلاة، فلیکن کذلک فی صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر؛ فإنّها شرط شرعاً لصلاة العصر. و مثلها صلاة المغرب بالنسبة إلی صلاة العشاء، فتتوقّف صلاة العصر علیها، کما تتوقّف الصلاة علی الطهارة؛ فتکون عبادیتها اکتسابیة اکتسبتها من الأمر بصلاة العصر. فیلزم أن لا تکون صلاة الظهر من الفرائض، بل عبادیتها و فریضیّتها لأجل کونها شرطاً لصحّة صلاة العصر.

نعم، فی موردٍ نسی صلاة العصر تقع صلاة الظهر فریضة و عبادة، و واضح: أنّ الالتزام بکون صلاة الظهر أو المغرب غیر فریضة ممّا یبطله أذهان المتشرّعة، هذا.

ص: 178

التنبیه الثالث فی منشأ عبادیة الطهارات الثلاث

قد ظهر لک ممّا تقدّم: أنّ عبادیة الطهارات الثلاث إنّما هی لقابلیتها و صلاحیتها للعبادة، و النصّ و الإجماع متطابقان علی ذلک، و قد جعلت بما هی عبادة مقدّمة للصلاة.

و قد عرفت: أنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فلا یکاد یستفاد عبادیتها من الأمر الغیری؛ لأنّ المقدّمة بما هی مقدّمة لا مطلوبیة فیها و لا مقرّبیة، و لا تکاد تصلح الأوامر الغیریة للباعثیة.

و لو سلّم داعویتها فغایتها داعویتها إلی أنّ إتیان المقدّمة للتوصّل بها إلی ذی المقدّمة، و لیست لها نفسیة و صلاحیة للتقرّب، و لم تکن المقدّمة محبوبة للمولی، بحیث لو أمکنه إتیان ذی المقدّمة بدون المقدّمة لکانت محبوبة. فالأمر بالمقدّمة- علی فرضه- من جهة اللابدّیة العقلیة، و مثل ذلک لا یصلح للمقرّبیة؛ و لذا علی القول بوجوب المقدّمة المطلقة لو أتی بالمقدّمة بانیاً علی عدم الإتیان بذی المقدّمة لم تصر مقرّباً.

و قد ظهر لک أیضاً: أنّه لا یکاد تستفاد عبادیتها من الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة؛ لما أشرنا: أنّ الأمر النفسی المتعلّق بالصلاة- مثلًا- لا یکاد یدعو إلّا إلی عنوان الصلاة، من دون أن تکون له داعویة إلی مقدّماتها، بل لا یعقل أن یدعو إلیها؛ لعدم تعلّقه بها، فلا یکون الإتیان بالمقدّمات إطاعة له، بل مقدّمة لها. و قد عرفت عدم تمامیة القول بأنّ الشروع فی المقدّمات نحو شروع فی الواجب النفسی(1).


1- بدائع الأفکار 1: 375- 376.

ص: 179

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا ظهر لک وقوع الخلط فی کلماتهم بین حکم العقل بلابدّیة إتیان المقدّمة، و بین داعویة الأمر الغیری.

و توهّم: أنّه یکفی فی عبادیة الشی ء أن یؤتی به لأجل المولی، و لو بمثل هذه الداعویة مدفوع بأنّ العبادیة فرع صلوح الشی ء للتقرّب، و قد عرفت عدم صلوح المقدّمة بما هی مقدّمة لذلک، و لو قلنا بإمکان تعلّق الأمر الغیری بها.

فتحصّل: أنّ مقرّبیة المقدّمات لا تکاد تمکن بالأمر الغیری. نعم لو لم یقصد خصوصیة الأمر الغیری، بل قصد أمره الغیری تقرّباً إلیه تعالی اشتباهاً یصحّ.

و لو قلنا بأمرین، تعلّق أحدهما بذات الشی ء- کذات الوضوء- و الآخر بعنوان المقدّمیة، فیصحّ الوضوء قبل الوقت، و یجوز له معه الدخول فی الصلاة بعد حضور وقتها بل و کذا یصحّ لو قلنا بعدم إمکان اجتماع الأمر الاستحبابی النفسی و الأمر الوجوبی الغیری، و لکن قلنا ببقاء ملاک العبادیة فیه لصحّة التقرّب به أیضاً.

و کذا یصحّ التوضّی إذا لم یکن له داعٍ إلی إتیان الوضوء قبل الوقت، و لکن حیث یری توقّف الصلاة فی وقتها بالوضوء فصار ذلک داعیاً إلی إتیانه قبل الوقت و کذا یصحّ له أن یأتی بالوضوء بعد الوقت بأمره الاستحبابی.

نعم- کما أشرنا- لو قصد بعد الوقت خصوص أمره الغیری فلا یصحّ؛ لعدم صلاحیة الباعثیة للأوامر الغیریة.

نعم إن قصد أمره الغیری تقرّباً إلیه تعالی اشتباهاً فیصحّ، هذا کلّه علی تقدیر وجوب المقدّمة.

و أمّا لو قلنا بعدم وجوبها و قلنا بأنّه لیس هنا إلّا اللابدّیة العقلیة، فتکون أوامر المقدّمات قبل الوقت و بعده أوامر استحبابیة، غایته: جعل الشارع هذا الأمر الاستحبابی شرطاً للصلاة، و العقل یحکم بإتیانه للملازمة، فتدبّر.

ص: 180

الأمر السادس فیما هو الواجب، بناءً علی الملازمة

اشارة

هل الواجب- بناءً علی الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها- هو ذات المقدّمة؛ فذات المقدّمة من دون أن یتوصّل بها إلی ذیها واجبة(1)، أو الذات فی حال إرادة ذی المقدّمة، أو الذات بشرط إرادة ذی المقدّمة، أو الذات بقصد الإیصال إلی ذی المقدّمة، أو الموقوف علیه بما أنّه موقوف علیه، أو الموصل بما أنّه موصل، أو المقدّمة فی حال الإیصال، أو بقید الإیصال؟ وجوه، بل أقوال فی بعضها.

حول ما نسب إلی صاحب «المعالم»

ربّما ینسب إلی صاحب «المعالم» قدس سره القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذی المقدّمة(2)

. فاورد علیه: بأنّ المقدّمة تابعة لذی المقدّمة من حیث الاشتراط و التقیید، فإذا کان ذو المقدّمة مشروطاً بشرط أو مطلقاً فیستکشف منه: أنّ وجوب المقدّمة کذلک؛


1- قلت: لطیفة حکاها سماحة الاستاد- دام ظلّه- عن استاذه العلّامة الأصفهانی صاحب« وقایة الأذهان»: بأنّه یلزم القائلین بکون ذات المقدّمة واجبة أنّ جند عبید اللَّه بن زیاد بمجیئهم أرض کربلاء لم یعصوا، بل أتوا بمقدّمة الواجب؛ لأنّ حضورهم عند الإمام و دفاعهم عن حریمه واجب علیهم، فمقدّمته- و هو المجی ء إلی أرض کربلاء واجبة، و هو کما تری.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- مطارح الأنظار: 72/ السطر 1- 3، فوائد الاصول 1: 286.

ص: 181

فإن وجبت المقدّمة بشرط إرادة ذیها فیلزم أن یکون ذو المقدّمة واجباً بشرط إرادته.

و بالجملة: یلزم أن یشترط وجوب الشی ء بإرادة وجوده، و تقیید وجوب ذی المقدّمة بإرادة وجوده محال؛ لکونه من قبیل تحصیل الحاصل؛ فیستحیل أن یکون وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذیها(1)

. و لکن عبارة «المعالم» خالیة عن الاشتراط؛ لأنّه قال فی آخر بحث الضدّ- عند القول بأنّ الأمر بالشی ء مقتضی للنهی عن ضدّه- ما نصّه: و أیضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة- علی تقدیر تسلیمها- إنّما تنهض دلیلًا علی الوجوب فی حال کون المکلّف مریداً للفعل المتوقّف علیها، کما لا یخفی(2)

. و هذه العبارة ظاهرة(3) فی أنّ المراد حال الإرادة، نظیر حال إرادة الوضع الذی یقولها المحقّق القمی قدس سره فی الوضع(4)

. و لا یخفی: أنّ هذا و إن لم یکن خالیاً عن الإشکال، إلّا أنّه لم یکن بمثابة القول بالاشتراط واضح البطلان؛ و ذلک لأنّه إذا وجبت المقدّمة حال إرادة ذیها فیلزم أن یکون ذو المقدّمة واجباً حال إرادته، و حیث إنّ إرادة المقدّمة لا تنفکّ عن إرادة ذیها فلا محالة تکون مرادة عند إرادته، فلا معنی لإیجاب المقدّمة و بعثها فی هذا الحال؛ لأنّ الإیجاب لأجل الباعثیة و الإتیان، و المفروض أنّه منبعث إلی المقدّمة بإرادة ذیها.


1- مطارح الأنظار: 72/ السطر 5، فوائد الاصول 1: 286.
2- معالم الدین: 71.
3- قلت: و لا یخفی أنّ ظاهر کلامه بقرینة کونه جواباً عن الإشکال أنّه یرید من کلمة« حال کون» الاشتراط، و إلّا لم یکن جواباً عن الإشکال، و قد استفاد الاشتراط منها سلطان العلماء و الملّا میرزا و غیرهما، لاحظ« المعالم» و تأمّل فیه، فلعلّک تجد ما ذکرنا.[ المقرّر حفظه اللَّه]
4- قوانین الاصول: 63/ السطر 8.

ص: 182

و بعبارة اخری- کما افید- لا یتصوّر لإیجاب المقدّمة حین إرادة ذیها معنی معقول؛ لأنّه إذا أراد فعل المتوقّف علیها یرید المقدّمة لا محالة، فلا معنی للبعث و الإیجاب فی هذه الحالة مضافاً إلی أنّ وجوب المقدّمة له ملاک، و لا یکاد یمکن أن یکون حال إرادة ذیها دخیلًا فی المصلحة؛ لأنّه- کما سیظهر لک- أنّ الحال کالحجر فی جنب الإنسان، لا خصوصیة له فی الملاک.

حول ما نسب إلی الشیخ الأنصاری
اشارة

ربّما یحکی عن الشیخ الأعظم قدس سره: أنّ المقدّمة الواجبة هی خصوص ما قصد بها التوصّل إلی ذی المقدّمة(1)

. و لکن الذی ظهر لنا بعد التأمّل فی کلامه- مع إغلاق فی عبارة المقرّر: أنّ هناک مقامین:

المقام الأوّل: فی بیان محطّ الملازمة و ملاک المقدّمیة فإنّه قال فی ذلک: إنّا بعد أن استقصینا التأمّل فی ملاک وجوب المقدّمة، فلم نَرَ فی وجوبها إلّا أنّ عدمها یوجب عدم المطلوب، و هذه الحیثیة هی التی یشترک فیها جمیع المقدّمات.

و بالجملة: ملاک وجوب المقدّمة توقّف ذی المقدّمة علیها، و لا مدخلیة للإرادة فی ذلک أصلًا، کیف و إطلاق وجوب المقدّمة و اشتراطه تابع لإطلاق وجوب ذیها(2)؟!


1- مطارح الأنظار: 72/ السطر 8، کفایة الاصول: 143.
2- لاحظ کلامه رحمه الله عند الجواب عن صاحب« المعالم» رحمه الله القائل بتوقّف الواجب الغیری علی إرادة الغیر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 183

و بعبارة اخری: ما یظهر فی باب الملازمة بین المقدّمة و ذیها: أنّ ذات المقدّمة واجبة.

المقام الثانی: و هو مشتبه المراد، یحتمل أن یرید أحد الوجهین:

الوجه الأوّل: أنّه بعد الفراغ عن کون ذات المقدّمة واجبة، یقع الکلام فی أنّه هل فی مقام الامتثال و تحقّقها خارجاً علی جهة الامتثال نحتاج إلی قصد التوصّل بها إلی ذیها، أم لا؟ فاختار اعتباره.

و ذلک- ببیان منّا و أشار إلیه المحقّق العراقی قدس سره فی أحد محتملاته(1)- هو: أنّ وقوع المقدّمة علی جهة الامتثال إنّما هو بحسب القصد إلی ذیها؛ لأنّ المقدّمة واجبة لأجل ذیها، و حیث إنّ البحث عن وجوب الملازمة عقلی فلا بدّ من التدقیق فی الحیثیة التی تجب لأجلها، و واضح: أنّ الواجب بحکم العقل هو عنوان المقدّمة لا ذاتها؛ لأنّ الحیثیّات و الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة جهات و حیثیات تقییدیة. و بالجملة:

حکم العقل بوجوب شی ء لکونه مقدّمة لواجب، حکم بوجوب عنوان المقدّمة قهراً.

فعلی هذا: مرجع وجوب نصب السلّم- مثلًا- لتوقّف الکون علی السطح علیه إلی وجوب النصب بما هو مقدّمة للکون علی السطح، فلا مناص للعبد المرید لامتثال أمر مولاه أن یأتی بالمقدّمة کما وجبت- و هی إتیانها قاصداً لعنوانها المقدّمی- و إلّا لم یکن آتیاً بالمقدّمة بما أنّها مقدّمة، و محال أن ینفکّ إرادة المقدّمة بما هی مقدّمة عن إرادة ذیها.

فتحصّل: أنّ إرادة المقدّمة خارجاً علی جهة الامتثال بما أنّها مقدّمة تلازم قصد التوصّل بها إلی ذیها.


1- بدائع الأفکار: 387.

ص: 184

إشکال و دفع

أورد المحقّق العراقی قدس سره علی هذا الوجه إشکالین:

الإشکال الأوّل: أنّ الجهات التعلیلیة لا تکاد ترجع إلی الجهات التقییدیة فی الأحکام العقلیة؛ لأنّ العقل یری لحکمه موضوعاً و علّة، و لا معنی لإرجاع العلّة إلی الموضوع، بحیث یصیر موضوعاً للحکم. نعم قد یتسامح فی التعبیر بإرجاعها إلی الموضوع.

الإشکال الثانی: أنّه لو سلّم الرجوع، لکن لا یتمّ فی مثل المقام ممّا کان الوجوب فیه بحکم الشارع و لم یکن للعقل فیه شأن إلّا بنحو الکاشفیة و الطریقیة.

و بالجملة: رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة لو تمّ فإنّما هو فی الأحکام التی یدرکها العقل، و لا تکاد تجری فیما یکون ثابتاً من الشارع باستکشاف من العقل(1)، انتهی.

و فیه: أنّ الحقّ فی هذه المسألة هو الذی احتمل أن یکون مراداً للشیخ الأعظم قدس سره، علی تقدیر ثبوت الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها، و لا یتمّ شی ء من الإشکالین. و ذلک لوجود الفرق بین الأحکام العرفیة و الأحکام العقلیة؛ فإنّ الأحکام العرفیة تابعة للظواهر، مثلًا إذا قال المولی لعبده: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسکر» یصحّ أن یقال: إنّ هناک عند العرف موضوعاً- و هو الخمر- و محمولًا- و هو لا تشرب- وجهة تعلیلیة؛ و هو الإسکار.

و أمّا فی الأحکام العقلیة المبنیة علی التدقیقات فحیث لا یحکم العقل فی مورد


1- بدائع الأفکار 1: 387.

ص: 185

إلّا إذا کان هناک ملاک وجهة، مثلًا ضرب الیتیم یکون له جهات مختلفة؛ من کون الضرب- مثلًا- صادراً من شخص و واقعاً علی الیتیم فی مکان کذا و زمان کذا و ...

و حکم العقل بقبحه لیس لأجل تلک الحیثیات و الجهات، بل لم یکن لنفس الضرب قبح لدیه، و إلّا یلزم أن لا یکون للضرب التأدیبی حُسن، بل قبحه إنّما هو لتعنونه بعنوان الظلم، و عنوان الظلم یقبح متی تحقّق، و «أیّ مورد وجد»؛ و لذا حیث لا یکون الضرب للتأدیب ظلماً لا یکون فیه قبح، بل فیه حسن.

فإذن: الظلم حیث کان علّة لتقبیح العقل الضرب، فیکون هو الموضوع لدیه للقبح، و هذا معنی رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة فی الأحکام العقلیة.

و بعبارة اخری: حیث یکون الضرب ذا جهات و حیثیات متعدّدة، و لکن حکم العقل بقبحه إنّما هو لکونه ظلماً، فالموضوع فی الحقیقة للتقبیح العقلی هو الظلم، و سائر العناوین لا تکون دخیلة فیه أصلًا، و هو ظاهر. و لا تکون ذات الضرب بعلّیة الظلم بحیث یکون الظلم واسطة و علّة لتقبیح الضرب نفسه؛ لاستلزامه الخلف؛ فإنّ الذات تکون قبیحة بالعرض؛ فلا محیص إلّا أن یکون الظلم قبیحاً بالذات؛ فیصیر الظلم موضوعاً بالحقیقة للقبح، و هذا معنی رجوع الحیثیات التعلیلیة إلی التقییدیة.

و لعمر الحقّ: إنّ هذا واضح ممّا لا إشکال فیه. فالإشکال الأوّل من المحقّق العراقی قدس سره ساقط(1).


1- قلت: إنّ نظر المحقّق العراقی قدس سره علی أنّ وجوب المقدّمة شرعی حیث إنّه باستکشاف حکم العقل من وجوب ذیها، فبناءً علی الملازمة بین وجوب المقدّمة شرعاً و وجوب ذیها یکون وجوبها تابعة لوجوب ذیها، فإذا کانت الجهات التعلیلیة فی ذیها غیر راجعة إلی الجهات التقییدیة فلیکن کذلک وجوب مقدّمته التابعة له، فیری قدس سره أنّ رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة إنّما هو فیما یدرکه العقل مستقلًاّ، لا ما لا یکون للعقل شأن فیه إلّا الکشف. فعلی هذا: الإشکال الثانی من سماحة الاستاد- دام ظلّه- علی المحقّق العراقی غیر وارد. نعم إشکاله الأوّل متوجّه علیه، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 186

الوجه الثانی:- کما یشعر به صدر کلامه و ذیله- و هو: أنّه یشترط فی وقوع المقدّمة علی سبیل الوجوب و المطلوبیة فی الخارج قصد التوصّل إلی ذیها. و هذا الوجه قریب من الوجه الأوّل، و لم یذکر المحقّق العراقی له بیاناً.

و یظهر من تقریر المحقّق النائینی قدس سره: أنّ الشیخ الأعظم قدس سره یرید اعتبار ذلک فی خصوص المقدّمة المحرّمة بالذات التی صارت مقدّمة لواجب أهمّ، لا مطلق المقدّمات.

و ذلک لأنّه قال: لا ینبغی الإشکال فی أنّه لا یعتبر قصد التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب؛ فإنّ اعتبار القصد إمّا أن یکون فی العناوین القصدیة التی یتوقّف تحقّق عنوان المأمور به فیها علی القصد، نظیر التعظیم و التأدیب و غیر ذلک من العناوین القصدیة، و إمّا من جهة قیام الدلیل علی ذلک. و لیس المقام من العناوین القصدیة، و لا ممّا قام الدلیل علیه؛ فمن أین یجی ء اعتبار القصد فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب؟!

إلی أن قال: و بالجملة: دعوی أنّ الواجب هو الذات المقیّدة بقصد التوصّل فی مطلق المقدّمات ممّا لا یمکن المساعدة علیه، و هی من الشیخ قدس سره غریبة.

و أمّا إذا ارید اعتبار قصد التوصّل فی خصوص المقدّمة المحرّمة بالذات التی صارت مقدّمة لواجب أهمّ، فممّا یمکن أن یوجّه؛ لأنّ وجوب المقدّمة- حینئذٍ لمکان حکم العقل، حیث زاحم حرمتها واجب أهمّ. و المقدار الذی یحکم به العقل هو ما إذا

ص: 187

اتی بها بقصد التوصّل إلی الواجب الأهمّ، لا بقصد التنزّه و التصرّف فی مال الغیر عدواناً؛ فإنّ مثل ذلک یأبی العقل عن وجوبه، و لا یقاس ذلک بالمقدّمة المباحة؛ فإنّ المقدّمة المباحة لکان وجوبها لمجرّد توقّف واجب علیها، و کان ما یتوقّف علیه هو الذات، و حیث لم تکن الذات مقتضیة لشی ء- بل کانت لا اقتضاء- فتکون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصّل(1)، انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّه صرّح الشیخ قدس سره- علی ما فی التقریر- أنّ الثمرة لا تحصل إلّا فی المقدّمة المحرّمة(2)، و لا یرید التفصیل بین المقدّمة المحرّمة و غیرها. بل ظاهر عبارته یعطی أنّ إرادة التوصّل تعتبر فی جمیع المقدّمات.

لکن الثمرة تظهر فی موردین: أحدهما فی المقدّمات العبادیة؛ لأنّها لیست مثل سائر المقدّمات فی الاکتفاء بذات المقدّمة عنها. و الثانی: فی المقدّمات المحرّمة. و أمّا فی المقدّمات غیر المحرّمة و غیر المقدّمات العبادیة فلم تکن لها ثمرة.

و ثانیاً: مضافاً إلی أنّ الاحتمال الثانی فی کلام الشیخ قدس سره بالنسبة إلی الاحتمال الأوّل ضعیف، غیر تمام فی نفسه. و ذلک لأنّ الشیخ قدس سره لم یشترط شیئاً فیما هو متعلّق الوجوب فی المقدّمة، بل قال: بأنّ الواجب مطلق المقدّمة بملاک التوقّف و الإناطة العدمی بها، و هذا التوقّف و الإناطة موجود؛ قَصد أو لم یقصد، التفت أو کان غافلًا.

و بالجملة: الملاک کلّ الملاک فی وجوب المقدّمة إنّما هو التوقّف و الاستلزام العدمی من حیث إنّ لوجودها مدخلًا فی وجود المعلول. و لا مدخلیة للقصد فی ذلک أصلًا.

و ثالثاً: أنّ اعتبار قصد التوصّل إمّا أن یکون بنحو شرط الوجوب، أو بنحو


1- فوائد الاصول 1: 288- 289.
2- مطارح الأنظار: 73/ السطر الأوّل.

ص: 188

شرط الواجب. لا سبیل إلی الأوّل؛ لأنّه یرد علیه ما یرد علی ما ذهب إلیه صاحب «المعالم» قدس سره، و لأنّه إذا قصد التوصّل بالمقدّمة إلی ذیها تجب المقدّمة، و هو تحصیل الحاصل. و بالجملة: قصد ذی المقدّمة مستلزم لقصد مقدّمته، فلازم ذلک: وجوب المقدّمة حین إرادتها، و هو تحصیل للحاصل.

و کذا لا سبیل إلی الثانی، لکن لا لأجل عدم إمکان أخذ الإرادة فی الواجب- کما قاله المحقّق الخراسانی قدس سره(1)- بداهة إمکان أن یجب الشی ء و یعتبر فی إتیانه أن یکون مع القصد، بل لأجل ورود الأمر به فی الشریعة، کما فی قصد الأمر فی العبادات- کما سبق- بل لأجل أنّ العقل لا یری لإرادة العبد دخالة فی الملاک، بل الملاک کلّ الملاک- علی مبنی غیر صاحب «الفصول» قدس سره و من یحذو حذوه- قائم بذات المقدّمة و ما یکون مصداقاً لها.

حول مقال صاحب «الفصول»
اشارة

عمدة الکلام فی المقام مقال صاحب «الفصول»(2)؛ فقد وقع مطرحاً للأنظار، و ذکروا فی تبیین مراده- خصوصاً شیخنا العلّامة الحائری قدس سره فی «الدرر»(3) علی


1- کفایة الاصول: 95- 96.
2- الفصول الغرویة: 81/ السطر 4، و 86/ السطر 12.
3- من أنّ المراد من المقدّمة الموصلة إمّا أن یکون ما یترتّب علی وجودها ذوها، یعنی: ما ینطبق علیه الموصل بالحمل الشائع، أو یکون عنوان الموصل. و علی الثانی: إمّا أن یکون المراد هو الإیصال الخارجی، أو العنوان المنتزع. و علی الأوّل من هذه الاحتمالات: إمّا یکون المراد ما یترتّب علیه ذو المقدّمة علی وجه یکون هو المؤثّر فیه، أو یکون أعمّ من ذلک ... إلی آخر ما ذکره. لاحظ درر الفوائد: 114.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 189

خلاف عادته التی کانت علی الاختصار- احتمالات ربّما لا یکون مرتبطاً بمقاله، و ربما یکون صریح کلامه بخلافه. فلا وجه لذکرها و رفضها بعدم إرادته إیّاها، أو کونها خلاف ظاهر عبارته. فالأولی الاقتصار بذکر ما هو مراده، ثمّ الإشارة إلی ما قیل أو یمکن أن یقال فی مقاله، ثمّ الإشارة إلی ضعفه:

قال صاحب «الفصول» قدس سره: إنّ الواجب من المقدّمة هی المقدّمة الموصلة بما هی موصلة، بحیث یکون الإیصال قیداً للواجب، لا قیداً للوجوب حتّی یلزم أن لا یکون خطاب بالمقدّمة أصلًا علی تقدیر عدمه؛ فإنّ ذلک متّضح الفساد، کیف و إطلاق وجوبها و عدمها تابع لإطلاق وجوبه و عدمه؟!

و بالجملة: مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب و المطلوبیة من حیث کونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب علیها وجود ذی المقدّمة؛ حتّی إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف الوجوب و المطلوبیة؛ لعدم وجودها علی الوجه المعتبر. فالتوصّل بها إلی الواجب من قبیل شرط الوجود لها، لا من قبیل شرط الوجوب(1). ثمّ تصدّی بذکر ما یحتجّ به لمطلوبه.

ثمّ إنّه اورد علی مقال صاحب «الفصول» قدس سره إشکالات کثیرة، و الحقّ عدم ورود شی ء منها علیه، و لکن تشحیذاً للذهن و توضیحاً لمقاله نذکر مهمّاتها، ثمّ نشیر إلی ما فیها(2):


1- الفصول الغرویة: 86/ السطر 12.
2- قلت: أشار سماحة الاستاذ- دام ظلّه- إلی مرام صاحب« الفصول» قدس سره و أوضح مقاله بذکر الإیرادات علی مقاله و دفعها، و لم یصرّح هنا بما ذهب إلیه، إلّا أنّه یظهر من خلالها مختاره، فارتقب.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 190

منها: إشکال الدور

یقرّر ذلک من وجوه:

الوجه الأوّل هو: أنّ توقّف ذی المقدّمة علی وجود المقدّمة أمر وجدانی، فلو کانت المقدّمة الواجبة هی المقدّمة الموصلة فإنّما تحصل إذا اتی بذیها.

فذو المقدّمة یتوقّف علی المقدّمة، و المقدّمة علی ذیها؛ لأنّه لو لا ذیها لما تحقّق فیه الإیصال، و هو الدور(1)

. و فیه: أنّه التبس مراد صاحب «الفصول» قدس سره علی المورد؛ و ذلک لأنّ صاحب «الفصول» قدس سره لم یرد إثبات أنّ الموقوف علیه هی المقدّمة الموصلة حتّی یتوجّه علیه الإشکال، بل مراده: أنّ الذی یحکم به العقل و یکون واجباً لیس ذات المقدّمة، بل لأجل الغیر؛ فوجود ذی المقدّمة موقوف علی ذات المقدّمة لا بقید الإیصال، و اتّصاف المقدّمة بالموصلیة تتوقّف علی وجود ذی المقدّمة؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه؛ فلا دور.

و بالجملة: الموقوف هو توقّف ذی المقدّمة علی ذات المقدّمة، و أمّا المقدّمة فلا تکاد تتوقّف علی ذیها، و إنّما یتوقّف انتزاع عنوان الموصلیة علی ذیها، نظیر العلّیة و المعلولیة؛ فإنّ ذات المعلول تتوقّف علی ذات العلّة و تتأخّر عنها، و لکن انتزاع العلّیة و المعلولیة یتوقّف علی وجود المعلول خارجاً.

الوجه الثانی: ما قرّبه شیخنا العلّامة الحائری؛ فإنّه قدس سره- بعد أن ذکر مطالب علی خلاف عادته التی کانت مبنیة علی الاختصار- توصّل إلی إشکال الدور؛ فقال


1- فوائد الاصول 1: 290.

ص: 191

ما حاصله: إنّ مناط الطلب الغیری لیس إلّا التوقّف و احتیاج ذی المقدّمة إلی غیره، و تقیید موضوع الطلب بقیدٍ- کالاتّصال- لا بدّ و أن یکون بلحاظ دخله فی الغرض.

و بعبارة اخری: المصلحة المقتضیة للطلب لا یحصل إلّا فی المقیّد- کتقیید الصلاة بالطهارة- و لا یعقل تقیید طلب المقدّمة بالإیصال بعد؛ بداهة أنّ المناط لیس إلّا التوقّف؛ لأنّ الإیصال عنوان ینتزع من وجود ذی المقدّمة، فهو موقوف علیه.

فلو توقّف ذو المقدّمة علی الفعل المقیّد بالإیصال یلزم الدور، و هذا واضح بأدنی تأمّل(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ القول بوجوب المقدّمة لأجل التوقّف و دعوی البداهیة یلازم القول بمقال المحقّق الخراسانی قدس سره من وجوب ذات المقدّمة(2). مع أنّ شیخنا العلّامة قدس سره یری اعتبار لحاظ الإیصال- کما سنشیر إلیه- فدعوی البداهة منه غیر وجیه.

و ثانیاً: أنّ لصاحب «الفصول» قدس سره أن یقول: إنّ وجوب المقدّمة لم یکن لأجل التوقّف، بل لأجل التوصّل؛ فمتعلّق الوجوب علی مسلکه أخصّ من الموقوف علیه؛ فلا دور. و بالجملة: إشکال الدور غیر وارد علی صاحب «الفصول» قدس سره؛ لأنّه یری أنّ الموصل بما هو موصل، له الملاک، لا الموقوف علیه؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه، فتدبّر.

الوجه الثالث- و هو أوهن الوجوه- و هو: أنّ وجوب المقدّمة ناشئ من وجوب ذیها، بناءً علی الملازمة؛ فلو اعتبر قید الإیصال فی المقدّمة یلزم ترشّح وجوب ذی المقدّمة من وجوبها فیلزم الدور.


1- درر الفوائد، المحقق الحائری: 116- 117.
2- کفایة الاصول: 143.

ص: 192

و بالجملة: یلزم أن یکون الواجب النفسی مقدّمة لمقدّمته و واجباً بوجوب ناشئ من وجوبها، و هو یستلزم الدور(1)

. و فیه: أنّ الوجوب الناشئ من ذی المقدّمة وجوب مقدّمی، و هو غیر الوجوب الناشئ من المقدّمة؛ لأنّه نفسی.

و بالجملة: وجوب الکون علی السطح- مثلًا- وجوب نفسی، و ینشأ منه وجوب علی المقدّمة، و ینشأ من الوجوب الناشئ من المقدّمة وجوب؛ فلو تمّ هذا الإشکال فهو إشکال برأسه غیر إشکال الدور.

و بعبارة أخصر: أنّ وجوب الواجب الناشئ منه وجوب المقدّمة لم ینشأ من وجوب ذیها حتّی یدور.

فظهر: أنّ إشکال الدور بتقاریبه غیر وارد علی ما ذهب إلیه صاحب «الفصول» قدس سره.

و منها: إشکال التسلسل

و یقرب ذلک بوجهین:

الوجه الأوّل: أنّه لو کانت المقدّمة بقید الإیصال واجبة، فواضح أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی الذات و قید الإیصال، و حیث إنّ المفروض: أنّ المقدّمة الموصلة واجبة تکون الذات بقید الإیصال واجبة، و الإیصال بقید إیصال آخر، فینحلّ کلّ من الذات و قید الإیصال إلی مرکّبین، و ینحلّ المرکّبان إلی أربع مرکّبات، و هی إلی ثمانیة و هکذا ... فیلزم وجود سلاسل غیر متناهیة.


1- أجود التقریرات 1: 237- 238.

ص: 193

و بعبارة اخری: أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی ذات و قید، و فی کلٍّ منهما مناط الوجوب للتوقّف، فعلی وجوب المقدّمة الموصلة یجب أن تکون الذات بقید الإیصال واجبة، و قید الإیصال أیضاً بقید الإیصال واجباً؛ فیتقیّد کلٌّ منهما بإیصال آخر، و هلمّ جرّاً.

و فیه: أنّ هذا الإشکال نظیر الإشکال علی القائلین بأصالة الوجود؛ بأنّه لو کان الوجود موجوداً یلزم أن یکون للوجود وجود، فینحلّ إلی وجودین، و هما إلی وجودات، و هکذا ... فیوجب سلاسل غیر متناهیة. فوزان جواب الإشکال فیما نحن فیه وزان ما اجیب به هناک(1)

. و حاصل ما هناک هو: أنّ تحقّق کلّ شی ء و وجوده إنّما هو بالوجود، و لکن الوجود موجود بنفس ذاته لا بشی ء آخر، فلا یتسلسل.

فنقول هنا: إنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی ذات و قید الإیصال، فالذات موصلة بالذات، فلا معنی لتقییدها بإیصال زائد علی هذا الإیصال؛ للزومه تکرّر الموصل بداهة، و لا یکون للإیصال إیصال؛ لامتناع تکرّر الإیصال إلی المطلوب.

و الحاصل: أنّه لا معنی لتقیید الإیصال بإیصال آخر، و لا تقیید الذات بإیصال زائد علی هذا الإیصال؛ لامتناع تکرّر الموصل و الإیصال.

الوجه الثانی: ما قرّبه المحقّق النائینی قدس سره، و هو: أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی أمرین: أحدهما الذات، و الآخر قیدیة التوصّل و لو علی وجه دخول التقیید و خروج القید، فتکون الذات مقدّمة لحصول المقدّمة المرکّبة، کما هو الشأن فی جمیع أجزاء المرکّب، حیث یکون وجود کلّ جزء مقدّمة لوجود المرکّب، مثلًا: لو کان الوضوء


1- انظر الحکمة المتعالیة 1: 39- 40، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 11.

ص: 194

الموصل إلی الصلاة مقدّمة أو السیر الموصل إلی الحجّ مقدّمة، فذات الوضوء و السیر تکون مقدّمة للوضوء الموصل و السیر الموصل، و إذا اعتبر فیه قید الإیصال أیضاً یلزم التسلسل، فلا محیص- بالأخرة- من أن ینتهی إلی ما تکون الذات مقدّمة. فإذا کان الأمر کذلک فلتکن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذیها، من دون اعتبار قید التوصّل(1)

. و فیه: أنّ هذا التقریب أسوأ حالًا من التقریب السابق؛ و ذلک لأنّ القائل بوجوب المقدّمة الموصلة یری أنّ الموصل إلی ذی المقدّمة- الذی یکون واجباً نفسیاً- واجب، فالموصل إلی المقدّمة التی تکون واجبة غیریة خارج عن موضوع کلامه.

و بعبارة اخری: الملاک الذی یری القائل بوجوب المقدّمة الموصلة لا یکون بالنسبة إلی هذه المقدّمة؛ لأنّه یری أنّ الوجدان و البرهان قائمان علی أنّ ذات المقدّمة ربّما لا تکون مطلوبة و محبوبة، بل تکون مبغوضة. فمطلوبیتها إنّما هی لأجل مطلوب نفسی فوقه- و هو ذو المقدّمة- فمطلوبیة المقدّمة إنّما هی لأجل الإیصال إلی ذیها، و هذا الملاک غیر موجود فی جزء الجزء، بل الجزء و جزء الجزء و هکذا ... کلّها مطلوبات لأجل ذی المقدّمة، لا أنّ جزء الجزء مطلوب للجزء مثلًا.

و بعبارة ثالثة: لا یقول صاحب «الفصول» قدس سره: إنّ کلّ موقوف علیه واجب، و لا یری أنّ جمیع أجزاء المرکّب واجبة، بل یری أنّ الواجب أخصّ من الموقوف علیه؛ فإن کان الواجب مرکّباً من عدّة أجزاء، و أجزاؤها من أجزاء، و هکذا ... فما یکون واجباً لدیه هو الجزء الموصل إلی ذی المقدّمة؛ فأین التسلسل؟! فتدبّر.


1- فوائد الاصول 1: 290.

ص: 195

و من الإشکالات علی مقال صاحب «الفصول» قدس سره: أنّه لو وجبت المقدّمة الموصلة یلزم کون الواجب النفسی واجباً غیریاً؛ و ذلک لأنّه لو وجبت المقدّمة الموصلة تکون ذو المقدّمة مقدّمة لمقدّمته، فیکون مقدّمة لنفسه، فیلزم أن یکون ذو المقدّمة بما أنّه مقدّمة لنفسه واجباً غیریاً، و حیث إنّه کان واجباً نفسیاً فیلزم الجمع بین الوجوب النفسی و الغیری.

و بعبارة اخری: لو وجبت المقدّمة الموصلة یلزم أن یکون ذو المقدّمة من مبادئ مقدّمته، و به یصیر واجباً غیریاً، کما هو واجب نفسی. بل یلزم اجتماع وجوبات غیریة بعدد المقدّمات لو تعدّدت؛ لأنّ المفروض: أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة، فیترشّح منه إلی کلّ من الذات و قید الإیصال وجوب غیری. و إن شئت قلت: یترشّح من ذی المقدّمة وجوب غیری علی نفسه، و هو کما تری(1)

. و فیه: أنّ القائل بالمقدّمة الموصلة یری أنّ ما یتعلّق به الوجوب الغیری، هو المقدّمة مع قید الإیصال إلی ذی المقدّمة، فیعتبر فیه أمران: الأوّل کونه موقوفاً علیه، و الثانی کونه موصلة إلی ذی المقدّمة؛ فلا تکون نفس نصب السلّم- مثلًا- واجباً عنده، بل النصب بما أنّه یتوقّف علیه الکون علی السطح و یتوصّل به إلیه، و واضح:

أنّه یستحیل أن یکون نفس ذی المقدّمة موقوفاً علی نفسه، و أن یکون موصلًا إلی نفسه؛ فلا یتعلّق به الوجوب الغیری، و توقّف وصف المقدّمة علی وجوده لا یستلزم تعلّق الوجوب به. فذات المقدّمة حیث لم تکن موصلًا فلا تتّصف بالوجوب الغیری حتّی یتّصف بالوجوبات الغیریة المتعدّدة بعدد المقدّمات، فتدبّر.

و منها: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة یستلزم إنکار وجوب المقدّمة فی غالب


1- درر الفوائد، المحقق الحائری: 119، نهایة الاصول: 195، لمحات الاصول: 154.

ص: 196

الواجبات؛ لعدم کون الإیصال أثر تمام المقدّمات، فضلًا عن إحداها؛ فلا بدّ من الالتزام باختصاص الوجوب بمقدّمات هی علّة تامّة لترتّب ذیها علیها- أی الأفعال التسبیبیة و التولیدیة- و أمّا فی غیرها فلا بدّ من توسّط الإرادة بین ذی المقدّمة و مقدّماتها، و الالتزام بوجوب الإرادة التزام بالتسلسل؛ لاستلزام الإرادة إرادةً اخری، و هکذا(1)

. و فیه: أنّ المراد بالموصلة لیس خصوص ما یترتّب علیه ذو المقدّمة قهراً و بلا واسطة حتّی یرد علیه الإشکال، بل المراد الأعمّ منه و ما یترتّب علیه بوسائط.

فالمراد بالمقدّمة الموصلة ما یقع بعدها الواجب- سواء کان بلا واسطة، أو مع واسطة أو وسائط- لا مطلق المقدّمة و إن لم یقع الواجب بعدها. فالقدم الأوّل إلی الحجّ قد یکون موصلًا- و لو مع وسائط کثیرة- إذا تعقّبه الحجّ، و قد لا یکون موصلًا إذا لم یتعقّبه الحجّ.

و أمّا إشکال الإرادة: فربّما تکرّر فی کلماتهم: أنّ الإرادة غیر اختیاریة و غیر قابلة لتعلّق الأمر بها(2)

. ففیه أوّلًا: أنّه- کما تقدّم فی التعبّدی و التوصّلی- أنّها اختیاریة قابلة لتعلّق التکلیف بها، کیف و التعبّدیات کلّها من هذا القبیل و قد وقع القصد مورداً للوجوب؟!

و ثانیاً: لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فالإرادة أیضاً من المقدّمات، فیلزم اتّصافها بالوجوب، مع أنّها علی زعمکم غیر اختیاریة، فالإشکال بالإرادة مشترک


1- کفایة الاصول: 145- 146.
2- نفس المصدر: 89.

ص: 197

الورود؛ فلا بدّ و أن لا تکون الإرادة متعلّقة للوجوب؛ لاستلزامه التسلسل علی مبنی المستشکل، فما یدفع به هذا الإشکال علی القول بوجوب مطلق المقدّمة، هو الجواب علی القول بالمقدّمة الموصلة، فتدبّر.

و منها: أنّ مقتضی القول بوجوب المقدّمة الموصلة عدم سقوط الأمر بالمقدّمة إلّا بعد إتیان ذی المقدّمة، مع أنّ سقوط الأمر بمجرّد الإتیان بالمتعلّق واضح(1)

. و فیه: أنّه علی القول بالمقدّمة الموصلة لا بدّ و أن لا یسقط الأمر بالمقدّمة إلّا إذا ترتّب علیه ذو المقدّمة، فذات المقدّمة لم تتعلّق بها الأمر حتّی یسقط بإتیانه، بل المتقیّدة بقصد الإیصال مأمور به، و هی لا تسقط إلّا بإتیان قیدها. فدعوی وضوح سقوط الأمر بمجرّد إتیان المقدّمة فی غیر محلّها.

و منها: ما فی تقریرات المحقّق العراقی قدس سره، و لکن عبارته لا تخلو عن التسامح؛ فالحریّ أن تحرّر بهذا النحو، و هو: أنّه لو کانت المقدّمة المقیّدة بالإیصال واجبة یلزم تقیید الواجب بشی ء لا یمکن الانفکاک عنه؛ لأنّ المقدّمة الموصلة أو التی یترتّب علیها ذو المقدّمة لا ینفکّ عن ذیها، فیلزم أن یکون الواجب- أی المقدّمة- مقیّداً بشی ء علی فرض وجوده لا ینفکّ عن ذی المقدّمة، و هذا بمنزلة تحصیل الحاصل؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمقیّد یدعو إلی الذات و القید، فإذا کانت ذات غیر منفکّ عن القید فالدعوة إلی الذات دعوة إلی القید. و بالجملة: إذا کانت المقدّمة تولیدیاً بالنسبة إلی ذیها- مثلًا- فإذا أمر مقیّداً بحصول ذیها عقیبه فمقتضاه تقییده بشی ء یکون حاصلًا و غیر منفکّ عنه(2)، انتهی.


1- کفایة الاصول: 146.
2- بدائع الأفکار 1: 388.

ص: 198

و فیه: أنّه یظهر جوابه ممّا ذکرناه آنفاً، و حاصله: أنّ مراد القائل بالمقدّمة الموصلة لیست الموصلة غیر المنفکّ عن ذیها، بل یری أنّ کلّ مقدّمة من المقدّمات- سواء کانت بینها و بین ذیها فاصلة طویلة أو قصیرة، أو لم تکن فاصلة- حیث إنّها لم تکن مطلوبة بالذات- بل لأجل ذیها- فإن انضمّت إلی المقدّمة سائر المقدّمات و حصل ذوها، تقع المقدّمة علی صفة المطلوبیة.

نعم، لو کان مراد القائل بالموصلة هو القول بأنّ المقدّمة السببیّة واجبة، یتمّ الإشکال، لکنّه من الواضح: أنّه لم یکن مراد صاحب «الفصول» قدس سره، و إلّا یلزم التفصیل بین السبب و غیره، لا الموصل و غیره.

و بالجملة: مراد القائل بالمقدّمة الموصلة هو أنّ المقدّمة حیث تقع فی الخارج علی قسمین: أحدهما المقدّمة التی تنضمّ إلیها سائر المقدّمات و یحصل ذوها، و الثانی المقدّمة التی لیست کذلک، و الواجب من القسمین هو الأوّل منهما، فإتیان المقدّمة عنده للوصول إلی ذیها؛ سواء کانت بینها و بین ذیها واسطة أم لا.

نعم، المقدّمة السببیة حیث إنّها لا تنفکّ عن ذیها لا یحتاج إلی قید الإیصال فیها.

فتحصّل لک ممّا ذکرنا: أنّ مقال صاحب «الفصول» قدس سره- مضافاً إلی أنّه لم یکن فیه محذور عقلی- مطابق للوجدان؛ لأنّ من یرید شیئاً یتوقّف حصوله علی مقدّمات یرید المقدّمات، لکن لا لأجل ذواتها، بل لأجل الوصول إلی ذاک، و إلّا فقد تکون المقدّمات مبغوضة لدیه، و لذا لو أمکن للشخص أن یصل إلی ذاک الشی ء بدون التوصّل إلی مقدّمة لرفض المقدّمات و خلّی بینه و بین ذاک الشی ء. و لکن حیث إنّ العالَم عالم التزاحم و لا یکاد یمکن فیه الوصول إلی الغایات إلّا بالتوصّل بالمقدّمات فیریدها للتوصّل بها إلی ذیها. فالوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّ المقدّمة الموصلة واجبة.

ص: 199

حول مقال العلمین الحائری و العراقی
اشارة

ثمّ إنّ المحقّقین الحائری و العراقی 0 حیث رأیا أنّ وجدانهم یقضی بکون المقدّمة الموصلة واجبة، و لکن استصعبوا بعض الإشکالات التی أوردناها و أجبنا عنها- بحول اللَّه و قوّته- تصدّیا لتصویرها بنحوٍ خالٍ عن الإشکال.

و لکن الإنصاف: أنّ ما ذکراه- مضافاً إلی أنّه غیر خالٍ عن الإشکال فی نفسه- یتوجّه علیه الإشکالات التی أوردناها.

و کیف کان: قال شیخنا العلّامة الحائری قدس سره: یمکن أن یقال: إنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات ذواتها، لکنّها فی لحاظ الإیصال، لا مقیّداً به حتّی تلزم المحذورات السابقة؛ و ذلک لأنّ المقدّمة قد تلحظ مع سائر المقدّمات المنتظمة(1) الواقعة فی طریق مبادئ المطلوب، و قد تلحظ منفکّة عن سائر المقدّمات، و واضح: أنّها إذا لوحظت منفکّة لا یریدها جزماً؛ فإنّ ذاتها و إن کانت مورداً للإرادة، لکنّها لمّا کانت المطلوبیة فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لم تکن کلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق، بحیث تسری الإرادة إلی حال انفکاکها عن باقی المقدّمات. فتحصّل: أنّ المقدّمة ذاتها مطلوبة فی لحاظ الإیصال- لا مقیّداً بالإیصال، و لا مطلقة- و لکن لا ینطبق إلّا علی المقیّدة، و هذا الذی ذکرناه مساوق للوجدان، و لا یرد علیه ما یرد علی القول باعتبار الإیصال قیداً، و إن اتّحد معه فی الأثر(2)، انتهی.


1- حکی سماحة الاستاد- دام ظلّه- عن شیخه: أنّه کان یعبّر عنها فی مجلس الدرس ب« مقدّمات رج کرده».
2- درر الفوائد، المحقق الحائری: 119.

ص: 200

و قال المحقّق العراقی قدس سره بتقریب آخر، و هو: أنّ الواجب لیس مطلق المقدّمة، و لا خصوص المقیّدة بالإیصال، بل الواجب هو المقدّمة فی ظرف الإیصال بنحو القضیة الحینیة. و بعبارة اخری: الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات الملازم لوجود ذی المقدّمة(1)

. و کلا العلمان صرّحا بأنّ مقالهما موافق للوجدان. و أورد المحقّق العراقی قدس سره علی نفسه: بأنّه ما وجه العدول عن کون الواجب هو المقدّمة الموصلة، إلی اختیار أنّ الواجب هو المقدّمة فی ظرف الإیصال، مع الاعتراف بأنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمات هو التوصّل إلی ذیها؟

فأجاب بما حاصله: أنّ ما ذکره صاحب «الفصول» قدس سره غیر سلیم عن الإشکال، و أمّا الذی ذکرناه فسلیم عنه(2)

. و لا یخفی: أنّ المقالتین قریبتا المأخذ، و ما ذکراه- مضافاً إلی أنّه غیر سلیم عن الإشکال- یتوجّه علیه إشکال آخر، و حاصله: أنّ المقدّمات المنتظمة أو المقدّمات فی ظرف الإیصال إذا کانت واجبة، فهل لها دخالة فی موضوعیة الحکم، أم لا؟

فعلی الثانی یلزم أن یکون انتظام المقدّمات من باب الاتّفاق، فتکون ذوات المقدّمات واجبة؛ لأنّها تمام الموضوع للحکم، و إن زالت تلک الحالة. و بالجملة: إن لم یکن لانتظام المقدّمات دخالة فی موضوعیة الحکم فیکون تمام الموضوع نفس الذات؛ انتظمت المقدّمات معها أم لا و لا یعقل رفع الحکم عنها بدون الانتظام.


1- بدائع الأفکار 1: 389.
2- نفس المصدر 1: 391.

ص: 201

و علی الأوّل فلا محالة تکون قیداً للمتعلّق، فینطبق علی مقال صاحب «الفصول» قدس سره.

و الحاصل: أنّه لو کانت ذوات المقدّمات واجبة فمحال أن ینفکّ عنها فی صورة عدم الانتظام، فبانفکاک الحکم عنها فی تلک الصورة یستکشف عن دخالة الانتظام، و هو مقال صاحب «الفصول»، فتدبّر. هذا ما فی کلام شیخنا العلّامة قدس سره.

و قریب من ذلک ما فی کلام المحقّق العراقی قدس سره، بل کلامه أسوأ منه؛ و ذلک لأنّ معنی اعتبار الشی ء حیناً هو عدم خصوصیته له، بل اخذ بعنوان الظرف لمعرّفیة الموضوع، کقولک: «أکرم زیداً الذی یکون فی المسجد»؛ فإنّه لم یکن للجلوس فی المسجد خصوصیة؛ فکما لا یکون للکون فی المسجد خصوصیة فی موضوعیة زید لوجوب الإکرام، فکذلک لا خصوصیة لظرف الإیصال فی موضوعیة ذوات المقدّمات للحکم؛ فالذوات واجبة، و التوأمیة لا خصوصیة لها.

مضافاً إلی أنّه- کما أشرنا إلیه غیر مرّة- أنّ الحصّة لا تصیر حصّة إلّا بالتقیید؛ لأنّه بالتقیید تصیر متمیّزة عن غیرها، و إلّا فهی باقیة علی إطلاقها، فإن قیّدت فلیس القید إلّا الإیصال، و هو لیس إلّا مقال صاحب «الفصول» قدس سره.

فظهر: أنّ العلمین 0 قصدا الفرار عن الإشکال، و لکنّه توجّه علیهما بنحو أشدّ، فتدبّر.

توجیه و تزییف

و یمکن أن یقرّر کلام العلمین 0 بوجهٍ آخر- و إن کان هذا الوجه خلاف ظاهر عبارتهما- و هو: أنّ المقدّمة و کذا غیرها إذا وجبت لغایة فلا یمکن أن تکون مطلق المقدّمة واجبة، و لا المقدّمة مقیّدة بالغایة واجبة:

ص: 202

أمّا الأوّل: فیلزم منه أن تکون واجبة لا لغایة، فیکون وجوبها جزافیاً.

و أمّا الثانی: فلامتناع التقیید بالغایة؛ لأنّ العلّة الغائیة مقدّمة تصوّراً و متأخّرة وجوداً؛ لأنّه یتصوّر الغایة فی الرتبة المتقدّمة فیتحرّک نحوها، و حیث إنّ وجودها خارجاً متوقّف علی مقدّمات فیأتی بها فتوجد بعد. فإذا ظهر أنّهما فی رتبتین فلا یکاد یمکن أن یقیّد الشی ء بما یتقدّم علیه أو یتأخّر.

و بالجملة: المقدّمات حیث إنّها معلّلة بالأغراض فلها نحو دخالة فی تضیّق دائرة الإرادة، فلا تکون مطلق المقدّمة، و لا المقدّمة المقیّدة واجبة. نعم لها نحو دخالة توجب أن لا ینطبق إلّا علی المقیّد.

و لکن بعد اللتیّا و التی لا یتمّ هذا التوجیه أیضاً، و لا یصحّ الالتزام به؛ لما أشرنا و سیظهر لک جلیاً عند ذکر کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره: أنّ البحث فی الملازمة حیث إنّها عقلی فلا بدّ من تدقیق النظر فیها، و الجهات التعلیلیة فی حکم العقل ترجع إلی الجهات التقییدیة، فلم یکن عند العقل واسطة و ذو واسطة و ترتّب ذی الواسطة علیها، بل جمیع القیود دخیلة فی الموضوع. فإذن قولنا لغایة الإیصال مرجعه إلی موضوعیة الحیثیة الموصلة، فتدبّر.

حول مقال المحقّق الأصفهانی فی المقام
اشارة

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانی قدس سره حیث رأی أنّ ما ذهب إلیه صاحب «الفصول» قدس سره موافق للعقل و الوجدان، و لکن استصعب علیه بعض الإشکالات المتقدّمة، تصدّی لتصحیح المطلب بوجهین:

الوجه الأوّل بما حاصله: أنّه لا إشکال فی أنّ الغرض الأصلی و المطلوب

ص: 203

الأوّلی و الواقعی إنّما هو ذو المقدّمة. و أمّا المقدّمات فمتعلّقة للغرض تبعاً لترتّب وجوده علی وجودها إذا وقعت علی ما هی علیه من اتّصاف السبب بالسببیة، و الشرط بالشرطیة، و فعلیة دخله فی تأثیر المقتضی أثره، فوقوع کلّ مقدّمة علی صفة المقدّمیة الفعلیة ملازم لوقوع الاخری علی تلک الصفة و وقوع ذیها فی الخارج، و إلّا فذات الشرط المجرّد عن السبب، أو السبب المجرّد عن الشرط، أو المُعدّ المجرّد عن وقوعه فی سبیل الإعداد، مقدّمة بالقوّة لا بالفعل، و مثلها غیر مرتبط بالغرض الأصیل المترتّب علی وجود ذی المقدّمة؛ فلا تکون مطلوبة بالتبع. و لیس الفرق بین الموصل و غیره إلّا بالفعلیة و القوّة و ملازمة الأوّل لذی المقدّمة و عدم ملازمة الثانی له.

و الحاصل: أنّ صیرورة المقدّمة مقدّمة فعلیة إنّما هی بأمرین: أحدهما:

وجود سائر المقدّمات، و الثانی: ترتّب ذی المقدّمة علیها، و إلّا تکون مقدّمة بالقوّة، و هذا یکون موافقاً للوجدان، مع سلامته عن الإشکالات؛ لأنّه لم تقیّد المقدّمة بالإیصال.

الوجه الثانی بما حاصله: أنّه بعد ما عرفت من تعلّق الغرض الأصیل بذی المقدّمة و الغرض التبعی بالمقدّمة، و المقدّمات علّة و محصّلة لغرضه الأصیل، فالعلّة التامّة هی المرادة بتبع إرادة المعلول؛ فکما أنّ الإرادة الفعلیة بذی المقدّمة واحدة و إن کان مرکّباً، فکذلک الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة و إن کانت العلّة مرکّبة.

فکما أنّ منشأ وحدة الإرادة فی الأوّل وحدة الغرض، کذلک المنشأ فی الثانی وحدة الغرض؛ و هو الوصول إلی المعلول. و کما أنّ إتیان بعض أجزاء المعلول لا یسقط الإرادة النفسیة المتعلّقة بالمرکّب- بل هی باقیة إلی آخر الأجزاء، و إن کان یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً- فکذلک الإرادة الکلّیة المتعلّقة بالعلّة المرکّبة لا تسقط إلّا بعد حصول الملازم لحصول معلولها، و إن کان یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً.

ص: 204

و کما أنّ أجزاء المعلول لا تقع علی صفة المطلوبیة إلّا بعد التمامیة، فکذلک أجزاء العلّة لا تقع علی صفة المطلوبیة المقدّمیة إلّا بعد التمامیة؛ لوحدة الطلب فی کلیهما، و منشؤها وحدة الغرض(1)، انتهی.

أقول: هذا الکلام من هذا المحقّق المتضلّع فی فنّ المعقول غیر مترقّب، مع تصریحه قریباً برجوع الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة إلی الحیثیات التقییدیة و ذلک لأنّ البحث عن الملازمة بین المقدّمة و ذیها عقلی یراد أن یستکشف بها حکم شرعی، و لم یکن البحث عرفیاً حتّی یتطرّق فیه الإهمال. فإذا کان وجوب شی ء لغایة فیعلم أنّ الغایة ترتّب ذی المقدّمة علیها، و هذا عبارة اخری عن موصلیة المقدّمة. فحیثیة الإیصال و الموصلیة لا یمکن رفع الید عنها، فلا یکون لدی العقل موضوع و علّة و ترتّب الحکم علی الموضوع، بل- کما أشرنا آنفاً- یرجع جمیع القیود إلی الموضوع، بل حکم العقل بالوجوب إنّما هو بتلک الحیثیة. و ذلک لأنّ لنصب السلّم- مثلًا- جهات:

1- حیثیة کون السلّم ذا مدارج.

2- کونه شرطاً للکون علی السطح.

3- توقّف ذی المقدّمة علیها.

4- تقدّم النصب علی الکون.

5- موصلیة النصب إلی الکون بالأعمّ من الموصلیة بالواسطة أو مع الواسطة، إلی غیر ذلک.

و واضح: أنّ حکم العقل بوجوب النصب لم یکن لشی ء من تلک الحیثیات العدیدة،


1- نهایة الدرایة 2: 138.

ص: 205

بل الذی یحکم به العقل هو حیثیة ترتّب ذی المقدّمة علیها، و حیث إنّ الغایة عبارة عن عناوین الموضوع- کما تقرّر فی محلّه، و اعترف هذا المحقّق قدس سره به أیضاً- فموضوع حکم العقل عبارة عن هذا.

فإذا ثبت أنّ موضوع حکم العقل هو هذه الحیثیة، فمحال أن یستکشف حکماً شرعیاً علی موضوع أوسع أو أضیق من دائرته. فإذا کان الشرط أو السبب- بما أنّهما سببان فعلیان- ملازماً لترتّب ذی المقدّمة علیها، فالعقل یحکم بأنّ حیثیة الوجوب فیها ترتّب ذاک علیها.

و بالجملة: إن قال قدس سره: إنّ المطلوب مطلق المقدّمة، کما اعترف به المحقّق الخراسانی قدس سره(1) و غیره، فلا یتوجّه علیه هذا الإشکال. و لکن یتوجّه علیه: أنّه مخالف للوجدان، و حیث اعترف قدس سره بأنّ مقالة صاحب «الفصول» قدس سره موافق للوجدان فیکون وجوب المقدّمة لترتّب ذیها علیها، فالحیثیة التعلیلیة ترجع إلی التقییدیة، و یتعلّق الوجوب علی المقدّمة بحیثیة الإیصال. و محال أن یدرک العقل و یستکشف الحکم الشرعی علی ملازم لما أدرکه العقل؛ و هو ذات المقدّمة.

نعم، لا مضایقة فی أن یقال: إنّ الشارع علّق الحکم علی ذات المقدّمة، و لکنّه لو کان فلا یکون ذلک بملاک المقدّمیة.

فمن رأی الملازمة بین ذی المقدّمة و المقدّمة التی یترتّب علیها ذوها- و واضح:

أنّ هذا التقیید عبارة اخری عن موصلیة المقدّمة- فلا بدّ له إمّا من دفع الإشکالات- کما دفعناها بحمد اللَّه تعالی- أو یرفع الید عن وجوب المقدّمة التی یترتّب علیها ذوها.


1- کفایة الاصول: 143.

ص: 206

و الحاصل: أنّ ما یحکم العقل بوجوبه إنّما هو عنوان الموصلیة؛ فلو أمکننا تجرید ذاک العنوان عن جمیع العناوین- حتّی عنوان المقدّمیة و السببیة و العلّیة التامّة، بل و حتّی عن الذاتیة- لوجب هو، دونها.

و لکن حیث إنّ العالَم عالم المادّة و المزاحمات فلا تکاد تنفکّ الجهات بعضها عن بعض، فإن یری هذا المحقّق أنّ عنوان الموصل بما هو موصل واجب- کما اعترف به- فلا وجه لأن یکشف حکماً شرعیاً علی عنوان المقدّمة الفعلیة أو العلّة التامّة، و إن کان هاتان العنوانان ملازمین لعنوان الموصل بما هو موصل، فتدبّر.

مع أنّه یتوجّه علی ما أفاده فی الوجه الثانی- مضافاً إلی ما ذکر: أنّ عنوان الموصل لا یکاد یلازم العلّة التامّة؛ لأنّ العلّة التامّة هی التی لا تنفکّ معلولها عنها، و المراد بالموصل الأعمّ منها و ممّا تخلّل فی البین وسائط. فالموصل هو الذی یوصل إلی ذیها؛ إمّا بدون الواسطة، أو مع الواسطة، بل مع الوسائط. و لعلّ منشأ ما ذکره هو توهّم أنّ المراد بالموصل، الموصل الفعلی؛ فعبّر عنه بالعلّة التامّة.

أضف إلی ذلک: أنّ قیاس ما نحن فیه بالشی ء المرکّب عن عدّة أجزاء یجمعها وحدة الغرض، قیاس مع الفارق؛ لأنّ الصلاة- مثلًا- مرکّبة عن عدّة أجزاء، و هی التی تکون لها المصلحة، و أمّا الأجزاء فلم تکن فیها مصلحة، و الأمر الضمنی لا معنی له.

فهناک أمر واحد متعلّق بعنوان واحد، غایته تحقّق هذا العنوان فی الخارج بإتیان الأجزاء مرتّباً. و أمّا فیما نحن فیه فینطبق عنوان الموصل علی کلّ مقدّمة مقدّمة؛ لأنّ فی کلّ مقدّمة خاصّیة الموصلیة، فهذه المقدّمة بما أنّها موصلة واجبة، و هکذا سائر المقدّمات.

ص: 207

فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّ الذی یحکم به العقل- علی تقدیر ثبوت الملازمة بین المقدّمة و ذیها- هو عنوان الموصل بما هو موصل، و أمّا العناوین الاخر- سواء کانت ملازمة لذاک العنوان أم لا، من عنوان المقدّمیة، أو العلّیة التامّة، أو ترتّب وجوده علیها، أو غیر ذلک- فلا تکون واجبة، و إن فرضت کونها ملازمة لعنوان الموصل؛ فلا یکون لما ذهب إلیه صاحب «الفصول» محذور.

و الذی أوقع الأعلام الثلاث- الحائری و العراقی و الأصفهانی- و غیرهم- قدّس اللَّه أسرارهم- فی ما قالوا هو: أنّهم رأوا أنّ مقال صاحب «الفصول» موافق للوجدان، و لکنّهم استصعبوا بعض الإشکالات الواردة علی مقاله؛ فتمحّل کلّ منهم و تصدّی لتصویره بنحو خالٍ عن الإشکال.

و قد عرفت منّا- بحمد اللَّه- دفع الإشکالات الواردة، و عمدتها مشکلة الدور و التسلسل، مع أنّ ما تفصّوا به عنها غیر خالٍ عن الإشکال، و اللَّه الهادی إلی سواء الصراط.

هذا کلّه فی مقام التصوّر، و أنّه علی القول بالملازمة هل العقل یحکم بوجوب مطلق المقدّمة، أو هی بقصد الإیصال، أو حال إرادة ذی المقدّمة أو الموصلة بما هی موصلة؟ و قد عرفت لعلّه بما لا مزید علیه: أنّ الذی یحکم به العقل- علی تقدیر الملازمة- هی عنوان الموصلة بما هی موصلة؟

الاستدلال لمقال صاحب «الفصول»

فحان الإشارة إلی ما هو الحقّ فی المسألة، و التصدیق فی المسألة و أنّ العقل هل یحکم بوجوب المقدّمة، أم لا؟ و علی تقدیره هل یحکم بوجوب مطلق المقدّمة، أو خصوص المقدّمة الموصلة؟

ص: 208

و قد وقع المحقّق الخراسانی و صاحب «الفصول» 0 فی طرفی الإفراط و التفریط؛ و ذلک حیث ذهب المحقّق الخراسانی قدس سره إلی وجوب مطلق المقدّمة(1)، و اختار صاحب «الفصول» قدس سره وجوب خصوص المقدّمة الموصلة(2). و استدلّ کلٌّ منهما علی مقاله بحکم العقل.

الدلیل العقلی علی المقدّمة الموصلة

و لکن یظهر ضعف ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره من استدلال صاحب «الفصول» قدس سره؛ لأنّه استدلّ علی مقاله بأُمور، عمدتها ما ذکره أخیراً من الوجه العقلی، و حاصله: أنّ الذی یحکم به العقل هو أنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب و المطلوبیة من حیث کونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب علیها وجود ذیها.

و کلامه قدس سره هذا- مع اختصاره- مشتمل علی صغری وجدانیة و کبری برهانیة.

توضیحه بتقریبٍ منّا:

أمّا الصغری الوجدانیة: فهی عبارة عن أنّه کلّ ما یکون مقدّمة لشی ء، فلا تکون مطلوبة إلّا لأجل ذاک الشی ء، مثلًا: إذا کان الکون علی السطح مطلوباً فنصب السلّم إنّما یکون مطلوباً لأجل إیصاله إلی الکون علیه، فإذا أدرک العقل المقدّمة الموصلة فلا یمکن أن یستکشف منه حکم شرعی علی موضوع یکون دائرته أوسع أو أضیق منه.


1- کفایة الاصول: 143.
2- الفصول الغرویة: 86/ السطر 12.

ص: 209

و أمّا الکبری البرهانیة فهی: أنّ جمیع الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة ترجع إلی الجهات التقییدیة، و هی فیما نحن فیه حیثیة الإیصال، و تکون هی موضوعاً للحکم، بحیث لا تکون الذات موضوعاً للحکم؛ لأنّ الذی یدرکه العقل هو الموصل بما أنّه موصل، لا الذات، و لا هی مقیّدة بالإیصال. فلو أمکن انفکاک الموصلیة عن الذات لکانت الموصلیة واجبة لیست إلّا، و قد عرفته بما لا مزید علیه.

فعلی هذا: فما قاله المحقّق الخراسانی قدس سره- من أنّه لعلّ منشأ ما أفاده صاحب «الفصول» قدس سره هو الخلط بین الجهة التقییدیة و التعلیلیة(1)- غیر مستقیم؛ لأنّه یری قدس سره أنّ الجهة و إن کانت تعلیلیة و لکن العقل یری أنّ الجهة التعلیلیة عنوان للحکم، فترجع الحیثیة التعلیلیة عنده إلی الحیثیة التقییدیة، کما اقتضاه البرهان.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة- مضافاً إلی أنّه لا یکون فیه محذور عقلی- یکون الوجدان من أقوی الشواهد علی اعتباره، و اللَّه الهادی إلی سواء الطریق.


1- کفایة الاصول: 150.

ص: 210

الأمر السابع فی ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة

اشارة

ثمّ إنّه تظهر الثمرة بین القول بوجوب المقدّمة الموصلة، و القول بوجوب مطلق المقدّمة فی تصحیح العبادة إذا کان ترکها مقدّمة لواجب أهمّ بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة، و فسادها لو کان مطلق المقدّمة واجبة.

و ذلک لأنّه إذا کان ترک ضدّ مقدّمة لفعل ضدّ آخر أهمّ کترک الصلاة إذا کان مقدّمة لإنقاذ نفس محترمة مثلًا و قلنا بأنّه إذا کان الضدّ العامّ أو نقیض شی ء واجباً- کترک الصلاة فی المفروض- یکون نقیضه- و هو فعل الصلاة فی المفروض- حراماً، و بالعکس إذا کان حراماً یکون نقیضه واجباً، و قلنا بأنّ النهی عن العبادة موجب لفسادها.

فإذا تمهّد هذه الامور: فعلی القول بوجوب مطلق المقدّمة تکون صلاته فی المفروض باطلة؛ لأنّ ترک الصلاة مقدّمة لواجب أهمّ- و هو إنقاذ نفس محترمة- فیکون واجباً، و أشرنا: أنّه إذا کان ترک شی ء واجباً یکون فعله- و هو الصلاة فی المفروض- حراماً و منهیاً، و النهی عن الصلاة موجب لفسادها؛ فتقع الصلاة باطلة.

و أمّا علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة فحیث لا یکون مطلق ترک المقدّمة واجباً- بل الترک الموصل إلی الإنقاذ واجب- و حیث إنّ نقیض هذا الترک لیس إلّا ترک هذا الترک، لا فعل الصلاة، و لا الترک غیر الموصل؛ لأنّ نقیض کلّ شی ءٍ رفعه أو مرفوع به، و هو واضح کما قرّر فی محلّه. و نقیض الواحد لیس إلّا واحداً، و ذلک

ص: 211

لأنّه لو کان لشی ء واحد نقیضان یلزم اجتماع النقیضین أو ارتفاعهما؛ لأنّه إذا کان لکلٍّ من «ب» و «ج» نقیض مستقلّ؛ و هو «الألف» ف «ج» و «ب» لم یکونا متناقضین، فهما إمّا متلازمان أو لا، لا سبیل إلی القول بالملازمة مع کون کلّ واحدٍ منهما مناقضاً مستقلًاّ ل «الألف»؛ لأنّ المتلازمین لا بدّ و أن یکونا إمّا بین العلّة و معلولها، أو معلولی علّة واحدة، أو ینتهیا إلی علّة واحدة، و لم یکن ما نحن فیه شیئاً منها.

فإذا لم یکن بینهما ملازمة فیمکن أن یکون «ب» موجوداً دون «ج» و بالعکس. فإذا کان أحدهما موجوداً دون الآخر یلزم أن یکون «ألف» موجوداً و معدوماً.

فإذا کان «ب» موجوداً دون «ج» فمن حیث إنّ «ألف» نقیض «ب» یکون معدوماً، و من حیث إنّ «ج» غیر موجود یکون موجوداً؛ فیلزم اجتماع النقیضین و ارتفاعهما.

فظهر ممّا ذکر: أنّ نقیض الواحد محال أن یکون اثنین، بل لا بدّ و أن یکون واحداً، فنقیض ترک الموصل لیس هو إلّا ترک هذا الترک، لا فعل الصلاة، و لا الترک غیر الموصل؛ لأنّه قد لا تکون الصلاة و لا ترک الصلاة الموصل إلی فعل الإنقاذ موجوداً- و ذلک فی مورد ترک الصلاة و الإنقاذ کلیهما- فیلزم ارتفاع النقیضین.

فظهر: أنّ نقیض ترک الموصل ترکُ ترکِ الموصل، و هذا العنوان ینطبق تارةً علی عنوان الصلاة انطباقاً عرضیاً، و تارةً علی ترک غیر الموصل، و حیث إنّ الانطباق عرضی فلا یلزم أن تکون الصلاة محرّمة.

و بالجملة: انطباق عنوان ترک ترک الموصل- حیث إنّه عدمی- علی الصلاة- التی هی أمر وجودی- إنّما هو انطباق عرضی، و إلّا یلزم أن تکون الحیثیة

ص: 212

الوجودیة عین الحیثیة العدمیة، و انطباق الشی ء علی أمر عرضاً لا یلزم منه أن یکون الشی ء المنطبق علیه حراماً، بل یمکن أن یقال: إنّه لا یکون مصداقاً له عند أهله، بل یکون فعل الصلاة مصدوقاً علیه لذلک، کما لا یخفی.

و بعبارة اخری: هذه الثمرة تامّة، إجمالها: أنّه علی تقدیر وجوب مطلق المقدّمة یکون ترک الضدّ- کالصلاة مثلًا- مقدّمة للضدّ الأهمّ- کالإنقاذ- فتکون ترک الصلاة مطلقاً واجباً، فنقیضه العامّ هو فعل الصلاة؛ لأنّ التقابل بین الفعل و الترک تقابل الإیجاب و السلب؛ فکما أنّ فی المفردات یکون کلّ من العدم و الوجود یقابل الآخر تقابل الإیجاب و السلب فکذلک فعل الصلاة نقیضه ترک الصلاة، و بالعکس. فعدم الصلاة إذا کان مقدّمة للإنقاذ یکون واجباً، فنقیضه- و هو فعل الصلاة- یکون منهیاً عنه، فیقع باطلًا.

و أمّا علی تقدیر القول بالمقدّمة الموصلة فحیث إنّه لم یکن ترک الصلاة مقدّمة حسب الفرض، بل الترک الموصل إلی الإنقاذ، فنقیضه لا یکون فعل الصلاة؛ لأنّه لو کان نقیضاً یلزم ارتفاع النقیضین أحیاناً؛ و هو فیما إذا ترک الصلاة و ترک الإنقاذ.

و کذا لا یکون نقیضه فعل الصلاة و ترک غیر الموصل؛ لأنّه- کما أشرنا- نقیض الواحد لا یکون إلّا واحداً، فنقیضه ترک ترک هذا الموصل؛ لأنّ نقیض الأخصّ أعمّ. نعم لهذا النقیض مصداقان: مصداق ذاتی، و هو مطلق الترک، و مصداق عرضی، و هو فعل الصلاة.

و حیث لا یکون انطباق عنوان الترک علی فعل الصلاة ذاتیاً- بل عرضیاً- فلا یوجب حزازة فی الفعل؛ فلا یکون الفعل حراماً. بل قد عرفت أنّه فی الحقیقة لم یکن مصداقاً، بل مصدوق علیه؛ فلا تقع الصلاة علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة باطلة.

ص: 213

و لعلّک إذا أحطت بما ذکرنا تعرف: أنّه لا وقع للإشکال بأنّه لِمَ لم یصر فعل الصلاة نقیضاً لترک الموصل، مع أنّهم عرّفوا النقیض بأنّه «رفع الشی ء أو مرفوع به»، و الصلاة و إن لم تکن رفع ترک الموصل، لکنّه مرفوعاً بها؟! و لأنّ عدم کونها نقیضاً إنّما هو لأجل أنّه إذا کان فعل الصلاة نقیضاً له یلزم ارتفاع النقیضین فیما إذا ترکها و ترک الإنقاذ. و حیث إنّ ارتفاع النقیضین- کاجتماعهما- محال، یستکشف منه أنّ نقیض الترک الموصل شی ء آخر؛ و هو ترک ترک الموصل لا فعل الصلاة.

إن قلت: إنّ تقابل التناقض ما یکون بین الإیجاب و السلب، و ترک الموصل و ترک ترکه کلاهما عدمیان سلبیان، فانتقضت القاعدة المسلّمة عند الکلّ؛ من انحصار مورد التناقض فی الإیجاب و السلب.

قلت: مرادهم بالإیجاب و السلب- کما صرّحوا به- معنی أعمّ من الإیجاب و السلب الحقیقیین أو الإضافیین؛ فکما أنّ بین القیام و عدمه تقابل التناقض، فکذلک بین العدم و عدم العدم تناقض؛ لأنّ العدم بالنسبة إلی عدم العدم إیجاب و عدم العدم سلبه.

و إنّما یصار إلی الوجود و العدم الإضافیین فی مورد لا یمکن القول بالحقیقی فیهما. و ما نحن فیه کذلک؛ لأنّه بعد أن لم یمکن القول بأنّ فعل الصلاة نقیضه- لاستلزام ارتفاع النقیضین- و لا أن یکون هو مع ترک الغیر الموصل- لاستلزامه أن یکون لشی ء واحد نقیضان، و هو محال- فلا بدّ و أن یقال: إنّ نقیض ترک الموصل ترک ترک الموصل. فترک ترک الموصل بالنسبة إلی ترک الموصل أمر عدمی، و ترک الموصل بالنسبة إلیه إیجاب؛ فلم تنتقض القاعدة، فتدبّر.

ص: 214

إشکال الشیخ الأعظم علی الثمرة و إرشاد

أورد شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره علی هذه الثمرة بما حاصله: أنّه لا فرق بین المقدّمة الموصلة و المقدّمة المطلقة إلّا من جهة لم تکن فارقة؛ لأنّه بناءً علی المقدّمة المطلقة لا یکون نقیض ترک الضدّ- کالإزالة- فعل الضدّ الآخر- کالصلاة- بل نقیضه هو ترک هذا الترک، و هو ملازم للصلاة، و لأجل هذه الملازمة یقال: إنّ الصلاة منهی عنها؛ فتقع باطلة.

کما أنّه بناءً علی المقدّمة الموصلة لا یکون نقیض ترک الموصل إلّا ترک هذا الترک، و یلازم هذا العنوان عنوانین: فعل الصلاة، و الترک غیر الموصل.

و بالجملة: نقیض الترک لا یکون إلّا رفعه، و الفعل لا یکون نقیضاً له؛ لأنّه أمر وجودی.

نعم، عنوان رفع الترک یلازم الفعل، و هذه الملازمة متحقّقة علی القول بکون الواجب مطلق المقدّمة أو خصوص المقدّمة الموصلة.

و لا فرق بینهما إلّا من جهة أنّ مصداق ملازم عنوان النقیض علی القول الأوّل ینحصر فی الفعل فقط، و أمّا علی المقدّمة الموصلة فله فردان: أحدهما الفعل. ثانیهما الترک المجرّد.

و هذا الفرق غیر فارق فیما نحن بصدده؛ فإن أوجب انطباق العنوان علی لازمه الفساد فلا بدّ و أن یحکم بفساد العبادة علی القولین، و إلّا فلا کذلک(1)

. ثمّ إنّه أشکل علیه المحقّق الخراسانی قدس سره بوجود الفرق بین القولین؛ لأنّه علی


1- مطارح الأنظار: 78/ السطر 15.

ص: 215

المقدّمة المطلقة لو لم یکن الفعل عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً، بلحاظ أنّ نقیض کلّ شی ءٍ رفعه، و لکنّه متّحد معه عیناً و خارجاً؛ فإذا کان الترک واجباً فلا محالة یکون الفعل منهیاً عنه قطعاً. و أمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فلا یتّحد الفعل مع عنوان النقیض، بل لا یکون ملازماً له. و غایته هی: أن یکون مقارناً لما هو النقیض- من رفع الترک المجامع معه تارةً، و مع الترک المجرّد اخری- و لا تکاد تسری حرمة الشی ء إلی ما یلازمه، فضلًا عمّا یقارنه أحیاناً.

نعم، لا بدّ و أن لا یکون الملازم محکوماً فعلًا بحکم آخر علی خلاف حکمه، لا أن یکون محکوماً بحکمه(1)

. و یظهر من تقریرات المحقّق النائینی قدس سره: أنّه ارتضی بما ذکره المحقّق الخراسانی فی المقام إیراداً علی الشیخ الأعظم قدس سره و استجوده(2)

. أقول: لا یمکن المساعدة علی ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره، و لا علی ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره(3)

: أمّا ما أفاده الشیخ ففیه: أنّه لو کان نقیض کلّ شی ء رفعه، یلزم أن لا تکون المناقضة فی کثیر من الموارد التی لا یمکن إنکارها، بل لا یکون فی الخارج نقیض أصلًا؛ لأنّ تقابل التناقض إنّما هو بین الوجود و العدم؛ فکما أنّ العدم نقیض الوجود، فکذلک الوجود نقیض العدم؛ لأنّ المناقضة بین الطرفین. و لکن علی القول بأنّ نقیض


1- کفایة الاصول: 151- 152.
2- فوائد الاصول 1: 298.
3- قلت: و لا یخفی أنّه علی ما ذهبنا إلیه من تمامیة الثمرة یکون الإشکال علی المحقّق الخراسانی قدس سره إشکالًا علی الطریق الذی سلکه. و أمّا فی النتیجة- و هی وجود الثمرة- فنحن و إیّاه متّفقان.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 216

کلّ شی ء رفعه یلزم أن یکون العدم نقیض الوجود دون العکس، و هو کما تری. فکما أنّ العدم نقیض الوجود فکذلک الوجود نقیض للعدم؛ و لذا یقال: نقیض کلّ شی ء رفعه أو مرفوع به.

فإذن نقول: علی القول بوجوب مطلق المقدّمة لا محذور لأن یقال: إنّ فعل الصلاة- مثلًا- نقیض للترک. و أمّا علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة ففیه محذور؛ لما أشرنا من أنّ الشی ء الواحد لا یمکن أن یکون له نقیضان. فالصلاة و ترک غیر الموصل لا یکونان نقیضین لترک الموصل، بل الصلاة وحدها أیضاً لا تکون نقیضاً له؛ لاستلزامه ارتفاع النقیضین، کما تقدّم آنفاً.

فظهر: وجود الفرق بین القولین؛ لأنّ فعل الصلاة- علی القول بمطلق المقدّمة- نقیض للترک؛ فإذا وجب الترک یحرم نقیضه؛ فتفسد.

و أمّا علی المقدّمة الموصلة فلم تکن نقیضاً له، و نقیضه إنّما هو ترک ترک الموصل، و ینطبق هذا العنوان علی الصلاة انطباقاً عرضیاً، و ذلک لا یوجب الفساد.

و أمّا ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره فیظهر بعض الکلام فیه ممّا ذکرناه فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره، و هو: أنّ کلًاّ من الفعل و الترک نقیض للآخر؛ فالقول بأنّ الفعل لم یکن عین ما یناقض الترک المطلق بحسب الاصطلاح غیر سدید، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّه هل المراد باتّحاد الفعل مع ما یناقضه عیناً و خارجاً، الاتّحاد الذاتی أو الاتّحاد العرضی؟

لا سبیل إلی الأوّل؛ للزومه کون حیثیة الوجود عین حیثیة العدم، و هو محال.

و إن ارید الثانی یلزم أن لا یکون فرق بین القولین؛ لأنّه لو کفی فی الفساد الاتّحاد العرضی یلزم أن یحکم بالفساد علی القول بالمقدّمة الموصلة أیضاً؛ لأنّه یصدق علیه عرضاً، کما عرفت، و عرفت أنّه یکون مصدوقاً علیه لا مصداقاً له.

ص: 217

و ثالثاً: ما فی قوله: «إنّ الفعل علی المقدّمة الموصلة من مقارنات ما هو النقیض ...» إلی آخره؛ لاستحالة انفکاک عنوان الترک عن الفعل، کالصلاة مثلًا؛ لأنّ اتّحاد نقیض الترک المقیّد للفعل عرضاً من باب الملازمة العقلیة القطعیة، فیستحیل الانفکاک بینهما.

نعم، حیث إنّه لازم أعمّ فیمکن أن یوجد بوجود ملازم آخر- و هو الترک المجرّد- فتحقّق الانفکاک بینهما. و لکن ذلک لأجل عدم الفعل لا لوجوده و عدم حصول التقارن، و مجرّد ذلک لا یوجب أن یکون ذلک من المقارنات.

و بالجملة: کم فرق بین عدم الملازم و بین عدم وجود الملازمة! و الخلط بینهما لعلّه أوجب ذلک. و ما نحن فیه من قبیل الأوّل.

و واضح: أنّ مجرّد ذلک لا یوجب أن یکون من المقارنات ما لم ینضمّ إلیه عدم التقارن عند وجوده.

دفاع غیر مرضی عن مقال الشیخ الأعظم

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره بعد أن نقل کلام الشیخ الأعظم و المحقّق الخراسانی 0، قال: الحقّ اندفاع ما اورد علی الشیخ قدس سره. و لکنّه اختصّ ببیان یخالف ما أفاده الشیخ من حیث الأصل و البیان، بل یخالفه من حیث النتیجة أیضاً؛ و ذلک لأنّه قال ما حاصله: إنّ المقدّمة الواجبة- علی ما ذهب إلیه صاحب «الفصول» قدس سره- عبارة عن الذات المقیّدة بالإیصال، فینحلّ الواجب إلی ذات و خصوصیة. فالواجب فی الحقیقة متعدّدة، و وحدتها فی عالم الموضوعیة لیست إلّا أمراً اعتباریاً ناشئاً من وحدة الحکم، نظیر الوحدة الطارئة علی المرکّبات الخارجیة، و لا یعقل أن یکون

ص: 218

واحداً حقیقیاً؛ لاختلاف کلٍّ من الذات و التقیّد فی المقولة، و لا یخفی: أنّ مقتضی الانحلال هو عروض الحکم علی الامور المتکثّرة، و من شأنها تکثّر نقیضها، و لکن لازم تعدّد النقیض للواجب المتعدّد بالحقیقة هو مبغوضیة أوّل نقیض یتحقّق فی الخارج؛ لأنّه بوجوده یتحقّق عصیان الأمر، فیسقط، فلا یبقی موضوع لمبغوضیة غیره؛ لعدم الأمر علی الفرض.

و إن شئت مزید توضیح فنذکر المثال المعروف مع البیان؛ و هو مثال الصلاة و الإزالة: فحیث إنّ الإزالة واجب أهمّ، فالواجب علی مذهب صاحب «الفصول» ترک الصلاة المقیّد؛ فینحلّ متعلّق الوجوب الغیری إلی أمرین: ترک الصلاة، و إرادة الإزالة. و نقیض هذا المرکّب هو ما یعاند کلا جزأیه، لا عنوان بسیط کعنوان «ترک ترک الخاصّ» حتّی یشکل بأنّه لا یعقل کونه جامعاً بین الترک المجرّد و فعل الصلاة.

فنقیض ترک الصلاة هو فعل الصلاة أو ترک ترکها المنطبق علی فعلها، و نقیض إرادة الإزالة عدم إرادتها.

فإذا کان الشخص الآتی بالصلاة مریداً للإزالة فی فرض عدم إتیانه بالصلاة، فأوّل نقیض لمتعلّق الوجوب الغیری المفروض ترکّبه هو فعل الصلاة، فتصیر مبغوضة؛ لصیرورتها نقیضاً لترک الصلاة الموصل للإزالة، بعد فرض تعلّق الإرادة بالإزالة علی تقدیر عدم الإتیان بالصلاة کما تقدّم.

و أمّا إذا کان الشخص الآتی بالصلاة غیر مرید للإزالة علی تقدیر عدم الإتیان بها، فأوّل نقیض للواجب الغیری المرکّب هو عدم إرادة الإزالة، فیکون هو المبغوض، و لا تصل النوبة إلی مبغوضیة الصلاة؛ لسقوط الأمر الغیری بعصیانه بترک إرادة الإزالة، فتبقی الصلاة علی محبوبیتها؛ لأنّ ترکها فی هذا الفرض

ص: 219

لا یکون موصلًا للإزالة؛ لوجود الصارف عن الإزالة، کما فرضنا(1)، انتهی.

و أنت خبیر بمخالفة ما ذکره لما أفاده الشیخ قدس سره من حیث البیان و النتیجة؛ لأنّ مقتضی ما ذکره هو التفصیل بین الصورتین، من حیث الحکم بصحّة الصلاة فی صورة کون الآتی بالصلاة غیر مرید للإزالة علی تقدیر عدم الإتیان بها، و الحکم ببطلان الصلاة فی صورة إرادة الإزالة فی فرض عدم إتیانه بالصلاة. و أمّا الشیخ قدس سره فلا یری فرقاً بین وجوب المقدّمة الموصلة و المطلقة أصلًا، فتدبّر.

و قریب ممّا ذکره هذا المحقّق قدس سره، ما ذهب إلیه المحقّق الأصفهانی قدس سره؛ فإنّه قال:

المراد بالمقدّمة الموصلة: إمّا هی المقدّمة التی لا تنفکّ عن ذیها، أو هی العلّة التامّة.

فالمقدّمة الموصلة للإزالة علی الثانی ترک الصلاة و وجود الإرادة.

و من الواضح: أنّ نقیض المجموع من الأمرین مجموع النقیضین، و إلّا فلیس لهما معاً بهذا الاعتبار نقیض، فنقیض الترک هو الفعل، و نقیض الإرادة عدمها، فإذا وجب مجموع الترک و الإرادة بوجوب واحد حرم مجموع الفعل و عدم الإرادة بحرمة واحدة. و من الواضح: تحقّق مجموع الفعل و عدم الإرادة عند إیجاد الصلاة؛ بداهة عدم إمکان إرادة الإزالة مع الصلاة(2)، انتهی.

أقول: حیث إنّ کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره أقلّ محذوراً من مقالة المحقّق العراقی قدس سره فنشیر أوّلًا إلی ضعف ما هو المشترک بین القولین، ثمّ نشیر إلی ضعف ما یختصّ به المحقّق العراقی قدس سره:

أمّا ما یتوجّه علی مقالة العلمین فهو: أنّه- کما سبق- لا یقول صاحب


1- بدائع الأفکار 1: 395.
2- نهایة الدرایة 2: 150.

ص: 220

«الفصول» قدس سره بأنّ الذات المقیّدة بالإیصال واجبة علی نحو التقیید أو الترکیب بحیث یکون المجموع بما هو مجموع، و لا العلّة التامّة بما هی علّة واجبة، بل الواجب عنده حسب ما أدّاه برهانه هو: أنّ الواجب من المقدّمة هو عنوان الموصلة بما هی موصلة، و هی عنوان بسیط، و قد تقرّر فی محلّه: أنّ المشتقّ عنوان بسیط لا ترکّب فیه.

نعم، لو ارید تفصیله علی نحو زیادة الحدّ علی المحدود یقال: ذات ثبت له المبدأ، و لو قلنا: إنّ المشتقّ مرکّب لکن لا یضرّ ذلک بما نحن فیه؛ لأنّ البحث هنا لم یکن فی المفاهیم، بل فی الحقائق، و الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها عقلًا لا عرفاً. و الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة ترجع إلی الموضوع؛ فیکون الکلام فی أنّ عنوان الموصل بما هو موصل واجب، لا فی مفهوم الموصل عرفاً و لغةً حتّی یقال بترکّبه لدیهم.

و بالجملة: لا بدّ للخبیر الفَطِن أن یلاحظ البرهان الذی أقامه صاحب «الفصول» قدس سره لمدّعاه، و لم یَغترّ بظاهر عنوان اللفظ.

و حاصل ما أفاده- کما أشرنا- هو: أنّ الوجدان یقضی علی أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو بحیثیة الإیصال إلی ذیها، و البرهان- کما أشرنا إلیه و فصّلنا- قام علی أنّ الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة ترجع إلی الحیثیات التقییدیة، فالعقل یری أنّ الموصلیة بما هی هی واجبة لیست إلّا، فلو أمکن تحقّق هذا العنوان فی الخارج لکان هو المطلوب دون الذات. نعم ینطبق عنوان الموصل علی الذات انطباقاً عرضیاً، بحیث یکون مصدوقاً له لا مصداقاً له.

فظهر: أنّ الواجب عند صاحب «الفصول» عنوان بسیط لا ترکّب فیه.

فما یستفاد من العلمین العراقی و الأصفهانی- أنّ الواجب هو الذات المتقیّدة

ص: 221

بالإیصال؛ لیکون مرکّباً حقیقیاً و واحداً اعتباریاً- غیر مستقیم؛ لما أشرنا غیر مرّة:

أنّ الواجب عنده هو عنوان الموصل بما هو موصل، و هو عنوان بسیط، و لو انحلّ فانحلاله کانحلال الجسم إلی الهیولی و الصورة من حیث إنّه لا یکون خارجیاً.

هذا کلّه بالنسبة إلی الإشکال المشترک الورود علی العلمین، و أمّا الإشکال المتوجّه علی المحقّق العراقی قدس سره بخصوصه فهو: أنّه لو سلّم أنّ ترکّب المقدّمة الواجبة من الذات و قید الإیصال حقیقی و واحد اعتباری، و لکن لا یوجب ذلک تعدّد الحکم.

و ذلک لأنّ معنی الحکم الجائی علی الواحد الاعتباری هو: أنّ محطّ تعلّق الحکم و مرکزه لم یکن کثیراً بل العنوان الواحد الاعتباری موضوع للحکم، و إلّا فلو کان الموضوع کثیراً یلزم تعدّد الحکم حسب تعدّد الترکّب فی المرکّب الاعتباری.

و بعبارة اخری: لو رجع القول بالمقدّمة الموصلة إلی الذات و قید الإیصال یلزم أن یکون کلّ منهما واجباً مستقلًاّ، فیرجع هذا القول إلی القول بوجوب مطلق المقدّمة. فالموضوع قبل تعلّق الحکم علیه بلحاظ قیام الغرض و المصلحة به أمر واحد، و وحدة الحکم إنّما هی تبع وحدة الموضوع، لا العکس کما توهّمه هذا المحقّق.

فالموضوع الذی یلاحظه موضوعاً للحکم لا یکون کثیراً فی ذاک اللحاظ، بل هو عنوان واحد؛ و لذلک العنوان الواحد لا یکون إلّا نقیض واحد، لا نقیضان.

فنقیض عنوان الموصل هو اللاموصل.

و لو سلّم ذلک و قلنا بالتکثّر، و أنّ شأن الامور المتکثّرة تکثّر نقیضها، و لکن مع ذلک لا یتمّ ما ذکره من أنّه إذا کان للشی ء نقیضان یلزم أن یکون أوّل نقیض یتحقّق فی الخارج مبغوضاً لأنّه قد یکون فعل الصلاة مبغوضاً و ذلک إذا کان الشخص

ص: 222

مریداً للإزالة فی فرض عدم إتیانه، و قد لا یکون مبغوضاً؛ و ذلک إذا کان غیر مرید للإزالة علی تقدیر عدم الإتیان؛ و ذلک لأنّ فعل الصلاة لا یکاد ینفکّ عن إرادة ترک الإزالة أصلًا، بل یکون مسبوقة بإرادة ترکها دائماً.

فعلی ما ذکره- من مبغوضیة أوّل النقیض- یستند الترک فی جمیع الموارد إلی الإرادة فیکون الفعل غیر مبغوض دائماً، مع أنّه لا یتحقّق العصیان بإرادة ترک الواجب؛ حتّی فی الواجب المضیّق؛ و ذلک لأنّ من لم یرد إتیان فعل المأمور به- کالصلاة مثلًا- فی عمود الوقت المضروب له لم یکن عاصیاً، إلّا إذا مضی الوقت و لم یأت بالفعل. فالعصیان إنّما هو بترک الفعل، لا بإرادة ترک الفعل، و إلّا یلزم أن یُعدّ عاصیاً فی حال إرادة ترک الفعل مع بقاء الوقت المضروب له، مع أنّه خلاف الضرورة؛ فإنّ من لم یرد إتیان الفعل المأمور به و کان الوقت باقیاً یجب إتیانه فوراً ففوراً.

و مجرّد عدم إرادة الإتیان لا یوجب أن لا یتّصف الصلاة بالمبغوضیة، و العصیان إنّما هو لعدم إتیانه فی الوقت المضروب له.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه و بطوله: أنّ الثمرة المعروفة بین القولین- و هی صحّة الصلاة علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة، و فساد الصلاة علی القول بوجوب مطلق المقدّمة- تامّة لا غبار علیها، فتدبّر و اغتنم.

ص: 223

الأمر الثامن فی الواجب الأصلی و التبعی

اشارة

الأمر الثامن فی الواجب الأصلی و التبعی(1)

قسّموا الواجب إلی الأصلی و التبعی. و وقع الخلاف بعد ذلک فی أنّ هذا التقسیم هل هو بلحاظ مقام الإثبات، کما عن صاحب «القوانین» قدس سره(2)، و یظهر من صاحب «الفصول» قدس سره(3)، أو بلحاظ مقام الثبوت، کما یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره(4).


1- قلت: و لا یخفی أنّ محلّ هذا التقسیم کان ینبغی أن یکون عند ذکر أقسام الواجب عند ذکر الإطلاق و الاشتراط و التعلیق و التنجیز. و لعلّ ذکر الاستاد- دام ظلّه- هذا التقسیم هنا لأجل المتابعة عن المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة. و کیف کان: فینبغی الإشارة الإجمالیة إلی الوجوه المحتملة فی الأصالة و التبعیة، و هی- علی ما افید- ثلاثة: أحدها: أن یراد بالواجب الأصلی ما لا ینشأ عن إرادة اخری، بل هو مراد بإرادة مستقلّة غیر تابعة لإرادة اخری. فإن کان مراداً بإرادة اخری فهو واجب تبعی، کإرادة المقدّمة؛ فإنّها تابعة لإرادة ذیها. ثانیها: أن یراد بالواجب الأصلی ما لوحظ تفصیلًا للالتفات إلیه کذلک. و بالواجب التبعی ما لم یلحظ کذلک، بل لوحظ إجمالًا؛ فتکون الأصالة و التبعیة بحسب اللحاظ التفصیلی و عدمه. ثالثها: أن یراد بالأصلی ما دلّ علیه الدلیل مطابقة، کدلالة اللفظ علی المنطوق. و بالتبعی ما دلّ علیه اللفظ بالتبع، کدلالة اللفظ علی المفهوم و الملازمات. و مرجع الأوّلین إلی مقام الثبوت، کما أنّ مرجع الأخیر إلی مقام الإثبات.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- قوانین الاصول: 100/ السطر الأوّل.
3- الفصول الغرویة: 82/ السطر 7.
4- کفایة الاصول: 152.

ص: 224

و علی أیٍّ منهما لا تترتّب علیه ثمرة، و إن کان الصحیح کون التقسیم بلحاظ مقام الإثبات.

و کیف کان: فإن کان التقسیم بحسب مقام الإثبات فمرکز التقسیم الواجب فی صقع اتّصافه بالوجوب؛ فإن تعلّق الخطاب بشی ء و کان متوجّهاً إلیه یکون الواجب أصلیاً، و أمّا إذا تعلّق الخطاب بأمر آخر و لکن استفید الوجوب مِن لازم الخطاب فالواجب تبعی. فالواجب الأصلی ما استفید وجوبه بخطاب مستقلّ، و الواجب التبعی ما استفید وجوبه من لازم الخطاب.

فعلی هذا: لا منافاة بین کون شی ء واجباً أصلیاً و کونه واجباً مقدّمیاً، و لا بین کون شی ء واجباً نفسیاً و کونه واجباً تبعیاً؛ بداهة أنّه قد یکون الشی ء واجباً نفسیاً و مطلوباً لذاته و لکن لم یستفد ذلک من خطاب أصلی، بل استفید من لازم الخطاب.

و قد یکون الشی ء واجباً غیریاً و مقدّمیاً و لکنّه استفید من خطاب مستقلّ، فتدبّر.

و المراد باستفادة الوجوب من الخطاب المستقلّ ما یعمّ استفادته من لفظ خطاب أو ممّا یکشف عن الخطاب المستقلّ، کدلیل العقل و نحوه. فإن استفید الوجوب من لفظ خطاب مستقلّ أو ممّا یکشف عن خطاب کذلک فالواجب أصلی.

فإذن: المراد بالخطاب هنا ما دلّ علی الحکم الشرعی؛ فیعمّ الدلیل اللفظی و غیره، و إن استفید الحکم من لازم خطاب أو من لازم دلیل الکاشف فهو واجب تبعی؛ فالدلالة الالتزامیة و کذا دلالة الإشارة کدلالة قوله تعالی: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»(1)، و قوله تعالی: «وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ»(2) علی أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر داخلة فی التبعی.


1- الأحقاف( 46): 15.
2- البقرة( 2): 233.

ص: 225

فعلی هذا یکون تقسیم الواجب إلی الأصلی و التبعی صحیحاً معقولًا، و لکن لا یترتّب علیه ثمرة.

و لکن یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره: أنّ التقسیم لم یکن بلحاظ مقام الإثبات، بل بلحاظ مقام الثبوت: قال: الظاهر أنّ هذا التقسیم بلحاظ الأصالة و التبعیة فی الواقع و مقام الثبوت، حیث یکون الشی ء تارةً متعلّقاً للإرادة و الطلب مستقلًاّ للالتفات إلیه بما هو علیه ممّا یوجب طلبه فیطلبه؛ کان طلبه نفسیاً أو غیریاً. و اخری متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غیره؛ لأجل کون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفات إلیه بما یوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة و التبعیة فی مقام الدلالة و الإثبات.

و حاصل استدلاله علی مقاله هو: أنّه لو لم یکن الاتّصاف بهما فی نفسه و بلحاظ مقام الثبوت بل کان بلحاظ الدلالة و الإثبات یلزم أن لا یتّصف الواجب بواحدٍ منهما إذا لم تکن استفادة الوجوب من مفاد الدلیل، و هو کما تری(1)

. و فیه: أنّ مراده بالإرادة لا بدّ و أن یکون أحد المعنیین: إمّا إرادة الإیجاد و الوجود، أو إرادة التشریع و الإیجاب. لا سبیل إلی المعنی الأوّل؛ لما تقدّم: أنّ إرادة المولی لا تتعلّق إلّا بما یکون تحت اختیاره. فإرادة المولی العرفی إیجاد الفعل من العبد لا یکون، بل عرفت استحالة ذلک بالنسبة إلی إرادته تعالی؛ لاستلزامه انفکاک المراد عن إرادته تعالی؛ لوجود العصاة بمرأی و مسمع منک، فإذن: المراد إرادة الإیجاب و الوجوب، و هی علی قسمین: فتارة تکون أصلیاً و ذلک إذا توجّه إلیه و کان ملتفتاً إلیه، و اخری یکون تبعیاً کما لو لم یکن کذلک.


1- کفایة الاصول: 152- 153.

ص: 226

فعلی هذا: لا یکون ذلک تقسیماً للواجب إلی قسمین: الأصلی و التبعی، بل تقسیماً لمبدإ الواجب. و لیکون انتساب الأصلیة و التبعیة إلی الواجب انتساباً عرضیاً مجازیاً من باب انتساب ما یکون للعلّة إلی معلولها.

و واضح: أنّه إنّما یصار إلی کون التقسیم بلحاظ مبدأ الوجوب حقیقة و یُنسب إلی الواجب مجازاً و مسامحة إذا کان هناک تقسیم منهم إلی التبعیة و الأصلیة، و لا یکاد یمکن حملها علی معناه الحقیقی علی وجه صحیح، و قد عرفت صحّة التقسیم بلحاظ ذاته. و القاعدة فی التقسیم تقتضی أن یورد التقسیم علی ما یکون مورداً له.

ثمّ إنّه إن کان المراد بالأصلی ما یکون متعلّقاً للإرادة و ملتفتاً إلیه تفصیلًا، فمقابله یکون عبارة عمّا التفت إلیه إجمالًا و ارتکازاً، لا عدم الاستقلال بمعنی التبعیة.

فعلی هذا: یکون الواجب النفسی أیضاً تارة مستقلًاّ، و اخری غیر مستقلّ، مع أنّه لا شبهة فی أنّ إرادته أصلیة لا تبعیة. و إن کان المراد بالأصلی عدم التبعیة، فلا یکون الواجب الغیری مستقلًاّ؛ سواء التفت إلیه تفصیلًا أم لا.

ثمّ إنّ استدلاله قدس سره علی عدم کون التقسیم بلحاظ مقام الإثبات- بأنّه یلزم أن لا یتّصف بواحد منهما إذا لم یکن استفادة الوجوب من مفاد الدلیل ... إلی آخره- ففیه: أنّ الالتزام بکون التقسیم بلحاظ الإیجاب و الخطاب مقتضاه عدم الاتّصاف بهما قبل الإیجاب و الخطاب، و لا محذور فیه، بل الظاهر من التقسیم هو ذلک.

نعم، لو استفید الوجوب من الإجماع- الذی یکون دلیلًا لبّیاً- یمکن ذلک لأن یکشف الإجماع عن وجود نصٍّ فی المسألة، فبمعقد الإجماع یستکشف ذلک(1)

. فتحصّل: أنّ التقسیم بلحاظ الإثبات، و لا إشکال فیه.


1- قلت: و أمّا إذا لم یکشف الإجماع إلّا عن رضی المعصوم علیه السلام فیشکل الاستفادة، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 227

إشکال و تحقیق و إرشاد

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانی قدس سره أشکل علی مقال استاذه المحقّق الخراسانی قدس سره- حیث ذهب إلی أنّ التقسیم إلی الأصلیة و التبعیة بحسب مقام الثبوت- بأنّه لا مقابلة بین الأصلی و التبعی بالمعنی الذی ذکر استاذه؛ لأنّه فسّر الواجب الأصلی بما یکون متعلّقاً للإرادة و الطلب مستقلًاّ، و الواجب التبعی بما یکون متعلّقاً لإرادة غیره؛ إذ مقابل الالتفات عدم الالتفات، لا تبعیة الإرادة لإرادة اخری؛ فإنّه من تقابل التناقض أو التضاد، إلّا أن یراد بالأصلی الإرادة التفصیلیة، و بالتبعی الإرادة الارتکازیة الإجمالیة.

مع أنّ الإرادة النفسیة ربّما تکون ارتکازیة؛ بمعنی أنّه لو التفت إلی موجبها لأراده، کما فی إرادة إنقاذ الولد الغریق عند الغفلة عن غرقه، و الحال أنّه لا شبهة فی کونها إرادة أصلیة لا تبعیة ...(1)

. إلی أن ذکر قدس سره تحقیقاً لإمکان تقسیم الواجب بنحو لا یرد علیه الإشکال:

و هو: أنّ للواجب- وجوداً و وجوباً بالنسبة إلی مقدّمته- جهتان من العلّیة:

إحداهما: العلّیة الغائیة، حیث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها، بخلاف ذیها؛ فإنّه مراد لا لمراد آخر، کما مرّ مفصّلًا.


1- قلت: ثمّ ذکر قدس سره إشکالًا آخر، و هو: أنّ المناط لو کان التفصیلیة و الارتکازیة لما کان وجه لعنوان التبعیة، حیث إنّ تبعیة الإرادة لإرادة اخری لیست مناط الوجوب التبعی، بل ارتکازیتها لعدم الالتفات إلی موجبها، فلا وجه للتعبیر عنها بالتبعی، لاحظ نهایة الدرایة 2: 157.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 228

و الثانیة: العلّیة الفاعلیة، و هی: أنّ إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته، و منها تنشأ و تترشّح علیها الإرادة.

و الجهة الاولی مناط الغیریة، و الجهة الثانیة مناط التبعیة. و وجه الانفکاک بین الجهتین: أنّ ذات الواجب النفسی حیث إنّه مترتّب علی الواجب الغیری فهی الغایة الحقیقیة، لکنّه ما لم یجب لا تجب المقدّمة؛ فوجوب المقدّمة معلول خارجاً لوجوب ذیها و متأخّر عنه رتبةً، إلّا أنّ الغرض منه ترتّب ذیها علیها(1)، انتهی.

و فیه- کما أشرنا آنفاً-: أنّ الأصالة و التبعیة إنّما تعرضان علی الواجب، لا ما هو مقدّم علیه، و لا بدّ من حفظ المقسم و بیان کیفیة انشعابه إلی شعبتین. فتقسیم ما هو من مبادئه- أعنی الإرادة- إلی ذینک القسمین ممّا لا وجه له.

اللهمّ إلّا أن یکون ذلک اصطلاح خاصّ منه، فإذن لا مشاحة فیه. و لکن الظاهر: أنّه قدس سره بصدد بیان مراد القوم؛ فما ذکره خلاف الظاهر، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: مراده من فاعلیة إرادة ذی المقدّمة لإرادتها أحد أمرین: إمّا بالنسبة إلی وجودها، أو بالنسبة إلی وجوبها، لا سبیل للأوّل، و إلّا یلزم عدم تحقّق العصیان و التخلّف أصلًا حتّی علی إرادته من المکلّف بتوسّط إرادته أیضاً کما مرّ. و أمّا الثانی:

فلمّا کانت الإرادة من الامور المرتبطة بمبادئها الخاصّة- التی لیست منها الإرادة الاخری- فلا وجه لتولّدها منها و تولیدها إیّاها؛ فلا علّیة فاعلیة لإرادة ذی المقدّمة بالنسبة إلی إرادتها.

و بالجملة- کما أشرنا غیر مرّة- لا معنی لترشّح إرادة من إرادة اخری، کلّ منهما مستقلّة مغایرة للُاخری و لیست إحداهما علّة للُاخری، بل الفاعل للإرادة هی


1- نهایة الدرایة 2: 156- 158.

ص: 229

النفس فی إرادة کلّ من المقدّمة و ذیها، و لکلٍّ منهما مبادئ یخصّه. نعم، إنّ الغایة المترتّبة علی إرادة المقدّمة لیست لنفسها، بل لإتیان ما هو مطلوب بالذات- و هو ذو المقدّمة- بخلاف إرادة ذی المقدّمة؛ فإنّها لیست لذلک.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ تقسیم الواجب إلی الأصلیة و التبعیة إنّما هو بلحاظ مقام الإثبات، لا مقام الثبوت.

تذنیب: فی حکم الشکّ فی کون الواجب أصلیاً أو تبعیاً

لو شککنا فی واجب أنّه أصلی أو تبعی، فهل هنا أصل یحرز به الأصلیة أو التبعیة، أو لا؟ وجهان:

صرّح المحقّق الخراسانی قدس سره بأنّه إن قلنا: إنّ الواجب التبعی هو ما لم یتعلّق به إرادة مستقلّة فلو شکّ فی واجب أنّه أصلی أو تبعی فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به یثبت أنّه تبعی و یترتّب علیه آثار شرعیة، کسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدمیة. و إن قلنا: إنّ التبعی أمر وجودی خاصّ غیر متقوّم بأمر عدمی و إن استلزمه، لا یثبت بها إلّا علی القول بالأصل المثبت(1)، انتهی.

و قال المحقّق الأصفهانی قدس سره: إن کان مناط التبعیة عدم تفصیلیة القصد و الإرادة فالتبعیة موافقة للأصل؛ للشکّ فی أنّ الإرادة ملتفت إلیها أو لا؟ و الأصل عدمه، و إن کان مناطها نشو الإرادة عن إرادة اخری و ترشّحها منها فالأصلیة موافقة للأصل؛ إذ الترشّح من إرادة اخری و نشوها منها أمر وجودی مسبوق بالعدم. و لیس الاستقلال فی الإرادة علی هذا أمراً وجودیاً، بل هو عدم نشوها عن إرادة اخری،


1- کفایة الاصول: 153.

ص: 230

بخلاف الاستقلال من حیث توجّه الالتفات إلیها؛ فإنّه أمر وجودی، کما عرفت(1)

. و لا یخفی: أنّ مرجع کلٍّ منهما و غیرهما إلی ما بنوا علیه؛ من أنّه لو قلنا بأنّ کلًاّ من الأصلیة و التبعیة متقیّدة بأمر وجودی فلا بدّ من إحراز کلٍّ منهما، و لا أصل ینقّح إحداهما. و إن کانت إحداهما عدمیة و الاخری وجودیة فالأصل موافق للعدمی منهما، إلّا إذا احرز الوجودی منهما.

و لکن الذی یقتضیه النظر: أنّه لا أصل هنا ینقّح به موضوع الأصلیة و التبعیة لو ترتّب علی الإحراز ثمرة؛ سواء کان ملاک التقسیم إلیهما ما هو المختار، أو ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره، أو ما ذهب إلیه المحقّق الأصفهانی قدس سره؛ و سواء کان الأصلی و التبعی وجودیین، أو عدمیین، أو مختلفین.

و ذلک لما سیوافیک تفصیله فی مبحث الاستصحاب، و أمّا إجماله فهو: أنّه إذا ترتّب حکم علی عنوان عدمی بالعدم الأزلی فالوجوه المتصوّرة فیه أحد امور:

إمّا رتّب الحکم علی المسلوب عنه بالسلب التحصیلی الأعمّ من عدم الموضوع، کعدم القرشیة.

أو علی السلب التحصیلی فی فرض وجود الموضوع؛ بأن یکون المعنی: المرأة الموجودة منفی عنها القرشیة.

أو بنحو الموجبة السالبة المحمول؛ بأن یکون المعنی: المرأة مسلوب عنها القرشیة.

أو بنحو الموجبة المعدولة المحمول؛ بأن یکون المعنی: هذه المرأة غیر قرشیة.

و لا یخفی: أنّه لا یصحّ أن یحتمل السلب التحصیلی بالأعمّ من انتفاء الموضوع


1- نهایة الدرایة 2: 158.

ص: 231

فیما نحن فیه؛ لأنّ تقسیم الواجب إلی الأصلی و التبعی أو الإرادة إلیهما إنّما هو علی وجوب مفروض التحقّق أو إرادة متحقّقة.

و أمّا الوجوه الباقیة فیعتبر فیها الحالة السابقة، و هی منتفیة؛ و ذلک لأنّه علی الموجبة المعدولة معناه الواجب المتعلّق به إرادة غیر مستقلّة، و علی الموجبة السالبة المحمول معناه: الواجب الذی لم یتعلّق به إرادة مستقلّة، و علی السلب التحصیلی فی فرض وجود الموضوع: الواجب منفی عنه الإرادة المستقلّة.

و واضح: أنّه لم تتحقّق فیها حالة متیقّنة حتّی یؤخذ بها؛ لأنّه لم یعلم بتحقّق إرادة لا یعلم کونها تبعیة.

و بالجملة: لو کان الحکم مترتّباً علی أمر عدمی بعدم الموضوع یکون له حالة سابقة، و أمّا فیما نحن فیه فلم یکن کذلک؛ لأنّ الأصلیة و التبعیة تعرضان الشی ء الموجود، و أصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة- علی القول بکون التبعی عدمیاً- مثبت، أو لم یکن لها حالة سابقة، فتدبّر.

ص: 232

الأمر التاسع فی ثمرة بحث مقدّمة الواجب

اشارة

الحقّ: أنّه لا ثمرة فی المسألة فیما یرجع إلی المسألة الاصولیة؛ لأنّ الثمرة المطلوبة فی المسألة الاصولیة إنّما هی عبارة عمّا یکون طریقاً لاستنباط الحکم الکلّی.

و غایة ما یمکن أن یقال فی الثمرة المطلوبة- علی إشکال- هی: أنّه علی تقدیر الملازمة بین المقدّمة و ذیها یمکن أن یستفاد وجوب المقدّمة؛ فیقال: «الوضوء- مثلًا- مقدّمة للصلاة، و کلّما وجب الشی ء تجب مقدّمته بحکم الملازمة»؛ فیستفاد: «وجوب الوضوء».

و لکن لا یترتّب علی الوجوب الکذائی فائدة؛ و ذلک لأنّ الوجوب الذی نرید إثباته علی المقدّمة وجوب مقدّمی غیر ذی أثر؛ لأنّه لا یکون له باعثیة و لا إمکان الباعثیة بما هو أمر مقدّمی، بل یکون وجوبها قهراً من وجوب ذیها؛ لأنّه إن کان المکلّف مریداً لذیها فیرید المقدّمة حتماً، و لو لم یرد ذیها فلا یصلح أن یبعثه الأمر المقدّمی.

و بالجملة: إذا تحقّقت الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها فغایة ما یستفاد هناک وجوب غیر ذی أثر؛ لأنّ الوجوب الکذائی لا یصلح لأن یکون باعثاً للمکلّف نحو الفعل؛ لأنّ المکلّف إن کان مریداً لإتیان ذی المقدّمة فالعقل یحکم بإتیان المقدّمة توصّلًا إلیه، و أمّا إذا لم یکن مریداً لذیها فالأمر المقدّمی لا یکون له باعثیة؛ لأنّ مطلوبیتها إنّما هو للغیر فالأمر الغیری لا یکاد یتوصّل به إلی مطلوبه مستقلًاّ، فإذا لم یکن للأمر المقدّمی باعثیة لا یکون له إطاعة و عصیان.

فتحصّل: أنّ غایة ما یستفاد- علی تقدیر الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها-

ص: 233

إنّما هو وجوب غیر ذی أثر- أی وجوب لا یکون له باعثیة و لا إطاعة- فتدبّر.

و لک أن تقول: إنّ القائل بعدم الملازمة أیضاً قائل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة و لزوم إتیانها عند إرادة ذی المقدّمة عقلًا، فلا یصلح ما ذکر ثمرة للبحث فی مقدّمة الواجب.

و ربّما یذکر للمسألة ثمرات اخر، أشار إلیها و إلی دفعها المحقّق الخراسانی قدس سره:

منها: برء النذر بإتیان مقدّمة واجب لمن نذر واجباً بناءً علی القول بوجوب مقدّمة الواجب، و عدم حصول البرء بذلک بناءً علی عدم وجوبها.

و منها: حصول الفسق بترک واجب له مقدّمات کثیرة؛ لأنّه بناءً علی وجوب المقدّمة یصدق الإصرار علی ارتکاب الصغائر الموجب للفسق.

و منها: حرمة أخذ الاجرة علی المقدّمة بناءً علی وجوب المقدّمة؛ لصیرورتها من صغریات أخذ الاجرة علی الواجب، هذا.

و مجمل الإشکال المشترک علی هذه الثمرات الثلاث: أنّه لم یکن شی ء منها ثمرة للمسألة الاصولیة، و قد أشرنا غیر مرّة بأنّ الضابط فی تشخیص المسألة الاصولیة، إجماله: «کلّ مسألة تصلح أن تقع فی طریق استنباط الحکم الفرعی الکلّی»(1).

ذکر و إرشاد

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره- مع اعترافه بأنّه لا یکون لوجوب المقدّمة أثر عملی بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة- قال بأنّه یمکن القول بتحقّق الثمرة بتطبیق کبریات اخر مستفادة من محالّها، کتحقّق التقرّب فی کلّ واجب بقصد أمره، و کضمان الآمر بأمرٍ معاملی بالنسبة إلی المأمور بذلک الأمر؛ فإنّه بعد فرض وجوب المقدّمة


1- کفایة الاصول: 153- 154.

ص: 234

یمکن تحقّق التقرب بقصد أمرها، کما یمکن التقرّب بقصد التوصّل بها إلی ذیها.

فیتحقّق بذلک التوسعة فی التقرّب بها، و کذلک إذا أمر شخص شخصاً آخر أمراً معاملیاً بفعلٍ له مقدّمات، فأتی المأمور بتلک المقدّمات و لم یأت بذلک الفعل یکون ضامناً للشخص المأمور اجرة المقدّمات، بعد فرض کون الأمر بالفعل أمراً بمقدّماته(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ قدرة المأمور علی قصد التوصّل، و کذا ضمان الآمر- علی فرض تمامیتهما- لیستا ثمرتین للمسألة الاصولیة؛ لما أشرنا غیر مرّة إلی ما هو الضابط فی تشخیص المسألة الاصولیة، و إلّا یلزم أن یکون جمیع ثمرات المسائل الفقهیة ثمرات المسألة الاصولیة.

و ثانیاً: أنّ الأمر الغیری- کما صرّح قدس سره به- لا یصلح أن یکون له باعثیة و محرّکیة نحو متعلّقة؛ فما ذکره هنا مخالف لما هو الحقّ عندنا و عنده.

و ثالثاً: إذا لم یکن الأمر الغیری صالحاً للداعویة و الباعثیة، فلو أتی بمتعلّق الأمر لم یستحقّ شیئاً، کما لا یستحقّ إذا أتی بالمقدّمات بدواع اخر. فإن کفت الباعثیة الفعلیة لذی المقدّمة بالنسبة إلی مقدّماته هنالک، فلیکن هناک ضمان، و إلّا فلا ضمان.

و رابعاً: لو سلّم أنّ الأمر الغیری یصلح للباعثیة، لکنّه أمر توصّلی غیر قربی؛ لأنّ مقتضی کون العمل قربیاً إنّما هو إتیانه للَّه تعالی، و المقدّمة لم تکن مطلوبة ذاتاً، بل ربّما تکون مبغوضة فی حدّ ذاتها، لکنّها مطلوبة لأجل التوصّل بها إلی ذیها.

و خامساً: أنّ الضمان أمر عقلائی؛ فمن أمر شخصاً بشی ء له مقدّمات، فأتی المأمور بالمقدّمات و لکنّه لم یأت بذاک الشی ء فلا یری العقلاء لعمله استحقاقاً للُاجرة، و لا یکون الآمر ضامناً للمأمور بالنسبة إلی إتیان المقدّمات، و هذا واضح لمن تدبّر.


1- بدائع الأفکار 1: 397.

ص: 235

الأمر العاشر فی مقتضی الأصل عند الشکّ فی الملازمة و عدمها

لو شکّ فی ثبوت الملازمة و عدمها، فهل یوجد فی المسألة أصل موضوعی أو حکمی یکون مرجعاً عند ذلک، أم لا وجهان.

الحقّ: أنّه لا یکون لنا أصل یعتمد علیه یعیّن الملازمة و لا عدمها؛ لأنّه لم یکن لهما حالة سابقة لیستصحبا؛ بداهة أنّ الملازمة و عدمها أزلیة. و لو کان أصل و لکنّه لا فائدة له و لا یترتّب علیه الأثر؛ لأنّ الأصل إمّا موضوعی أو حکمی:

أمّا الأصل الموضوعی: فلأنّ الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة و ما یراه مقدّمة- سواء قلنا بأنّهما من لوازم وجود ذی المقدّمة، أو من لوازم ماهیته(1)- لو کانت ثابتة، و لکن لیس لهما سابقة معلومة.

و استصحاب عدم الملازمة، إن ارید به النفی البسیط عند عدم وجود الموضوع و إن کان معلوماً، إلّا أنّ إثباته علی الموضوع الخارجی مثبت.

و إن ارید به النفی المرکّب- أی الملازمة بین ذی المقدّمة و ما یراه مقدّمة- ففیه:

أوّلًا: أنّه لم یکن له حالة سابقة متیقّنة لیستصحب.

و ثانیاً: لو سلّم أنّ له حالة سابقة، و لکن لم یکن له أثر شرعی؛ لأنّ الملازمة أو عدمها لم تکن موضوعة للحکم الشرعی؛ لأنّ العقل یحکم بالوجوب علی فرض الملازمة، و بعدم الوجوب علی فرض عدم الملازمة، المستصحب لا بدّ و أن یکون إمّا


1- بمعنی: أنّ کلّما تصوّر ذا المقدّمة تصوّر مقدّمته.

ص: 236

حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی، و واضح: أنّ الملازمة أو عدمها لیستا حکمین شرعیین، و لا موضوعین لحکم شرعی.

هذا بالنسبة إلی الأصل الموضوعی.

و أمّا الأصل الحکمی: فاستصحاب عدم وجوب المقدّمة و إن کان جاریاً- لکون وجوب ذی المقدّمة مسبوقاً بالعدم و لو قبل وجوب ذی المقدّمة؛ بداهة أنّ نصب السلّم- مثلًا- قبل وجوب الکون علی السطح لم یکن واجباً، فلو شکّ فی وجوبه بعد وجوب الکون علی السطح فیستصحب عدمه، فأرکان الاستصحاب و إن کانت تامّة- و لکنّه لا یترتّب علیه فائدة و ثمرة عملیة؛ لما أشرنا أنّه لا یترتّب علی هذا الوجوب و لا لنفیه أثر شرعی، و أشرنا أنّ القائل بعدم الملازمة أیضاً یری وجوب المقدّمة عقلًا.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لم یکن فی المسألة أصل موضوعی، و لا حکمی عند الشکّ فی وجوب المقدّمة بحیث یصحّ الاتّکال علیه، فتدبّر.

ص: 237

الأمر الحادی عشر فی أدلّة القائلین بوجوب المقدّمة و تزییفها

اشارة

إذا عرفت ما مهّدنا لک من المقدّمات و الامور: فیقع الکلام فی أنّه هل مقدّمة الواجب واجبة مطلقاً، أو لیست بواجبة کذلک، أو فیها تفصیل بین المقدّمة السببی و غیرها بوجوب المقدّمة السببی دون غیرها، أو یفصّل بین الشرط الشرعی و غیره بوجوب الشرط الشرعی دون غیره؟ وجوه، بل أقوال.

و الحقّ: عدم وجوب المقدّمة مطلقاً.

ربّما أقام بعض المحقّقین برهاناً علی وجوب المقدّمة، کما یظهر من بعض آخر کالشیخ الأعظم و المحقّق الخراسانی و شیخنا العلّامة الحائری- قدّس اللَّه أسرارهم- التمسّک بالوجدان علی وجوب المقدّمة.

و المتراءی: وقوع الخلط فی کلامهم، کما سیظهر لک جلیاً.

و ربّما یقاس الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة، و یقال: إنّ وزان الإرادة التشریعیة وزان الإرادة التکوینیة؛ فکما أنّه إذا تعلّقت إرادة تکوینیة بشی ء تتعلّق بمقدّماته، فکذلک إذا تعلّقت الإرادة التشریعیة بشی ء تتعلّق بمقدّماته. و قد صرّح بذلک العلمان العراقی و النائینی، قدّس اللَّه أسرارهما.

فقال المحقّق العراقی قدس سره: إنّ الإرادة التشریعیة تابعة للإرادة التکوینیة؛ إمکاناً و امتناعاً، و وجوداً و عدماً، فکلّ ما أمکن تعلّق الإرادة التکوینیة به أمکن تعلّق التشریعی به، و کلّ ما استحال تعلّق التکوینیة به استحال أن یکون متعلّقاً للتشریعیة. و هکذا: کلّ ما یکون مورداً للإرادة التکوینیة عند تحقّقه من نفس المرید

ص: 238

یکون مورداً للتشریعیة عند صدوره من غیر المرید. و من الواضح: أنّ المرید لفعل بالإرادة التکوینیة تتعلّق إرادته أیضاً بالتبع بإیجاد مقدّماته، فکذلک الإرادة التشریعیة إذا تعلّقت من الآمر بفعل یستلزم تعلّق الإرادة التشریعیة بمقدّمات ذلک الفعل. و قد صرّح قدس سره أخیراً: أنّ إرادة المقدّمة ترشّحیة معلولة لإرادة الواجب(1)، انتهی.

و قال المحقّق النائینی قدس سره: إن أردت توضیح ذلک فعلیک بمقایسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل؛ فکما أنّه إذا أردت شیئاً یتوقّف علی مقدّمات لا یمکنک أن لا ترید تلک المقدّمات، بل تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلک الشی ء قهراً علیک، فکذلک إرادة الآمر؛ فإنّ حالها حال إرادة الفاعل(2)، انتهی.

أقول: تنقیح المقال یتوقّف علی بیان أمرین:

الأمر الأوّل: أنّ إرادة المقدّمة هل هی مترشّحة و معلولة لإرادة ذیها، بحیث یکون المرید لذیها مقهوراً لإرادتها، و لا تحتاج إرادتها إلی المبادئ؟ و بعبارة اخری:

هل تتولّد إرادة المقدّمة من إرادة ذی المقدّمة و تکون إرادة المقدّمة معلولة لإرادة ذیها، أو لازمة لماهیتها؟

أو لیست کذلک، بل کما یحتاج ذو المقدّمة إلی المبادئ- من التصوّر، و التصدیق، و الاشتیاق أحیاناً، ثمّ الإرادة- فکذلک تحتاج المقدّمة إلیها؛ طابق النعل بالنعل؟ غایته: أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمة لم یکن لأجل نفسها و لم تکن مطلوبة لذاتها، بل لغیرها، بخلاف ذی المقدّمة؛ فإنّه مراد و مطلوب لنفسه.

وجهان، بل قولان. الصحیح هو الثانی، کما تقدّمت الإشارة إلیه.


1- بدائع الأفکار 1: 399.
2- فوائد الاصول 1: 284.

ص: 239

و ذلک لأنّ من یرید لقاء صدیقه- مثلًا- یتصوّره، و یصدّق بفائدته، و یشتاق إلیه، ثمّ یریده و یتوجّه نحوه. و واضح: أنّه بعد ذلک لا یکون مشیه و حرکاته إلی لقاء صدیقه أفعالًا و حرکاتٍ غیر اختیاریة، بل یتصوّر و یصدّق بفائدة کلّ جزءٍ جزءٍ من أجزاء ما یوصله إلی لقائه و لو ارتکازاً.

و بالجملة: الوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّ کلّ ما یصدر من الشخص- مقدّمةً کانت أو ذیها- لا بدّ له من مبادئ؛ فکلّ مقدّمة مرهونة بإرادتها، بحیث لو لم یردها لا تکاد توجد. و لیست معنی کون إرادة المقدّمة تابعة لإرادة ذیها أنّها معلولة له، بل المقصود: أنّ الإرادة تتعلّق أوّلًا و بالذات بذیها، و لأجل ذلک و بتبعه تتعلّق إرادة بمقدّمته. فغایة ما تقتضیه التبعیة هی: أنّ المقدّمة لم تکن مطلوبة نفسیة، بخلاف ذیها؛ فإنّه مطلوب نفسی.

فبعد ما تمهّد لک ما ذکر یظهر لک الضعف فی کلام العلمین العراقی و النائینی 0، حیث قالا: إنّه لم تکن لإرادة المقدّمة مبادئ و غایة، بل توجد قهراً من دون المبادئ.

هذا کلّه فی الإرادة التکوینیة. و کذلک فی الإرادة التشریعیة لا تتولّد إرادة إیجاب المقدّمة من إرادة إیجاب ذیها، بل یتصوّر مبدئیة نصب السلّم- مثلًا و التصدیق بفائدته و الاشتیاق إلیه ثمّ یرید البعث نحوه.

فتحصّل: أنّ فی کلّ من قسمی الإرادة- التکوینیة و التشریعیة- تحتاج المقدّمة إلی المبادئ و الغایات، و لا یکون مقهوراً بإرادتها، کما هو الشأن بالنسبة إلی ذی المقدّمة.

الأمر الثانی: أنّه فرق بین الإرادتین- التکوینیة و التشریعیة- من جهة أنّ الإرادة التکوینیة إذا تعلّقت بإیجاد شی ء خارجاً لا یمکن أن لا یرید مقدّماتها، بل لا تنفکّ إرادتها عن إرادته، لا بمعنی عدم الانفکاک عن علّته و کون إرادتها قهریة، بل

ص: 240

لأجل توقّف حصول الغایة علیها. و أمّا فی الإرادة التشریعیة- و هی إمکان الانبعاث ببعثه- فإن أحرز إمکان انبعاث عبده ببعثه یصحّ منه إرادة البعث، و إلّا فلا یمکن البعث بداعی الانبعاث، کما سیظهر لک قریباً.

و بالجملة: قد عرفت: أنّ الإرادة التشریعیة لا تتعلّق بنفس العمل من الغیر؛ لأنّ کلّ فعل و عمل مرهون بإرادة نفسه لا إرادة غیره، و اشتیاق صدور العمل من الغیر ربّما یحصل للشخص، و لکنّه عرفت بما لا مزید علیه: أنّه لا تسمّی إرادة، بل یتعلّق بالبعث و الإیجاب.

و واضح: أنّ إرادة البعث و الإیجاب- نظیر سائر الأفعال الإرادیة- لا بدّ و أن یکون لها مبادئ تجب عندها و تمتنع دونها، و واضح: أنّ غایة البعث الحقیقی هی التوصّل إلی المبعوث إلیه بانبعاث المبعوث بالبعث و لو إمکاناً و احتمالًا. و إلّا فلو علم بعدم الانبعاث بالبعث أو علم بإتیانه دون البعث، فلا یکاد یصحّ تعلّق الإرادة الحقیقیة به، کما سیظهر لک إن شاء اللَّه.

فإذا بعث المولی عبده إلی شی ء لغایة الانبعاث، فإن کان متوقّفاً علی مقدّمة أو مقدّمات تکوینیة فإمّا أن یکون المأمور متوجّهاً إلی مقدّمیتها أو لا. فعلی الأوّل لا یخلو إمّا أن یکون البعث إلی ذیها مؤثّراً فی نفس المأمور أم لا.

فإن کان مؤثِّراً فی نفسه فمحال أن لا یأتی بما یکون مقدّمة له مع توجّهه إلیها، فالبعث إلیها لغو؛ لعدم الباعثیة له، و لا یمکن الانبعاث بعد الانبعاث.

و إن لم یکن الأمر بذیها مؤثّراً فی نفسه: فإن کان متمرّداً و عاصیاً فلا یمکن أن یکون البعث الغیری موجباً لانبعاثه؛ لأنّ الأمر المقدّمی للتوصّل إلی ذیها، فإذا لم ینبعث عن ذیها و کان متقاعداً عن إتیانه فلا یکاد یمکن أن ینبعث بالأمر المقدّمی مع عدم ترتّب ثواب و عقاب بالنسبة إلی موافقة الأمر الغیری و مخالفته.

ص: 241

فتحصّل ممّا ذکر: أنّه عند الالتفات إلی المقدّمة لا یکون لإرادة البعث الحقیقی إلی المقدّمة فائدة و غایة. نعم، یمکن أن یبعث إلیها تأکیداً، و هو خارج عن محطّ البحث. کما أنّه علی الثانی- أی عند عدم الالتفات إلی مقدّمیة شی ء- حیث یکون البعث للإرشاد إلی المقدّمیة، فهو خارج عن محطّ البحث.

و بالجملة: فرق بین الإرادة التکوینیة و الإرادة التشریعیة؛ فإنّ من أراد شیئاً فحیث إنّ التوقّف فی الوجود فلا محالة یرید ما هو مقدّمة له. و أمّا فی التشریعیة:

فحیث إنّها إرادة البعث فلا بدّ و أن یکون للبعث فائدة؛ فإن علم بإتیانها مع قطع النظر عن البعث، أو علم بعدم انبعاثه، لا یعقل أن یرید البعث الحقیقی نحوها، فبالنسبة إلی ذی المقدّمة حیث یصحّ تعلّق الإرادة التشریعیة به حسب الفرض فلا إشکال. و أمّا البعث إلی المقدّمة فلا یکون له غایة و فائدة؛ سواء کان المأمور منبعثاً عن إرادة ذیها، أم لا.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه فرق بین الإرادتین، و لا ملازمة بین الإرادة التشریعیة و التکوینیة؛ لأنّ الإرادة التکوینیة بذی المقدّمة لا تنفکّ عن إرادة ما هو مقدّمة، بخلاف الإرادة التشریعیة، کما عرفت. و منشأ ما ذکروه هو خلط الإرادة التشریعیة الآمریة بالإرادة التکوینیة الفاعلیة.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا تعرف النظر فیما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره؛ فإنّه قال قدس سره:

و یؤیّد الوجدان، بل یکون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغیریة فی الشرعیات و العرفیات(1)

. توضیح النظر هو: أنّ أکثر الأوامر الغیریة للإرشاد إلی الجزئیة و الشرطیة، لا


1- کفایة الاصول: 157.

ص: 242

لإفادة البعث الحقیقی. و کثیراً ما تکون الأوامر المتعلّقة بها تأکیداً للبعث إلی ذیها.

مثلًا: قولک لمن یکون تحت أمرک: «اذهب إلی السوق و اشتر اللحم» یکون الأمر بالذهاب تأکیداً لاشتراء اللحم.

ثمّ إنّه بعد ما تمهّد لک عدم إمکان البعث إلی المقدّمة عقلًا، فلو ورد فی الشرع ما یوهم خلاف ذلک فلا بدّ لنا من تأویله، کما هو الشأن فی کلّ ما ورد فی الشرع و ظاهره یخالف حکم العقل، فتدبّر.

کلام الشیخ فی وجوب المقدّمة و تزییفه

بقی شی ء، و هو الذی أفاده الشیخ الأعظم قدس سره فی المقام؛ فإنّه قال فی وجوب المقدّمة: إنّ من راجع وجدانه و أنصف من نفسه، مع خلوّ طبیعته عن الاعوجاج الفطری، یحکم علی وجه الجزم و الیقین بثبوت الملازمة بین الطلب المتعلّق بالفعل، و بین الطلب المتعلّق بمقدّماته. نعم، لیس تعلّق الطلب الفعلی بالمقدّمة علی وجه تعلّقه بذیها، کیف و الضرورة قضت ببطلانه؟! لجواز الغفلة عن المقدّمات، بل و اعتقاد عدم التوقّف بینهما. بل المقصود: أنّ المرید لشی ء لو راجع وجدانه یجد من نفسه حالة إجمالیة طلبیة متعلّقة بمقدّماته، علی وجه لو حاول کشف تلک الحالة و تفصیلها لکان ذلک فی قالب الأمر و الطلب التفصیلی، کما یری مثل ذلک من محبوبیة إنقاذ الولد(1)، انتهی.

و فیه: أنّه لعمر الحقّ: إنّه قد راجعنا الوجدان و أنصفنا من أنفسنا، و لکن لم نجد من أنفسنا ما أفاده قدس سره، و لعلّ القارئ الکریم أیضاً یوافقنا فی ذلک إن تدبّر فیما ذکرنا و لم یختلط الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة.


1- مطارح الأنظار: 83/ السطر 18.

ص: 243

و لا یخفی: أنّه کم فرق بین ما نحن فیه و التنظیر الذی ذکره، من محبوبیة إنقاذ الولد! و ذلک لأنّه إن توجّه الأب و رأی أنّ ولده مشرف علی الغرق لیطلبه أشدّ الطلب، و یبعث کلّ مَن بحضرته لإنقاذه. و أمّا فیما نحن فیه: فمع أنّه متوجّه إلی مقدّمیة شی ء لا یبعث إلیه غالباً و لو إرشاداً أو تأکیداً. یرشدک إلی ذلک وجود أوامر فی الفقه بأشیاء و امور تکون لها مقدّمات، مع عدم الأمر بما یکون مقدّمة له. فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لا ملازمة بین البعث بشی ء و البعث إلی ما یکون مقدّمة له، فتدبّر.

حول کلام البصری

فقد حکی عن البصری أنّه قال: لو لم تجب المقدّمة لجاز ترکها، و حینئذٍ: فإن بقی الواجب علی وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق، و إلّا خرج الواجب المطلق عن کونه واجباً(1)

. فیورد علیه أوّلًا بالنقض بالمتلازمین فی الوجود اللّذین فی أحدهما ملاک الوجوب دون الآخر؛ فبعد وجوب الأوّل إمّا یجب الآخر أیضاً أو لا، فعلی الأوّل یلزم أن یجب الشی ء بلا ملاک، و إلّا لزم خروج الواجب عن کونه واجباً؛ لأنّ المفروض کونهما متلازمین فی الوجود لا یمکن انفکاکهما؛ فما هو الجواب عن هذا هو الجواب عمّا ذکره.

و ثانیاً بالحلّ، کما أفاده المحقّق الخراسانی؛ فإنّه قدس سره بعد إصلاح ظاهر الاستدلال بإرادة عدم المنع الشرعی من جواز الترک، و إلّا فالشرطیة الاولی واضحة الفساد، و بإرادة الترک ممّا اضیف إلیه الظرف- و هو «حینئذٍ»- و إلّا فالشرطیة الثانیة


1- المعتمد فی اصول الفقه 1: 94- 95.

ص: 244

واضحة الفساد، قال بما حاصله: إنّ الترک بمجرّد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق إحدی الشرطیتین، و لا یلزم منه أحد المحذورین؛ فإنّه و إن لم یبق له وجوب معه، إلّا أنّه کان ذلک بالعصیان المستتبع للعقاب؛ لتمکّنه من الإطاعة بالإتیان به مع مقدّماته، و قد اختار ترکه بترک مقدّماته بسوء اختیاره، مع حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمات لیتمکّن من ذی المقدّمة إرشاداً إلی ما فی ترکها الموجب لترک ذی المقدّمة من العصیان المستتبع للعقاب(1)

. و قد یفصّل(2) بین المقدّمة السببی و غیره، بالوجوب فی المقدّمة السببی(3)

. و لکنّه- کما تری- لیس دلیلًا علی التفصیل، بل غایته: أنّ الأمر النفسی إنّما یکون متعلِّقاً بالسبب؛ لکونه مقدوراً دون المسبّب(4)

. و قد یفصّل بین الشرط الشرعی و غیره بالوجوب فی الشرط الشرعی و استدلّ علی الوجوب فیه بأنّه لو لا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً، حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلًا أو عادة(5).


1- کفایة الاصول: 157- 158.
2- الذریعة إلی اصول الشریعة 1: 83.
3- قلت: حکی الاستدلال لذلک- کما فی« الکفایة»- بأنّ التکلیف لا یکاد یتعلّق إلّا بالمقدور، و المقدور لا یکون إلّا هو السبب، و إنّما المسبّب من آثاره المترتّبة علیه قهراً، و لا یکون من أفعال المکلّف و حرکاته أو سکناته؛ فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إلیه عنه إلی سببه، لاحظ کفایة الاصول: 158.[ المقرّر حفظه اللَّه]
4- قلت: مع أنّه ردّ- کما فی« الکفایة»- بوضوح فساده؛ ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمکلّف، و هو متمکّن عنه بواسطة السبب، و لا یعتبر فی التکلیف أزید من القدرة؛ کانت بلا واسطة أو معها، کما لا یخفی.[ المقرّر حفظه اللَّه]
5- شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب: 90- 91.

ص: 245

و فیه أنّه إن ارید: أنّ شرطیته فی مقام الثبوت و نفس الأمر یتوقّف علی الأمر الغیری. ففیه: أنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیتین، و لا دخل للأمر فیها، بل تعلّق الأمر بالشرط یتوقّف علی شرطیته واقعاً؛ فلو توقّفت شرطیته واقعاً علی تعلّق الأمر به لزم الدور.

و إن ارید: أنّ شرطیته فی مقام الإثبات یتوقّف علی الأمر لأجل کشفه عن کونه شرطاً واقعاً. فإن ارید: أنّ الکاشف عنها أمر مستقلّ فهو مسلّم، لکنّه خارج عن مسألة المقدّمة؛ لأنّ محطّ البحث إنّما هو فی وجوبها الغیری، لا الوجوب المستقلّ.

و إن ارید: أنّ الکاشف أمر غیری و بعث مسبّب عن البعث إلی ذی المقدّمة فلا یمکن کاشفیة الأمر الغیری عن شرطیة شی ء واقعاً؛ و ذلک لأنّ الملازمة- علی تقدیر ثبوتها- فیما إذا علم بمقدّمیة شی ء بالوجدان، کنصب السلّم للکون علی السطح؛ فیقال: إنّه واجب؛ لکونه مقدّمة للکون علی السطح. و أمّا إذا لم یعلم بمقدّمیة شی ء فلا، کما إذا لم یعلم بشرطیة الوضوء للصلاة، فلا یکشف عن شرطیته الأمر الغیری المترشّح عن الأمر بالصلاة، و هو واضح.

و إذا فرض تعلّق الأمر بالصلاة المتقیّدة بالوضوء؛ لقوله تعالی: «إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ ...»(1) الآیة، یصیر الوضوء شرطاً عقلیاً، یحکم العقل بلزوم إتیانه(2).


1- المائدة( 5): 6.
2- قلت: اقتبسنا ردّیة التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره من تنقیح الاصول 2: 98.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 246

الأمر الثانی عشر فی مقدّمة المستحبّ و الحرام و المکروه

اشارة

و لیعلم: أنّ وزان مقدّمة المستحبّ وزان مقدّمة الواجب؛ فیجری فی مقدّمة المستحبّ جمیع ما ذکروه و ذکرناه فی مقدّمة الواجب؛ طابق النعل بالنعل. و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم ثبوت الملازمة بین مقدّمة الواجب و ذیها؛ فالحکم باستحباب مقدّمة المستحبّ کذلک، و هو واضح.

و أمّا مقدّمة الحرام: فهل وزانها أیضاً وزان مقدّمة الواجب؛ فلا تکون محرّمة مطلقاً، أو محرّمة کذلک، أو فیها تفصیل؟ وجوه، بل أقوال.

یمکن أن یقال: إنّ وزان مقدّمة الحرام وزان مقدّمة الواجب؛ فکما عرفت عدم وجوب مقدّمة الواجب، فیمکن أن یقال بالتقریب المتقدّم: إنّ مقدّمة الحرام لیست بحرام؛ لأنّ المکلّف إذا کان ممّن ینزجر عن ذیها فینزجر عن مقدّمته قهراً، و إلّا فلا یکاد یصلح أن ینزجر عن النهی الغیری. و لا فرق فی ذلک بین مقدّمة و مقدّمة، و الجمیع فیها شِرْع سواء.

نعم، لو قلنا بثبوت الملازمة بین الحرام و مقدّمته، فالحقّ أن یفصّل و یقال بحرمة المقدّمة الأخیرة، دون سائر المقدّمات.

تفصیل الأعلام الثلاثة فی مقدّمة الحرام و ما فیه

و لکن اختار کلٌّ من الأعلام الثلاثة- الخراسانی و الحائری و العراقی، قدّس اللَّه أسرارهم- تفصیلًا فی المسألة، ینبغی ذکره و الإشارة إلی ما فیه:

ص: 247

أمّا المحقّق الخراسانی قدس سره فقد فصّل بین ما لا یتمکّن مع إتیان المقدّمة من ترک ذیها، بحیث لم یتخلّل بین المقدّمة و ذیها إرادة الفاعل؛ فقال بحرمة المقدّمة الکذائیة، و بین ما إذا کانت المقدّمة بحیث تتخلّل بینها و بین ذیها الإرادة؛ فقال: إنّ وجود المقدّمة و عدمها بالنسبة إلی ذیها سیّان؛ لأنّ الإرادة متخلّلة.

و بعبارة اخری: فرّق قدس سره بین ما تکون المقدّمة من المقدّمات التولیدیة التی یقع الحرام بعدها لا محالة من دون تخلّل الإرادة فی البین، و بین المقدّمة التی یتخلّل بینها و بین الوصول إلی ذیها الإرادة؛ فقال بحرمة المقدّمة التی تکون من القسم الأوّل، دون ما تکون من القسم الثانی. و أمّا الإرادة المتخلّلة فی البین فلا یمکن أن تتعلّق بها الإرادة؛ لأنّها غیر اختیاریة، و إلّا یلزم التسلسل(1)، انتهی.

و أمّا شیخنا العلّامة الحائری قدس سره فقال ما حاصله: أنّ العناوین المحرّمة علی ضربین:

أحدهما: أن یکون العنوان بما هو هو مبغوضاً، من دون تقییده بالاختیار و عدمه، و إن کان له دخل فی استحقاق العقاب؛ لأنّه لا عقاب إلّا علی الفعل الصادر عن اختیار الفاعل، و ذلک کشرب الخمر.

ثانیهما: أن تکون للإرادة دخالة فی مبغوضیته، بحیث لو صدر عن غیر اختیار لم یکن مبغوضاً و منافیاً لغرض المولی، و ذلک کالإفطار فی نهار شهر رمضان لمن کان حاضراً و سالماً.

و علّة الحرام فی القسم الأوّل هی المقدّمات الخارجیة، و لا مدخلیة للإرادة فی ذلک، بل هی علّة لوجود علّة الحرام. و أمّا فی القسم الثانی فتکون الإرادة من أجزاء العلّة التامّة.


1- کفایة الاصول: 159.

ص: 248

و علی هذا: ففی القسم الأوّل إن کانت العلّة التامّة مرکّبة من امور یتّصف المجموع منها بالحرمة، و تکون إحدی المقدّمات لا بعینها محرّمة، إلّا إذا وجد باقی الأجزاء و انحصر اختیار المکلّف فی واحد منها، فتحرم علیه شخصاً من باب تعیّن أحد أفراد الواجب التخییری بالعرض فیما إذا تعذّر الباقی.

و أمّا فی القسم الثانی فلا یتّصف الأجزاء الخارجیة بالحرمة؛ لأنّ العلّة التامّة للحرام هی المجموع المرکّب منها و من الإرادة، و لا یصحّ إسناد الترک إلّا إلی عدم الإرادة؛ لأنّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجیة.

فظهر: أنّ الحقّ التفصیل فی المسألة؛ فیقال فی القسم الأوّل: لو فرض وجود باقی المقدّمات مع عدم الإرادة تحقّق المبغوض قطعاً. فعدم إحداها علّة لعدم المبغوض فعلًا.

و أمّا القسم الثانی: فلو فرضنا وجود سائر المقدّمات مع الصارف لم یتحقّق المبغوض؛ لکونه مقیّداً بصدوره عن الإرادة. فالمقدّمات الخارجیة من دون انضمامها إلی الإرادة لا توجد المبغوض. ففی طرف العدم یکفی عدم إحدی المقدّمات. و لمّا کان الصارف أسبق رتبةً منها یستند ترک المبغوض إلیه دون الباقی، فیتّصف الباقی بالمحبوبیة، دون ترک إحدی المقدّمات الخارجیة؛ فلا یکون فعلها متّصفاً بالحرمة(1)

. أقول: کلا التفصیلین ناشئان عن مطلب معروف بینهم، و هو: أنّ الإرادة علّة تامّة لوجود الشی ء فی الخارج، و أنّ تخلّف المراد عن الإرادة محال. فإذا تعلّقت الإرادة بشی ء لا یتخلّل بینها و بین ذات الشی ء أمر.

و بالجملة: زعموا أنّ الإرادة جزء أخیر العلّة التامّة لتحقّق الفعل، کالفعل


1- درر الفوائد، المحقق الحائری: 130- 132.

ص: 249

التولیدی بالنسبة إلی ما یترتّب علیه، مع أنّه لیس الأمر کذلک بداهة: أنّ الإنسان ما دام محفوفاً بالعلائق المادّیة و محبوساً فی عالم المادّة، إذا أراد شیئاً یتخلّل بین إرادته و مراده وسائط کثیرة. مثلًا: من أراد شرب الماء الموجود بین یدیه یبسط العضلات المربوطة إلی أخذه، فیأخذه و یرفعه حذاء فمه، و یدخله فی الفم ثمّ یبلعه. فبین إرادة الشرب و تحقّق الشرب خارجاً امور. نعم، آخر الجزء منها- الذی یترتّب علیه الفعل خارجاً- کإراقة الماء فی الحلق مثلًا فی المثال المفروض- فعل إرادی تولیدی.

و بالجملة: لم تکن الإرادة سبباً تولیدیاً لإیجاد الفعل خارجاً. نعم، الإرادة بالنسبة إلی مظاهر النفس و أفعال نفسها و قواها الطبیعیة سبب تولیدی، و لکنّه غیر مبحوث عنه. فتحصّل: أنّه یتخلّل بین إرادة الفعل خارجاً و بین تحقّقه امور، و لا یکون لنا مورد یتحقّق الفعل خارجاً بنفس الإرادة بلا مهلة.

إذا تمهّد لک ما ذکرنا یظهر لک النظر فیما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره؛ من أنّه قد تتخلّل الإرادة بین المقدّمة و ذیها؛ و ذلک لما أشرنا من أنّه لا تکون الإرادة بالنسبة إلی الأفعال الخارجیة جزء أخیر العلّة التامّة، بل یتوسّط بینها و بین الفعل شی ء من الآلات.

و بالجملة: کما عرفت منّا مکرّراً أنّ البحث فی الملازمة و عدمها بحث عقلی لا عرفی عقلائی؛ فلا بدّ من تدقیق النظر فی الجهات و الحیثیات. فلا وجه لأن یقال: إنّه لا سبیل للعرف و العقلاء إلی معرفة هذه التدقیقات الفلسفیة؛ فإنّ العرف و العقلاء یرون أنّ آخر الأجزاء هی الإرادة التی لا یمکن التکلیف بها.

و یظهر أیضاً ضعف ما أفاده شیخنا العلّامة الحائری قدس سره فی القسم الثانی؛ من أنّه لا یصحّ إسناد الترک إلّا إلی عدم الإرادة؛ لأنّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجیة. و ذلک لأنّ حرمة الفعل الإرادی و إن کانت متوقّفة علی الفعل بالإرادة

ص: 250

المتعلّقة به، و لکن حیث إنّها لم تکن جزء أخیر، و غایة ما تقتضیه الملازمة لو تمّت- کما سنشیر إلیه- هی حرمة الجزء الأخیر، فإذا تخلّلت بین الإرادة و الفعل الخارجی مقدّمات فیتّصف الجزء الأخیر بالحرمة بعد تحقّق سائر المقدّمات، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّ البحث فی أنّه إذا حرم شی ء و صار مبغوضاً، فهل یوجب ذلک حرمة جمیع المقدّمات أو المقدّمة الأخیرة، و لم یکن البحث فی أنّ ترک الفعل الحرام بترک الصارف؛ حتّی یصحّ أن یقال: إنّ إسناد الترک إلی عدم إرادة الفعل.

و بالجملة: الکلام فی مقدّمات وجود المبغوض و کیفیة تعلّق الإرادة التشریعیة بها، و أنّه هل تتعلّق الإرادة- علی فرض الملازمة- بالزجر عن جمیع المقدّمات الخارجیة، أو لا. فمع کون بعض المقدّمات الخارجیة متوسّطاً بین إرادة الفعل و تحقّقه فلا محالة یصیر مبغوضاً و منهیاً عنه بعد تحقّق سائر المقدّمات.

فبعد ما عرفت من توسّط الفعل الاختیاری بین تحقّق الشی ء و إرادته، و أنّ الإرادة لیست مولّدة للفعل، لا یبقی فرق بین المقدّمات فی المحرّمات علی ما فصّله.

هذا کلّه إذا کان الشی ء الحرام وجودیاً. و أمّا إذا کان عدمیاً- بأن کان ترک الشی ء حراماً- فخارج عن محطّ بحث الأعلام؛ لأنّ کلامهم فیما إذا کان المحرّم وجودیاً، و لعلّه لعدم وجود محرّم کذلک؛ لأنّ ترک الواجب و إن کان حراماً و لکنّه لا لمفسدة فیه، بل لمصلحة فی الواجب.

و کیف کان: لو فرض کون ترک شی ء حراماً فهل وزانه وزان ما یکون الفعل محرّماً، أم لا؟ الظاهر: حیث إنّه یکفی لترک الشی ء عدم إرادة الوجود، فبناءً علی الملازمة یکون هو المتّصف بالحرمة، فتدبّر.

و أمّا ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فهو: أنّه لو کانت المقدّمة بالإضافة إلی ذیها تولیدیة فهی محکومة بحکم ذیها.

ص: 251

و أمّا إذا لم تکن تولیدیة، بل یکون المکلّف بعد إیجادها مختاراً فی إیجاد ذیها فالمختار هو حرمة خصوص المقدّمة المقارنة؛ لوجود سائر مقدّمات الحرام بنحو القضیة الحینیة مطلقاً، من دون اختصاص ببعض المقدّمات. فإرجاع مبغوضیة الحرام إلی محبوبیة ترکه و إنّ ترکه مستند إلی السابق من التروک، غیر مستقیم.

و ذلک لأنّ المبغوضیة- کالمحبوبیة- قائمة بوجود الفعل أوّلًا و بالذات. و اتّصاف ترک المبغوض بالمحبوبیة- کاتّصاف ترک المحبوب بالمبغوضیة- یکون ثانیاً و بالعرض؛ و لذا لم یکن ترک الواجب حراماً نفسیاً، فمقوّم الحرمة هو مبغوضیة الوجود، کما أنّ مقوّم الوجوب محبوبیّته. و مقتضی ذلک سرایة البغض إلی علّة الفعل المبغوض، فیکون کلّ جزء من أجزاء العلّة التوأم مع وجود سائر أجزائها بنحو القضیة الحینیة مبغوضاً بالبغض التبعی و حراماً بالحرمة الغیریة، کما کان الأمر فی مقدّمة الواجب، من دون فرق بینهما أصلًا(1)، انتهی.

و فیما أفاده مواقع للنظر

فأوّلًا: أنّ ظاهر عبارته یعطی أنّ المبغوضیة و المحبوبیة دخیلتان فی التشریع، مع أنّهما أمران انتزاعیان، و الأمر الانتزاعی لا یکاد یکون دخیلًا فی التشریع.

و ثانیاً: أنّه لو کانت المحبوبیة أو المبغوضیة دخیلة فی التشریع فتکون متقدّمة علی إرادة التشریع و فی الرتبة السابقة علی البعث و الزجر المنتزع منها الوجوب و الحرمة، فهما متأخران عن المبغوضیة و المحبوبیة، فلا تکونا مقوّمتین للوجوب و الحرمة، کما لا یخفی. إلّا أن یراد من المقدّمیة: أنّ الحبّ و البغض من مبادئ الوجوب و الحرمة.


1- بدائع الأفکار: 402- 404.

ص: 252

و ثالثاً: أنّه فرق بین مقدّمة الحرام و مقدّمة الواجب و قیاس إحداهما بالأخری قیاس مع الفارق؛ فإنّ مبغوضیة الفعل لا یکاد یمکن أن یکون منشأ لمبغوضیة جمیع المقدّمات؛ لعدم وجود الملاک فیها علی نحو العامّ الاستغراقی؛ ضرورة أنّ البغض من شی ء لا یسری إلّا إلی ما هو محقّق وجوده و ناقض عدمه، و غیر الجزء الأخیر من العلّة أو مجموع الأجزاء فی المرکّب غیر المترتّب لا ینقض العدم. و أمّا محبوبیة الفعل فتکون منشأ لمحبوبیة جمیع ما یکون دخیلة فی تحقّقه.

و بالجملة: فرق بین إرادتنا بالنسبة إلی إتیان واجب ذی مقدّمات، أو إتیان محرّم کذلک؛ لأنّه إن أردنا إیجاد شی ء فتتعلّق الإرادة بإیجاد ما یکون مقدّمة له. و أمّا فی إرادتنا ترک حرام فلا نترک جمیع ما یکون له دخالة فی ترکه بحیث تصیر المقدّمات مبغوضة. مثلًا من کره الکون فی السوق و یبغضه لا یبغض المشی فی السکک و الشوارع التی تنتهی إلی السوق.

و غایة ما یقضی به الوجدان- علی تقدیر ثبوت الملازمة- إنّما هی مبغوضیة الجزء الأخیر، لا سائر الأجزاء علی نحو العامّ الاستغراقی.

و بهذا یتوجّه علیه إشکال رابع؛ فإنّ قوله: «إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء، و مبغوضیة الحصّة التوأمة» من قبیل ضمّ ما لیس بالدخیل إلی ما هو الدخیل؛ لأنّ المجموع بما هو مجموع و إن کان مبغوضاً- لأنّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام- و لکن کلّ واحد لیس کذلک بنحو القضیة الحینیة.

و بعبارة اخری: قد أشرنا أنّ المبغوض هو الجزء الأخیر، و أمّا سائر الأجزاء فلا تتّصف بالمبغوضیة حقیقة. و اتّصافها بالمبغوضیة إنّما هی باتّصالها بالجزء الأخیر؛ و لذا لو تحقّق جمیع الأجزاء دون الأخیر لا تکون مبغوضة، و هو واضح لمن راجع وجدانه، فتدبّر و اغتنم.

ص: 253

أضف إلی ذلک: أنّه قدس سره قاس الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة فی مقدّمات الواجب، و مقتضی قیاسه عدم الحرمة هنا؛ بداهة أنّ من أراد ترک شی ء لا تتعلّق إرادته بترک کلّ واحد من مقدّماته، بل تتعلّق بترک ما هو مُخرج مبغوضه إلی الوجود، و هذا واضح.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه فرق بین مقدّمة الواجب و مقدّمة الحرام؛ فلو قلنا بالملازمة بین مقدّمة الواجب و بین ذیها، و لکن لا یصحّ ذلک فی مقدّمة الحرام؛ لأنّ وجوب المقدّمة- علی تقدیر الملازمة- إنّما هو لتوقّف ذی المقدّمة علیها؛ فلو توقّف علی کلّ واحدة منها وجبت لذلک، بخلاف مقدّمات الحرام؛ فإنّه لا تتوقّف ترک الحرام علی ترک مقدّماته، بحیث لو فرض أنّ المکلّف أتی بجمیع مقدّماته، فهو مع ذلک مختار فی فعل الحرام و ترکه بالإرادة؛ فلا دخل لإیجاد المقدّمات فی اختیار الفعل و عدمه. بخلاف مقدّمة الواجب، فإنّها من حیث توقّف ذی المقدّمة علی کلّ واحد منها أمکن اتّصاف کلّ واحد منها بالوجوب. و قد أشرنا إلی أنّه علی تقدیر الملازمة، الحقّ أن یقال: إنّ المقدّمة الأخیرة حرامة، دون سائر المقدّمات.

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا فی مقدّمة الحرام یظهر لک حال مقدّمة المکروه.

و بالجملة: وزان مقدّمة المکروه وزان مقدّمة الحرام، کما أنّ وزان مقدّمة المستحبّ وزان مقدّمة الواجب.

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بمقدّمة الواجب، و له الحمد و الشکر علی تمامه.

ص: 254

ص: 255

الفصل الخامس فی أنّ الأمر بالشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا

اشارة

الفصل الخامس فی أنّ الأمر بالشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا(1)

اختلفوا فی أنّ الأمر بالشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟ علی أقوال، ثالثها التفصیل بین الضدّ العامّ و الضدّ الخاصّ؛ بالاقتضاء فی الأوّل دون الثانی.

قبل الشروع فی ذکر عُمد الأقوال فی المسألة و ما استدلّوا به لمذهبهم، نقول:

إنّ مسألة الضدّ من المسائل الاصولیة العقلیة، کما یظهر من استدلال المحقّقین منهم للاقتضاء من ناحیة الاستلزام أو المقدّمیة، و کما یظهر من منکری الاقتضاء إنکار الاستلزام أو المقدّمیة. فالمراد بالاقتضاء فی عنوان البحث ما هو المتراءی منه؛ و هو الاستلزام.

و توهّم لفظیة المسألة- من استدلال بعضهم لذلک بإحدی الدلالات الثلاث(2)- ضعیف غایته، لا ینبغی الالتفات إلیه؛ لأنّ الأقوال المُعتنی بها فی


1- تاریخ الشروع فی البحث یوم الأربعاء/ 5 شعبان/ 1379 ه. ق.
2- معالم الدین: 64.

ص: 256

المسألة بین مثبت للاستلزام أو المقدّمیة، و بین منکرهما. و لا یصغی إلی کلّ ما قیل أو یمکن أن یقال فیها.

فلا نحتاج إلی ما تجشّم به المحقّق الخراسانی قدس سره لإرادة المعنی العامّ من الاقتضاء فی عنوان المسألة حیث قال: المراد ب «الاقتضاء» فی العنوان أعمّ من أن یکون بنحو العینیة أو الجزئیة أو اللزوم من جهة التلازم بین طلب أحد الضدّین و طلب ترک الآخر أو المقدّمیة(1)

. و ذلک لأنّ إرادة المعنی الأعمّ من الاقتضاء بعیدة. مع أنّه لا یکاد یمکن إرادة الجامع الحقیقی بینها. فلو ارید الجامع بینها فإنّما هو فی أمر انتزاعی.

فلا بدّ من غمض النظر و إسقاط الأقوال و الوجوه التی تکون ظاهر الفساد- کاحتمال أن یکون الاقتضاء بنحو العینیة أو التضمّن- و قصر النظر إلی الوجوه و الأقوال المعتنی بها فی المسألة، و هی- کما أشرنا- تدور مدار الاستلزام و المقدّمیة؛ فإذن الاقتضاء بمعناه من الاستلزام. فظهر: أنّ هذه المسألة، مسألة اصولیة عقلیة.

و لا یخفی: أنّه یترتّب علیها آثار و برکات فی الشرع و الشریعة، بخلاف مسألة الملازمة بین وجوب الشی ء و وجوب مقدّمته؛ فإنّها قلیلة. مثلًا: لو امر بالتیمّم فی ضیق الوقت و لم یتیمّم بل توضّأ أو اغتسل، فیقع البحث فی صحّة وضوئه أو غسله؛ فإن قلنا بأنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه فیقع وضوؤه أو غسله باطلًا، و إلّا فلا، و هکذا ... کما سیظهر لک قریباً.


1- کفایة الاصول: 160.

ص: 257

فظهر: أنّ المراد ب «الاقتضاء» فی عنوان البحث، الاستلزام و لو بنحوٍ من المسامحة. و لک تبدیل عنوان البحث إلی أنّ: «الأمر بالشی ء هل یستلزم النهی عن ضدّه؟»، أو إلی أنّ: «إرادة الشی ء هل یستلزم إرادة ترک ضدّه أم لا؟» و العبارات مختلفة و الأمر واضح، فالخطب سهل.

ثمّ إنّ للضدّ إطلاقات؛ لأنّه یطلق تارة و یراد منه الترک الذی یسمّی بالضدّ العامّ، و یطلق اخری و یراد منه أحد الأضداد الخاصّة بعینه، و یطلق ثالثة و یراد منه أحد الأضداد الوجودیة لا بعینه.

و لکن الذی وقع البحث عنه کثیراً و ممّا ینبغی الالتفات إلیه و یکون مطرحاً للأنظار، هو الضدّ الخاصّ؛ لأنّه تراهم یعبّرون: أنّ الأمر بالشی ء فوراً- کالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد مثلًا- هل یقتضی و یستلزم النهی من الشارع عن ضدّه الخاصّ- کالصلاة مثلًا- أم لا؟

و کیف کان: استدلّ بعضهم لاقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ بوجهین: الأوّل من ناحیة المقدّمیة، و الثانی من ناحیة الاستلزام:

ص: 258

الوجه الأوّل إثبات اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ من ناحیة المقدّمیة و تزییفه

اشارة

مرجع هذا الوجه إلی کون ترک الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه؛ و ذلک لأنّ بین الضدّین تمانعاً و تضادّاً و تنافیاً. و لازم ذلک هو: أن یکون أحد الشیئین مانعاً أو مضادّاً أو منافیاً لوجود الآخر، و بالعکس. فالصلاة- مثلًا- مانعة عن إزالة النجاسة عن المسجد، و بالعکس فی وقت واحد.

و واضح: أنّ عدم المانع من مقدّمات وجود الشی ء، فترک المانع مقدّمة لفعل الضدّ، و مقدّمة الواجب واجبة. فعلی هذا: یکون ترک الصلاة عند الأمر بالأهمّ کإزالة النجاسة عن المسجد مثلًا- واجباً؛ ففعلها حرام و منهیّ عنها؛ فتکون باطلة.

فهذا الوجه إنّما یفید لاقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ بعد تمامیة امور ثلاثة:

أحدها: أن ترک الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه.

ثانیها: مقدّمة الواجب واجبة.

ثالثها: اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ- و المراد به نقیض الواجب- سواء کان عدمیاً أو وجودیاً، کما فی المقام؛ فإنّ الصلاة- مثلًا ضدّ عامّ لترک الصلاة الذی یکون مقدّمة لإنقاذ الغریق الذی یکون أهمّ.

فإذا لم تتمّ هذه الامور- و لو بالإشکال فی واحد منها- فلا یتمّ الاستدلال.

ص: 259

تزییف الوجه الأوّل بعدم تمامیة الامور المتوقّفة علیها
اشارة

فقد اشکل علی الامور المذکورة:

عدم تمامیة کون ترک الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ
اشارة

أمّا الأمر الأوّل- و هو أنّ ترک الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه- فاشکل علیه من وجوه:

الوجه الأوّل: ما أورده المحقّق الخراسانی قدس سره حیث قال: إنّ المعاندة و المنافرة بین الشیئین لا تقتضی إلّا عدم اجتماعهما فی التحقّق، و حیث إنّه لا منافاة أصلًا بین الضدّ و عدم ضدّ الآخر، بل بینهما کمال الملاءمة، کان أحد الضدّین مع عدم ضدّ الآخر فی رتبة واحدة، من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدّم أحدهما علی الآخر، کما لا یخفی. فلا یکون عدم أحدهما فی الرتبة السابقة مقدّمة لفعل ضدّه، کما یراه القائل بمقدّمیة ترک أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر(1)

. و فیه: أنّه إذا کان بین الشیئین معاندة و مضادّة و إن یوجب ذلک أن یکون بین الضدّ و عدم الضدّ الآخر ملائمة، و لکن لا یوجب ذلک أن یکونا فی رتبة واحدة؛ و ذلک لأنّ العلّة غیر معاندة لمعلولها- بل یکون بین العلّة و بین معلولها کمال الملاءمة، و المعلول مترتّب علی علّته- و لکن مع ذلک تتقدّم العلّة رتبةً علی معلولها.

و بالجملة: مجرّد الملاءمة بین شیئین لا یثبت وحدة الرتبة بینهما، فلا بدّ لإثبات اتّحاد الرتبة من التماس دلیل آخر.


1- کفایة الاصول: 161.

ص: 260

و یمکن توجیه مقال المحقّق الخراسانی قدس سره فی کون أحد الضدّین فی رتبة عدم الضدّ الآخر: بأنّ الحمل الشائع الصناعی ینقسم إلی قسمین:

حمل ذاتی حقیقی: و هو ما یکون الموضوع فیه مصداقاً ذاتیاً للمحمول بلا ضمّ حیثیة زائدة علی ذاته، کما فی «زید إنسان»، و «البیاض أبیض».

و حمل عرضی: و هو ما یکون مصداقیة الموضوع فیه للمحمول بحیثیة زائدة علی ذاته، کما فی مصداقیة «الجسم الأبیض» للأبیض؛ إذ لا یکفی فی کون الجسم مصداقاً للأبیض إلّا إذا تخصّص بخصوصیة زائدة علی ذاته.

فإذن: السواد و إن لم یصدق علی البیاض، إلّا أنّ عدم السواد یصدق علیه حملًا بالعرض لا بالذات؛ لأنّ حیثیة الوجود حیثیة منشئیة الأثر و طاردیة العدم، فلا یکاد یکون عین عدم الآخر بالذات. و لکن یتّحدان بالعرض و یکون وجوده راسِماً لعدمه. فعلی هذا: یکون الحمل بینهما کاشفاً عن اتّحادهما فی الخارج اتّحاداً مصداقیاً بالعرض.

و أنت خبیر بأنّ العلّة لا تتّحد مع معلولها فی الخارج؛ لا حقیقة و لا بالعرض.

بداهة أنّ العلّة مقدّمة رتبةً علی معلولها، و المعلول ناشئٌ منها و مفاض عنها، و ما هذا شأنه لا یعقل أن یتّحد مع المتأخّر، فالاتّحاد الذی هو مفاد الحمل یأبی أن یکون أحدهما مقدّماً رتبةً و الآخر متأخّراً عنه کذلک. فإذن: مقتضی الحمل و إن کان عرضیاً، یوجب أن یکون الموضوع متّحداً مع محموله فی الرتبة.

و بالجملة: السواد الخاصّ- مثلًا- مصداق حقیقی و ذاتی للسواد، و هو أیضاً مصداق عرضی لمفهوم عدم البیاض، فإذا کان شی ء مصداقاً لمفهومین- و إن کان أحدهما مصداقاً حقیقیاً و الآخر عرضیاً- فهما فی رتبة واحدة، لا تقدّم و لا تأخّر لأحدهما علی الآخر.

ص: 261

و لک أن تقول بعبارة أوجز: إنّ السواد لا یصدق علی البیاض، و إلّا اجتمع الضدّان. و مع عدم صدقه فلا بدّ و أن یصدق علیه نقیضه، و إلّا ارتفع النقیضان، و الصدق یقتضی الاتّحاد، و هو ینافی التقدّم و التأخّر رتبة؛ فثبت اتّحادهما رتبةً.

هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به مقال المحقّق الخراسانی قدس سره.

و لکنّه مع ذلک غیر وجیه و لا یخلو عن مغالطة؛ لأنّ نقیض کلّ شی ء رفعه أو مرفوع به؛ فکما أنّ النقیض فی المفرد- أعنی الوجود- رفعه، فکذلک النقیض فی القضیة التی هی ثبوت شی ء لشی ء هو رفع الثبوت بنحو السلب التحصیلی، لا إثبات الرفع بنحو الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول. مثلًا: نقیض «زید قائم»، «زید لیس بقائم» علی نعت السلب التحصیلی، لا «زید لا قائم» بنعت الموجبة المعدولة أو السالبة المحمول.

فعلی هذا نقول فی المثال: نقیض «صدق البیاض» «لا صدق البیاض» علی نحو السلب التحصیلی، لا «صدق عدم البیاض» علی نعت الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول؛ لأنّ الأعدام- کما قرّر فی محلّه- لا حظّ لها من الوجود لتثبت علی شی ء أو یثبت علیها شی ء.

و بالجملة: نقیض صدق الشی ء هو عدم صدقه، لا صدق عدمه بأحد النحوین حتّی یلزم اتّحادهما فی الوجود- و لو بالعرض- الموجب لاتّحادهما رتبة. هذا أوّلًا.

و ثانیاً: لو سلّم ذلک نقول: إنّ حیثیة العدم غیر حیثیة الوجود؛ لأنّ العدم باطل صرف و عاطل محض لا شأن له فی صفحة الوجود؛ حتّی قولنا: «لا شأن له» لو ارید به الاتّصاف.

و بالجملة: لا یکون للعدم حیثیة واقعیة و تحقّق خارجی، بل هو باطل صرف، فکیف یحمل و یتّحد مع حیثیة الوجود التی هی منشأ للآثار؟!

ص: 262

إن قلت: فإذا کان کذلک فما وجه ما یقال: إنّ القضیة المعدولة بحکم الموجبة و تجری فیها القاعدة الفرعیة؟! و مقتضی الحمل فیها إثبات الحیثیة العدمیة علی الوجود.

قلت: ذلک توسّع فی العبارة، و إسراء حکم المضاف إلیه إلی المضاف، و إشارة إلی أنّ الموضوع ذا حیثیة وجودیة لا إثبات المعنی العدمی علی الموضوع.

و لذا إنّما یعتبرون المعدولة فی مورد یکون ذا ملکة و له شأنیة ذلک، کقولک:

«زید لا بصیر». و أمّا فی مورد لا یکون بتلک المثابة فلا. و لذا لا یقال: «الجدار لا بصیر»؛ لعدم شأنیة الجدار للبصر، بل یقال: «الجدار لیس ببصیر»؛ لعدم اعتبار الشأنیة فی السالبة المحصّلة، فتدبّر.

فإذن: فما هو المعروف بین بعضهم: أنّ الأعدام المضافة لها حظّ من الوجود(1)، توسّع فی العبارة و إسراء حکم المضاف إلیه إلی المضاف، و إلّا فالذی له حظّ من الوجود هو الملکة لا العدم، فتدبّر.

فعلی هذا: فالمعدولة فی الحقیقة لا بدّ و أن ترجع إلی السالبة المحصّلة، و إن کانت بحسب الظاهر موجبة، کما هو الشأن فی بعض القضایا الموجبة؛ فإنّها بحسب الظاهر و الصورة موجبة، لکنّها سالبة واقعاً.

و ذلک کقولنا: «شریک الباری ممتنع»؛ فإنّه و إن کان بحسب الظاهر موجبة، و لکنّه فی المعنی و اللُبّ سالبة محصّلة؛ لأنّه لو ابقی علی صورته یکون مقتضاه اتّحاد شریک الباری مع الامتناع فی نفس الأمر، و هو کما تری. فمعنی قولنا: «شریک الباری ممتنع»: أنّ شریک الباری لیس بموجود البتّة و بالذات، فتدبّر.


1- الحکمة المتعالیة 1: 344، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 47.

ص: 263

و ثالثاً: لو سلّم ذلک فغایة ما یقتضیه الحمل هو اتّحاد الموضوع مع المحمول وجوداً، و لا یلزم من ذلک اتّحادهما رتبةً؛ لأنّه یصحّ الحمل بین الجنس و الفصل، و مع ذلک یتقدّم الجنس علی الفصل، و أجزاء المرکّب لها تقدّم علی المجموع المرکّب، و مع ذلک یقع الحمل بینهما کما لا یخفی، فتدبّر.

الوجه الثانی- من الوجوه التی اقیمت لإنکار مقدّمیة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر- ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره فی موارد؛ منها فی مسألة لباس المشکوک فیه، و رتّب علیه آثاراً.

فقال ما حاصله: إنّ عمدة مستند القول بمقدّمیة ترک أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر هو تمانع الضدّین، و معلوم: أنّ عدم المانع من أجزاء علّة وجود الشی ء. و لکنّه فاسد. توضیح الفساد یتوقّف علی بیان المراد من المانع- الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة- فنقول: المانع هو ما یوجب المنع عن رشح المقتضی، بحیث لولاه لأثّر المقتضی أثره- و هو إفاضته لوجود المعلول- و هذا المعنی من المانع لا یتحقّق إلّا بعد فرض وجود المقتضی بما له من الشرائط؛ فإنّه عند ذلک تصل النوبة إلی المانع؛ لأنّ مانعیة وجود أحدهما للآخر إنّما یکون بعد فرض وجود المقتضی لکلا الضدّین؛ لأنّ کون أحدهما مانعاً لا یکون إلّا بعد تحقّق علّته التامّة- من المقتضی و الشرط و عدم المانع- حتّی یتحقّق له وجود لیکون مانعاً من وجود الآخر. فالمقتضی لنهی الضدّ- الذی فرض مانعاً- لا بدّ و أن یکون موجوداً.

ثمّ فرض مانعیة هذا الضدّ للضدّ الآخر لا یکون إلّا بعد وجود مقتضیه؛ لما عرفت: أنّ مانعیة الشی ء إنّما هی بعد وجود المقتضی، ففرض مانعیة أحد الشیئین للآخر لا یکون إلّا بعد فرض وجود المقتضی لکلّ من الضدّین، و ذلک محال؛ لأنّه کما لا یمکن اجتماع الضدّین، کذلک لا یمکن اجتماع مقتضیهما؛ لتضادّ مقتضیهما عند ذاک.

ص: 264

فإذا امتنع اجتماع مقتضی الضدّین لا یمکن أن یکون أحدهما مانعاً عن الآخر؛ لما عرفت من توقّف المانعیة علی ذلک، و یکون عدم الشی ء مستنداً إلی وجود المانع.

و أمّا قبل ذلک فلیس رتبة المانع؛ لوضوح أنّه لا یکون الشی ء مانعاً عند عدم المقتضی أو عدم شرطه. فلا یقال للبلّة الموجودة فی الثوب: إنّها مانعة عن احتراق الثوب، إلّا بعد وجود النار و تحقّق المجاورة و المماسة بینها و بین الثوب. و أمّا مع عدم النار أو عدم المجاورة فیکون عدم الاحتراق مستنداً إلی عدم المقتضی أو شرطه؛ فإنّ الشی ء یستند إلی أسبق علله.

فرتبة المانع متأخّرة عن رتبة المقتضی و الشرط، و رتبة المقتضی متقدّمة علی الشرط و المانع. فکما أنّ المعلول مترتّب علی علّته بجمیع أجزائها؛ فیقال:

«وجدت العلّة؛ فوجد المعلول» و یتخلّل بینهما فاء الترتیب، فکذلک أجزاء العلّة من المقتضی و الشرط و عدم المانع تکون مترتّبة، فیقال: وجد المقتضی فوجد شرطه فلم یکن ما یمنعه.

و لا یخفی: أنّه لیس المراد من ترتّب أجزاء العلّة، ترتّب ذواتها فی الوجود، لوضوح أنّه یمکن وجود ذات البلّة فی الثوب- مثلًا- قبل وجود النار، کما یمکن وجود النار و المجاورة دفعة واحدة. بل المراد الترتّب فی الاستناد و التأثیر علی وجه یصحّ إطلاق الشرط أو المانع علی الشی ء.

و یتفرّع علی ما ذکرنا- من تأخّر رتبة المانع عن المقتضی و الشرط- امور:

منها: عدم إمکان جعل أحد الضدّین شرطاً و الآخر مانعاً، و إنّ مثل هذا الجعل ممتنع، کما أوضحناه فی «رسالة اللّباس المشکوک فیه»(1).


1- رسالة الصلاة فی المشکوک: 123.

ص: 265

و منها: عدم إمکان مانعیة وجود أحد الضدّین للآخر.

و لا فرق فی عدم اجتماع مقتضی الضدّین بین المقتضیات التکوینیة الخارجة عن القدرة و الإرادة، و بین المقتضیات الإرادیة؛ لأنّ تعلّق الإرادة بإیجاد کلّ من الضدّین محال- سواء کانت إرادة شخصٍ واحد، أو إرادة شخصین- فإنّ المقتضی فی الشخصین یکون هو الإرادة القاهرة الغالبة علی إرادة الآخر، فتخرج الإرادة المغلوبة عن کونها مقتضیة فعلًا، فلا یمکن وجود المقتضی لکلّ من الضدّین مطلقاً(1)، انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّه لا یکون وزان أجزاء العلّة بعضها بالنسبة إلی بعض وزان العلّة بالنسبة إلی معلولها من حیث الترتّب و تخلّل الفاء بینهما؛ و ذلک لأنّ المعلول مترشّح و مفاض من العلّة، و هی علّة له و مفیض له، و المقتضی لم یکن علّة للشرط، و لا لعدم المانع، و لا یکونان مفاضین منه. و کذا الشرط لم یکن علّة لعدم المانع.

و بالجملة: لم یکن فی أجزاء العلّة بعضها بالنسبة إلی بعض ملاک التقدّم الطبیعی. و أمّا التقدّم الوجودی و الزمانی فواضح أنّه لا یکون بینهما، و قد صرّح المحقّق النائینی قدس سره بذلک أیضاً.

نعم، غایة ما یکون، هی الإطلاق العرفی؛ لأنّ استناد عدم المعلول إلی وجود المانع إنّما هو فی صورة وجود المقتضی و الشرط، کما أنّ استناد عدم المعلول إلی عدم الشرط إنّما هو فی صورة وجود المقتضی، و هذا غیر مهمّ؛ بداهة أنّ مجرّد ذلک لا یوجب ترتّباً عقلیاً بین أجزاء العلّة بعضها مع بعض حتّی یقاس ذلک بالعلّة بالنسبة إلی معلولها.

و ثانیاً: أنّ عدم إمکان اجتماع الضدّین لا یوجب عدم إمکان اجتماع مقتضیهما؛


1- فوائد الاصول 1: 306- 308.

ص: 266

و ذلک لأنّ محالیة اجتماع الضدّین لا یکون بلحاظ مجرّد اجتماعهما فی الوجود، بل المحالیة لأجل اجتماعهما فی محلّ واحد.

فعلی هذا القول: لا یلزم أن یکون مقتضی الضدّین موجودین فی محلّ واحد.

مثلًا افرض أنّ رجلین جلس کلٌّ منهما قبال الآخر، فجرّ کلّ منهما جسماً إلی جانبه فی آنٍ واحد، و هذا ممکن واقع، و مع ذلک لا یمکن أن یکون جسم واحد فی زمان واحد فی مکانین.

و بالجملة: منشأ ما ذکره قدس سره هو توهّم أنّ مقتضی الضدّین کنفس الضدّین لا بدّ و أن یکونا فی محلّ واحد، و قد عرفت فساده.

و ثالثاً- و هو عجیب-: أنّه حیث رأی قدس سره أنّه یمکن أن یکون لشخصین إرادتان؛ یرید أحدهما وجود أحد الضدّین فی زمان واحد و مکان فارد، و الآخر وجود الضدّ الآخر فی ذلک الزمان و المکان، و مقتضی ذلک: إمکان اجتماع الضدّین، فقال: «إنّ المقتضی فی الشخصین هو الإرادة القاهرة و الغالبة علی إرادة الآخر، و الإرادة المقهورة لم تکن مقتضیاً». و مراده بالمقتضی هنا ما یترتّب علیه الأثر فعلًا، بعد ما کان المقتضی عنده عند التکلّم فی أجزاء العلّة هو شأنیة ترتّب الأثر.

فعلی تقدیر کون المقتضی ما یترتّب علیه الأثر فعلًا، یلزم أن لا یکون المانع موجوداً، و قد فرض أنّ لأجزاء العلّة ترتّباً، و لا یکاد یستند إلی المانع إلّا بعد وجود المقتضی؛ فیلزم أن یکون الشی ء حال عدمه مانعاً؛ فیلزم اجتماع النقیضین.

فعلی هذا: لو کان کلامه قدس سره فی رسالة اللباس المشکوک فیه مبتنیاً علی هذا فلا یکون تماماً، اللهمّ إلّا أن یکون مبتنیاً علی غیر ذلک.

ص: 267

ثمّ إنّ ما نسبه(1) أخیراً إلی المحقّق الخونساری و المحقّق صاحب الحاشیة 0- و لم یحضرنی عجالةً کتابهما(2)- بعید منهم.

الوجه الثالث: ربّما یناقش فی مقدّمیة ترک أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر بما یمکن استفادته من کلام المحقّق الخراسانی قدس سره أیضاً(3)، و أشار إلیه تلمیذه الجلیل العلّامة القوچانی قدس سره فی تعلیقته الأنیقة(4)؛ من دعوی وحدة رتبة ترک الضدّ مع الضدّ الآخر.

و حاصل ما أفاده یلتئم من امور:

الأمر الأوّل: أنّ النقیضین فی رتبة واحدة، بمعنی: أنّ نقیض الوجود فی ظرف معیّن من الزمان أو المکان، أو فی مرتبة من مراتب الواقع لیس إلّا العدم فی ذلک الزمان أو المکان أو تلک المرتبة؛ إذ لا تعاند و لا تنافی غیر هذا الوجه؛ بداهة أنّه لا یعاند وجود زید فی هذا الیوم- مثلًا- عدمه فی الغد، کما لا یعاند وجوده فی هذا المکان عدمه فی مکان آخر، کما لا یعاند وجود المعلول فی رتبة نفسه عدمه فی رتبة العلّة.

الأمر الثانی: أنّ الضدّین أیضاً یکونان فی رتبة واحدة و یظهر الحال فیه ممّا ذکرناه فی النقیضین؛ ضرورة أنّه لو فرض وجود ضدّ- کالسواد مثلًا- فی زمان معیّن


1- فوائد الاصول 1: 308 و 309.
2- انظر مطارح الأنظار: 105/ السطر 3 و 36، هدایة المسترشدین 2: 224.
3- قلت: حیث قال قدس سره: إنّ المنافاة بین المتناقضین کما لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر، کذلک فی المتضادّین ... إلی آخر ما ذکره، لاحظ کفایة الاصول: 161.[ المقرّر حفظه اللَّه]
4- حاشیة کفایة الاصول، العلّامة القوچانی 1: 112، الهامش 231.

ص: 268

فی موضوع مشخّص، فضدّه الغیر المجامع معه هو البیاض فی تلک القطعة من الزمان و فی ذاک الموضوع المشخّص؛ لعدم التنافی و التعاند لو تحقّقا فی قطعتین من الزمان أو موضوعین.

و بالجملة: امتناع اجتماع الضدّین و تنافیهما إنّما هو فی صورة تحقّقهما فی موضوع واحد و زمان فارد، و إلّا فلا تنافی بینهما و لا امتناع، کما لا یخفی.

أضف إلی ذلک: أنّ امتناع اجتماع الضدّین یرجع إلی امتناع اجتماع النقیضین- الذی قالوا فیه: إنّه امّ القضایا- و قد عرفت آنفاً: أنّ الامتناع فی اجتماع النقیضین إنّما هو مع وحدة الرتبة، فکذلک فی اجتماع الضدّین.

الأمر الثالث- و هو لازم الأمرین و نتیجتهما-: أنّ أحد الضدّین مع نقیض الآخر فی رتبة واحدة. و إن شئت قلت: نقیض أحدهما مع الضدّ الآخر فی رتبة واحدة.

و ذلک لأنّه إذا ثبت أنّ «ألف»- مثلًا- و نقیضه- و هو «اللاألف»- فی رتبة واحدة، و أنّ «ألف» و ضدّه- و هو «الباء»- فی رتبة واحدة، فیکون «ألف»- و هو أحد الضدّین- مع «لا ب»- و هو نقیض الآخر- فی رتبة واحدة.

بداهة: أنّ «الباء» مساوٍ رتبةً مع «ألف»، و رتبة «ألف» مساوٍ مع عدم الألف؛ فالألف مساوٍ لعدم الباء؛ لأنّ مساوی المساوی مساوٍ.

فظهر: أنّه لا یکون ترک أحد الضدّین مقدّمة لوجود الضدّ الآخر، بل هما فی رتبة واحدة. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توضیح کلامه قدس سره.

و لکن مع ذلک کلّه: لا یتمّ شی ء من الامور الثلاثة، مع أنّ عدم تمامیة واحد منها کافٍ فی بطلانه:

أمّا کون النقیضین فی رتبة واحدة: فمنشأ ما ذکره هو خلط القضیة السالبة

ص: 269

المحصّلة بالموجبة المعدولة، مع وجود الفرق بینهما؛ فربّما یستعمل إحداهما مکان الاخری، فیحصل الاشتباه، مثلًا: وجودنا لا یکون فی رتبة واجب الوجود تعالی- و هو واضح- فعلی ما ذکره یلزم أن یکون عدمنا فی تلک الرتبة؛ و إلّا یلزم ارتفاع النقیضین.

و هو کما تری؛ لأنّ نقیض کلّ شی ء رفعه، لا إثبات العدم له. فنقیض «زید قائم»، «زید لیس بقائم»، لا أنّ عدم القیام ثابت له، أی: تکون الرتبة قیداً للمسلوب لا السلب. فنقیض وجود المعلول فی رتبة العلّة، سلب وجود المعلول فی هذه الرتبة علی أن تکون الرتبة قیداً للمسلوب، فإذا لم یصدق وجود المعلول فی رتبة العلّة لصدق نقیضه؛ و هو عدم کونه فی رتبتها بنحو السلب التحصیلی، لا کون عدمه ثابتاً فی الرتبة حتّی یقال: إنّ النقیضین فی رتبة واحدة، فتدبّر.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ النقیضین لا یکونان فی رتبة واحدة، و لیس نقیض الشی ء عدمه البدیلی- بأن یکون العدم فی الرتبة- بل النقیض رفع الوجود الذی فی الرتبة، علی أن یکون القید قیداً للمسلوب.

و بما ذکرنا- من عدم وحدة الرتبة فی النقیضین- یظهر لک الأمر فی الضدّین، و أنّهما لا یکونان فی رتبة واحدة؛ لأنّ مناط الامتناع فی اجتماع الضدّین هو لزوم اجتماع النقیضین(1). بل حال امتناع اجتماع الضدّین أسوأ من امتناع اجتماع النقیضین؛ لأنّ الممتنع فی الضدّین هو الاجتماع فی موضوع واحد بحسب وجوده الخارجی،


1- قلت: قد کان یشیر سماحة الاستاذ- دام ظلّه- فی غیر هذا الموضع: أنّ حدیث« مناط امتناع اجتماع الضدّین هو لزوم اجتماع النقیضین» لا یکون له رکن وثیق، بل کما أنّ العقل یحکم بامتناع اجتماع النقیضین، کذلک یحکم بامتناع اجتماع الضدّین أیضاً. و التفصیل یطلب من غیر هذا الموضع، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 270

فلا یکون مربوطاً بالرتب العقلیة؛ لأنّ الرتب العقلیة غیر مربوطة بالخارج- الذی هو ظرف المضادّة- و قد یجتمع المترتّبان عقلًا، خارجاً فی زمان واحد، کالعلّة و المعلول، فتدبّر.

و لو سلّم کلتا المقدّمتین، فمع ذلک لا تتمّ الملازمة المدّعاة؛ و ذلک لأنّه لو قلنا:

إنّ کلًاّ من النقیضین و الضدّین فی رتبة واحدة، و لکن لا یلزم من ذلک أن یکون وجود أحد الضدّین فی رتبة نقیض الآخر، کما هو الشأن فی التقدّم و التأخّر الزمانیین أو المکانیین، لما تقرّر فی محلّه: أنّ للرتب العقلیة ملاکات خاصّة، ربّما یکون الملاک موجوداً فی الشی ء دون ما یکون متّحداً معه فی الرتبة.

و ذلک لأنّ العلّة متقدّمة علی المعلول، و هو متأخّر عنها بملاک النشوء و الترشّح. و لکن لا یوجب ذلک أن یکون ما مع المتقدّم و فی رتبته من حیث صدورهما عن علّة واحدة متقدّماً علی هذا المعلول؛ لعدم وجود الملاک بینه و بین ما هو فی رتبة علّته.

و إن شئت مزید توضیح لذلک فنقول: إنّ المرکّب من عدّة أجزاء، له تأخّر عن أجزائه، و لها تقدّم علیه تقدّماً جوهریاً. و لکن لا یلزم من ذلک أن یکون ما مع أجزائه و فی رتبتها- من حیث صدورهما من علّةٍ واحدة- متقدّماً علی المرکّب؛ لعدم وجود الملاک.

نعم، مع المتقدّم فی الزمان أو المکان یکون متقدّماً زماناً أو مکاناً علی ذلک الشی ء المتأخّر.

و لعلّ منشأ التوهّم هو مقایسة الرتب العقلیة بالأزمنة و الأمکنة.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لم یتمّ شی ء ممّا ذکر لإثبات أنّ عدم الضدّ فی رتبة الضدّ الآخر.

ص: 271

الوجه الرابع: لزوم الدور لو کان ترک الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، قال المحقّق الخراسانی قدس سره: لو اقتضی التضادّ و التمانع بین الضدّین توقّف وجود الشی ء علی عدم ضدّه، توقّف الشی ء علی عدم مانعه- لأجل أنّ عدم المانع من مقدّمات وجوده- لاقتضی أن یکون عدم الضدّ متوقّفاً علی وجود الآخر؛ توقف عدم الشی ء علی وجود مانعه، فلو توقّف وجود السواد- مثلًا- علی عدم البیاض یلزم توقّف عدم البیاض علی وجود السواد، و هو دور واضح(1)

. و قد تفصّی عن محذور الدور: باختلاف نحوی التعلّق؛ فإنّ التوقّف من إحدی الجانبین فعلی- و هو توقّف وجود الضدّ علی عدم ضدّه- و من طرف الآخر شأنی- و هو توقّف عدم الضدّ علی وجود الضدّ الآخر- لأنّه یتوقّف علی فرض ثبوت المقتضی له مع اجتماع سائر الشرائط، غیر عدم وجود ضدّه. و لعلّه کان محالًا؛ لانتهاء عدم وجود أحد الضدّین مع وجود الضدّ الآخر إلی عدم تعلّق الإرادة الأزلیة به، و تعلّقها بوجود الضدّ الآخر حسب ما اقتضته الحکمة الإلهیة، فیکون العدم دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی؛ فلا یکاد یکون مستنداً إلی وجود المانع کی یلزم الدور.

و بالجملة: التوقّف فی طرف الوجود فعلی و فی الطرف الآخر شأنی؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه(2)

. فأجاب عنه المحقّق الخراسانی قدس سره بما حاصله(3): أنّ ما تفصّی به و إن کان یرفع محذور الدور الاصطلاحی، إلّا أنّ محذور الدور و غائلته- و هو توقّف وجود


1- کفایة الاصول: 161.
2- قد یقال: إنّ المتفصّی هو المحقّق الخونساری قدس سره. انظر مطارح الأنظار: 105.
3- کفایة الاصول: 162.

ص: 272

الشی ء (أی الضدّ) علی ما یصلح أن یتوقّف علیه- بعد باقٍ، أی: توقّف الشی ء علی نفسه باقٍ بحاله؛ ضرورة أنّه کما أنّ توقّف «ألف» علی «الباء» و «الباء» علی «ألف» محال- لتوقّفه علی ما یتوقّف علیه- فکذلک لو توقّف «ألف» علی ما یصلح أن یتوقّف علیه یکون محالًا(1)

. و لا یخفی: أنّ ما ذکر فی هذا المضمار- من توقّف وجود الشی ء علی عدم ضدّه، أو توقّف عدم الضدّ علی وجود الضدّ الآخر، و أنّ توقّف وجود الشی ء علی عدم ضدّه فعلی و توقّف عدم الضدّ علی وجود الضدّ شأنی، إلی غیر ذلک من العبائر الدالّة علی أنّ للعدم أو عدم المضاف شأناً و حظّاً من الوجود، بحیث یکون موقوفاً علی شی ء أو یتوقّف علیه أمر وجودی- غیر صحیح؛ لما تقدّم غیر مرّة: أنّ الأعدام- و لو المضاف منها- باطلات صرفة و عاطلات محضة، لا حظّ لها من الوجود؛ فلا تتوقّف علی شی ء و لا یتوقّف علیها شی ء، و الحظّ و التأثیر و التأثّر إنّما هو للوجود.

هذا إجمال المقال فی المقام. و مع ذلک نقول: إنّ المطاردة و التمانع بین الضدّین لو اقتضی التوقّف فإنّما تقتضی توقّف وجود أحدهما علی عدم الآخر و وجود الآخر علی عدم هذا، لا عدم الآخر علی وجوده. مثلًا: لو تعاند السواد مع البیاض، و توقّف وجود البیاض علی عدم السواد، فمقتضاه توقّف وجود السواد علی عدم البیاض،


1- قلت: و بالجملة- کما افید- : إنّ عدم الصلاة- مثلًا- موقوف شأناً علی وجود الإزالة؛ بمعنی أنّه لو وجد المقتضی و سائر الشرائط لإتیان الصلاة، و وجد ضدّها- و هو الإزالة- أیضاً، یکون عدم الصلاة لا محالة مستنداً إلی وجود ضدّها- و هو الإزالة- و المفروض: توقّف وجود الإزالة فعلًا علی ترک الصلاة؛ فیکون ترک الصلاة موقوفاً علی نفس هذا الترک؛ فلم ترتفع محذور الدور- و هو توقّف الشی ء علی نفسه- بجعل التوقّف من طرف العدم شأنیاً، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 273

لا عدم السواد علی وجود البیاض؛ لأنّ المطاردة بین العینین.

نعم، لو کانت المطاردة- مضافاً إلی کونها بین العینین- بین عدمهما أیضاً لتمّ ما ذکر؛ لأنّه لأجل المطاردة العدمیة بینهما أیضاً یطارد عدم کلّ منهما عدم الآخر، و یتوقّف عدم أحدهما علی عدم الآخر، و هو ملازم لوجود الآخر؛ فیلزم محذور الدور، لا الدور المصطلح؛ لأنّ وجود السواد یتوقّف علی عدم البیاض؛ للمطاردة بین الوجودین، و عدم البیاض یتوقّف علی عدم السواد الملازم لوجود السواد؛ فیلزم محذور الدور.

و لکنّه تخیّل محض؛ لما أشرنا أنّ المطاردة إنّما هی بین العینین، و ما لم یکن موجوداً عدم صرف و باطل محض، فما ظنّک بمطاردته.

و لعلّ منشأ ذلک ما قد یوجد فی کتب المعقول؛ فإنّهم کما یعبّرون عن علّیة الوجود لوجود شی ء، فکذلک قد یعبّرون بأنّ الماهیة علّة لماهیة، و أنّ العدم علّة للعدم. و قد یقولون: إنّ للأعدام المضافة حظاً من الوجود، إلی غیر ذلک من العبائر الموهمة أنّ للأعدام أو الأعدام المضافة شیئیةً و تأثیراً.

و لکن الخبیر المتضلّع متفطّن علی أنّ ذلک منهم لاستئناس أذهان المبتدئین فی ابتداء الأمر لفهم بعض المطالب، و إلّا فهم مصرّحون فی أواسط الأمر و نهایته: أنّ الأعدام باطلات محضة و عاطلات صرفة لا تکاد تشمّ رائحة الوجود، فضلًا عمّا هو عارض له.

فینبغی للمتدرّب فی کلّ علم و فنّ أن یأخذه من أهل علمه و فنّه و یتأمل فی جمیع أطرافه و جوانبه، و لا یأخذه من غیر أهله، و لا یعترض علی کلّ ما یلاحظه و یشاهده مع عدم التدبّر و التأمّل فیه و فی جوانبه و أطرافه.

أ لا تری: أنّ الشیخ الرئیس أبا علی سینا مع نبوغه و عظمة منزلته- بحیث

ص: 274

حکی: أنّه ألّف کتاب «القانون» الذی یُعدّ من أنفس کتب الطبّ، بحیث کان مصدراً للأعاظم و الأکابر- فی 23 یوماً- فقد حکی عنه أنّه قال عند ما وصل إلی کتاب ما وراء الطبیعة لأرسطو: کنت اطالعه و اکرّر النظر فیه أربعین مرّة، و مع ذلک لم أکد أفهمه، و کنت أتوسّل و أستمدّ من المبادئ العالیة لفهمه(1)

. و تری مع ذلک توجد إشکالات علیه، فما ظنّک بغیره!

و بالجملة: لا بدّ من الدقّة و التأمّل فی کلمات القوم حتّی لا یختلط علیه الأمر، کما وقع الخلط من بعضهم.

فنقول: مراد قائل تلک العبارات: أنّ العدم باطل صرف و عاطل محض مطلقاً- حتّی العدم المضاف- و لا حظّ له من الوجود و برکاته، و الحظّ و البرکة إنّما هو لما اضیف إلیه العدم.

و مجرّد کون العدم المضاف قابلًا للإدراک لو أوجب له حظّاً من الوجود، لکان العدم المطلق أیضاً کذلک؛ لأنّه أیضاً یقبل الإدراک فی الجملة، فتدبّر.

فتحصّل: أنّه لم تکن للأعدام مطلقاً کاشفیة عن الخارج و الواقع، فجمیع الآثار و الأحکام و البرکات مسلوبة عنها بالسلب التحصیلی. ففی الموارد التی ظاهرها إثبات شی ء ثبوتی للعدم أو العدمی- مثل قولهم: إنّ عدم العلّة علّة للعدم، أو عدم المانع شرط- فهو مسامحة فی التعبیر فی مقام تفهیم المُبتدی و تقریب المعنی إلی ذهنه، و إلّا فالعدم باطل محض لا علّیة له و لا شرطیة، بل الوجود علّة و مانع.

ففی الموارد التی ظاهرها إثبات شی ء ثبوتی للعدم أو العدمی بنحو القضیة الموجبة أو الموجبة المعدولة المحمول أو السالبة المحمول، فلا بدّ و أن یرجع إلی السالبة


1- راجع أعیان الشیعة 6: 73.

ص: 275

المحصّلة بانتفاء الموضوع، کما أشرنا آنفاً فی قولنا: «شریک الباری ممتنع»؛ فإنّه و إن کانت بحسب الظاهر قضیة موجبة إلّا أنّ مغزاه قضیة سالبة؛ لأنّ معناه: أنّه لیس شریک الباری بموجود البتة، و السالبة المحصّلة یصدق بانتفاء الموضوع.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا تعلم: أنّ مقدّمیة العدم للوجود و توقّفه علیه کلام شعری لا أساس له، فما وقع فی کلامهم ممّا یوهم خلاف ذلک- مثل أنّهم ربّما یعبّرون: أنّ عدم المانع من مقدّمات وجود الشی ء- مسامحة فی التعبیر، و مرادهم بذلک مضادّة وجوده للآخر.

توجیه مقال المحقّق الأصفهانی

و لعلّه بما ذکرنا یمکن الاعتذار عمّا وقع فی کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره فی المقام؛ من أنّ عدم الضدّ و خلوّ الموضوع عن الضدّ- کالسواد مثلًا- متمّم لقابلیة الموضوع لعروض الضدّ- کالبیاض- و لا ضیر فی کون العدم الذی لا ذات له شروطاً لثبوت شی ء لشی ء؛ لأنّ القابلیات و الاستعدادات و الإضافات و أعدام الملکات کلّها لا مطابق لها فی الخارج، بل شئون و حیثیات انتزاعیة لأُمور موجودة، و ثبوت شی ء لشی ء لا یقتضی أزید من ثبوت المثبت له بنحو یناسب ثبوت الثابت(1)، انتهی.

فإنّ الظاهر: أنّ هذا المحقّق- مع نبوغه و کونه من مهرة الفنّ- غیر ملتزم بما ذکره، و لعلّه وقع منه مماشاة للقوم، أو من غیر التفات و توجّه لما هو المحقّق فی محلّه من عدم التأثیر و التأثّر فی العدمیات.

و کیف یرضی قدس سره مع حذاقته فی المعقول بأنّ عدم الضدّ و عدم البیاض مثلًا من مصحّحات قابلیة المحلّ و الموضوع لقبول الضدّ؛ و هو السواد؟!


1- نهایة الدرایة 2: 183.

ص: 276

و کیف یرضی و یسوّی بین أعدام الملکات و القابلیات و الاستعدادات و الإضافات؟! مع أنّ لها نحواً من الوجود و هی من مراتب الوجود، و إن لم تکن بحیث تمکن الإشارة إلیها، و الأعدام مطلقاً- حتّی الأعدام المضافة و أعدام الملکات- لا حظّ لها من الوجود أصلًا، و إنّما الحظّ و التحقّق للمضاف إلیها و ملکاتها، کما أشرنا آنفاً.

و کیف یرضی؟! و یفرّق و یقول بعدم توقّف العدم علی الوجود؛ مدّعیاً استحالة تأثیر الموجود فی المعدوم، معترفاً بأنّه لیس بشی ء، و لکن یقول بإمکان توقّف الموجود علیه ... إلی آخر ما ذکره، مع أنّهما یرتضعان من ثدی واحد؟! بداهة أنّه إذا کان العدم- و لو المضاف- لیس بشی ء- کما هو کذلک- فکما لا یکاد یتوقّف علی الوجود فکذلک لا یتوقّف علیه الوجود، فتدبّر.

فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّ مقدّمیة ترک أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر غیر مستقیمة.

فظهر: أنّ الأمر الأوّل من الامور التی لا بدّ منها فی إثبات حرمة الضدّ من ناحیة المقدّمیة غیر تمام. هذا کلّه فی الأمر الأوّل من الامور التی یتوقّف علیها اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه. و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- أنّ ترک الضدّ لم یکن مقدّمة لفعل ضدّه.

عدم وجوب مقدّمة الواجب

و أمّا الأمر الثانی و هو وجوب مقدّمة الواجب فقد عرفت بما لا مزید علیه: أنّ مقدّمة الواجب غیر واجبة. و غایة ما یکون هی اللابدّیة العقلیة؛ فمع عدم تمامیة هذا الأمر- لو تمّ الأمر الأوّل- فلا تکاد تنتج مسألة اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه.

ص: 277

عدم اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ

و أمّا الأمر الثالث- و هو اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن نقیضه؛ أی الضدّ العامّ- فقد تقدّم: أنّه إن تمّ الأمران؛ بأن کان ترک الضدّ- و هو الصلاة مثلًا- مقدّمة لفعل ضدّه- و هو الإزالة- و قلنا بأنّ مقدّمة الواجب واجب، فلا بدّ للقول بالاقتضاء من إثبات أنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ، و المراد به نقیض الشی ء سواء کان عدمیاً أو وجودیاً کما فی المقام؛ فإنّ الصلاة- مثلًا- ضدّ عامّ لترک الصلاة التی تکون مقدّمة لإزالة النجاسة التی هی أهمّ؛ فتکون الصلاة منهیاً عنها؛ فتقع باطلة.

و لکن الذی یقتضیه النظر، عدم تمامیة هذا الأمر أیضاً؛ لأنّه إن ارید بالاقتضاء أنّ الأمر بالشی ء عین النهی عن ضدّه العامّ، بحیث یکون مرجع الأمر بالشی ء کالإزالة مثلًا بعثاً إلیها و زجراً عن ترکها، ففیه: أنّه خلاف الضرورة و لا یقبله العقل السلیم، بل الضرورة علی خلافه.

و إن شئت قلت: إنّه لا دلالة للأمر بشی ء علی الزجر؛ لا بهیئته و لا بمادّته؛ لأنّ هیئة الأمر موضوعة للبعث، و المادّة موضوعة لنفس الطبیعة، و شی ء منهما لا یدلّان علی النهی عن الضدّ. و لیس للمجموع منهما- أیضاً- وضع علی حدة.

و إن ارید بالاقتضاء: أنّ الأمر بالشی ء یدلّ- دلالة تضمّنیة- علی النهی عن ضدّه، فهو أیضاً غیر معقول؛ بداهة أنّه لا یعقل أن یقال: إنّ هیئة الأمر و مادّته موضوعة للأمر بالشی ء و النهی عن ضدّه؛ أی مجموعهما. و ما یوجّه لذلک بأنّ الأمر موضوع لطلب الفعل مع المنع عن الترک، ففساده أوضح من أن یخفی.

ص: 278

و إن ارید بالاقتضاء دلالته علیه بالالتزام؛ بمعنی أنّ من یرید من شخص فعلًا یرید عدم ترکه؛ لأنّ الإرادة التشریعیة إرادة البعث، فإذا بعث المولی إلی شی ء ففی ارتکازه إرادة الزجر عن ترکه، بحیث لو توجّه إلیه لزجره، نظیر ما یقال فی مقدّمة الواجب: إنّ إرادة إیجاب المقدّمة ارتکازی، بحیث لو توجّه إلیها لأمر بها، کما هو الشأن فی إنقاذ الولد الغریق الذی غفل عنه والده.

ففیه: أنّه إذا تعلّقت الإرادة التشریعیة الإلزامیة بشی ء لا معنی لتعلّق إرادة اخری بترک ترکه؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة و غایتها؛ لأنّ غایتها هی الوصول إلی المبعوث إلیه، و مع إرادة الفعل و البعث إلیه لا معنی لبعث إلزامی آخر لترک ترکه.

و بالجملة: بعد الأمر بالإزالة یکون الزجر عن ترکها لغواً؛ فلا تتحقّق مبادئ الإرادة فیه، و لا غایة للإرادة التشریعیة بترک ترکه.

مع أنّه فرق بین المقام و حدیث إنقاذ الولد الغریق؛ لأنّه لو کان المقام مثله فلا بدّ له و أن یزجر عنه عند الالتفات، کما هو الشأن فی توجّه الوالد لغرق ولده، مع أنّه لم ینه عنه و لم یزجره عنه.

نعم، بناءً علی ما ذکروه فی باب مقدّمة الواجب- من حدیث تولّد إرادة المقدّمة من ذیها قهراً علیه- و إن کان له وجه، إلّا أنّه قد عرفت عدم تمامیته، و أنّ للمقدّمة مبادئ تخصّها، کذی المقدّمة.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لو تمّ الأمران، و لکن الأمر الثالث غیر تمام، فاتّضح ممّا ذکر: أنّ الأمر بالشی ء لا یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ من جهة المقدّمیة. کما ظهر ضمناً عدم اقتضائه للنهی عن ضدّه العامّ أیضاً.

ص: 279

ذکر و إرشاد

قال شیخنا العلّامة الحائری قدس سره: الحقّ- کما ذهب إلیه الأساطین من مشایخنا هو عدم التوقّف و المقدّمیة؛ لا من جانب الترک، و لا من جانب الفعل:

أمّا عدم کون ترک الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه: فلأنّ مقتضی مقدّمیته لزوم ترتّب عدم ذی المقدّمة علی عدمه؛ لأنّه معنی المقدّمیة و التوقّف، فعلی هذا: یتوقّف عدم وجود الضدّ علی عدم ذلک الترک المفروض کونه مقدّمة، و هو فعل الضدّ الآخر، و المفروض: أنّ فعل الضدّ أیضاً یتوقّف علی ترک ضدّه الآخر؛ ففعل الضدّ یتوقّف علی ترک ضدّه کما هو المفروض، و ترک الضدّ یتوقّف علی فعل ضدّه؛ لأنّه مقتضی مقدّمیة ترکه(1)، انتهی.

و فیه: أنّ ما ذکره قدس سره خلط حیثیة الوجود بالعدم؛ لأنّ عدم الترک لا یکون فعل الضدّ الآخر حقیقة- کما هو أوضح من أن یخفی- فالموقوف غیر الموقوف علیه.

مضافاً إلی أنّه قد عرفت بما لا مزید علیه: أنّ العدم باطل محض و عاطل صرف، و لا معنی لکونه موقوفاً علی شی ء أو یکون شی ء موقوفاً علیه، فتدبّر.

هذا کلّه فی الوجه الأوّل- و هو إثبات حرمة الضدّ من ناحیة کون الترک مقدّمة لفعل ضدّه، و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم تمامیته.


1- درر الفوائد، المحقّق الحائری: 135.

ص: 280

الوجه الثانی إثبات اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ من ناحیة الاستلزام و تزییفه

اشارة

ربّما یستدلّ لحرمة الضدّ الخاصّ من جهة الاستلزام، و حاصله: أنّه لو لم نقل بأنّ ترک الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ فلا أقلّ من کونه ملازماً له، و المتلازمان یمتنع أن یختلفا من حیث الحکم.

و بالجملة: إذا لم یکن عدم الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فلا أقلّ من کونه ملازماً له، فإذا وجب الضدّ الأهمّ یمتنع أن یکون عدم ضدّه مباحاً، بل یکون واجباً.

و قد ذکر هذا الوجه بنحو الإشارة فی کلماتهم.

و تقریب هذا الوجه- کالوجه الأوّل- یبتنی علی تمامیة امور ثلاثة:

الأوّل: أنّ وجود کلّ من الضدّین مع عدم ضدّه متلازمان.

الثانی: أنّ المتلازمین محکومان بحکم واحد لا محالة.

الثالث: أنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ.

یوجّه للأمر الأوّل: أنّ عدم الضدّ لازم وجود الضدّ الآخر أو ملزومه؛ لأنّه بعد ما امتنع اجتماع الضدّ مع ضدّه الآخر فی موضوع واحد- لمکان المضادّة- فلا بدّ و أن یصدق علیه نقیض الضدّ الآخر لئلّا یلزم ارتفاع النقیضین.

نعم، حیث إنّ صدق العدم علی الوجود لا یکاد یکون ذاتیاً فلا بدّ و أن یکون عرضیاً بنحو التلازم فی الصدق و هو المطلوب. مثلًا: السواد إذا تحقّق فی موضوع

ص: 281

یمتنع صدق البیاض علیه- لمکان الضدّیة- فإذن لا بدّ و أن یصدق علیه نقیضه- و هو اللابیاض- و إلّا یلزم ارتفاع النقیضین. و حیث إنّه عدمی لا یصدق علی السواد- الذی هو أمر وجودی- إلّا عرضاً.

فتحصّل ممّا ذکر: أنّ بین وجود أحد الضدّین و عدم الضدّ الآخر ملازمة وجوداً.

و یوجّه للأمر الثانی: أنّه لو تمّ أنّ وجود کلّ من الضدّین مع عدم الآخر متلازمان وجوداً، فلا بدّ و أن یکونا محکومین بحکم واحد- بعد عدم خلوّ واقعة عن الحکم.

و ذلک لأنّه إن وجب أحد المتلازمین، فالمتلازم الآخر لو لم یکن واجباً لکان جائز الترک، الجامع بین غیر الحرمة من الأحکام الباقیة. فإذا ترک: فإمّا أن یکون الآخر باقیاً علی وجوبه المطلق أو لا، فعلی الأوّل یلزم التکلیف بالمحال؛ لأنّه عند ترک الملازم لا یمکن أن یأتی بالآخر، و التکلیف به محال. و علی الثانی یلزم خروج الواجب المطلق عن وجوبه بلا وجه و سبب.

و یوجّه للأمر الثالث: أنّ الأمر بالشی ء یستلزم النهی عن ضدّه العامّ، و قد عرفت: أنّ المراد بالضدّ العامّ مطلق نقیض المأمور به، و هو هنا فعل الصلاة.

فمع التلازم بین ترک الصلاة و الإزالة مثلًا- کما هو مقتضی الأمر الأوّل- و أنّ ترک الصلاة واجب عند الأمر بالإزالة- کما هو مقتضی الأمر الثانی- و أنّ فعل الصلاة محرّم- بمقتضی الأمر الثالث- یتمّ المطلوب؛ و هو استلزام الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ.

هذا غایة ما یوجّه به لاستلزام أنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه.

ص: 282

تزییف الوجه الثانی بعدم تمامیة الامور المتوقّفة علیها

و لکن التحقیق یقتضی عدم تمامیة شی ء من الامور الثلاثة:

أمّا الأمر الأوّل ففیه: أنّه خلط القضیة السالبة المحصّلة بالموجبة المعدولة المحمول، أو السالبة المحمول. و عدم الفرق بینها أورث انحرافات و اشتباهات للأعلام، و کم أورث إهمال القیود و الحیثیّات و عدم الافتراق بین القضایا اشتباهات فی العقلیات و النقلیات، فلا بدّ للمتدرّب من التحفّظ علی الحیثیات و الجهات حتّی لا یختلط و لا یشتبه علیه الأمر.

و ذلک لما قلنا غیر مرّة و تقرّر فی محلّه: أنّ نقیض کلّ شی ء رفعه أو مرفوع به، لا إثبات هذا الرفع. فنقیض صدق البیاض علی شی ء، عدم صدق البیاض علیه علی نعت السلب التحصیلی، لا صدق عدم البیاض علی نحو الموجبة المعدولة المحمول أو الموجبة السالبة المحمول.

و لتوضیح ذلک نقول: فرق بین نقیض المفردات و نقیض القضایا، فکلّ عنوان إذا تعلّق علیه حرف النفی یکون بینهما مناقضة، فنقیض البیاض، عدم البیاض. و لا معنی للصدق و الکذب فی المفردات؛ لأنّهما من شئون القضایا، و لا یترتّب علی المعنی التصوّری أثر أصلًا.

و التناقض فی القضایا لا بدّ و أن یکون فی معنی تصدیقی، لا برفع الموضوع أو المحمول. فإذا کان الحکم فی أصل القضیة ایجاباً فنقیضها رفعها، و مقتضی رفعها هو کون الحکم فی النقیض سالبة محصّلة، لا رفع الموضوع أو المحمول.

و بالجملة: مدرکاتنا علی قسمین: فقسم منها مدرک تصوّری، و القسم الآخر

ص: 283

مدرک تصدیقی. و الأوّل لا یکون له حکم؛ فلا یکون له صدق و کذب أصلًا؛ فلا یترتّب علیه أثر أصلًا. و أمّا القسم الثانی فله حکم، فیکون له صدق و کذب.

فنقیض المفرد إنّما هو رفعه؛ فنقیض الوجود هو رفع الوجود؛ و هو العدم.

و أمّا فی القضیة فلا بدّ و أن یکون نقیضه معنی تصدیقیاً، و هو لیس إلّا رفع الربط و النسبة. و أمّا رفع الموضوع أو المحمول، فلا یکون نقیضاً فی القضیة.

فعلی هذا: نقیض صدق البیاض علی الشی ء، عدم صدق البیاض علیه علی نعت السلب التحصیلی، لا صدق عدم البیاض علیه علی نعت الإیجاب العدولی، أو الموجبة السالبة المحمول؛ لأنّ العدم لا شیئیة له، فکیف یکون ملازماً لشی ء و یصدق علی الوجود؟!

و بالجملة: یمتنع أن یکون العدم صادقاً علی الوجود و ملازماً له(1)، فظهر: عدم تمامیة الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثانی ففیه أوّلًا: أنّه لم یدلّ دلیل علی عدم خلوّ کلّ واقعة عن الحکم.

لأنّه تارةً: یکون للشی ء اقتضاء للإتیان لزوماً، فیکون واجباً.

و اخری: یکون له اقتضاء للترک لزوماً، فیکون حراماً.

و ثالثة: یکون له اقتضاء الإتیان من غیر لزوم، فیکون مستحبّاً.


1- قلت: هذا مضافاً إلی ما أفاده سماحة الاستاد- دام ظلّه- فی« المناهج»: من أنّ التلازم فی الوجود یقتضی عروض الوجود للمتلازمین، فیلزم اجتماع النقیضین. فالغلط ناشٍ من عدم اعتبار الحیثیات، و تقدیم الحمل علی السلب، و عدم التفریق بین السوالب المحصّلة و الموجبات المعدولة، و کم له من نظیر! لاحظ مناهج الوصول 2: 18.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 284

و رابعة: یکون له اقتضاء الترک من غیر لزوم، فیکون مکروهاً.

و خامسة: یکون له اقتضاء کلیهما، و هو المعبّر عنه بالإباحة الشرعیة.

و سادسة: لا یکون له اقتضاء شی ء منهما، و هو الإباحة العقلیة.

و قد یکون الشی ء باقیاً علی الإباحة الأصلیة، و لم یکن للشارع جعل هناک؛ لأنّ جعل الإباحة بلا ملاک لغو، فیخلو عن الجواز الشرعی، بل باقٍ علی إباحته الأصلیة، کالتسرّی فإنّ السُّرّیة- بضمّ السین، و هی الأمة- مباح للشخص بالإباحة الأصلیة.

و فرق بین الإباحة العقلیة و الإباحة الشرعیة؛ فإنّ الأوّل منهما تصحّ أخذها فی ضمن العقد و بالاشتراط تصیر واجبة، بخلاف الثانی فإنّه لا تصحّ؛ لأدائه إلی أخذ شرط مخالف للکتاب أو السنّة ضمن العقد؛ فإنّه لا یصحّ، کما لا یصحّ إیجاب الحرام فی ضمن العقد.

و بالجملة: کما لا یصحّ إیجاب الحرام فی ضمن العقد- لکونه شرطاً مخالفاً للکتاب أو السنّة- فکذلک إیجاب ما کان مباحاً بأصل الشریعة مخالف لهما.

و لعلّ الغفلة عمّا ذکرنا أوقع بعضهم فی حیص و بیص فی أخذ الشروط فی المعاملات؛ فقد یری أنّ شیئین یکونان مباحین و مع ذلک یصحّ أخذ أحدهما فی ضمن العقد دون الآخر و یعلّل عدم الجواز بأنّه شرط مخالف للکتاب أو السنّة.

فقال بعض المحقّقین: إنّ الإباحة علی قسمین: فقسم منها یکون فی الشی ء اقتضاء الإباحة و تساوی الفعل و الترک بأصل الشریعة، و قسم لا یقتضی شیئاً منهما، بل لا اقتضاء محض بالنسبة إلی الفعل أو الترک و یکون مباحاً بالإباحة العقلیة. فکلّ ما کان من قبیل القسم الأوّل فلا یصحّ أخذه فی ضمن العقد؛ لاستلزامه شرطاً مخالفاً

ص: 285

للشریعة، و أمّا إذا کان من قبیل القسم الثانی فتصحّ.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ القول بعدم خلوّ الواقعة عن الحکم الشرعی غیر وجیه.

و ثانیاً: لو سلّم ذلک فإنّما هو فی الوقائع الثابتة التی یکون للبعث أو الزجر فیها معنی محصّل، لا الأعدام التی هی باطلات محضة، فهی خارجة عن حریمها، فلا تکون محکومة بحکم أصلًا.

مع أنّه یلزم أن تکون هناک أحکام غیر متناهیة بعدد الأعدام المفروضة، و هو کما تری.

و بالجملة: لأجل أنّ الأعدام باطلات محضة فلا بدّ من تأویل المواضع التی توهم تعلّق التکلیف فیها بالترک، کوجوب تروک الإحرام فی الحجّ، و وجوب تروک المفطرات فی الصوم؛ فیقال: إنّ وجود تلک الأشیاء مانع عن انعقاد الإحرام أو مضرّ به، أو إنّها مبطلة للصوم.

فتحصّل: أنّ کون الترک أو العدم واقعة- حتّی یستحیل خلوّها عن حکم من الأحکام الشرعیة- ممنوع؛ لأنّه لیس بشی ء حتّی یکون فعلًا للمکلّف و یتعلّق الحکم به.

و ثالثاً: لو سلّم ذلک لا یلزم منه ما ذکره، کما لا یخفی. و ذلک لأنّ غایة ما یقتضیه هو خروج اللازم عن کونه لازماً، لا لزوم التکلیف بالمحال، أو خروج الواجب المطلق عن کونه واجباً مطلقاً، فتدبّر.

و أمّا الأمر الثالث: فقد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- أنّ الأمر بالشی ء لا یقتضی النهی عن ضدّه العامّ؛ لا بنحو العینیة، و لا بنحو الجزئیة، و لا بنحو اللزوم.

فتحصّل: أنّ القول باستلزام الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه الخاصّ أیضاً غیر تمام.

ص: 286

تفصیل المحقّق النائینی فی الاقتضاء و تزییفه

فصّل المحقّق النائینی قدس سره بین الضدّین اللذین لا ثالث لهما، و بین ما یکون لهما ثالث؛ باستلزام الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه فی الأوّل، دون الثانی.

فقال فی الأوّل: إنّ الأمر بأحد الضدّین یلازم الأمر بعدم ضدّه الآخر عرفاً؛ و ذلک مثل الحرکة و السکون و الاجتماع و الافتراق- بناءً علی أن یکون السکون و الافتراق وجودیین؛ فإنّ الحرکة و إن لم تکن مفهوماً عین عدم السکون، و لا الاجتماع عین عدم الافتراق مفهوماً؛ بداهة أنّه لا یکون عدم السکون عقلًا عین الحرکة بل یلازمها، و کذا لا یکون عدم الافتراق عین الاجتماع عقلًا بل یلازمها؛ لأنّ العدم لا یتّحد مع الوجود خارجاً، و لا یکون هو هو مفهوماً، إلّا أنّه خارجاً یکون عدم السکون عبارة عن الحرکة، و عدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب التعارف العرفی؛ فیکون الأمر بأحدهما أمراً بالآخر، بحیث لا یری العرف فرقاً بین أن یقول: «تحرّک»، و بین أن یقول: «لا تسکن»، و یکون مفاد إحدی العبارتین عین مفاد الاخری.

فیکون حکم الضدّین اللذین لا ثالث لهما حکم النقیضین، من حیث إنّ الأمر بأحدهما أمر بعدم الآخر، و إن کان فی النقیضین أوضح، من جهة أنّ عدم العدم فی النقیضین عین الوجود خارجاً، و لیس الأمر فی الضدّین کذلک، إلّا أنّ العرف لا یری فرقاً بینهما، و الأحکام إنّما تکون منزّلة علی ما هو المتعارف العرفی.

ص: 287

فدعوی: أنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ فیما لا ثالث لهما، لیس بکلّ البعید.

و أمّا فی الضدّین اللذین لهما ثالث فقال قدس سره بعدم الاقتضاء؛ لا عقلًا، و هو واضح، و لا عرفاً؛ إذ لا یکون «صلّ»- مثلًا- بمعنی: «لا تَبع و لا تأکل»- مثلًا حتّی عند العرف ... إلی أن قال: هذا کلّه إذا کان بین الشیئین تناقض أو تضادّ، و أمّا إذا کان بین الشیئین عدم و ملکة فالظاهر أنّه ملحق بالنقیضین فی الموضوع القابل لهما، حیث إنّ الأمر بأحدهما یلازم النهی عن الآخر باللزوم بالمعنی الأخصّ. فالأمر بالعدالة یلزمه النهی عن الفسق، کما لا یخفی(1)

. و فیه أوّلًا: أنّ مقتضی ما ذکره کون الحیثیة الوجودیة عین الحیثیة العدمیة، و هو کما تری، و لا یتسامح فی ذلک العرف.

و بالجملة: دعوی أنّ العرف لا یفرق بین الحرکة و عدم السکون- مثلًا- بحیث لا یری فرقاً بین الحیثیة الوجودیة و العدمیة، و لم یفرق بین الأمر و النهی، و یکون فی نظره «تحرّک» عین «لا تسکن»، فهو ظاهر البطلان.

و ثانیاً: لو تمّ ما ذکره عند العرف فلا یفید ذلک فی إثبات مطلوبه؛ لأنّ مقتضی ما ذکره: أنّ الأمر بالسکون عین النهی عن الحرکة، فلا یکون عند العرف شیئان یکون الأمر بأحدهما مقتضیاً للنهی عن الآخر، مع أنّ مدّعی الاستلزام یدّعی: أنّه إذا تعلّق أمر بشی ء فهنا نهی متعلّق بضدّه، فهناک شیئان، فما أفاده غیر مرتبط بما نحن فیه، فتدبّر.


1- فوائد الاصول 1: 304- 305.

ص: 288

تبیین مقال و استدراک

قد عرفت: أنّهم استدلّوا لاقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه بدلیلین:

أحدهما من ناحیة المقدّمیة، و الآخر من ناحیة الاستلزام. و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم تمامیة الدلیلین لإثبات حرمة الضدّ؛ لابتنائهما علی امور غیر نقیة.

و لکن ینبغی الإشارة إلی أنّهما إنّما یعدّان دلیلین مستقلّین علی القول بوجوب مطلق المقدّمة. و أمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فیرجع الدلیلان إلی دلیل واحد، و یکون اتّحاد المتلازمین فی الحکم من متمّمات الدلیل الأوّل.

و بالجملة: علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا بدّ من ضمّ دلیل آخر إلی الدلیل الأوّل؛ و هو لزوم کون المتلازمین محکومین بحکم واحد، و ذلک لما أشرنا: أنّ الدلیل الأوّل ملتئم من امور ثلاثة:

1- مقدّمیة ترک الضدّ للضدّ الآخر.

2- کون مقدّمة الواجب واجبة.

3- اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ.

فلو تمّت هذه الامور فمقتضاها- علی تقدیر کون مطلق المقدّمة واجبة- هو أنّ ترک الصلاة الذی یکون مقدّمة لفعل الإزالة واجب، و ضدّه العام- حسب ما عرفت- هو فعل الصلاة؛ فتکون محرّمة؛ فتقع باطلة. فتتمّ صورة الاستدلال، من دون احتیاج إلی ضمّ کون المتلازمین متّحدین فی الحکم.

و أمّا علی وجوب المقدّمة الموصلة فحیث إنّ الواجب لیس مطلق ترک الصلاة

ص: 289

بل الترک المقیّد بالإیصال و لیس نقیضه إلّا ترک هذا الترک، لا فعل الضدّ و الترک المجرّد- لما أشرنا أنّه لا یکون لشی ء واحد نقیضان- و واضح: أنّ ترک هذا الترک ینطبق علی الترک المجرّد و علی فعل الصلاة، و لکن انطباقه علی فعل الصلاة عرضی، و أمّا انطباقه علی الترک المجرّد ذاتی، فلیس ترک هذا الترک عین فعل الصلاة، بل یلازمه إذا تحقّق فی ضمنها.

ثبات حرمة الضدّ لا یتمّ علی القول بالمقدّمة الموصلة إلّا بالتشبّث بذیل دلیل الاستلزام؛ فیقال: حیث إنّ المتلازمین متّحدان فی الحکم، و لا یمکن أن یکون أحدهما محکوماً بغیر ما حکم به الآخر، فیحتاج هذا القول- مضافاً إلی الامور الثلاثة- إلی إثبات أنّ ترک ترک الصلاة ملازم لفعل الصلاة، فإذا حرم یحرم ما یلازمه؛ فیحرم فعل الصلاة.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّه علی تقدیر کون المقدّمة الموصلة واجبة لا یمکن إثبات المطلب من ناحیة المقدّمیة إلّا بضمّ دلیل الاستلزام به، فإذن یتّحد الدلیلان.

هذا ما أفاده سماحة الاستاد- دام ظلّه- فی یوم، و حاصله: أنّه علی القول بوجوب مطلق المقدّمة یمکن عدّ کلّ من المقدّمیة و الاستلزام دلیلًا مستقلًاّ. و أمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فلا یتمّ الاستدلال بالمقدّمیة إلّا بأن ینضمّ إلیها دلیل الاستلزام.

و لکن استدرک- دام ظلّه- فی الیوم التالی و قال بأنّه علی القول بوجوب مطلق المقدّمة لا بدّ و أن ینضمّ إلیها دلیل الاستلزام أیضاً؛ لأنّه- کما ذکرنا فی وجوب المقدّمة الموصلة- أنّ الذی یحکم به العقل و یشهد علیه الوجدان علی تقدیر ثبوت الملازمة- بعد إرجاع الحیثیة التعلیلیة فی الأحکام العقلیة إلی الحیثیة التقییدیة- هو وجوب عنوان الموصل بما هو موصل.

ص: 290

فنقول هنا: إنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، نقول بأنّ الواجب هو عنوان الموقوف علیه بما هو موقوف علیه، لا المقدّمة بالحمل الشائع، و المقدّمة و إن کانت تنطبق علیها عناوین کثیرة- انطباقاً ذاتیاً أو عرضیاً- و لکن لا تجب لشی ء منها إلّا لانطباق عنوان الموقوف علیه بما هو موقوف علیها، فالواجب علی تقدیر وجوب مطلق المقدّمة إنّما هو الموقوف علیه بما هو موقوف علیه.

فإذن: حیث إنّه لم یکن فیما نحن فیه ترک الضدّ- بما هو ترک- مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، بل بما هو موقوف علیه، فنقیضه هو ترک الموقوف علیه بما هو موقوف علیه. و واضح: أنّه لیس عین فعل الصلاة و ذاتها، بل یلازمها و ینطبق علیها انطباقاً عرضیاً، فإذا حرم هذا العنوان- أی ترک الموقوف علیه- لا تثبت حرمة فعل الصلاة، إلّا أن یتشبّث بحدیث الاستلزام.

نعم، إن قلنا بأنّ الواجب- علی القول بوجوب مطلق المقدّمة- ما تکون مقدّمة بالحمل الشائع- کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره- یکون دلیل المقدّمیة تماماً، من دون أن ینضمّ إلیه حدیث الاستلزام، فتدبّر.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه إن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة أو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، و قلنا بأنّ الواجب حیثیة الموقوف علیه بما هو موقوف علیه، لا یمکن عدّ کلّ من المقدّمیة و الاستلزام دلیلًا مستقلًاّ، بل یکون الاستلزام تتمّة لدلیل المقدّمیة.

نعم، إن قلنا بأنّ الواجب ما یکون مقدّمة بالحمل الشائع یکون کلّ منهما دلیلًا مستقلًاّ، فتدبّر و اغتنم.

ص: 291

بحث حول ثمرة المسألة

ذکر المشهور فی ثمرة القول بالاقتضاء و عدمه بأنّه لو اقتضی الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه فإذا کان الضدّ عبادة فیوجب فسادها، و أمّا لو لم یقتض ذلک فلا یوجب فسادها.

و خالفهم فی ذلک شیخنا البهائی قدس سره فقال ببطلان العبادة و إن لم یکن الأمر مقتضیاً للنهی عن ضدّه؛ لأنّه یکفی للبطلان عدم الأمر بها(1). و واضح: أنّ الأمر بالشی ء إذا لم یقتض النهی عن ضدّه فلا أقلّ من عدم الأمر به؛ لامتناع تعلّق الأمر بالضدّین معاً، فالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد- مثلًا- توجب عدم الأمر بالصلاة عند ذلک، فتقع باطلة.

و لکن الذی یقتضیه النظر: أنّ الثمرة إنّما تترتّب بعد تمامیة أمرین:

أحدهما: تعلّق النهی بعنوان العبادة نفسها، کالصلاة مثلًا.

و الثانی: کون النهی و إن کان غیریاً موجباً للفساد.

و لکن لم یتمّ شی ء من الأمرین:

أمّا الأمر الأوّل فیمکن أن یقال: إنّ الأمر بالإزالة فی المثال المعروف- علی تقدیر الاقتضاء- لا یقتضی النهی عن الصلاة نفسها، بل مقتضی کلّ من دلیلی المقدّمیة و الاستلزام- لو کان کلّ منهما دلیلًا مستقلًاّ- أو هما معاً- لو لم یستقلّا- هو


1- زبدة الاصول: 99.

ص: 292

النهی عمّا یتّحد وجوداً مع الصلاة، لا النهی عن عنوان الصلاة بما هی عبادة، فیخرج الموضوع عن مسألة الضدّ، و یدخل فی مسألة اجتماع الأمر و النهی.

و ذلک لأنّه لو قلنا بالاقتضاء من ناحیة المقدّمیة فقد عرفت أنّ الواجب علی القول بالمقدّمیة هو عنوان الموصل بما هو موصل.

و لو تنزّلنا عن ذلک فالواجب هو الموقوف علیه بما هو موقوف علیه. فإذا وجبت الإزالة فلا یکون ترک الصلاة بما هو هو مقدّمة له حتّی یجب، بل بما هو موصل، أو بما هو موقوف علیه. فالواجب إنّما هو أحد العنوانین، لا عنوان ترک الصلاة و إن اتّحدا معه.

و بالجملة: الأمر تعلّق بعنوان الصلاة، و النهی تعلّق بترک عنوان الموصل، أو ترک الموقوف علیه، فأحد العنوانین مأمور به و الآخر منهیّ عنه، و لا یرتبط أحدهما بالآخر فی عالم المفهومیة و إن اتّحدا خارجاً.

فإن قلنا بالجواز فی مسألة اجتماع الأمر و النهی- کما هو المختار- فتصحّ العبادة، و إن قلنا بالاقتضاء من ناحیة الاستلزام لو کان دلیلًا مستقلًاّ، أو کان متمّماً لدلیل المقدّمیة؛ فلأنّ غایة ما یدرکه العقل هو أنّ المتلازمین لا بدّ و أن یکونا محکومین بحکم واحد بحیثیة الملازمة، فإذا تعلّق حکم بعنوان فما یدرکه العقل هو أنّ ملازمه بما هو ملازمه محکوم بحکمه، و لا یکاد یمکن أن یکون بحکم آخر. فإذا اتّحد عنوان الملازم مع عنوان عبادی- کالصلاة مثلًا- فلا یوجب فساده.

فتحصّل: أنّ ما یستکشفه العقل- علی کلٍّ من المقدّمیة أو الاستلزام- هو تعلّق الحکم علی عنوان الموصل، أو الموقوف علیه، أو الملازم؛ فیخرج عن مسألتنا هذه و یکون من صغریات مسألة اجتماع الأمر و النهی؛ فإن قلنا بعدم جواز الاجتماع فتبطل الصلاة، و إلّا- کما هو المختار و سیجی ء بیانه- فتصحّ.

ص: 293

و أمّا الأمر الثانی: فلو سلّم أنّ الأمر بالشی ء مقتض للنهی عن عنوان الضدّ- کالصلاة فی المثال المفروض- و لکن لا دلیل علی أنّ مطلق النهی- و لو کان غیریاً جائیاً من ناحیة المقدّمیة أو الاستلزام، کما فیما نحن فیه حیث إنّ النهی عن الضدّ إنّما هو من الأمر بالشی ء بعنوان المقدّمیة أو الاستلزام- موجب للفساد؛ لما سیوافیک مفصّلًا فی مبحث النواهی: أنّ النهی الغیری لا یوجب الفساد.

و إجماله: أنّ النهی عن العبادة إنّما یقتضی فسادها إذا کان المنهی عنه مشتملًا علی مفسدة لا تصلح معها أن یتقرّب بها- کصلاة الحائض، فإنّ النهی فیها إرشاد إلی مفسدة فی متعلّقه- أو کان الإتیان بمتعلّق النهی مخالفة للمولی و مبعّدة عن ساحته- کما فی النواهی المولویة- فلا یمکن أن یکون مقرّباً. و النهی الغیری خارج عن القسمین؛ لأنّ النهی الغیری لا یکشف عن مبغوضیة فی متعلّقه بل ربّما یکون محبوباً، کما أنّ الأمر الغیری لا یکشف عن محبوبیة فی متعلّقه بل ربّما یکون مبغوضاً. فالنهی الغیری فی المقام إنّما هو بحکم العقل بتحقّق المصلحة الملزمة فی الضدّ المزاحم؛ لعدم المزاحمة بین المقتضیات.

و بالجملة: الأمر بإنقاذ الغریق- مثلًا- لو اقتضی النهی عن الصلاة عنده لا یکشف عن مفسدة فی ذات الصلاة و أنّها مبغوضة، بل مطلوبة و لکن العقل یحکم بأنّه إنّما نهی عنها للتوصّل به إلی الإنقاذ، و لدرک مصلحة أقوی.

و بعبارة اخری: تعلّق النهی بالعبادة حیث لم یکن لأجل مفسدة فیها- بل لمجرّد المزاحمة لواجب آخر أهمّ و الوصلة إلیه- کانت العبادة علی ما هی علیه من الملاک التامّ المقتضی لصحّتها. و لو فرض إمکان الجمع بین الصلاة و الإنقاذ لکان یطلبه حتماً، و بإتیانهما یتحقّق محبوبان، لا محبوب و مبغوض، و لذا لا یسقط المهمّ عن

ص: 294

المحبوبیة فی الدوران بین الأهمّ و المهمّ، بل یکون باقیاً علی المحبوبیة؛ و لذا ربّما یتأسّف علی ترکه و یبکی لفقده. و هذا عند العقل و العرف واضح لا إشکال فیه.

فتحصّل: أنّ الأمر بالشی ء لو اقتضی النهی عن ضدّه فلا یوجب النهی الکذائی فساد ضدّه العبادی، فتصحّ الصلاة مع تعلّق النهی بها.

إن قلت: إنّ بطلان الصلاة من ناحیة التجرّی؛ لأنّ المکلّف بذلک یتجرّی علی مولاه، فیکون بعیداً عن ساحته؛ فلا یمکن أن یتقرّب بها.

قلت أوّلًا: إنّ التجرّی إنّما هو بترک الأهمّ لا بإتیان المهمّ، و لو کان له جرأة لترک المهمّ أیضاً.

و ثانیاً: لو سلّم أنّ التجرّی بفعل المهمّ، و لکن الذی یسهِّل الخطب هو: أنّ الفعل بالتجرّی لا یصیر حراماً- کما هو مقتضی التحقیق و سیجی ء فی محلّه- لأنّ عنوان الجرأة و الجسارة لا یکاد یسری مبغوضیته إلی الفعل الخارجی و لا یتّحد معه، و لو اتّحد معه لا بعنوان التجرّی، فکون العبد بعیداً عن ساحة المولی بجرأته علی مولاه لا یوجب البُعد عنه بعمله.

ثمّ إنّه قد یقال: إنّ تعلّق النهی التحریمی موجب للفساد.

و فیه: أنّ هذه المسألة عقلیة، و لم یکن علیه دلیل من الشرع. و النهی الغیری لا یوجب فساد متعلّقه، کما لا یوجب عقاباً لارتکابه.

و بالجملة: هذا السنخ من النواهی لا توجب حزازة فی المتعلّق ذاتاً؛ فلا یوجب فساده.

فتحصّل ممّا ذکر سقوط الثمرة المتوهّمة، فالبحث إذاً عادم الثمرة، فتدبّر.

ص: 295

مقالة شیخنا البهائی فی إنکار الثمرة و ما اجیب عنها

قد أشرنا: أنّ شیخنا البهائی قدس سره أنکر الثمرة، لکنّه بطریق آخر، و هو: أنّ الأمر بالشی ء إذا لم یقتض النهی عن ضدّه فلا أقلّ من عدم الأمر به؛ لامتناع تعلّق الأمر بالضدّین معاً. فالضدّ إذا کان عبادة یقع باطلًا؛ لاعتبار قصد الأمر فی صحّة العبادة(1)

. و بالجملة: أنّ الأمر بالشی ء و إن لم یقتض النهی عن ضدّه، إلّا أنّه یقتضی عدم الأمر به، و هو کافٍ فی بطلان الضدّ العبادی؛ لاعتبار الأمر فی صحّة العبادة.

اجیب عنه بوجوه:

کفایة الرجحان الذاتی فی صحّة العبادة

الوجه الأوّل: ما هو المشهور بینهم، و هو: عدم احتیاج صحّة العبادة إلی الأمر، بل یکفی فیها وجود المصلحة و ملاک الأمر، و حیث إنّ التزاحم هنا لیس من باب التزاحم فی المقتضیات، بل من باب التزاحم فی مقام الامتثال- فکلّ منهما واجد للمصلحة و الملاک. فلو فرض- محالًا- إمکان جمعهما لوجب إثباتهما، فغایة ما یقتضی الابتلاء بالأهمّ هی سقوط الأمر فقط مع بقاء الملاک فیه، فیصحّ منه إتیان العبادة بقصد المحبوبیة أو کونها للَّه تعالی. فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الأمر بالشی ء إذا لم یقتض النهی عن ضدّه تقع العبادة صحیحة، و إن لم یتعلّق بها الأمر.


1- زبدة الاصول: 99.

ص: 296

تصحیح الأمر بالمهم بالأمر المتعلّق بالطبیعة

الوجه الثانی: ما حکی عن المحقّق الکرکی قدس سره بأنّه لو قلنا بتوقّف العبادة علی الأمر، لکن کلام الشیخ البهائی قدس سره(1) إنّما یتمّ فی المتزاحمین المضیّقین إذا کان أحدهما أهمّ- کما لو فرض مزاحمة الصلاة مثلًا فی آخر الوقت لواجب آخر أهمّ- لأنّه لا یعقل أن یؤمر بهما؛ لخروجهما عن تحت قدرة المکلّف، فالأمر یتعلّق بالمزاحم الأهمّ؛ فتقع العبادة باطلة.

و أمّا إذا کان أحد المتزاحمین مضیّقاً و الآخر موسّعاً فیصحّ تعلّق الأمر بکلّ منهما. ففی حال سعة وقت الصلاة یجوز ترک الواجب الآخر المضیّق الأهمّ و الإتیان بالصلاة؛ لأنّ المعتبر فی صحّة التکلیف هو إمکان امتثال مصداقٍ ما، و هو حاصل(2)

. توضیحه علی ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره هو: أنّ الأمر یتعلّق بصرف الوجود من الطبیعة، لا بسریان الطبیعة إلی أفرادها- کما فی النهی عن الطبیعة- فالأمر لا یکاد یسری إلی الأفراد، و الأفراد متساویة الأقدام بالنسبة إلیها، فالتخییر بینها عقلی.


1- قلت: کذا عبّر سیّدنا الاستاد- دام ظلّه- فی هذه الدورة، بل و کذا عُبّر فی« فوائد الاصول». و لکن حیث إنّ عصر المحقّق الکرکی قدس سره سابق علی عصر شیخنا البهائی قدس سره- لأنّه توفّی سنة 937، أو 938، أو 940 ق. و الشیخ توفّی سنة 1030، أو 1031 ق- فکلام المحقّق لا یکون بصدد الجواب عن مقالة الشیخ، کما لا یخفی. نعم، عبارته المحکیة ممّا یمکن أن یستفاد منها ما یصلح جواباً لمقالته، کما أشار إلیه الاستاد فی الدورة السابقة، کما فی« تهذیب الاصول»، لاحظ تهذیب الاصول 1: 314.[ المقرّر حفظه اللَّه].
2- جامع المقاصد 5: 13- 14.

ص: 297

فإن قیل: «أقم الصلاة فی وقت محدود بحدّین» فإذا أمکن إتیان مصداق منها بین الحدّین فیصحّ التکلیف بالطبیعة، و لا یحتاج إلی القدرة علی جمیع أفرادها. و بعد تعلّق الأمر بالطبیعة یکون جمیع الأفراد متساویة الأقدام فی الانطباق؛ لکون انطباق الکلّی علی أفراده قهریاً، و بعد الانطباق یکون الإجزاء عقلیاً.

فإذا کان أحد المتزاحمین موسّعاً و الآخر مضیّقاً یصحّ تعلّق الأمر بالطبیعة، و لا یتوقّف صحّته علی صحّة تعلّق الأمر بالفرد المزاحم بالخصوص حتّی یقال: إنّه بعد الأمر بالإزالة لا یمکن الأمر بذلک الفرد المزاحم؛ لاستلزامه الأمر بالضدّین. بل یکفی فی صحّته تعلّق الأمر بالطبیعة، و بعد ذلک یکون الانطباق قهریاً و الإجزاء عقلیاً. فلو قلنا: إنّ صحّة العبادة تتوقّف علی الأمر بها کان الضدّ الموسّع صحیحاً إذا کان عبادة.

نعم، لو قلنا: إنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه، کان ذلک الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهیاً عنه، و محال أن ینطبق علیه عنوان المأمور به فی حال کونه منهیاً عنه، و بعد تعلّق النهی به یخرج عن قابلیة انطباق المأمور به علیه، فلا یصلح أن یؤتی به بداعی الأمر بالطبیعة.

فظهر: أنّ نفی الثمرة علی إطلاقه غیر مستقیم، بل هو مختصّ بالمضیّقین المتزاحمین. و أمّا فی المضیّق و الموسّع فالثمرة ظاهرة علی ما ذکرنا(1)، انتهی محرراً.

ثمّ قال المحقّق النائینی قدس سره: هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به مقالة المحقّق الکرکی قدس سره. و لکنّه لا یخفی علیک ما فیه. لأنّه إنّما تتمّ مقالة المحقّق لو کان اعتبار القدرة فی التکالیف عقلیاً، حیث إنّه یکفی فی صحّة التکلیف بالطبیعة عند العقل،


1- فوائد الاصول 1: 313.

ص: 298

القدرة علی إیجادها و لو فی ضمن فردٍ ما، و لکن هناک وجه آخر فی اعتبار القدرة؛ و هو اقتضاء الخطاب ذلک، حیث إنّ البعث و التکلیف إنّما یکون لتحریک إرادة المکلّف نحو أحد طرفی المقدور و ترجیح أحد طرفیه، بل حقیقة التکلیف لیست إلّا ذلک، فالقدرة علی المتعلّق ممّا یقتضیه نفس الخطاب، بحیث إنّه لو فرض عدم حکم العقل بقبح العاجز، و قلنا بمقالة الأشاعرة- النافین للتحسین و التقبیح العقلیین- لقلنا باعتبار القدرة فی المتعلّق؛ لمکان اقتضاء البعث و التکلیف ذلک، فدائرة المتعلّق تدور مدار القدرة سعةً و ضیقاً، و لا یمکن أن تکون دائرة المتعلّق أوسع من دائرة القدرة، فالفرد المزاحم لواجب مضیّق لا یمکن أن یعمّه سعة المتعلّق؛ لعدم سعة قدرته ذلک حسب الفرض، حیث إنّ الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی، فتخرج تلک الحصّة من الطبیعة عن متعلّق الأمر، فلا یمکن إیجاد الفرد امتثالًا للأمر المتعلّق بالطبیعة، فإن قلنا بتوقّف العبادة علی الأمر یبطل ذلک الفرد المزاحم.

و ضابط الفرق بین القدرة الشرعیة و العقلیة عندنا هو: أنّه إذا اخذت القدرة فی موضوع الخطاب المستکشف من ذلک مدخلیتها فی ملاک الخطاب کانت القدرة شرعیة، من غیر فرق فی ذلک بین أخذها فی موضوع الخطاب صریحاً کما فی آیة الحجّ(1)، أو کانت مستفادة من خطاب آخر کما فی آیة الوضوء(2)

. و أمّا إن لم تؤخذ فی موضوع الخطاب، بل کانت ممّا تقتضیه نفس الخطاب- إمّا لمکان قبح مخاطبة العاجز عقلًا، أو لأجل أنّ الخطاب هو البعث و التحریک نحو المقدور- کانت القدرة عقلیة.


1- آل عمران( 3): 97.
2- المائدة( 5): 6.

ص: 299

فتحصّل ممّا ذکر: أنّه بناءً علی توقّف صحّة العبادة علی الأمر بها یکون الحقّ مع شیخنا البهائی قدس سره من أنّ المسألة عدیمة الثمرة؛ لعدم الأمر بالضدّ علی کلّ حالٍ(1)، انتهی.

و لیعلم: أنّا نقول بمقالة المحقّق الکرکی قدس سره فی المضیّقین أیضاً، فنوافق المحقّق النائینی قدس سره فی الموسّعین فخالفه فی المضیّقین. و فیما لو کان أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً فنحن علی عکس النقیض من مذهب المحقّق النائینی، کما سیظهر لک عن قریب- إن شاء اللَّه- فی الوجه الثالث، فارتقب حتّی حین.

و لکن الذی نحن بصدده عاجلًا هو ردّ مقالة المحقّق النائینی قدس سره، فنقول: إنّ متعلّقات الأوامر إذا کانت نفس الطبائع- کما هو الحقّ عندنا و عند هذا المحقّق، و هی التی تکون واجدة للمصالح- فالخصوصیات الفردیة- کخصوصیة الزمانیة و المکانیة إلی غیر ذلک- فاقدة للمصالح، فمرکز تعلّق الأوامر و محطّها نفس الطبائع لیس إلّا، و هی التی دعت الآمر و المقنِّن إلی الأمر بها، و الخصوصیات الفردیة خارجة عن حریم البعث و الأمر، بل لا یکاد یعقل أن تکون الخصوصیات مأخوذة بعد أن لم تکن دخیلة فی المصلحة.

و بالجملة: نفس الطبیعة واجدة للمصلحة، و هی التی دعت الآمر إلی انحدار البعث نحوها، فلو أمکن إیجادها فی الخارج مجرّدة عن کافّة الخصوصیات و القیود لکان ما أوجده محصّلًا لتمام مطلوبه و غرضه، إلّا أنّه لا تکاد توجد إلّا مقرونة معها.

فإذا تمّت عنده قدس سره أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة، و الخصوصیات و المصادیق خارجان عن حریم المأمور به، بل تکون من قبیل وضع الحجر جنب الإنسان، فغایة


1- فوائد الاصول 1: 314- 315.

ص: 300

ما یقتضیه الخطاب- علی تقدیر تسلیمه- هی القدرة علی متعلّقه، و المفروض: أنّ متعلّقه لیس إلّا صرف الوجود من الطبیعة، لا المصادیق و الأفراد، و واضح: أنّها حاصلة فیما لو کان أحد المزاحمین مضیّقاً و الآخر موسّعاً.

فالفرد- سواء زاحمه واجب مضیّق، أم لا- لم یکن متعلّقاً للأمر، و لا یعقل انطباق الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها علیه؛ لأنّ وعاء تعلّق الأمر غیر وعاء الفرد الذی هو الخارج، فلا معنی لأن یقال: إنّه کما أنّ طبیعة الإنسان اللابشرط تنطبق علی الفرد و تتّحد معه خارجاً، فکذلک الطبیعة المأمور بها تنطبق علی الخارج و یکون الفرد الخارجی مأموراً به؛ لأنّ ظرف الوجود الخارجی ظرف السقوط، و ظرف تعلّق الأمر وعاء الاعتبار.

نعم، ما یکون فی الخارج لو جرّد عن الخصوصیات و القیودات فحصل فی وعاء الاعتبار یکون مأموراً به. کما أنّ الطبیعة الموجودة فی وعاء الاعتبار لو قارنها الخصوصیات و حصلت فی الخارج یکون مأموراً بها.

و بالجملة: ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره هنا یناقض اعترافه بأنّ صرف الوجود من الطبیعة مأمور به؛ لأنّ غایة ما یقتضیه الاعتبار، اعتبار القدرة فی متعلّق الأمر، و هو لیس إلّا نفس الطبیعة، لا الحصّة و الفرد. فإشکال المحقّق النائینی قدس سره علی المحقّق الکرکی قدس سره غیر وارد.

نعم، یتوجّه علی المحقّق الکرکی قدس سره سؤال الفرق و التفصیل فی المسألة، مع أنّه لا فرق فی ذلک بین المضیّقین و بین الموسّعین، و بین کون أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً؟! کما سیوافیک قریباً فی الوجه الثالث، فارتقب حتّی حین.

ص: 301

تصویر الأمر بالأهمّ و المهمّ بلا تشبّث بالترتّب
اشارة

الوجه الثالث: ما تفطنّا به و حقّقناه و بنینا علیه فی هذا الباب لإثبات أنّ الأمر بالشی ء لا یقتضی النهی عن ضدّه، و فی أبواب اخر لإثبات مطالب اخر، کما سیمرّ بک- إن شاء اللَّه- و هو تصویر الأمر بالمهمّ و الأهمّ فی عرض واحد، بلا تشبّث بذیل الترتّب، کما علیه القوم فی تصویر الأمر بالأهمّ و المهمّ، حیث یرون أنّ الأمر المهمّ مترتّب علی عصیان أمر الأهمّ.

و بالجملة: نرید تصویر الأمر الفعلی بالأهمّ و المهمّ فی عرض واحد، من دون أن تکون فعلیة أحدهما متوقّفاً علی عصیان الآخر، کما هو مقتضی القول بالترتّب.

و سیظهر تقریبه، کما سیظهر جلیاً بطلان القول بالترتّب.

توضیح الوجه المختار یستدعی البحث عن مقدّمات، و لیعلم أوّلًا: أنّ البحث فی بعض المقدّمات- کما سیمرّ بک- و إن کان عن المطلق و کیفیة تعلّق الحکم به، إلّا أنّ ذلک بلحاظ أنّ جلّ الأحکام لو لا کلّها تعلّقها علی موضوعاتها فی الشریعة المقدّسة من قبیل تعلّق الأحکام علی الطبائع و المطلقات، و إلّا فتصویر الأمر بالضدّین و الأمر بالمهمّ فی عرض الأمر بالأهمّ لم یکن مخصوصاً بذلک، بل یجری و لو کان الأمر بالأهمّ و المهمّ صادراً بصورة العموم و تعلّق الحکم علی الأفراد.

و بالجملة: نعقد البحث علی عنوان المطلق و کیفیة الإطلاق، بلحاظ أنّ موضوعات الأحکام الشرعیة من قبیل الطبائع و المطلقات، و إلّا فیمکن تصویر الأمر بالضدّین فی عرض واحد فیما لو کانت الأحکام متعلّقة علی الموضوعات و الأفراد، فلیتفطّن.

إذا عرفت هذا، فهاتیک المقدّمات:

ص: 302

المقدّمة الاولی:

و لعلّها أهمّ ما یتوقّف علیه إثبات هذا الوجه، و هی- کما سیمرّ بک قریباً تفصیله إن شاء اللَّه- أنّ الأوامر و النواهی تتعلّق بالطبائع، و خصوصیات المصادیق و الجهات الخارجیة و إن کانت متّحدة معها خارجاً لکنّها حیث لم تکن دخیلة فی غرض المولی فتکون خارجة عن حریمی الأمر و النهی، و هما لا یکادان أن یدعوان إلّا إلی ما تعلّق الغرض به.

فمقارنة الخصوصیات الشخصیة و الفردیة للطبیعة من قبیل ضمّ الحجر جنب الإنسان، بحیث لو أمکن إیجاد الطبیعة خارجاً منفکّة عن جمیع الخصوصیات و القیود لکانت هی الواجبة لیست إلّا، و لکنّه حیث لا تکاد توجد الطبیعة فی الخارج إلّا متعانقة مع الخصوصیات فهی لازمة لوجودها غیر دخیلة فی هویتها، نظیر لوازم الماهیة، حیث إنّه لو لم تکن الماهیة موجودة لا ذهناً و لا خارجاً لم یکن هناک شی ء، فلا لازم هناک و لا ملزوم، و إذا وجدت الماهیّة فی الذهن أو فی الخارج یقارنها اللازم و لا ینفکّ عنها.

و بالجملة: کلّ آمرٍ و ناهٍ فی الموالی العرفیة لا بدّ و أن یلاحظ متعلّق أمره و نهیه قبل انحدار الأمر و النهی إلیه، فإذا کانت نفس ذلک الشی ء- مجرّدة عن الخصوصیات الفردیة- محصّلة لغرضه فیلاحظها کذلک، فینحدر البعث نحوها، و لیس ذلک إلّا لغرض انبعاث المکلّف، فلو أمکن للمکلّف تحویل الطبیعة من حیث هی هی لکانت مبرئة للذمّة و کان المکلّف ممتثلًا.

و لکن حیث إنّ الطبیعة لا یکاد یمکن تحویلها إلّا بالوجود فغایته هی استلزام

ص: 303

الأمر بالطبیعة إیجادها فی مقام الإطاعة. و لکن لا یلزم من ذلک أن یکون متعلّق الأمر الطبیعة المقیّدة بالوجود أو الإیجاد.

و بعبارة اخری: کم فرق بین کون المأمور به مقیّدة بالوجود أو الإیجاد، و بین کونهما قیدین عقلیّین معتبرین له فی مقام الإطاعة! کما لا یخفی.

هذا، مضافاً إلی أنّ الأمر و کذا النهی مرکّب من المادّة و الهیئة، و المادّة تدلّ علی الماهیة اللابشرط، و هیئة الأمر- مثلًا- تدلّ علی البعث إلیها بعثاً اعتباریاً، فلم یکن هناک ما یدلّ علی الخصوصیات.

و واضح: أنّ البعث إلی المادّة لیس معناه: أوجدها، بل إغراء إلیها، نظیر إشارة الأخرس یرید بذلک تحویلها و إیجادها، و إن کانت منفکّة عن سائر الخصوصیات.

نعم تحویل الطبیعة لا یکون إلّا بإیجادها. فهو لازم عقلی لما هو المطلوب و متعلّق الطلب و محصّل للغرض. فالطبیعة بالحمل الشائع و إن لم تکن مأموراً بها لکن البعث یکون وسیلة لإیجادها.

فظهر: أنّ متعلّق الأمر لیس إلّا نفس الطبیعة، و الهیئة تبعث نحوها، لا الطبیعة الموجودة، و لا إیجادها، و تحویل الطبیعة لیس إلّا بإیجادها.

و لو سلّم أنّ الأمر یتعلّق بإیجاد الطبیعة، و لکن غایة ما تمکن المساعدة علیه هو القول باعتبار مفهوم الإیجاد- و ذلک لا یضرّ بما نحن بصدد إثباته- لا الإیجاد المتّحد مع الطبیعة خارجاً؛ لاستلزامه تعلّق الإیجاد بالوجود الخارجی، فتدبّر.

و الحاصل: أنّ متعلّق الأمر شی ء غیر ما یوجده خارجاً؛ ضرورة أنّ الصلاة التی أوجدها- مثلًا- لم یتعلّق بها الأمر، بل الأمر تعلّق بشی ء یکون قابلًا للصدق علی ما اتی به و غیره. فالأمر واحد، و المأمور به أیضاً واحد، و لکن المأمور به بلحاظ

ص: 304

وجوده الخارجی المتعانق مع الخصوصیات الزمانیة و المکانیة و غیرهما الغیر الدخیلة متکثّر، و فی هذه المرحلة لم یکن مأموراً به.

و إن شئت مزید توضیح لذلک فنقول: کما أنّه لا تکون الخصوصیات الخارجیة- کالأبیضیة و الأسودیة، و الزنجیة و الرومیة، و غیرها- دخیلة فی حکم العقل بکون الإنسان حیواناً ناطقاً، فکذلک الخصوصیات الفردیة غیر دخیلة فی حکم الشرع بکون الصلاة- مثلًا- معراج المؤمن، أو قربان کلّ تقیّ. فکما لا تکون الأبیضیة و الزنجیة و غیر من الخصوصیات دخیلة فی ماهیة الإنسان، فکذلک لا تکون الخصوصیات دخیلة فی معراجیة الصلاة، فلیست الصلاة منضمّة إلی الخصوصیات متعلّقة للحکم، بل نفس الصلاة متعلّقة للأمر یرید إیجادها.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت أنّ متعلّق الأوامر و النواهی لیست إلّا نفس الطبیعة، لا بدّ و أن یعلم أنّ المراد بالطبیعة المبحوث عنها لیس خصوص الماهیة المبحوث عنها فی المنطق، بل أعمّ منها و من الماهیة المخترعة؛ ضرورة أنّه کما قد یکون متعلّق الأمر الطبیعة المتأصّلة الواقعة تحت إحدی المقولات العشر، فکذلک قد یکون- و هو الکثیر منها- من الماهیات المخترعة الواقعة تحت مقولات مختلفة، کماهیة الصلاة فإنّها مرکّبة من عدّة مقولات متعدّدة.

و الکلام فیها الکلام فی الماهیة الأصلیة، فیقال: إنّ المولی لمّا رأی أنّ ماهیة الصلاة- الملتئمة من عدّة أجزاء و شرائط و عدم المانع- محصّلة للغرض و معراج للمؤمن، فیلاحظ المجموع المرکّب و یعتبر جمیع ما یکون دخیلًا فیه؛ إمّا بجعله جزءاً أو شرطاً، أو بجعله مانعاً إذا کان وجوده مزاحماً.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الاولی.

ص: 305

المقدّمة الثانیة:

ربّما یتوهّم: أنّ الإطلاق- بعد تمامیة مقدّماته- لیس معناه إلّا ما یستفاد من العموم، و لا فرق بینهما إلّا من جهة أنّ استفادة العموم من العامّ بدلالة لفظیة، و من المطلق بمقدّمات الحکمة، و من أجل ذلک ربّما یوجد فی بعض الکلمات کون الإطلاق لحاظیاً و تقسیم الإطلاق إلی الشمولی و البدلی.

مع أنّه لیس بشی ء؛ لما سیوافیک تفصیله فی محلّه، و إجماله: أنّ المطلق المقابل للمُقیّد معناه هو المسترسل عن القید؛ فإن قیّدت الطبیعة التی جعلت موضوعاً للحکم تصیر مقیّدة، و إلّا تکون مطلقة. فإن تمّت مقدّمات الإطلاق فمقتضاها لیست إلّا أنّ الطبیعة من حیث هی، من دون دخالة شی ء آخر تمام الموضوع للحکم.

و قد سبق و سیأتی: أنّ دلالة المطلق- بعد تمامیة مقدّماته- لیست من قبیل دلالة اللفظ، بل من دلالة العقل؛ فکلّ ما أخذه المولی موضوعاً للحکم فی لسان الدلیل یصحّ احتجاج العبد به علی مولاه، و بالعکس.

فإذا کان المأخوذ موضوعاً للحکم، الطبیعة مرسلةً و بدون القید، فمحال أن تکون مرآة للخصوصیات الفردیة؛ ضرورة أنّ المصداق لا یصیر مصداقاً إلّا بانضمام الخصوصیات إلیه، و لا أقلّ من الخصوصیات الوجودیة.

فغایة ما تقتضیه مقدّمات الإطلاق فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(1)- مثلًا- هی أنّ طبیعة البیع و ماهیته تمام الموضوع للحکم علیه بالحلّیة. و أمّا الخصوصیات الفردیة- حتّی الوجودی منها- فلم تکن مؤثّرة فی الحلّیة، و إن کانت معها خارجاً.


1- البقرة( 2): 275.

ص: 306

و بالجملة: کما أنّه فی الأحکام العقلیة إذا انحدر حکم علی موضوع- کالحرقة بالنسبة إلی النار- فلا یکاد یتجاوز إلی غیره، فکذلک فی الأحکام الشرعیة لو اخذ شی ء موضوعاً للحکم- کالحلّیة للبیع- فغایة ما تقتضیه المقدّمات هی أنّ نفس ذاک الشی ء من دون دخالة للقیود الزمانیة و المکانیة و غیرهما موضوع للحکم. و حلّیة مصادیق البیع إنّما هی لأجل تحقّق الطبیعة بوجود الفرد، کما أنّ الحرقة بالنسبة إلی النار کذلک، حیث إنّه لم تکن للخصوصیات الفردیة من هذه النار- مثلًا- مدخلیة فی الحرقة.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لا تعرّض للإطلاق- بعد تمامیة المقدّمات- للخصوصیات أصلًا.

و أمّا العموم فله نحو تعرّض للمصادیق بتوسّط العنوان الإجمالی الذی یکون مرآة لها، و سیجی ء فی بابه: أنّ العموم لا یستغنی به عن الإطلاق الأحوالی للأفراد؛ لأنّ غایة ما یدلّ علیه العموم هو کون الأفراد محکوماً بالحکم، و أمّا أنّ کلّ فرد تمام الموضوع للحکم بلا دخالة وصف أو حالة فلا بدّ فیه من التمسّک بالإطلاق.

فالغایة المتحصّلة من الإطلاق غیر الغایة المتحصّلة من العموم.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ ما یوجد فی بعض الکلمات من کون الإطلاق لحاظیاً لا وجه له، لأنّه إن ارید بذلک: أنّ فی المطلق تلاحظ الخصوصیات الفردیة؛ بمعنی أنّ الطبیعة فی أیّ فرد وجدت تکون محصّلة للغرض، ففیه- مضافاً إلی أنّه خلاف الوجدان؛ لحکم الوجدان بالفرق بین قولک: «أحلّ اللَّه البیع»، و بین قولک: «أحلّ اللَّه کلّ البیوع»، فتدبّر- أنّ هذا المعنی غیر معقول فی المطلقات؛ لعدم وجود ما یدلّ علیه؛ بداهة أنّ قولک: «أکرم عالماً»- مثلًا- له مادّة و هیئة، و المادّة- و هی عنوان «العالم»- موضوعة للطبیعة اللابشرط- أی نفس الطبیعة بلا قید- و الهیئة وضعت

ص: 307

للبعث إلیها، فلم یکن هناک ما یحکی و یدلّ علی الخصوصیات و الأفراد؛ لأنّ الفرد هی الطبیعة مع الوجود و عوارضه، و واضح أنّها خارجة عن الطبیعة الموضوع لها.

و لو ارید بذلک تسریة الحکم إلی حالات الطبیعة و مصادیقها، فیحتاج ذلک إلی لحاظ مستأنف غیر لحاظ نفس الطبیعة، و دالّ غیر ما یدلّ علی نفس الطبیعة، و مع ذلک یخرج عن الإطلاق و یکون عامّاً، فتدبّر.

و بالجملة: الکلام فی دلالة اللفظ و حکایته لا فی الاتّحاد الخارجی، و محال أن یحکی اللفظ الموضوع لنفس الطبیعة بلا قید عن الخصوصیات و المشخّصات الفردیة.

نعم، کلّما وجدت الطبیعة خارجاً تتّحد معها، و کم فرق بین جعل الحکم علی أفراد الطبیعة، و بین جعل الحکم علی نفس الطبیعة بحیث کلّما تحقّقت الطبیعة فی مورد تکون منشأة للأثر! و ذلک لأنّه علیه تکون نفس الطبیعة موجودة بوجود هذا الفرد لا بنحو الجعل الانحلالی، کما لا یخفی.

و الحاصل: أنّ القائل بالإطلاق اللحاظی إمّا یرید لحاظ الخصوصیات الفردیة، فقد عرفت حاله، أو یرید أنّ لحاظ نفس الطبیعة مع قطع النظر عن الخصوصیات یکون مرآة لها، فهو أیضاً محال کما ظهر لک وجهه بما لا مزید علیه بأنّ الإطلاق فی الحقیقة عدم لحاظ القید، فتدبّر.

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک جلیاً: أنّ تقسیم الإطلاق إلی الشمولی و البدلی- کما یوجد فی بعض الکلمات- ممّا لا أصل له؛ إذ لیس للإطلاق تعرّض لحیثیة سوی ما اخذ تمام الموضوع للحکم، و أمّا کون الحکم متعلّقاً علی الأفراد علی البدل، أو علی کلّ فرد، أو علی المجموع، فلا بدّ فی استفادة کلّ ذلک من التمسّک بدوالّ لفظیة؛ من لفظة «کلّ» أو «اللام» أو «بعض» أو غیرها. و إن کان مع ذلک فی خواطرک شیئاً فارتقب حتّی حین.

ص: 308

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ غایة ما یستفاد من الإطلاق- بعد تمامیة مقدّماته- لیست إلّا نفس الطبیعة، فنفس الطبائع موضوعات للأحکام، من دون ملاحظة شی ء آخر فیها، کما هو الشأن فی الإخبارات أیضاً.

أ لا تری أنّه فرق بین قولنا: «النار حارّة» و بین قولنا: «کلّ نار حارّة»؟! فإنّ الحکم فی الأوّل تعلّق علی طبیعة النار، و أمّا فی الثانی تعلّق علی کلّ فردٍ فردٍ منها؛ و لذا تکون الجملة الثانیة إخباراً عن جمیع النیران الموجودة، و لو کان الحکم المعلّق فیها کذباً یکون قولک ذلک کذباً بعدد الأفراد الموجودة من النار، بخلاف الجملة الاولی، کما لا یخفی.

هذا کلّه علی تقدیر جعل الأحکام بصورة المطلقات، و قد عرفت أنّه الغالب فی جعل الأحکام.

و أمّا إذا جعلت الأحکام بصورة العموم، کقوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) فغایة ما تدلّ علیه لفظة «ال» الدالّة علی العموم هی تکثیر العقد بما هو عقد، و أمّا کونه صادراً من شخص کذا و واقعاً فی مکان کذا و زمان کذا إلی غیر ذلک من الخصوصیات، فلا تکاد تدلّ علیها تلک اللفظة.

و بالجملة: لفظة «کلّ» و «ال» و کلّ ما یدلّ علی العموم لا یدلّ إلّا علی تکثیر المصادیق الذاتیة لنفس الطبیعة، و أمّا الخصوصیات و القیود غیر المنفکّة عن الفرد خارجاً فغیر مدلول علیها.

و کم فرق بین حکایة شی ء و دلالته علی شی ء، و بین ملزومیته لشی ء فی الوجود الخارجی! فقد یکون بعض الأشیاء مقروناً و ملازماً مع شی ء أو أشیاء فی الوجود الخارجی، و لکن مع ذلک یباینه فی مقام الحکایة و الدلالة.


1- المائدة( 5): 1.

ص: 309

أ لا تری أنّ العرض فی وجوده الخارجی محتاج إلی الموضوع، و مع ذلک لا یکون اللفظ الدالّ علیه- کالبیاض مثلًا- دالّاً علی موضوعه؟!

و بالجملة: قولنا: «أکرم کلّ عالم» لا یدلّ إلّا علی تکثیر حیثیة العلم لیس إلّا، و أمّا الحیثیات الاخر- حتّی حیثیة الوجود- فخارجة عن حریمها غیر مدلولة علیها، و إن کانت ملازمة لها فی الخارج. و لو أمکن وجود مصداق ذاتی للطبیعة بدون القیود و الخصوصیات- کما هو معتقَد القائلین بأرباب الأنواع(1)- لکان هو محصّلًا للغرض و متعلّقاً للتکلیف لیس إلّا.

فتحصّل: أنّ الفرق بین الإطلاق و العموم لیس إلّا من جهة أنّ الموضوع للحکم فی الأوّل نفس الطبیعة، و فی الثانی المصداق الذاتی منها، و أمّا الخصوصیات الفردیة فأجنبیة عن دائرة دلالتهما و إن کانت غیر منفکّة عن الطبیعة و مصادیقها خارجاً. و سیجی ء تفصیل الکلام فی ذلک فی محلّه إن شاء اللَّه تعالی.

المقدّمة الثالثة:

و لیعلم: أنّ المولی و المقنّن قبل تعلّق الحکم علی موضوع إذا لاحظ ذاک الموضوع و نفس ذاته:

فتارة یری أنّ فی نفس ذاک الموضوع مصلحة ملزمة، محضة، فیأمر به.

و اخری یری فیه مفسدة ملزمة محضة، فیزجر عنه.

و ثالثة یری أنّ فیه مصلحة و مفسدة، لکن مصلحة فعله أقوی من مفسدته، فیرجّح جانب الفعل و یأمر به.


1- راجع الحکمة المتعالیة 2: 46- 81.

ص: 310

و رابعة بعکس ذلک فیرجّح جانب الترک فیزجر عنه.

و خامسة یری التساوی بینهما، فیبیح له الفعل و الترک.

فالتزاحم أو الترجیح الموجود فی بعض هذه الأقسام إنّما هو قبل تعلّق الحکم.

و قد یکون التزاحم بعد تعلّق الحکم علیه، بلحاظ أنّ المکلّف لا یمکنه الجمع بینه و بین غیره فی مقام الامتثال و الإطاعة، فلا یکون هناک فی مرکز تعلّق الأمر و وعائه مزاحمة.

مثلًا: للصلاة مصلحة ملزمة مقتضیة لإیجابها، و کذلک لإنقاذ الغریق مصلحة ملزمة مقتضیة لإیجابه، و کلّ منهما فی وعاء تعلّق الحکم علیه أجنبی عن الآخر؛ فالحکم المتعلّق علی أحدهما لا یکاد یسری إلی الآخر، و التزاحم الواقع بینهما إنّما هو بالعرض فی مقام ابتلاء المکلّف بهما فی مقام الإطاعة و الامتثال أحیاناً، و هو متأخّر رتبةً عن تعلّق الأمر، و لا یکاد یتعرّض ما یکون متقدّماً رتبة لما هو المتأخّر عنه.

و بالجملة: کلّ من الأمرین- الأمر بالإنقاذ و الأمر بالصلاة- تعلّق بعنوان غیر ما للآخر، فلا تزاحم فی مرحلة الجعل، نعم بعد تعلّق الإیجاب بهما یتزاحمان أحیاناً فی مقام العمل، لأجل عدم تمکّن المکلّف من إتیانهما و جمعهما فی مقام العمل، و واضح أنّ التزاحم الکذائی متأخّر عن جعل الحکم، و الجعل متقدّم علیه، و ما یکون متقدّماً لا یتعرّض لحال ما یتأخّر عنه.

و القاضی بالترجیح فی التزاحم الکذائی إنّما هو عقل المکلّف، کما أنّ القاضی بالترجیح فی مرحلة جعل الحکم هو عقل المولی و المقنّن، کما لا یخفی، فبین التزاحمین بون بعید.

و إن کان مع ذلک فی خواطرک ریب فنقول: کما یقال فی مسألة اجتماع الأمر و النهی: إنّ کلًاّ منهما لم یتعلّق إلّا بموضوع و لا یتعدّاه و لا یتجاوزه إلی الآخر، فلا

ص: 311

تزاحم فی مقام تعلّق الحکم، و إنّما التزاحم فی الخارج و فی مقام الامتثال، فکذلک فی المقام الأمران متعلّقان بطبیعتین لا یکون بینهما تزاحم فی مرکز تعلّق الحکم، و إنّما وقع التزاحم فی مقام العمل.

هذا کلّه فی المطلقات.

و کذلک الکلام فی العمومات؛ لما عرفت أنّ لفظة «کلّ» و نحوها تدلّ علی تکثیر عنوان مدخولها، فکلٌّ من «أکرم کلّ عالم»، و «أنقذ کلّ غریق» یدلّ علی تکثیر عنوان مدخوله و لا یکاد یتعدّاه إلی الآخر.

و الحاصل: أنّ الحکم- سواء کان فی المطلقات أو العمومات- تعلّق بنفس طبیعة موضوعه، و غایة ما یکون فی العموم هی تکثیر نفس الطبیعة، و لا تعرّض له لحالات موضوعه بالنظر إلی نفس ذاته، فضلًا عن حالاته مع موضوع آخر، فما ظنّک بعلاج المعارضة بینهما؟!

فظهر: أنّ التزاحمات الواقعة فی الخارج بین أفراد الطبیعة بالعرض غیر ملحوظ فی الأدلّة، و سیجی ء قریباً بیان محالیته. و لا یکاد یمکن کشف العقل ملاحظة الشارع تلک الحالات فی مقام الثبوت، و لو أمکن ملاحظة ذلک ثبوتاً فلا یحتاج إلی کشف العقل، فارتقب حتّی حین.

و بعبارة اخری- کما أفاده سماحة الاستاد- أنّ التزاحمات الواقعة بین الأدلّة بالعرض، لأجل عدم قدرة المکلّف علی الجمع بین امتثالها- کالتزاحم بین وجوب إزالة النجاسة عن المسجد و وجوب الصلاة- حیث تکون متأخّرة عن تعلّق الحکم بموضوعاتها، و عن ابتلاء المکلّف بالواقعة، لم تکن ملحوظة فی الأدلّة، و لا تکون الأدلّة متعرّضة لها، فضلًا عن التعرّض لعلاجها، فاشتراط المهمّ بعصیان الأهمّ- الذی هو من مقدّمات الترتّب- لا یمکن أن یکون مفاد الأدلّة إن کان المراد شرطاً

ص: 312

شرعیاً مأخوذاً فی الأدلّة. و لا یکون بنحو الکشف عن الاشتراط؛ لما سیأتی من عدم لزومه، بل عدم صحّته، و سیأتی حال حکم العقل(1)، انتهی.

فاتّضح من هذه المقدّمة بطلان ما یبتنی علیه أساس مسألة الترتّب- و هو اشتراط عصیان الأمر بالأهمّ فی الأمر بالمهمّ- لأنّ ذلک إنّما یتمّ إذا أمکن اعتبار ذلک فی الأدلّة، و قد عرفت عدم اعتبار ذلک فیها.

هذا، مضافاً إلی أنّه لو صحّ ذلک فی موضوع الدلیل، لکنّه یمتنع ملاحظة عصیان الأهمّ فی التکلیف بالمهمّ، کما سیظهر لک وجهه عند التعرّض لمسألة الترتّب، فارتقب حتّی حین.

المقدّمة الرابعة:

الحقّ أن یقال: إنّ الأحکام الشرعیة القانونیة المجعولة علی موضوعاتها علی قسمین: أحدهما الأحکام الإنشائیة، و ثانیهما الأحکام الفعلیة.

و إن شئت قلت: إنّ للحکم مرحلتین: مرحلة الإنشاء، و مرحلة الفعلیة، کما هو الشأن فی وضع القوانین المدنیة العالمیة، من غیر فرق بین کون المقنّن شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدین؛ لأنّه جرت دیدن الواضعین فی جمیع الأعصار و الحکومات علی أنّهم یلاحظون الجهات المقتضیة لوضع القوانین علی الکلّیة، فینشئونها أوّلًا بصور کلّیة، ثمّ یعقّبونها بذکر المخصِّصات و المقیِّدات، و لم یشذّ الشارع الأقدس عن طریقتهم فی ذلک، فبعد إنشاء الأحکام بصورة العموم أو الإطلاق و قبل ورود المخصّصات و المقیّدات، تکون الأحکام إنشائیاً.


1- مناهج الوصول 2: 23- 24.

ص: 313

فعند ذلک فإن کانت جمیع أفراده و مصادیقه أو نفس الطبیعة بدون القید واجدة للمصلحة أو المفسدة فتکون الأحکام المجعولة علی موضوعاتها أحکاماً فعلیة.

و أمّا إذا کان بعض مصادیقه أو الطبیعة المقیّدة واجدة للمصلحة فیکون تعلّق الحکم بالمقدار الذی فیه المصلحة أو الطبیعة المقیّدة فعلیاً. و أمّا المقدار الذی یکون فاقداً لها و نفس الطبیعة فباقیة علی مرتبتها الإنشائی.

و حیث إنّه ربّما یکون للزمان و أحوال المکلّفین مدخلیة فی إجراء بعض الأحکام- کنجاسة بعض المنتحلین بالإسلام و کفرهم؛ فقد حکم بإسلامهم و طهارتهم فی عصر الغیبة، إلی أن یطلع شمس تلک الهدایة و محورها- أرواح من سواه فداه- فمثل هذا حکم إنشائی فی زماننا بالنسبة إلینا. و أمّا بعد طلوع شمس وجوده- عجّل اللَّه فرجه الشریف- و بالنسبة إلی أفراد ذلک العصر فیصیر فعلیاً.

إن قلت: فما فائدة الجعل الکذائی قبل أوان وقته؟ و هل هو إلّا العَبث؟!

قلت: کلّا!! فلعلّ سرّه هو أنّ تبلیغ الأحکام حیث إنّه لا بدّ و أن یکون من طریق النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم و الوحی و ینقطع ذلک بموت النبی صلی الله علیه و آله و سلم فلا بدّ من تبلیغ جمیع الأحکام إلی العباد، أو إیداعها إلی الوصی من بعده، و هو إلی من بعده، إلی أن یبلغ وقت إجرائه، فینشره إمام ذاک العصر.

فظهر: أنّ قسماً من الأحکام الإنشائیة لا یری صلاح فی إجرائها بعدُ، و یکون للمحیط و استعداد الناس دخل فی إجرائها، کالأحکام المودعة عند ولی العصر، عجّل اللَّه فرجه الشریف.

و قسماً آخر لا یری صلاح فی إجرائها بصورة العموم و الإطلاق، لکنّه أنشأه بصورة العموم و الإطلاق لیلحق هو صلی الله علیه و آله و سلم أو الوصی من بعده مخصّصاته و قیوده.

فالعمومات و المطلقات قبل ورود المخصّصات و المقیدات أحکام إنشائیة

ص: 314

بالنسبة إلی موارد التخصیص و التقیید، و إن کانت فعلیات بالنسبة إلی غیر تلک الموارد.

و أمّا الأحکام الفعلیة فهی الأحکام التی أعلنها الشارع و بیّن مخصّصاتها و مقیّداتها و حان وقت إجرائها.

فتحصّل: أنّ الأحکام القانونیة علی قسمین:

أحدهما: الأحکام الإنشائیة، و هی التی لم یرَ الشارع صلاحاً فی إجرائها فعلًا، و إن کانت نفس الأحکام ذات صلاح، کالأحکام المودعة عند صاحب الأمر- عجّل اللَّه فرجه الشریف- الواصلة إلیه من آبائه علیهم السلام، أو رأی صلاحاً فی إجرائها و لکن أنشأها بصورة العموم أو الإطلاق لیلحق به هو نفسه أو وصیّ بعده مخصّصه و قیده.

ثانیهما: الأحکام الفعلیة، و هی التی بیّنها الشارع بعمومها و خصوصها و مطلقها و مقیّدها، و حان وقت إجرائها و إنفاذها.

هذا هو المعنی المقبول من الإنشائیة و الفعلیة.

و أمّا المعنی المعروف بینهم- من إنشائیة الحکم بالنسبة إلی شخص، کالجاهل و الغافل و الساهی و العاجز، و فعلیته بالنسبة إلی مقابلاتها- ممّا لا أساس له؛ لأنّ موضوعات الأحکام و إن یمکن أن تکون بحسب التصوّر مقیّدة بالعلم أو الذکر أو الالتفات أو القدرة، و لکن الاشتراط الشرعی فیها- مضافاً إلی عدم معقولیته فی بعضها- لم یدلّ دلیل علی اعتباره. و التصرّف العقلی أیضاً غیر معقول؛ لاستلزامه تصرّف العقل فی إرادة الشارع و حکمه، و هو محال، و سیأتی بیانه.

و غایة ما یکون هناک و یحکم به العقل هی: أنّه مع طروّ إحدی تلک الحالات- من الجهل أو الغفلة أو النسیان أو العجز- یکون المکلّف معذوراً فی عدم القیام بمقتضی التکلیف، و ربّما یکون الشخص مستحقّاً للعقاب، بل ربّما یکون خارجاً عن

ص: 315

ربقة الإسلام، و لا یوجب ذلک سقوط الحکم عن فعلیته، و لا تمسّ بکرامة الواقع، و لا یسترجعه إلی ورائه حتّی یعود إنشائیاً؛ لکون ذلک أشبه شی ء بالقول بانقباض إرادة المولی عند طروّ العذر و انبساطه عند ارتفاعه.

فتحصّل: أنّ الأحکام المضبوطة فی الکتاب و السنّة لا یعقل فیها غیر هاتین المرتبتین، فقوله تعالی: «وَ لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ...»(1) إلی آخره، لا یختلف بالنسبة إلی الجاهل و العالم، و لا معنی للفعلیة و الشأنیة فی هذا الحکم المجعول المنضبط.

فهو حکم فعلی علی عامّة الناس؛ سواء العالم و الجاهل، و القادر و العاجز.

و بما ذکرنا یظهر: أنّ ما یظهر من بعضهم؛ من جعل الاقتضاء و التنجیز من مراتب الحکم، و أنّ للحکم مراتب أربع: مرتبة الاقتضاء، مرتبة الإنشاء، مرتبة الفعلیة و مرتبة التنجّز(2)، غیر صحیح؛ لأنّ الاقتضاء و التنجّز من طرفی الحکم؛ فإنّ الاقتضاء من مبادئ الحکم و التنجّز، و حکم عقلی غیر مربوط بمراتب الحکم، و معنی تنجّزه قطع عذر المکلّف فی المخالفة، و عدمِهِ کونه معذوراً فیها، من غیر تغییر و تبدیل فی الحکم، و لا فی الإرادة.

المقدّمة الخامسة:

إنّ الأحکام الکلّیة و الخطابات القانونیة تفترق عن الأحکام الجزئیة و الخطابات الشخصیة الصادرة عن الموالی العرفیة إلی عبیدهم من جهات، و الخلط بینهما صارت منشأ لاشتباهات:


1- آل عمران( 3): 97.
2- کفایة الاصول: 297.

ص: 316

منها: توهّم أنّ الخطابات القانونیة و الأحکام الکلّیة لا یکاد یعقل أن تتوجّه إلی العاجز و الغافل و الساهی؛ ضرورة أنّ الخطاب للانبعاث، و لا یعقل انبعاث العاجز و نحوه، کما هو الشأن فی الخطابات و الأحکام الجزئیة.

و هذا من موارد الخلط بین الأحکام الکلّیة و الجزئیة، فیقال: إنّ البعث و کذا الزجر فی الخطابات و الأحکام الجزئیة الصادرة من مولی بالنسبة إلی عبده إذا کان لغرض الانبعاث أو الانزجار لا بدّ و أن یکون فی مورد یصلح البعث للانبعاث أو الزجر للانزجار، و ذلک فی مورد یعلم أو یظنّ أو لا أقلّ من احتمال الانبعاث من البعث أو الانزجار من الزجر، و إلّا إذا علم بعدم الانبعاث أو الانزجار یکون بعثه أو زجره سفهیاً، بل لا یکاد یصدر من المولی العاقل الملتفت بعث أو زجر جدّی عند ذلک؛ و لذا تراهم یعتبرون فی وجوب الأمر بالمعروف أو النهی عن المنکر احتمال انبعاث التارک للواجب، أو انزجار الفاعل للحرام، و إلّا ففی صورة العلم بعدم الارتداع یسقط الوجوب.

و بالجملة: بعث المولی عبده من أفعاله الاختیاریة فهو مسبوق بتصوّر أمره، و تصوّر احتمال باعثیته لعبده، و التصدیق بفائدة ذاک الاحتمال، ثمّ انحدار البعث نحوه.

فإذا علم أنّ العبد لا ینبعث عن بعثه لا یعقل تمشّی البعث من المولی الحکیم مع التفاته إلی فائدة البعث؛ بداهة أنّ البعث لغایة الانبعاث، و هو مقطوع العدم.

نعم، إذا کانت لنفس البعث غایة و فائدة اخری غیر الانبعاث- کإتمام الحجّة و إن لم یترتّب علیه الانبعاث- لأمکن ذلک منه، و لکنّه خارج عن محطّ البحث. و کذا لو علم أنّ العبد یأتی بالعمل بدون البعث لا یکاد یتمشّی البعث منه بداعی الانبعاث بالبیان المتقدّم.

ص: 317

فتحصّل: أنّه إذا لم یکن العبد قادراً عقلًا أو عادة علی إتیان فعل- بأن کان نائماً أو ساهیاً أو مغمی علیه، إلی غیر ذلک- أو کان مرغوباً عنه بنفسه، أو مطلوباً بنحو یریده بإرادة نفسه أو یکون عاصیاً، لا یکاد یمکن صدور البعث أو الزجر من المولی العاقل الملتفت.

نعم، إذا کانت لنفس البعث أو الانزجار مصلحة اخری- کتصفیة مَجری النفَس، أو إتمام الحجّة، إلی غیر ذلک- لکان صدور البعث أو الزجر بمکان من الإمکان، لکنّه خارج عن محلّ الکلام.

هذا کلّه فی الخطابات و الأحکام الشخصیة.

ثمّ إنّهم قاسوا الخطابات العمومیة القانونیة- أی الخطابات المتوجّهة إلی عامّة الناس أو جماعة منهم- بالخطابات و الأحکام الجزئیة، فاعتبروا فیها ملاحظة حالات جمیع أفراد مَن خوطب بها، بحیث لا یتوجّه الخطاب إلی العاجز أو الجاهل أو الساهی منهم، أو غیرهم، کما لا یتوجّه الخطاب الشخصی إلیهم. مع أنّ لها شأناً یغایره؛ لأنّ الضرورة قائمة علی أنّ الخطابات و الأوامر الإلهیة شاملة للعصاة، بل بناء المحقّقین علی أنّها شاملة للکفّار، فهم مکلّفون بالفروع کما هم مکلّفون بالأُصول، مع أنّه أشرنا: أنّ الخطاب الشخصی إلی الکفّار المعلومی الطغیان من أقبح المستهجنات، بل غیر ممکن لغرض الانبعاث، فلو کان وزان حکم الخطاب العمومی وزان حکم الخطاب الشخصی فلا بدّ من الالتزام بتقیید الخطاب بغیرهم، و هو کما تری.

و کذا الحال فی الجاهل و الغافل و النائم و غیرهم ممّا لا یعقل تخصیصهم بالحکم، و لا یمکن توجّه الخطاب الخصوصی إلیهم، و إذا صحّ فی موردٍ فلیصحّ فیما هو مشترک معه فی المناط؛ فیصحّ الخطاب لعامّة الناس، من غیر تقیید بالقادر؛ فیعمّ جمیعهم، و إن کان العاجز و الجاهل و الناسی و الغافل و أمثالهم معذورین فی

ص: 318

المخالفة، فمخالفة الحکم الفعلی قد تکون لعذر- کما ذکر- و قد لا تکون کذلک(1)

. و السرّ فی ذلک هو تغایر مبادئ جعل الأحکام الکلّیة مع مبادئ جعل الأحکام الجزئیة، و المعتبر فی إحداهما غیر المعتبر فی الاخری.

و ذلک لأنّ غایة ما یعتبر فی جعل القانون الکلّی و خطابه هو إمکان انبعاث عدّة من المخاطبین بالخطاب، و لا یلاحظ حال کلّ واحدٍ واحدٍ منهم. فتنحدر الخطابات الکلّیة إلی العناوین، کالمؤمنین، أو الناس، أو القوم، و نحو ذلک، إذا کانت فیهم عدّة معتنی بها یمکن انبعاثهم بهذا البعث، بخلاف الخطابات الشخصیة.

و السرّ فی ذلک: أنّ الخطابات العامّة لا تنحلّ کلّ منها إلی خطابات بعدد نفوس المکلّفین، بحیث یکون لکلّ منهم خطاب یخصّه، بل یکون الخطاب العمومی خطاباً واحداً یخاطب به العموم، و بهذا یفترق عن الخطاب الخصوصی فی کثیر من الموارد.

و بالجملة: یتصوّر المقنّن القانون الکلّی، و یصدّق بفائدته لهم، فیرید التقنین و الجعل، فیوجّه الخطاب إلیهم بالعنوان. فمتعلّق الحکم الکلّی و موضوعه العنوان.

ففی قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) لم یلحظ حال کلّ واحدٍ واحدٍ منهم بنحو العموم لینحلّ إلی خطابات عدیدة، بل خطاب واحد متعلّق بالعموم. و کذا جعلت النجاسة علی عنوان البول لا علی أفراد البول، فکلّما تحقّق العنوان یتعلّق به الحکم.


1- قلت: اقتبسنا الجملات الأخیرة من« مناهج الوصول»، لاحظ مناهج الوصول 2: 26- 27.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- المائدة( 5): 1.

ص: 319

و إن کان فی خواطرک ریب فلاحظ القوانین المجعولة فی مجلس النوّاب و الشیوخ؛ فإنّها بمرأی منک و مسمع، فتراهم یضعون القوانین و لا یلاحظون حالات أفراد ملّتهم و تحت حکومتهم، بل ربّما لا یتوجّهون إلی انبعاث کلّ واحدٍ واحدٍ منهم، بل إذا رأوا انبعاث عدّة منهم لکان ذلک مصحّحاً لجعل القانون علی نحو الکلّیة.

فعلی هذا: کلّ واحد من الأحکام المجعولة فی الشریعة إذا حان وقت إجرائها، أحکام فعلیة لجمیع آحاد المکلّفین بخطاب واحد، من دون انحلال؛ سواء فی ذلک العالم و الجاهل، و الغافل و المتذکّر، و العاصی و المطیع، و المؤمن و الکافر.

ولیت شعری کیف یقولون: إنّ الأحکام غیر مخصوصة بالعالمین بها، بل یعمّهم و الجاهلین، و لم یلزم منه محذور عندهم، مع أنّ الجاهل حال جهله لا یکاد یتوجّه التکلیف به، و لا یقولون به فی نظائره، کالعصاة و الکفّار و الغافلین و الناسین إلی غیر ذلک، مع أنّهما یرتضعان من ثدی واحد؟!

و الذی أوقعهم فیما أوقعهم فیه، هو خلط الخطابات و الأحکام الشخصیة بالخطابات و الأحکام الکلّیة، و کم له من نظیر!

فالحکم القانونی بمبادئه تعلّق علی عنوان ینطبق علی الجمیع، و لا فرق فی ذلک بین العاصی و الکافر و المؤمن و المطیع فی توجّه الحکم الفعلی إلیه، و لم یکن الکافر و العاصی معذوراً.

و کذا لا فرق بین العالم و الجاهل، و بین المتذکّر و الغافل، و القادر و العاجز، فی تعلّق الحکم الفعلی. نعم یکون الجاهل و نظرائه معذورین فی ترک امتثال الحکم الفعلی، بخلاف العالم و نظرائه، فتدبّر فیما ذکرنا لعلّه ینفعک فی غیر مقام.

و منها:- أی: من موارد خلط الخطابات و الأحکام الکلّیة بالخطابات و الأحکام الجزئیة- حکمهم بعدم منجّزیة العلم الإجمالی إذا کان بعض أطرافه

ص: 320

خارجاً عن محلّ الابتلاء، بتوهّم أنّ الخطاب بالنسبة إلیه مستهجن.

قال شیخنا العلّامة الأنصاری قدس سره فی العلم الإجمالی- و وافقه المتأخّرون- ما ملخّصه: أنّه یعتبر فی تنجّز الخطاب المعلوم بالإجمال أن یکون الخطاب بالنسبة إلی جمیع الأطراف فعلیاً، فإذا لم تکن له قدرة عقلیة علی بعض الأفراد، بل إذا لم تکن له قدرة عادیة علیه بأن کان ذلک البعض خارجاً عن محلّ الابتلاء لا یکون الخطاب منجّزاً فی حقّه، و ذکروا فی وجهه: أنّ الخطاب مستهجن بالنسبة إلی من یکون کذلک(1)

. و لا یخفی: أنّه یظهر منهم أنّهم تلقّوا ذلک علی نحو إرسال المسلّمات و الاصول المسلّمة.

و الوجه فیما ذکروه هو: أنّهم یرون أنّ الخطاب العمومی الواحد ینحلّ إلی خطابات عدیدة بعدد رءوس المکلّفین، بحیث یکون لکلّ من الخطابات المنحلّة إلیها مبادئ تخصّه؛ حتّی یکون وزانها وزان الخطابات الشخصیة، بحیث کلّ ما یصحّ فیه الخطاب الشخصی یصحّ فیه الخطاب العمومی، و کلّ ما لا یصحّ فیه ذلک لا یصحّ فیه هذه، مع أنّه لیس کذلک، بل خطاب واحد متعلّق بکثیرین، فلا تعدّد فی ناحیة الخطاب، بل التعدّد إنّما هو فی ناحیة المتعلّق.

و یتوجّه علیهم أوّلًا: النقض بالأحکام الوضعیة؛ و ذلک لأنّ لهم فیها مشربین:

الأوّل: ما ذهب إلیه شیخنا العلّامة الأنصاری قدس سره- و بعض من تأخّر عنه- و هو: أنّ الأحکام الوضعیة غیر متأصّلة فی الجعل، بل منتزعة من الأحکام التکلیفیة فی موردها(2).


1- راجع فرائد الاصول 2: 419- 422، کفایة الاصول: 410، فوائد الاصول 4: 50- 51.
2- فرائد الاصول 2: 601.

ص: 321

و الثانی: ما ذهب إلیه جلّ المحقّقین، و هو تأصّل الأحکام الوضعیة فی الجعل کالأحکام التکلیفیة(1)، فعلی المشرب الأوّل لا بدّ و أن یلتزم الشیخ قدس سره و من یحذو حذوه أن لا تکون الخمر التی فی أقصی نقطة المغرب بالنسبة إلی من یکون فی أقصی نقطة المشرق نجسة؛ لأنّها غیر محرّمة علیه؛ لعدم ابتلائه بها. إلّا أن یقال: إنّها نجسة و محرّمة علی من یکون مبتلی بها، فیکون الحکم الوضعی نسبیاً، و لا یکاد یلتزم به، و ضرورة الفقه علی خلافه.

و أمّا علی المشرب الثانی فلا بدّ لهم أیضاً من الالتزام بما ذکر؛ لأنّ جعل الأحکام الوضعیة لأجل الأحکام التکلیفیة و ترتّب الآثار، فجعل الطهارة للماء- مثلًا- لجواز الوضوء و الغسل و نحو ذلک منه، فإذا کان ترتّب الآثار ملحوظاً شخصاً فشخصاً فلا بدّ من اختصاص جعل الطهارة بالنسبة إلی شخص دون شخص، فیلزم أن یکون الحکم الوضعی نسبیاً، و قد عرفت أنّهم غیر ملتزمین به، مضافاً إلی أنّه خلاف ضرورة الفقه.

و ثانیاً: النقض بتکلیف الکفّار و العصاة؛ و ذلک لأنّ لازم القول بانحلال الخطاب إلی خطابات متعدّدة عدم مخاطبة الکفّار و العصاة بالتکالیف؛ لأنّ البعث- کما أشرنا- لغایة الانبعاث، فإذا علم عدم الانبعاث لا یکاد یعقل البعث نحوه؛ بداهة أنّه کما لا یصحّ خطاب الجماد، فکذلک لا یصحّ خطاب من یعلم بعدم انبعاثه؛ لوحدة الملاک، فکما لا یصحّ الخطاب الشخصی بالکافر أو العاصی، فکذلک الخطاب العمومی المنحلّ إلی خطابات عدیدة بعدد رءوس المکلّفین، مع أنّ الضرورة قائمة علی شمول الأوامر و النواهی للعصاة، و المحقّقون علی أنّها شاملة للکفّار أیضاً؛ لکونهم مکلّفین بالفروع کما یکونون مکلّفین بالأُصول.


1- کفایة الاصول: 454- 458، فوائد الاصول 4: 392، نهایة الأفکار 4، القسم الأوّل: 90.

ص: 322

إن قلت: قد ورد فی القرآن المجید ما ینافی ذلک، کقوله تعالی لموسی و هارون- علی نبینا و آله و علیهما السلام- «فَقُولا لَهُ- أی لفرعون- قَوْلًا لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی»(1)، مع علمه تعالی بأنّ فرعون لا یتذکّر و لا یخشی.

قلت: ما ذکرناه هو حکم العقل، فإن کان علی خلافه ظاهر فلا بدّ و أن یؤوّل، کما یؤوّل قوله تعالی: «الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی»(2)، فلعلّ قوله تعالی ذلک لأجل أنّه إذا دعوا فرعون یکون فی حواریه و أتباعه من یتذکّر أو یخشی، و لا یمکنهما أن یدعوا هم إلّا بهذا النحو، فتدبّر.

و ثالثاً: النقض بتکلیف الجاهل و العاجز و الغافل؛ ضرورة أنّ الجاهل و نظرائه لا یکادون ینبعثون عن الخطاب- کما هو ظاهر- مع أنّ التکالیف شاملة لهم لا بعناوینهم. و غایة ما یکون لهم هی معذوریتهم فی مخالفة الحکم الفعلی.

و الذی یسهّل الخطب- کما أشرنا- هو تغایر مبادئ جعل الأحکام الکلّیة مع مبادئ جعل الأحکام الجزئیة، و عدم انحلال الخطاب القانونی إلی الخطابات، بل خطاب واحد متعلّق بکثیرین، فلا تعدّد فی ناحیة الخطاب، و إنّما التعدّد فی ناحیة المتعلّق، فتدبّر و اغتنم.

أضف إلی ذلک: أنّ الإرادة التشریعیة- کما أشرنا غیر مرّة- لیست إرادة إتیان المکلّف و انبعاثه نحو العمل، و إلّا یلزم فی الإرادة الأزلیة عدم انفکاکها عنه و عدم إمکان العصیان، بل هی عبارة عن إرادة التقنین و الجعل علی نحو العموم، و فی مثله یراعی المصلحة العقلائیة، و معلوم: أنّه لا تتوقّف صحّته عندهم علی صحّة الانبعاث من کلّ أحد، کما یظهر بالتأمّل فی القوانین العرفیة.


1- طه( 20): 44.
2- طه( 20): 5.

ص: 323

المقدّمة السادسة:

موضوع التکالیف الشرعیة علی قسمین:

فتارةً: یکون مقیّداً بالقدرة فی لسان الدلیل، کالاستطاعة المأخوذة فی الحجّ فی قوله تعالی: «وَ لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا»(1)

. و اخری: لم یُقیّد فی لسان الدلیل، و هذا أیضاً علی قسمین:

فتارة: یحرز القید فی الموضوع لُبّاً من دلیل خارج أو حکم العقل. مثلًا: إذا قال المولی: «أکرم العالم» و لکن علم من الخارج أنّه لم یمکنه إلحاق قید التورّع- مثلًا- لمحذور کان هناک، مع أنّ المطلوب عنده فی الواقع هو ذلک، بحیث لا یکون إکرام العالم غیر المتورّع محبوباً لدیه، بل یکون مبغوضاً عنده، و کما إذا قال لعبده:

«أکرم صدیقی» و فرض أنّه لا یمکنه إکرامه إلّا بقدومه.

و اخری: لم یحرز ذلک. و یتفرّع علی التقیید بقسمیه أمران:

الأمر الأوّل: جواز إحداث ما یوجب خروجه عن موضوع التکلیف اختیاراً، فلو أخرج العالم الورع نفسه عن الورع، أو حال بین صدیق المولی و قدومه، أو أخرج المستطیع نفسه عن الاستطاعة، لما وجب علیه الإکرام، و لا علی المستطیع الحجّ.

نعم، یستظهر من الأدلّة فی خصوص الاستطاعة فی الحجّ: أنّ من استطاع بالشرائط المقرّرة یجب علیه الحجّ و إن أخرج نفسه عن الاستطاعة، فیستفاد من الأدلّة: أنّ الاستطاعة دین علی مَن استطاع إلیه سبیلًا، فتأمّل.

و بالجملة: لو کانت القدرة مأخوذة فی موضوع التکلیف یجوز للمکلّف إعجاز


1- آل عمران( 3): 97.

ص: 324

نفسه و إخراجها عن موضوع التکلیف و إدخاله فی موضوع تکلیف آخر، نظیر عنوانی المسافر و الحاضر، حیث علّق علی موضوع المسافر قصر الصلاة و إفطار الصوم، و علی الحاضر إتمام الصلاة و الصوم؛ فکما للمکلّف إخراج نفسه من أحدهما و إدخالها فی الآخر، فکذلک یجوز له إعجاز نفسه لیخرج عن موضوع التکلیف.

الأمر الثانی: أنّه لو شکّ فی القدرة لا یلزمه الاحتیاط، بل یجوز له إجراء البراءة، بلا خلاف؛ للشکّ فی التکلیف، و لا یلزمه الفحص، فمن شکّ فی الاستطاعة فلا یجب علیه الحجّ.

فظهر حال التقیید الشرعی؛ سواء اخذ فی لسان الدلیل، أو استکشف من دلیل العقل، أو من الخارج، و أمّا لو لم یؤخذ مطلقاً فلا یجوز له إعجاز نفسه؛ لأنّ الموضوع حیث لم یقیّد بقید فیستکشف أنّه مطلق، و علیه استقرّ حکم العقل و بناء العقلاء؛ فإنّهم لا یرون أن یحدث الرجل ما یوجب عجزه عن قیامه بموضوع التکلیف، و کذا لو شکّ فی القدرة یحتاطون و لا یجرون البراءة.

إذا عرفت هذین القسمین و الشأن الذی لهما فنقول: إنّ الأحکام الشرعیة الکلّیة الإلهیة غیر مقیّدة بالقدرة؛ لا شرعاً و لا عقلًا، فتشمل القادر و العاجز، فیکون وزان القدرة وزان العلم، و إن کان حکم العقل بالإطاعة و العصیان فی صورة القدرة.

أمّا شرعاً: فظاهر؛ لأنّه لیس فی الأدلّة ما یوجب التقیید بالقدرة العقلیة و العلم، و لو فرض التقیید بالقدرة الشرعیة للزم الالتزام بجواز إیجاد المکلّف العجز لنفسه، کما هو الشأن فی الحاضر و المسافر، حیث یجوز للحاضر أن یسافر فلا یشمله تکلیف الحاضر، و بالعکس یجوز للمسافر أن یحضر بلده فلا یشمله تکلیف المسافر.

فلا بدّ و أن یجوز للمکلّف إخراج نفسه عن عنوان القادر فلا یشمله التکلیف، و أن

ص: 325

یعمل عملًا یخرجه عن الاستطاعة، إلی غیر ذلک، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز.

و کذا لزم إجراء البراءة عند الشکّ فی القدرة؛ لأنّ مرجع الشکّ فیها إلی الشکّ فی التکلیف، و إجراء البراءة فی الشکّ فی التکلیف ممّا لا خلاف فیه، مع أنّه یظهر من فتاواهم عدم الالتزام بالبراءة، بل یحتاطون فی الشکّ فی القدرة.

و أمّا عقلًا:- بمعنی تصرّف العقل فی الأدلّة الشرعیة- فهو لا یرجع إلی محصّل، بل تصرّف العقل فی إرادة المولی أو جعله ممّا لا معنی معقول له؛ بداهة أنّ التقیید و التصرّف لا یمکن إلّا للجاعل لا لغیره.

نعم، للعقل الحکم فی مقام الإطاعة و العصیان، و أنّ مخالفة الحکم فی أیّ مورد توجب استحقاق العقوبة، و فی أیّ مورد لا توجب المعذوریة، فإذا لم یکن عجزه بسوء اختیاره یکون معذوراً عند العقل و العقلاء. فوجوب الاجتناب عن الخمر- مثلًا- یعمّ القادر و غیره، إلّا أنّ العاجز إذا لم یکن عجزه بسوء اختیاره یرفع حکم التکلیف- و هو العقاب- عنه لا التکلیف.

ثمّ إنّه قد عرفت: أنّ لازم تقیید موضوع الحکم بالقدرة هو: أنّه لو شکّ فی القدرة فمقتضی القاعدة البراءة.

و لکن تمسّک شیخنا العلّامة الحائری قدس سره- علی ما ببالی- للجمع بین تقیید موضوعات الأحکام بالقدرة، و بین لزوم الاحتیاط فی الشکّ فیها و حفظ العنوان، بإطلاق المادّة، بتقریب: أنّ مادّة «أنقذ الغریق» مثلًا لم تقیّد بالقدرة، و لکن العقل من جهة أنّه لا یری توجّه التکلیف إلی العاجز فیقیّده بصورة عدم العجز، فالمادّة- و هی الإنقاذ- مطلوبةٌ مطلقاً، و ذلک مثل ما إذا أشرف ولد المولی علی الغرق و کان عبده نائماً، فإنقاذه ولده العزیز مطلوب مطلقاً غایةَ الطلب و الحبّ، و لکن مع ذلک لا یمکنه تکلیف عبده.

ص: 326

و بالجملة: بإطلاق المادّة تستکشف المصلحة، و إن لم یمکن تعلّق الطلب به فی صورة العجز، فلا یمکنه إحداث ما یخرجه عن موضوع التکلیف اختیاراً؛ لعدم معذوریة؛ لعدم معذوریة المکلّف عند العقل و العقلاء فی رفع العقاب، و إن یرون جواز ارتکابه بل وجوبه لو اضطرّ إلیه حفظاً للنفس، فلو شکّ فی القدرة فلا بدّ له من الاحتیاط.

و فیه: أنّ کشف المصلحة و المطلوبیة الواقعیة فی موضوع حکم إنّما هو من جهة أنّ ما اخذ موضوعاً للحکم غیر مقیّد بقید، فیستفاد منه: أنّ المطلوب هو نفس الطبیعة، و علی مذهب العدلیة یستکشف وجود المصلحة المطلقة.

مثلًا: إذا قیل: «أکرم العالم» فحیث إنّه اخذ العالم من دون تقییده بقید موضوعاً و تعلّق التکلیف الفعلی به، فیستکشف من ذلک أنّ الإکرام بلا قید قام به المصلحة، و لکن إذا أدرک العقل أنّ المولی لا یمکنه البعث الفعلی إلی موضوع بنحو الإطلاق، و احتملنا أنّه فی متن الواقع مقیّد بالقدرة، و لکنّه لم یذکر القید اعتماداً و اتّکالًا علی معلومیته و وضوحه عند العقل، فلا دافع لاحتمال کون موضوع الحکم هو المتقیّد بالقدرة، و إطلاق المادّة لا یکاد یجدی لدفع ذاک الاحتمال؛ لأنّ إطلاقها إنّما یجدی لدفع ذاک الاحتمال إذا تعلّق الحکم علی موضوع غیر مقیّد و أمکن للمولی تقییده، لا فی مورد لا یمکنه تقییده اتّکالًا علی درک العقل.

فکما أنّه إذا اخذ الموضوع مقیّداً لا یمکن أن یتمسّک بالإطلاق، فکذلک فیما لا یکاد یمکن تقییده، و بالجملة: المطلق هو الذی اخذ موضوعاً للحکم من غیر قید، و المقیّد هو الذی اخذ موضوعاً للحکم مع القید، فإن اخذ من دون قید، یحتجّ العقلاء علیه بأنّه تمام الموضوع للحکم الفعلی، و علی مذهب العدلیة یستکشف وجود المصلحة المطلقة هناک، و هذا إنّما یکون فی مورد یمکن و یصحّ أن یقیّده بقید و لم یقیّده

ص: 327

به، و أمّا إذا لم یمکنه ذلک فلا یکاد یمکن أن تستکشف المطلوبیة و المصلحة المطلقة؛ لقصور نطاق التکلیف؛ لاحتمال تعلّق المصلحة بالموضوع المتقیّد لُبّاً و لم یقیّده لأجل اللغویة و معلومیته عند العقل، فلم یتمّ ما أفاده شیخنا العلّامة قدس سره.

فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّه لو قیّد موضوع الحکم بالقدرة فی لسان الدلیل، أو استفید ذلک من دلیل خارج أو من حکم العقل، یجوز إحداث ما یوجب خروجه عن موضوع التکلیف اختیاراً- کما هو الشأن فی الحاضر و المسافر- و تجری البراءة عند الشکّ فی القدرة.

و موضوعات الأحکام الفعلیة الثابتة فی الشریعة المقدّسة بالکتاب و السنّة مطلقات غیر مقیّدات بصورة القدرة، فقوله تعالی: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ»(1) مثلًا تکلیف متعلّق بجمیع آحاد المکلّفین- سواء کانوا قادرین أم لا- و لکن العقل یری أنّ الذی طرأ علیه العجز و الاضطرار من غیر سوء اختیاره یکون معذوراً فی ارتکابه، و لا یستفاد من ظواهر الآیات و الروایات أزید من ذلک. نعم، إذا کان العجز بسوء اختیاره فإن اضطرّ إلیه یجوز بل یجب علیه أکل المیتة لحفظ نفسه، و لکنّه لا یکون معذوراً عند العقل و العقلاء، فاتّضح الفرق بین العجزین، فتدبّر.

فظهر: أنّه کما قالوا: إنّ الأحکام غیر مخصوصة بالعالمین بها؛ للزوم الدور، فکذلک إنّها غیر مخصوصة بالقادرین، فکما أنّه لم یلزم هناک محذور من إطلاق الأحکام مع أنّ تکلیف الجاهل قبیح، فکذلک نقول هنا لا یلزم محذور من إطلاق الأحکام مع أنّ تکلیف العاجز قبیح؛ لوحدة الملاک، و أنّهما یرتضعان من ثدی واحد.


1- المائدة( 5): 3.

ص: 328

المقدّمة السابعة:

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا- من أنّ الأحکام المتعلّقة بالطبائع لا تعرّض لها لحال الأفراد بالنظر إلی ذاتها فضلًا عن لحاظها بالنسبة إلی أفراد طبیعة اخری فلم یکن مفاد المطلق ائت بالمتعلّق- سواء أتیت بمتعلّق الآخر أم لا، بل غایة ما هناک هی أنّ الطبیعة تمام الموضوع للحکم- فنقول:

إنّ الأمر بالشیئین اللذین لا یمکن إتیانهما و جمعهما فی الوجود، لا یکون أمراً بغیر المقدور؛ و ذلک لأنّه إذا فرض فی زمان، تکلیف بإنقاذ الغریق، و فی نفس ذلک الزمان تکلیف آخر بإتیان الصلاة، فکلّ واحد من التکلیفین لو لوحظ مستقلًاّ یکون مقدوراً له، و لا یکون قیام التکلیفین علی الضدّین إلّا کقیام التکلیف علی الأمرین المتوافقین غیر المتزاحمین، فی أنّ کلّ واحد حجّة فی مفاده، لا فی الجمع بینهما، فالأمر المتعلّق بکلّ من المتزاحمین لم یکن أمراً بغیر المقدور؛ لعدم المضادّة بینهما فی مقام تعلّق التکلیف، و المضادّة التی وقعت بینهما إنّما هی لجمعهما فی الوجود، و هو غیر متعلّق للتکلیف.

و توارد الأمرین علی موضوعین لا یمکن جمعهما فی الوجود و فی زمان واحد إنّما یقبح فی الخطابات الشخصیة، و أمّا فی الخطابات القانونیة التی تختلف حالات المکلّفین فغیر مضرّ بعد اختلاف حالاتهم؛ فربّما کثیراً لا یصادف المکلّف إلّا بواحد منهما، و ربما یتّفق تصادف المکلّف بهما.

و بالجملة: یصحّ توارد الأمرین علی عامّة المکلّفین فی الخطابات القانونیة؛ و منهم المکلّف الواقف أمام المتزاحمین، و لا یستهجن، و الذی یحکم به العقل هو: أنّ

ص: 329

المکلّف لا بدّ و أن یقوم بالوظیفة لإجابة الأمرین بنحوٍ لو خالف واحداً منهما لعدم سعة الوقت لهما، لَعُدّ معذوراً.

إذا عرفت هذه المقدّمات فعند تزاحم التکلیفین: فتارة: یکونان متساویین فی الملاک و المصلحة، و اخری: یکون لأحدهما مزیة علی الآخر:

ففی صورة تساوی ملاک متعلّق التکلیفین و تزاحم المهمّین، أو مصداقین من طبیعة واحدة، تکون الأحکام القانونیة باقیة علی قوّتها الفعلی، و لکن مع ذلک لم ینسدّ باب الأعذار العقلیة؛ بداهة أنّه مع کون الحکم فعلیاً یری العقل معذوریة المکلّف، کما إذا کان جاهلًا بالجهل القصوری، ففیما نحن فیه حیث یکون المکلّف أمام الأمرین المتزاحمین، و یکون له قدرة علی الإتیان بکلّ واحد منهما، فإن صرف قدرته فی أحدهما یکون معذوراً فی ترک الآخر، و بالعکس، من غیر أن یکون ذلک تقییداً و اشتراطاً فی التکلیف أو المکلَّف به، فیکون مخیّراً فی الإتیان بأیّهما شاء، و لو ترکهما معاً لا لعذر یستحقّ عقابین.

و إن شئت مزید توضیح لما ذکرنا فتوضیحه بمثالٍ، و هو: أنّه إذا کان لمولی ولدان یحبّهما حبّاً شدیداً فی عرض واحد، فأشرفا علی الغرق، و لم یکن له إلّا عبد واحد لا یقدر إلّا علی إنقاذ أحدهما، فإن صرف تمام قدرته و أنقذ أحدهما یکون العبد مطیعاً بالنسبة إلی إنقاذ أحدهما، و معذوراً فی ترک إنقاذ الآخر، فیکون محبوباً عند المولی، بل یکرمه أشدّ الإکرام، و لکنّه مع ذلک یتأسّف علی غرق ولده الآخر، بل یبکی علیه.

و أمّا إذا لم یصرف العبد قدرته فی إنقاذ واحد منهما، بل ترکهما، لا یکون له عذر له أصلًا، بل یعاقب علی ترکهما، فترک الإنقاذ فی إحدی الصورتین یکون عذراً دون الاخری، مع أنّه للمولی غرض و اشتیاق تامّ فی إنقاذ الغریقین فی الصورتین.

ص: 330

إن قلت: هل له إلّا قدرة واحدة، و واضح أنّه لا یکاد یمکن صرفها إلّا فی إنقاذ أحدهما، فإن خالف فلا بدّ و أن یعاقب عقاباً واحداً، فلأیّ شی ء یعاقب عقابین؟!

قلت: عند ترک الإنقاذین یکون له قدرة لإنقاذ کلّ منهما، فترکهما یکون لا لعذر، و قد عرفت: أنّ کلّ أمر لا بدّ و أن یکون متعلّقه مقدوراً؛ فالأمر بإنقاذ هذا الولد حکم فعلی فی حقّه، فترکه لا لعذر، و کذا الأمر المتعلّق بإنقاذ الولد الآخر.

نعم، إذا اشتغل بأحدهما و صرف قدرته فیه و ترک الآخر یُعدُّ معذوراً، فعند ترکه کلیهما لا لعذر یکون مسئولًا بالنسبة إلی ترک کلّ منهما؛ لکونه مقدوراً له، فیعاقب عقابین. نعم الجمع بینهما غیر مقدور له، لکنّه غیر مکلّف به؛ لعدم تعلّق التکلیف به، فتدبّر.

و إن شئت مزید توضیح لتصحیح العقابین فی ترکهما فنقول فی الغریقین المتساویین- کالابنین اللذین لا ترجیح لأحدهما علی الآخر- لو ترک إنقاذهما فلا سبیل إلی عدم العقاب بالمرّة؛ ضرورة أنّه إذا کان مأموراً بإنقاذ أحدهما فترکه، یعاقب علیه، فما ظنّک فی صورة ترکهما معاً؟!

فهل یستحقّ العقاب لترک أحدهما بعینه فقط، أو لترک عنوان أحدهما لا بعینه، أو لترک المجموع من حیث المجموع، أو لترک هذا و ذاک؟!

لا سبیل إلی القول باستحقاق العقاب لترک هذا بعینه فقط دون الآخر؛ لعدم مزیة و خصوصیة لأحدهما علی الآخر، فلا ترجیح لأحدهما علی الآخر.

و کذا لا وجه للقول باستحقاق العقاب لترک عنوان أحدهما لا بعینه؛ لأنّه لا یکون لأحدهما اللّامعیّن وجود وراء وجود کلّ منهما، مضافاً إلی أنّ العقاب لا بدّ و أن یکون بمخالفة موضوع التکلیف، و لم یکن وراء التکلیف هذا بعینه و ذاک بعینه تکلیف ثالث متعلّق بعنوان أحدهما اللابعینة.

ص: 331

و کذا لا یکون العذاب لترک المجموع من حیث هو؛ لعدم کونه موجوداً علی حدة، مضافاً إلی أنّه لم یصدر من المولی أمر بعنوان المجموع؛ فالعقاب إنّما هو لترک کلّ واحد منهما بلا عذر. هذا إذا کان المتزاحمان متساویین.

و أمّا إذا کان أحدهما أهمّ من الآخر، فإن صرف قدرته فی الأهمّ فهو معذور فی ترک المهمّ؛ لعدم القدرة علیه مع اشتغاله بضدّه الأهمّ بحکم العقل.

و أمّا إن صرف قدرته فی المهمّ فیثاب بإتیانه؛ لأنّه أتی بتکلیف فعلی، و لکنّه یعاقب لترک الأهمّ لا لعذر.

و أمّا لو ترکهما معاً فیعاقب عقابین؛ لعدم وجود العذر لترکهما فی البین.

و تصحیح توجّه العقابین هنا یظهر ممّا ذکرناه فی المتزاحمین المتساویین، فلاحظ.

ثمّ إنّه إن أبیت عن الالتزام بالعقابین فی ترک المتزاحمین بلا عذر، لکنّه لا یضرّ بما نحن بصدد إثباته من تصحیح الأمر بالضدّین المتساویین، أو کان أحدهما أهمّ من الآخر.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ کلًاّ من الضدّین- و إن کان أحدهما أهمّ- فی عرض واحد یکون متعلّقاً للتکلیف، و التکلیفان المتعلّقان بهما فعلیان، فإن ترکهما لا لعذر یعاقب عقابین، و إلّا فإن ترکهما أو ترک واحداً منهما لعذر لا یستحقّ العقاب.

فظهر: أنّ ما أفاده شیخنا البهائی قدس سره: إنّ الأمر بالشی ء و إن لم یقتض النهی عن ضدّه، إلّا أنّه یقتضی عدم الأمر به(1)، لا وجه له؛ لصحّة الأمر بالضدّین فی عرض واحد. فتمّ الکلام- بحمد اللَّه- علی الوجه الثالث الذی اخترناه و نقّحناه فی قبال شیخنا البهائی قدس سره، من دون التشبّث بمسألة الترتّب، فافهم و اغتنم و کن من الشاکرین.


1- زبدة الاصول: 99.

ص: 332

تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتب
اشارة

تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتب(1)

الوجه الرابع من الوجوه المقرّرة لدفع مقالة شیخنا البهائی قدس سره القائل بعدم الأمر بالضدّ عند الأمر بضدّه، و هو الترتّب، و حاصله: تصویر الأمر بالمهمّ فی صورة عصیان الأمر بالأهمّ و ترکه.

و اعلم: أنّ للترتّب تقاریب مختلفة، لا یهمّ ذکر جمیعها، بل نذکر المهمّ منها، و نقدّم التقریب الذی أفاده السیّد الأکبر و العلّامة المجدّد الشیرازی قدس سره(2)، و شیّد أرکانه و أقام برهانه تلمیذه الجلیل المحقّق السیّد محمّد الفشارکی الأصفهانی قدس سره(3) بعد مراجعته من سامراء إلی النجف الأشرف، و صدّقه کثیر من المشایخ، و فصّله و أوضحه المحقّق النائینی قدس سره(4)

. و التقاریب الاخر- کما أشرنا إلی بعضها أخیراً- إجمال لما فصّله المحقّق النائینی قدس سره مع إغلاق و إخلال للمراد.

و حیث إنّ المحقّق النائینی قدس سره أحال تنقیح البحث فیه علی رسم مقدّمات، فنحن نقتفی أثره، فنذکر کلّ مقدّمة ذکرها، ثمّ نشیر إلی وجه الخلل فیها.

فقال المحقّق النائینی قدس سره:


1- کان تأریخ شروع هذا الوجه/ 19 شوّال المکرّم/ 1379 ه. ق.
2- تقریرات المجدّد الشیرازی 2: 273- 281 و 3: 118- 129.
3- الرسائل الفشارکیة: 184- 191.
4- فوائد الاصول 1: 336.

ص: 333

المقدّمة الاولی:

و حاصلها: أنّه لا إشکال فی أنّ ما یوجب وقوع المکلّف فی مضیقة المحال و استلزام التکلیف بما لا یطاق، إنّما هو إیجاب الجمع بین الضدّین، و لا إشکال أیضاً فی أنّه لا بدّ من سقوط ما هو المنشأ لإیجاب الجمع دون غیره.

فإذن: یقع الکلام فی أنّ منشأ إیجاب الجمع هل هو نفس الخطابین و اجتماعهما و فعلیتهما مع وحدة زمان امتثالهما؛ لمکان تحقّق شرطهما، أو إطلاق کلّ من الخطابین لحالتی فعل متعلّق الآخر و عدمه؟

لا إشکال فی أنّ الموجب لإیجاب الجمع فی غیر باب الضدّین، إنّما هو إطلاق الخطابین لحالتی فعل متعلّق الآخر و عدمه، کالصلاة و الصوم؛ فإنّ الموجب لإیجاب الجمع بینهما إنّما هو إطلاق خطاب الصلاة و شموله لحالتی فعل الصوم و عدمه، و إطلاق خطاب الصوم و شموله لحالتی فعل الصلاة و عدمه، و نتیجة الإطلاقین إیجاب الجمع بین الصلاة و الصوم علی المکلّف.

و لو لم یکن للدلیلین إطلاق، بل کان خطاب کلّ منهما مشروطاً بعدم فعل الآخر، أو کان أحدهما مشروطاً بذلک، لما کانت النتیجة إیجاب الجمع بینهما.

فإذا عرفت الموجب لإیجاب الجمع فی غیر الضدّین، یقع الکلام فی أنّ حال الضدّین حال غیرهما فی کون الموجب للجمع هو إطلاق الخطابین حتّی یکون هو الساقط لیس إلّا، فیسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط و یصیر مشروطاً بعصیان الأهمّ، أو کون الموجب نفس الخطابین و فعلیّتهما مع وحدة زمان امتثالهما حتّی یسقط أصل الخطابین. و علی ذلک یبتنی أمران:

ص: 334

أحدهما: کون التخییر فی المتزاحمین المتساویین عقلیاً أو شرعیاً، فإن قلنا بأنّ المقتضی الجمع إطلاق الخطابین، فبعد سقوطهما و بقاء أصل الخطابین یکون التخییر عقلیاً؛ لکون کلّ خطاب مشروطاً بالقدرة علی متعلّقه، فیکون کلّ من الخطابین مشروطاً بترک الآخر؛ لحصول القدرة علیه عند ترک الآخر.

و أمّا إن قلنا بأنّ المقتضی لذلک هو أصل الخطابین و وحدة زمان امتثالهما، فیسقط کلا الخطابین بعد عدم إمکان سقوط أحدهما؛ للزوم الترجیح بلا مرجّح، و لمکان تمامیة الملاک فی کلّ منهما یستکشف العقل خطاباً شرعیاً تخییریاً بأحدهما، نظیر سائر التخییرات الشرعیة، کخصال الکفّارات، نعم یکون فرق بینهما من جهة اخری، و هی: أنّ التخییر فی الخصال بجعل ابتدائی، و فی المقام بجعل طارئ، فتدبّر.

الثانی: وحدة العقاب و تعدّده عند ترک الضدّین معاً؛ لأنّه بناءً علی سقوط الخطابین لا یکون هناک إلّا عقاب واحد؛ لکون الواجب شرعاً- حینئذٍ- هو أحدهما، و أمّا بناءً علی اشتراط الإطلاقین فیتعدّد العقاب؛ لحصول القدرة علی کلّ منهما، فیتحقّق شرط وجوب کلّ منهما، فیعاقب علی ترک کلّ منهما.

ثمّ إنّه قدس سره أشکل علی الشیخ الأعظم العلّامة الأنصاری قدس سره و تعجّب منه بأنّه مع إنکاره الترتّب فی الضدّین اللذین یکون أحدهما أهمّ، غایة الإنکار، التزم- فی مبحث التعادل و التراجیح فی تعارض الخبرین المتساویین علی السببیة- بالترتّب من الجانبین؛ فقد صرّح بأنّ التخییر فی الواجبین المتزاحمین إنّما هو من نتیجة اشتراط کلّ منهما بالقدرة علیه، و تحقّق القدرة فی حال ترک الآخر، فیجب کلّ منهما عند ترک الآخر، فیلزم الترتّب من الجانبین، مع أنّه قدس سره أنکره من جانب واحد! ولیت شعری

ص: 335

أنّ ضمّ ترتّب إلی ترتّب آخر کیف یوجب تصحیحه(1)؟! انتهی.

أقول: ما أفاده قدس سره لتنقیح موضوع البحث- من أنّ المقتضی للجمع بین الضدّین نفس الخطابین أو إطلاقهما، و أنّ الموجب للجمع فی غیر الضدّین إطلاقهما کلام لا غبار علیه، کما سیظهر لک: أنّ أساس الترتّب مبنی علی امتناع التکلیف الفعلی بالضدّین، و یلزم من الأمر بهما الأمر بالجمع بین الضدّین.

و لکن یتوجّه علیه قدس سره: أنّ ظاهر عبارته یعطی بأنّ الجمع بینهما مأمور به؛ لکونه مقتضی إطلاق کلّ خطاب لحالتی فعل الآخر و عدمه، و قد عرفت فی بیان الوجه الثالث: أنّ معنی الإطلاق لیس ذلک، بل معناه هو أخذ المتعلّق مسترسلًا و بدون القید، غیر مقیّد بإتیان الآخر، و لا بعدمه.

نعم، فی باب الإتیان و الامتثال غیر المربوط بمقام تعلّق التکلیف یکون إتیان أحدهما مشروطاً بعدم إتیان الآخر.

و بالجملة: فی الخطابات القانونیة لم یلحظ حال إتیان المکلّف و عدمه؛ فکلٌّ من الخطابین تعلّق بموضوع، و مقتضی إطلاقهما هو کون المتعلّق من دون تقییده بقید تمام الموضوع للحکم، فلم یلزم من إطلاق الدلیلین محذور إیجاب الجمع، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّ مقتضی ما ذکره- من أنّه بناءً علی اشتراط الإطلاقین یتعدّد العقاب؛ لحصول القدرة علی کلّ منهما، فیتحقّق شرط وجود کلّ منهما، فیعاقب علی ترک کلّ منهما- هو: أنّ التکلیف الفعلی متعلّق بهما؛ لکون شرط التکلیف موجوداً، و إلّا لا یلزم من مخالفتهما عقابین.

فإن صحّ ذلک فلا یحتاج إلی هذه المطالب و المقدّمات و إتعاب النفس لتصویر


1- فوائد الاصول 1: 336- 339، أجود التقریرات 1: 287.

ص: 336

الترتّب، بل یکفی أن یقال من أوّل الأمر بإمکان تعلّق التکلیف بالضدّین فی عرض واحد، کما قلنا.

و بالجملة: لو تمّ ما ذکره لتصحیح تعدّد العقاب من اشتراط الإطلاقین، فلا نحتاج إلی إتعاب النفس و تمهید مقدّمات لتصویر الترتّب، بل ینبغی أن یقال فی أوّل الأمر- کما قلنا- بصحّة التکلیف بالضدّین فی عرض واحد.

بل ما ذکره قدس سره هدم لأساس الترتّب؛ لأنّه إن کان وجوب کلّ من الضدّین مشروطاً بترک الآخر فلو ترکهما یتحقّق شرط وجوب کلّ منهما، فیعاقب علی ترک کلّ منهما، و واضح: أنّ أساس الترتّب مبنی علی امتناع التکلیف بالضدّین فی عرض واحد.

و لا فرق فی المحذور- لو کان- بین الواجب المشروط و المطلق؛ لأنّ محذور الأمر بالضدّین لیس لأجل المحذور فی مقام تعلّق الخطاب، و لا لفعلیته، بل لأجل المحذور فی مقام الإتیان؛ لأنّ الخطاب بالضدّین لا یقتضی الأمر بالجمع بین الضدّین، بل یتعلّق کلّ خطاب بما هو متعلّقه، و لا یتعدّی حریمه، و کذا فعلیة الخطابین، بل المحذور الذی هو أساس الترتّب إنّما هو فی مقام الإتیان و الجمع بینهما، حیث إنّه یمتنع الإتیان بالضدّین معاً، فالتکلیف لم یکن محالًا، بل تکلیف بالمحال؛ فیکون التکلیف محالًا بالعرض، و یمتنع صدور التکلیف الکذائی بداع الانبعاث من الملتفت، و واضح: أنّه کما یمتنع التکلیف المطلق بإنقاذ الغریق و إتیان الصلاة، فکذلک یمتنع التکلیف بالصلاة إن طلع الشمس، و التکلیف بأداء الدین إن خالف الدائن، لو امتنع الجمع بینهما.

و بالجملة: الملاک کلّ الملاک فی الاستحالة هو امتناع الجمع بینهما، لا توجّه الخطابین، و فی المتزاحمین المتساویین اللذین یکونان محلّا للتخییر إن کان خطاب کلّ

ص: 337

منهما مشروطاً بترک الآخر، فإن ترکهما یکون له عقابان، و لازم العقابین وجود خطابین فی عرض واحد، و إلّا یلزم أن یعاقب بلا تکلیف و خطاب، و هو محال.

و واضح: أنّ هذا هدم لأساس الترتّب؛ لأنّه مبنی علی عدم إمکان تعلّق التکلیفین الفعلیین العرضیین علی شی ء واحد.

و الحاصل: أنّ ما ذکره فی اشتراط الإطلاق مناقض للأساس الذی ابتنی علیه مسألة الترتّب، فتذکّر هذا.

و ثالثاً: أنّ تعجّبه قدس سره من الشیخ الأعظم قدس سره فی غیر محلّه؛ لأنّه بصدد إفادة مطلب آخر غیر الترتّب، فضلًا عن الترتّب من الجانبین.

فینبغی ذکر کلام الشیخ قدس سره و التأمّل فیه؛ فإنّه بعد إیراد شبهة فی وجوب الأخذ بأحد المتعارضین بناءً علی السببیة، قال ما نصّه: «الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة و عدم تساقطهما لیس لأجل شمول العموم اللفظی لأحدهما علی البدل من حیث هذا المفهوم المنتزع؛ لأنّ ذلک غیر ممکن- کما تقدّم وجهه فی بیان الشبهة- بل لمّا کان امتثال التکلیف بالعمل بکلّ منهما کسائر التکالیف الشرعیة و العرفیة مشروطاً بالقدرة، و المفروض أنّ کلًاّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر، و غیر مقدور مع إیجاد الآخر، فکلّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه و یتعیّن فعله، و مع إیجاد الآخر یجوز ترکه و لا یعاقب علیه.

فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال، و العمل بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة، و هذا ممّا یحکم به بدیهة العقل، کما فی کلّ واجبین اجتمعا علی المکلّف، و لا مانع من تعیین کلّ منهما علی المکلّف بمقتضی دلیله إلّا تعیین الآخر علیه کذلک.

إلی أن قال: و الحاصل أنّه إذا أمر الشارع بشی ء واحد استقلّ العقل بوجوب

ص: 338

إطاعته فی ذلک الأمر بشرط عدم المانع العقلی و الشرعی، و إذا أمر بشیئین و اتّفق امتناع إیجادهما فی الخارج معاً استقلّ العقل بوجوب إطاعته فی أحدهما لا بعینه؛ لأنّها ممکنة، فیقبح ترکها(1)، انتهی.

و لا یخفی: أنّ التأمّل فی کلام الشیخ قدس سره یعطی أنّه بصدد إفادة مطلب آخر غیر مسألة الترتّب، فضلًا عن الترتّبین اللذین یحکم العقل بامتناعهما؛ للزوم تقدّم الشی ء علی نفسه.

و ذلک لأنّ الترتّب عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ، و تصرّف فی مقام التکلیف و علاج الأمر بالضدّین، و لیس الشیخ بصدده، و إنّما هو بصدد بیان أنّه فی مقام الإطاعة و الامتثال فی المتعارضین یحکم العقل بأنّه علی السببیة لا بدّ من صرف القدرة فی واحد منهما، فما أفاده الشیخ قدس سره تصرّف فی مقام الامتثال و الإطاعة.

و إن شئت مزید توضیح لذلک فنقول: إنّه یعتبر فی الترتّب عندهم أمران:

أحدهما: کون الشرط فی المهمّ عصیان الأهمّ.

و الثانی: کون الشرط شرطاً للتکلیف؛ بمعنی أنّ شرط التکلیف بالمهمّ عصیان الأهمّ.

و بالجملة: لنا تکلیف مطلق- و هو الأمر بالأهمّ- و تکلیف مشروط، شرطه عصیان الأهمّ- و هو الأمر بالمهمّ- و القائلون بالترتّب لا یرون منعاً للجمع بین تکلیف مطلق و مشروط، و لیس قول الشیخ قدس سره فی المتعارضین علی السببیة بیان ذلک و أنّ أحد التکلیفین مشروط بعدم إتیان الآخر، بل بصدد بیان أنّه إذا ورد تکلیفان نظیر سائر التکالیف الشرعیة و العرفیة یحکم العقل بوجوب امتثال العبد أمر مولاه،


1- فرائد الاصول 2: 761.

ص: 339

و واضح: أنّ الامتثال إنّما یکون إذا لم یکن هناک مانع عقلی أو شرعی منه، فإن کان هناک مانع کذلک یحکم العقل بعدم لزوم إتیان کلّ منهما مطلقاً، و یقیّد امتثال أحدهما بترک الآخر، و هذا حقّ لا محیص عنه، و أنّی له و کون ترک أحدهما شرطاً لتکلیف الآخر؟! فتدبّر.

و رابعاً: لو سلّم أنّ الشیخ قدس سره بصدد بیان أنّ عدم أحدهما شرط لتکلیف الآخر، و لکن أشرنا آنفاً: أنّ الترتّب عندهم متقوّم باشتراط تکلیف أحدهما بعصیان الآخر، و لم یقل به الشیخ قدس سره، و إنّما قال بتقیید کلّ من الدلیلین بعدم إتیان الآخر، و کم فرق بینهما؟!

و ذلک لأنّ معنی الأوّل الاشتراط و هو مناط الترتّب؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمهمّ یتأخّر عن شرطه، و هو متأخّر عن نفس الأمر بالأهمّ. و أمّا التقیید بعدم إتیان الآخر فنتیجته التخییر؛ لأنّه یفهم العرف من تقیید أحدهما بعدم الآخر و بالعکس التخییر.

و الحاصل: أنّ الشیخ قدس سره صرّح بأنّ العقل تارةً یحکم بالإطاعة المطلقة، و اخری بالإطاعة المقیّدة؛ فالتقیید إنّما هو فی مقام الامتثال، و هذا أجنبی عن مسألة الترتّب؛ فإنّه علی مبناهم لیس التصرّف فی مقام الامتثال، بل فی ناحیة التکلیف.

ثمّ الذی اعتبره الشیخ قدس سره فی باب المتعارضین هو تقیید کلّ منهما بعدم إتیان الآخر، و هو مناط التخییر، و لازم کون الشی ء واجباً تخییریاً هو أنّه لا یجب إتیانهما، و لا یجوز التساهل عنهما، بل له العمل بأیّهما شاء، فأنّی لکلام الشیخ و مسألة الترتّب؟! و العجب أنّ المحقّق النائینی قدس سره خلط بینهما!

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فیما ذکره المحقّق النائینی قدس سره أخیراً؛ من أنّ مقتضی ما أفاده الشیخ، الترتّب من الجانبین.

ص: 340

و ذلک لما أشرنا: أنّ الترتّب من الجانبین غیر معقول؛ للزومه تقدّم الشی ء علی نفسه؛ لأنّ الترتّب باعتبار أنّه عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ فیتأخّر عن شرطه، و هو یتأخّر عن نفس الأمر المتعلّق بالأهمّ، فلو قیّد الأمر الآخر بعصیانه- کما فی صورة المتساویین- یلزم تقدّم الشی ء علی نفسه.

و الشیخ الأعظم قدس سره لا یکون بصدد إثبات هذا الأمر الممتنع، بل- کما أشرنا- إنّه بصدد التقیید بعدم الإتیان، و هو علاج فی مقام الامتثال و الإطاعة، بمعنی حکم العقل بصرف القدرة فی واحد منهما علی السببیة، فهو تصرّف فی مقام الامتثال، بلا تصرّف له فی نفس الأدلّة.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ ما أفاده الشیخ قدس سره فی کمال المتانة، و لا یرتبط ما أفاده بمسألة الترتّب، فتعجّب المحقّق النائینی قدس سره من الشیخ قدس سره بلا وجه، بل العجب منه قدس سره حیث خلط بینهما، و اللَّه الهادی.

المقدّمة الثانیة:

الحقّ: أنّ واجب المشروط لا یخرج عمّا هو علیه بعد تحقّق شرطه، و لا یتّصف بالإطلاق؛ لما عرفت أنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلی الموضوع، فیکون الواجب المشروط عبارة عن الحکم المجعول علی موضوعه المقدّر وجوده علی نهج القضایا الحقیقیة، و الحکم المجعول علی موضوعه لا ینقلب عمّا هو علیه، و لا یخرج الموضوع عن کونه موضوعاً، و لا الحکم عن کونه مجعولًا علی موضوعه.

و وجود الشرط فی الواجب المشروط عبارة عن تحقّق موضوعه خارجاً، و بتحقّق الموضوع خارجاً لا ینقلب الواجب المجعول الأزلی عن الکیفیة التی جعل علیها؛ بأن یتّصف بصفة الإطلاق؛ لأنّ اتّصافه بذلک یستلزم خروج ما فرض کونه

ص: 341

موضوعاً عن کونه موضوعاً، مثلًا: وجوب الحجّ إنّما انشئ أزلًا مشروطاً بوجود موضوعه الذی هو العاقل البالغ المستطیع، و لا یفرق الحال فیه بین تحقّق الاستطاعة لزید، أو عدم تحقّقها له؛ إذ لیس لزید حکم یخصّه حتّی یقال بأنّه لا معنی لکون وجوب الحجّ بالنسبة إلی زید المستطیع مشروطاً بالاستطاعة، بل لا بدّ و أن یکون الخطاب بالنسبة إلیه مطلقاً، و هو کذلک لو کانت الأحکام مجعولة علی نهج القضایا الجزئیة الخارجیة، و علیه تکون الشرائط من علل التشریع، لا من قیود الموضوع، و لعلّ منشأ ما ربّما یقال: «إنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه یصیر واجباً مطلقاً» هو تخیّل کون الأحکام مجعولة علی نحو القضایا الجزئیة الخارجیة، و قد عرفت فساده.

و بعبارة اخری: الشرط دائماً یکون واسطة فی العروض، لا واسطة فی الثبوت، فالأمر بالمهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ دائماً یکون مشروطاً و لو بعد تحقّق شرطه، نعم یصیر فعلیاً عنده، فعلی هذا تبقی طولیة الأمر بالمهمّ بالنسبة إلی الأمر بالأهمّ و تخرج عن العَرضیة.

و المحقّق الخراسانی قدس سره مع اعترافه برجوع الشرط إلی الموضوع، ذهب فی جملةٍ من الموارد إلی کون الشرط واسطة فی الثبوت، و أنّه من قبیل علل التشریع، فجعل الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه فی عرض الأمر بالأهمّ، و ذلک لا یستقیم إلّا بعد القول بصیرورة الواجب المشروط مطلقاً بعد تحقّق شرطه(1)، انتهی.

أقول: و فیما ذکره مواقع للنظر:

منها: أنّ المراد بالموضوع الذی یرجع إلیه القید فی کلامه: إمّا یکون عبارة عن


1- فوائد الاصول 1: 339- 340.

ص: 342

المکلّف، کما هو الظاهر من تمثیله بالاستطاعة فی الحجّ، حیث یری أنّ المکلّف بالحجّ، العاقل البالغ المستطیع. أو یکون عبارة عن متعلّق الحکم من الفعل أو الترک المطالب به، کما لعلّه یظهر منه فی المقدّمة الآتیة. أو یکون عبارة عن الأعمّ منهما.

و کیف کان: فعلی تقدیر کون الموضوع عبارة عن المکلّف فمقتضی ما ذکره إنکار الواجب المشروط من رأس، بل کون الواجب المشروط مطلقاً، و قد عرفت آنفاً أنّ الفرق بین الواجب المشروط و المطلق بحسب الواقع و اللُبّ، و لکلّ منهما ملاک یخصّه؛ فلا یجوز إرجاع أحدهما إلی الآخر.

و بالجملة: مقتضی کون الشی ء واجباً مشروطاً هو خروج الشرط عن الموضوع و کونه واسطة لثبوت الحکم علی الموضوع، فلو ارجع الشرط إلی الموضوع یلزم أن یکون من مقوّمات الموضوع، کما لا یخفی.

و الحاصل: أنّ مقتضی إرجاع القید إلی الموضوع أنّه لا فرق بین قوله: «إن استطعت فحجّ»، و بین قوله: «المستطیع یحجّ»، مع أنّ ارتکاز العقلاء علی الفرق بینهما، و یرون أنّ الإنشاء علی قسمین، بل ظهور الإرادة علی ضربین، و الفرق بینهما ثبوتی و لُبّی، فتدبّر.

مع أنّ بعض القیود و إن أمکن إرجاعه إلی الموضوع- مع کونه خلاف الظاهر- کقوله: «إن استطعت فحجّ»، فیمکن إرجاعه إلی أنّ المستطیع یحجّ، إلّا أنّ هناک بعض قیود لا یمکن إرجاعه إلی الموضوع إلّا مع تمحّل شدید و تکلّف بارد، بل ربّما لا یمکن ذلک و لو مع التمحّل الشدید، کقوله مثلًا: «إن غربت الشمس فیجب علیک الصلاة»، و مقتضی إرجاع القید إلی الموضوع هو أنّ المکلّف الذی غربت علیه الشمس، أو المکلّف الغاربة عنه الشمس یجب علیه الصلاة، و هو کما تری من البرودة بما لا یخفی.

ص: 343

و مثل قول الشارع للوصی: «إن خرج الیتیم عن الیُتم فأعط أمواله»، فإن رجع القید إلی الموضوع فمعناه: «أیّها الوصی و المکلّف الذی خرج الیتیم عن الیُتم، فاعط أمواله»، و هو واضح البطلان. و لا أظنّ أنّ هذا المحقّق قدس سره أیضاً یلتزم بالإرجاع إلی الموضوع فی أمثال ما ذکر، و لعلّه قاس القیود بمثل الاستطاعة و نحوها من الامور التی یمکن إرجاعها إلی الموضوع.

فتحصّل: أنّه إن أراد قدس سره بالموضوع، المکلّف، فیتوجّه علیه أوّلًا: أنّ مقتضاه إنکار الواجب المشروط. و ثانیاً: بأنّه لا یمکن المساعدة علیه فی جمیع القیود.

و أمّا إن أراد بالموضوع، متعلّق التکلیف- من الفعل أو الترک المطالب به- فیتوجّه علیه- مضافاً إلی أنّ مقتضاه أیضاً إنکار الواجب المشروط بالبیان المتقدّم- أنّه یلزم أن یکون القید واجب التحصیل، مثلًا: لو وجب إکرام زید إن کان عالماً، فحیث إنّ القید قید للمتعلّق فالطلب مطلق غیر مقیّد بقید، فلا بدّ من تعلیم زید و صیرورته عالماً، مع أنّه لا یجب إیجاد القید.

و بالجملة: لا یجب تحصیل القید فی الواجب المشروط، مع أنّ مقتضی ما ذکره لزوم تحصیل القید.

فبعد ما أحطت خبراً بعدم استقامة إرادة المکلّف أو الفعل و الترک المطالب من الموضوع الذی یرجع إلیه القید، تعرف عدم استقامة إرادة الأعمّ من المکلّف و المتعلّق، کما لا یخفی.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّ إرجاع القید إلی الموضوع- أعنی المکلّف- أو المتعلّق أو الأعمّ منهما، غیر مستقیم.

و منها: أنّه قد أشرنا غیر مرّة: إلی أنّ الحکم فی القضیة الحقیقیة لم یتعلّق علی الأفراد المقدّرة الوجود، بل تعلّق الحکم فیها علی عنوان قابل للصدق علی الأفراد

ص: 344

الموجودة و ما ستوجد، قبال القضیة الخارجیة التی تعلّق الحکم فیها علی عنوان لا یقبل الصدق إلّا علی الموجودین، فلا فرق بین القضیتین إلّا من حیث سعة نطاق القضیة الحقیقیة و ضیق الخارجیة، و إلّا فکلّ منهما تقع کبری القیاس.

و منها: لو قلنا: إنّ الحکم فی الحقیقیة تعلّق علی الأفراد المقدّرة الوجود، فتنحلّ الحقیقیة إلی قضایا متکثّرة بعدد رءوس المکلّفین، فکلّ مکلّف له حکم یخصّه، فعلی هذا: یکون وزان القضیة الحقیقیة بالنسبة إلی الأفراد الواجدین للشرط، وزان القضیة الخارجیة؛ فکما لا معنی لکون القضیة الخارجیة مشروطةً، فکذلک فی الحقیقیة بالنسبة إلی الواجدین، فالتفرقة بینهما ممّا لا وجه له.

و بالجملة: لو قیل بانحلال الحقیقیة إلی القضایا بعدد رءوس المکلّفین، فلا معنی لصحّة الجعل بنحو الاشتراط فیها بعد حصول القید، و لو صحّ أن یجعل بنحو الاشتراط فلا بدّ و أن یصحّ فی الخارجیة أیضاً؛ لما أشرنا أنّهما یشترکان فی أنّ الحکم فیهما تعلّق بالعنوان، غایته: أنّ فی الخارجیة تعلّق علی عنوان لا ینطبق إلّا علی الموجودین، و فی الحقیقیة علی عنوان ینطبق علیها و علی ما سیوجد.

و منها: أنّ صیرورة المشروط مطلقاً لا ترتبط بالحقیقیة و الخارجیة؛ لأنّ القضیة الخارجیة لو لم یکن الجزء فیها حاصلًا فیعبّر عنها تعلیقاً و یقال: «إن جاءک زید أکرمه»، و فی الحقیقیة لو کانت جمیع الشروط محقّقة لا یعبّر عنها مشروطاً، بل یعبّر عنها بصورة الإطلاق، و قد عرفت: أنّ وزان الخارجیة وزان الحقیقیة، علی خلاف مزعمة القوم- و منهم هذا المحقّق- حیث یرون أنّ الخارجیة مرکّبة من عدّة قضایا شخصیة، فتدبّر.

و منها: أنّ ما ذکره قدس سره فی الخارجیة- من أنّ الشرائط بالنسبة إلیها تکون من علل التشریع، لا من قیود الموضوع- غیر وجیه؛ ضرورة أنّه فرق بین علّة تشریع

ص: 345

الحکم و ملاکه، و بین شرط الحکم و التکلیف؛ و ذلک لأنّ علّة تشریع الحجّ- مثلًا- هی الوفود إلی اللَّه تعالی- کما فی الأخبار- و نکتة تشریع العدّة تطهیر الرحم، و جعل الزکاة تزکیة المال، إلی غیر ذلک- کما هو مذکور فی کتاب «علل الشرائع»(1) و غیره(2)- و أنّی لها و شرط الحکم، الذی هو عبارة عن عدم الحکم عند عدم شرطه؟!

و بالجملة: علّة التشریع عبارة عن ملاک الجعل و فلسفته و دواعیه، و هذه کما توجد فی الواجبات المشروطة توجد فی الواجبات المطلقة أیضاً، بل و کما توجد فی الأحکام التکلیفیة توجد فی الأحکام الوضعیة، و هی غیر شرط الحکم و التکلیف، الذی انیط و علّق علیه الحکم.

و الحاصل: أنّ علل التشریع هی غایات الأحکام و ملاکاتها، و هی واقعة فی الرتبة السابقة علی جعل الأحکام مشروطها و مطلقها، و أنّی لها و لشرائط التکلیف و البعث الاعتباری؟!

مثلًا: فی قولک لعبدک: «إن جاءک صدیقی فأکرمه» لا تکون الجیئة ملاک إیجاب الإکرام و فلسفته، بل ملاکه شی ء آخر، فالجیئة فی المثال لیست إلّا شرطاً للحکم؛ بمعنی أنّه لو لم یجی ء لم یجب علیک إکرامه، فلا معنی لإرجاع شرط الحکم فی القضیة الخارجیة إلی علّة الجعل(3).


1- راجع علل الشرائع: 404/ 5 و 508/ 1 و 368/ 1.
2- راجع وسائل الشیعة 8: 8، کتاب الحجّ، أبواب وجوبه و شرائطه، الباب 1، الحدیث 1، و 21: 319، کتاب النکاح، أبواب المهور، الباب 54، الحدیث 1، و 9: 12، کتاب الزکاة، أبواب ما تجب فیه الزکاة، الحدیث 7.
3- قلت: و لو رجع إلیها فلا بدّ و أن یرجع الشرط فی القضیة الحقیقیة إلی علّة الجعل أیضاً، و هذا المحقّق لا یتفوّه به، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 346

و منها: أنّ ما ذکره قدس سره أخیراً عند قوله: «و بعبارة اخری: الشرط دائماً یکون واسطة فی العروض، لا الثبوت»(1) غیر مستقیم؛ لأنّ الواسطة فی الثبوت عبارة عن إیصال الواسطة العَرَض إلی ذی الواسطة، بحیث یکون ذو الواسطة متّصفة بالعرض حقیقة، بلا شائبة مجاز، و ذلک کالنار- مثلًا- حیث تکون واسطة فی إیصال الحرارة إلی الماء و اتّصافه بالحرارة حقیقة.

و أمّا الواسطة فی العروض فعبارة عن اتّصاف الواسطة بالعرض حقیقة، و أمّا اتّصاف ذی الواسطة به فإنّما هو علی سبیل العرض و المجاز، و ذلک کحرکة السفینة إلی جالس السفینة؛ فإنّ السفینة هی التی تتّصف بالحرکة حقیقةً؛ لأنّها السائرة و المتحرّکة علی وجه الماء، و أمّا الجالس فیها فغیر متحرّک أصلًا، و لکن تستند الحرکة إلیه بالعرض و المجاز.

إذا عرفت معنی الواسطتین، فإذا وجب الحجّ- مثلًا- علی زید مشروطاً بالاستطاعة، فیکون هناک امور:

1- الحکم، و هو الوجوب.

2- الموضوع، و هو زید.

3- شی ء متوسّط فی تعلّق الوجوب علی زید، و هو الاستطاعة.

و واضح: أنّ الاستطاعة لا تکاد تتّصف بالوجوب، بل المتّصف به حقیقةً هو زید، فالشرط دائماً یکون واسطة لثبوت الحکم علی الموضوع علی مقال هذا المحقّق القائل بأنّه من قبیل الواسطة فی العروض، فتدبّر.


1- فوائد الاصول 1: 340.

ص: 347

المقدّمة الثالثة:
اشارة

و لیعلم: أنّ هذه المقدّمة عندنا هی المهمّ فی مسألة الترتّب، بل أساس الترتّب مبنی علیها، فإن تمّت تتمّ مسألة الترتّب، و إن لم یکن کذلک عند المحقّق النائینی قدس سره؛ فإنّه یری أنّ أساس الترتّب مبنی علی المقدّمة الرابعة، کما سیجی ء منه.

و کیف کان: فقد أطال قدس سره البحث فی هذه المقدّمة و ذکر مطالب لم یبتنِ علیها أساس الترتّب، فننقل المهمّ منها:

فنقول: إنّه قدس سره بعد أن قسّم الواجب إلی قسمین- الموسّع و المضیّق- و عرّفهما بما لا تخلو عن مسامحة، قال: إنّ المضیّق علی قسمین:

قسم اخذ فیه الشی ء شرطاً بلحاظ وجوده الانقضائی، و لعلّ باب الحدود و الدیات من هذا القبیل، بناءً علی أن یکون التکلیف بالحدّ مضیّقاً، حیث إنّ شرط وجوبه هو انقضاء القتل من القاتل و تحقّقه منه، و لو آناً ما، فعند تلبّس القاتل بالقتل لا یتوجّه علیه التکلیف بالحدّ، و هذا القسم غیر مهمّ فیما نحن بصدده.

و القسم الآخر ما اخذ فیه الشی ء شرطاً بلحاظ وجوده، و لا یعتبر فیه الانقضاء، فیثبت التکلیف مقارناً لوجود الشرط، و لا یتوقّف ثبوته علی انقضاء الشرط، بل یتّحد زمان وجود الشرط، و زمان وجود التکلیف، و زمان امتثاله، و یجتمع الجمیع فی آنٍ واحد حقیقی، و أغلب الواجبات المضیّقة فی الشریعة من هذا القبیل، مثلًا: فی باب الصوم یکون طلوع الفجر شرطاً للتکلیف بالصوم، و مع ذلک یکون ثبوت التکلیف بالصوم مقارناً لطلوع الفجر، کما أنّ زمان امتثال التکلیف بالصوم أیضاً من أوّل الطلوع، ففی الآن الحقیقی من طلوع الفجر یتحقّق

ص: 348

و یجتمع شرط التکلیف، و نفس التکلیف، و زمان امتثاله و لا یتوقّف التکلیف علی سبق تحقّق شرطه آناً ما، کما لا یتوقّف الامتثال علی سبق التکلیف آناً ما، بل یستحیل التقدّم:

أمّا استحالة تقدّم زمان شرط التکلیف علی نفس التکلیف: فلما عرفت من رجوع کلّ شرط إلی الموضوع، و نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی معلولها، و إن لم یکن من العلّة و المعلول حقیقة، فکما یستحیل تخلّف المعلول عن علّته التکوینیة، فکذلک یستحیل تخلّف الحکم عن موضوعه؛ ضرورة أنّه مع التخلّف یلزم أحد أمرین:

إمّا عدم موضوعیة ما فرض کونه موضوعاً، و هو خلف، أو تأخّر المعلول عن علّته، و هو محال.

و لذا أبطلنا کلًاّ من الشرط المتقدّم و المتأخّر، و قلنا باعتبار المقارنة الزمانیة بین شرط التکلیف و التکلیف نفسه، و إن تأخّر عنه رتبةً بالبیان المتقدّم.

و أمّا استحالة تأخّر زمان الامتثال عن التکلیف: فلأنّ وزان التکلیف بالنسبة إلی الامتثال، وزان العلّة التکوینیة بالنسبة إلی معلولها، کحرکة الید لحرکة المفتاح؛ لأنّ التکلیف هو الذی یقتضی الامتثال و یکون محرّکاً.

نعم، یکون بینهما فرق من جهة أنّه لا یتوسّط فی سلسلة العلل التکوینیة العلم و الإرادة، بل یوجد المعلول بعد علّته التکوینیة. و أمّا فی المقام: فیتوسّط بین الامتثال و التکلیف علم الفاعل بالتکلیف و إرادته الامتثال؛ لأنّ مع عدمهما أو عدم واحد منهما یستحیل تحقّق الامتثال، و لکنّه مع ذلک لا یخرج التکلیف عن کونه واقعاً فی سلسلة العلل، و لا یتفاوت فی استحالة التخلّف بین قلّة ما یقع فی سلسلة العلّة و کثرته.

ص: 349

فالامتثال المعلول للتکلیف و العلم و الإرادة یستحیل أن یتخلّف عن ذلک زماناً، و غایة ما یکون إنّما هو التخلّف فی الرتبة فقط.

فتحصّل: أنّ زمان التکلیف و الامتثال واحد، و قد عرفت أنّ زمان شرط التکلیف مع نفس التکلیف أیضاً واحد، و مقتضی ذلک هو وحدة زمان شرط التکلیف مع زمان الامتثال.

ثمّ قدس سره ورد فی أمر طویل الذیل لا یهمّ فی جوهر ما نحن بصدد إثباته، إلی أن قال: إذا عرفت ذلک ظهر لک دفع بعض الإشکالات التی أوردوها علی الخطاب الترتّبی، فذکر الإشکال الأوّل و تصدّی لدفعه، و حیث إنّه غیر مربوط بما نحن بصدد إثباته، طوینا عنه کشحاً.

إلی أن قال: و من الإشکالات: أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لم یلزم منه محذور طلب الجمع؛ لأنّه إن اعتبر امتثال خطاب المهمّ فی زمان خلوّ المکلّف عن الأهمّ فلا یعقل اقتضاؤه لطلب الجمع.

نعم، إن کان العنوان الانتزاعی، و وصف التعقّب شرطاً- أی کون المکلّف ممّن یعصی- فیلزم محذور طلب الجمع؛ لأنّ خطاب المهمّ یکون فعلیاً قبل عصیان الأهمّ إذا کان ممّن یعصی بعد ذلک، فلم یعتبر فی ظرف امتثاله خلوّ المکلّف عن الأهمّ، بل یلزم اجتماع کلّ من الأهمّ و المهمّ فی زمان واحد.

و بالجملة: لو کان نفس عصیان الأهمّ شرطاً لخطاب المهمّ فلا یکون فیه محذور طلب الجمع لیرفع بالترتّب، و أمّا لو کان المفهوم الانتزاعی شرطاً فیلزم طلب الجمع، و لا یمکن تصحیحه بالترتّب.

فأجاب قدس سره أوّلًا: بأنّه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعی و وصف التعقّب، بل نقول: إنّ العصیان بوجوده الواقعی شرط للتکلیف بالمهمّ، و قد عرفت:

ص: 350

أنّ الشرط قید للموضوع، و الموضوع لا یتخلّف عن الحکم زماناً، و إن اختلفا رتبةً، و لا یلزم منه طلب الجمع- کما اعترف هو به أیضاً- و الترتّب غیر مبتنیة علی لزوم طلب الجمع، بل هو مبنی علی اجتماع الخطابین فی زمان واحد، فلا بدّ و أن یؤخذ العصیان علی وجه یجتمع فیه کلّ من خطاب الأهمّ و المهمّ، و ذلک بأن یکون التلبّس بالعصیان شرطاً، و حیث إنّه یکون خطاب الأهمّ محفوظاً فی حاله لا یتحقّق العصیان بمعنی الانقضاء و المضیّ الذی یکون خطاب الأهمّ ساقطاً عنده؛ لسقوط کلّ خطاب بعصیانه.

و ثانیاً: أنّه لو فرض کون الشرط هو الوصف الانتزاعی، و لکن لا یلزم منه طلب الجمع؛ لأنّ الوصف إنّما انتزع من العصیان الذی هو زمان خلوّ المکلّف عن الأهمّ، فمعنی کونک ممّن یعصی: کونک ممّن تخلو عن فعل الأهمّ، و مع ذلک کیف یلزم طلب الجمع؟!

و مجرّد اجتماع الخطابین اللذین یلزم من أخذ الوصف الانتزاعی شرطاً لا یوجب إیجاب الجمع، و غایة ما یلزم هی اجتماع کلّ من خطاب الأهمّ و المهمّ فی زمان واحد، و هذا ممّا لا محیص عنه فی الخطاب الترتّبی(1)، انتهی.

أقول: و لیعلم: أنّه أشرنا عند التکلّم فی المقدّمة الثانیة أنّه یحتمل أن یکون مراد هذا المحقّق بالموضوع، المکلّف نفسه، بقرینة تمثیله بالاستطاعة، و أشرنا أیضاً:

أنّه یحتمل أن یکون مراده بالموضوع فی هذه المقدّمة، متعلّق التکلیف، بقرینة تمثیله بالصوم، حیث إنّ الصوم الذی اخذ طلوع الفجر قیداً له، متعلّق التکلیف، فإن أراده فیتوجّه علیه ما أوردناه علی تقدیر إرادته، فلاحظ.


1- فوائد الاصول 1: 341- 348.

ص: 351

و کیف کان: لا یکون الصوم مشروطاً بأوّل طلوع الفجر؛ لأنّه لم یرد: «إذا طلع الفجر فصم»، بل قال تعالی: «کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»(1). فالصوم سنخ واجب یکون مبدؤه طلوع الفجر، فلو کان الصوم مشروطاً بأوّل طلوع الفجر فیلزم أن یکون الصوم و الإمساک بعد طلوع الفجر- و لو زماناً ما- لا من أوّل حقیقی طلوع الفجر(2)

. ثمّ إنّ هدم أساس ما بنی علیه قدس سره یتوقّف علی الإشارة الإجمالیة إلی موضوع البحث، فإنّه فی کلّ باب من تحریر موضوع البحث أوّلًا، ثمّ التکلّم فیه نفیاً أو إثباتاً.

فنقول: موضوع البحث فی مسألة الترتّب هو الواجبان المضیّقان اللذان یکون أحدهما مهمّاً و الآخر أهمّ و کان عصیان الأهمّ شرطاً للتکلیف بالمهمّ، فإن کان الوقت المضروب للإتیان بالأهمّ- مثلًا- من زوال الظهر إلی ساعة، و کان العمل ینطبق علی هذا المقدار من الزمان، من دون زیادة و نقیصة، کان الوقت المضروب للمهمّ أیضاً بذلک المقدار، من دون زیادة و نقیصة، و واضح: أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به فی الحدّ المضروب له بلا عذر، و عصیان الشی ء إنّما هو بانقضاء مقدار لا یمکن استیفاء تمام العمل فیه، و لا یلزم أن یکون بانقضاء تمام الوقت المضروب له، فأوّل الزوال- مثلًا- ظرف تحقّق الأهمّ، و یکون التکلیف به فعلیاً، فإن مضی مقدار من الوقت- افرض دقائق بعد الزوال- فعصی و لم یأت بوظیفته بلا عذر فیسقط التکلیف


1- البقرة( 2): 187.
2- قلت: لعلّ هذا غیر متوجّه علی مقال المحقّق النائینی قدس سره؛ لأنّه ینادی جهاراً بأنّ زمان الشرط یتّحد مع زمان التکلیف و الامتثال، من دون أن یکون تخلّف فی البین، فیلتزم بوجوب الصوم من أوّل حقیقی طلوع الفجر، فلاحظ.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 352

بالأهمّ، و حیث إنّ عصیانه بوجوده الخارجی شرط لتکلیف المهمّ فیکون عصیان الأهمّ- لأجل أنّه شرط- مقدّماً رتبة علی تکلیف المهمّ، و بعد مضیّ ذاک المقدار من الوقت لا یمکن الأمر بالمهمّ؛ لمضیّ بعض الوقت المضروب للعمل.

و بالجملة: إذا کان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی شرطاً للتکلیف بالمهمّ، فالعصیان بوجوده الخارجی یتقدّم علی حکم المهمّ تقدّماً رتبیاً، فلا بدّ و أن یتحقّق العصیان أوّلًا حتّی یتحقّق التکلیف بالمهمّ؛ ضرورة أنّ وزان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی بالنسبة إلی تکلیف المهمّ، وزان العلّة بالنسبة إلی معلوله؛ فکما أنّ العلّة بوجودها الخارجی متقدّمة علی المعلول، فکذلک عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی متقدّم علی التکلیف بالمهمّ، و واضح: أنّه بعد مضیّ مقدار من الوقت الذی عصی فیه و لم یأت بالأهمّ لا یمکن امتثال التکلیف بالمهمّ؛ لمضیّ وقته أیضاً؛ لأنّ المفروض کون الأهمّ و المهمّ مضیّقین.

ففی أوّل الزوال قبل عصیان الأهمّ یکون التکلیف بالأهمّ متحقّقاً لیس إلّا، و لم یکن هناک تکلیف بالمهمّ؛ لعدم عصیان الأهمّ الذی جعل شرطاً للتکلیف بالمهمّ، و بعد تحقّق عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی الذی هو مضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن المکلّف بعده من إطاعة أمره و امتثاله- و واضح: أنّ مضیّ هذا المقدار من الزمان کما أنّه محقّق لفوت الأهمّ، کذلک یکون محقّقاً لفوت المهمّ أیضاً- و لا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ فی ظرف فوته.

إن قلت: إنّ شرط التکلیف بالمهمّ إنّما هو التلبّس بعصیان الأهمّ، فلا یحتاج إلی مضیّ مقدار لا یتمکّن المکلّف من إتیانه بعد.

قلت: المفروض أنّ شرط تکلیف المهمّ هو عصیان الأمر بالأهمّ بوجوده الخارجی، و هو إنّما یکون بمضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن من إطاعة الأمر

ص: 353

بالأهمّ و امتثاله، و من الواضح: أنّه بالشروع فی العصیان لم یتحقّق الشرط؛ لتمکّنه بعد من امتثال الأهمّ.

و بالجملة: فی أوّل آن الزوال إلی ساعة یکون ظرف کلّ من الأهمّ و المهمّ، و لکنّه لم یکن فی ذاک الآن زمان عصیان الأهمّ، بل لا بدّ من مضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن من الإطاعة و الامتثال بعده، فبعد عصیان الأهمّ یحصل شرط تکلیف المهمّ، و واضح: أنّ هذا الزمان محقّق لفوت المهمّ أیضاً، و لا یعقل الأمر بالشی ء فی ظرف فوته.

و لا یخفی: أنّ إتیان المهمّ قبل عصیان الأهمّ لا یکون مأموراً به و هو خلاف مقصود القائل بالترتّب. و الحاصل: لو کان عصیان الأهمّ شرطاً لتکلیف المهمّ فلا بدّ من مضیّ زمان یفوت به إمکان إتیان الأهمّ، و لا یعقل جعل ذلک شرطاً لتکلیف المهمّ؛ للزومه تعلّق التکلیف بالمهمّ فی ظرف فوته.

هذا کلّه لو کان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی شرطاً للتکلیف بالمهمّ، و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم إمکان تصحیحه بالترتّب.

و أمّا لو کان المفهوم الانتزاعی- أی الذی یعصی- شرطاً، فإن أوجب مجرّد صدق ذلک سقوط الأمر بالأهمّ فیخرج عن مسألة الترتّب؛ لأنّها- کما أشرنا- لا بدّ و أن تکون فی مورد اجتمع فیه حکمان فعلیان و ارید رفع الغائلة باختلاف الرتبة، و واضح: أنّه قبل صدق العنوان الانتزاعی لا یکون هناک إلّا حکم واحد، و بعد صدق العنوان یسقط ذاک الحکم، و بعصیانه یصیر التکلیف بالمهمّ فعلیاً؛ لتحقّق شرطه، فلم یجتمع قبل صدق العنوان الانتزاعی و لا بعده حکمان لیرفع التضادّ باختلاف الرتبة، و إن لم یوجب الصدق سقوط الأمر بالأهمّ؛ فیجتمع الحکمان و یکون طلباً للضدّین.

ص: 354

تفصیل و تبیین لما سبق

یتصوّر للمتزاحمین- الأهمّ و المهمّ- صور کثیرة، بعضها خارجة عن مسألة الترتّب، و بعضها یمتنع تصویر الترتّب فیها، و لکن لا بأس بالإشارة إلیها تشحیذاً للأذهان:

و ذلک لأنّ الواجبین المتزاحمین: إمّا مضیّقان، أو موسّعان، أو یکون الأهمّ موسّعاً و المهمّ مضیّقاً، أو بالعکس؛ فالصور أربع.

و لا یخفی أنّ: التزاحم بین الموسّعین، أو الموسّع مع المضیّق(1) إنّما هو فی آخر الوقت.

و لا یتوهّم: أنّ الواجب الموسّع بتضیّق الوقت یصیر مضیّقاً؛ لأنّ الواجب المضیّق هو الذی کان بلسان الدلیل محدوداً بحدّین، بحیث یکون الوقت المضروب للعمل بمقداره لا یزید علیه، و ذلک کالصوم.

و أمّا إذا کان وقت العمل أوسع من نفس العمل فی لسان الدلیل فیکون الواجب موسّعاً، ففی آخر وقت الواجب الموسّع یتزاحمان، من دون أن یصیر الموسّع مضیّقاً، بل غایة ما هناک هی لزوم إتیان العمل فوراً.

و علی أیّ حال: ما یکون شرطاً للتکلیف إمّا یکون قیداً للموضوع- کما یراه المحقّق النائینی قدس سره- أو لا یکون قیداً فیه- کما نراه- بل یکون قیداً للحکم، فإذا ضربا فی الصور الأربع تبلغ حاصلها ثمانیة.


1- إذا کان الأهمّ موسّعاً و المهمّ مضیّقاً، و أمّا فی صورة العکس فیتزاحمان فی أوّل الوقت، کما سیوافیک إن شاء اللَّه تعالی، فارتقب.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 355

و علی أیّ حال: ما اخذ شرطاً فی المهمّ: إمّا تدریجی الوجود، أو آنی الوجود، فمقتضی ضربهما فی الصور الثمانیة تبلغ حاصلهما ستّة عشر صورة، و أخذ العصیان شرطاً: إمّا بجعل المعصیة شرطاً، أو إرادتها، أو الذی یعصی بعد، أو عنوان العاصی؛ فتتکثّر الصور.

و کیف کان: نشیر إلی بعض الصور التی تکون مطرحاً و محلّا للبحث فیما نحن فیه:

فقد أشرنا غیر مرّة: أنّ کثیراً ما یحصل الاشتباه و النزاع فی مسألة لعدم معلومیة موضوع البحث، فینبغی أوّلًا أن یحرّر موضوع البحث:

فنقول: إنّ موضوع البحث فی الترتّب الواجبان المضیّقان اللذان کان وقت المضروب لأحدهما بعینه، هو الوقت المضروب للآخر، مثلًا إذا کان التکلیف بالأهمّ موقّتاً من أوّل الزوال إلی ساعة، کان التکلیف بالمهمّ أیضاً موقّتاً بذاک الوقت.

فإذا کان ظرف امتثال التکلیف بالأهمّ و المهمّ واحداً، و لا یسع ذاک الوقت إلّا لامتثال أحدهما، فالقائلون بالترتّب یریدون تصویر الأمر بکلّ من الأهمّ و المهمّ فی نفس ذلک الوقت، من دون تعارض فی البین، بتقریب: أنّ الأمر بالأهمّ مطلق، و لکن الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأهمّ؛ ففی أوّل الزوال- مثلًا- إن عصی تکلیف الأهمّ یصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه.

و بالجملة: یرید القائلون بالترتّب رفع غائلة طلب الضدّین من ناحیة اختلاف الرتبة، هذا محصّل مقالهم فی موضوع البحث.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول:

أمّا فی المضیّقین: فالعصیان الذی اخذ شرطاً لتکلیف المهمّ لا یخلو بحسب التصوّر: إمّا أن یکون تدریجیاً، أو دفعیاً:

ص: 356

فإن کان تدریجیاً؛ فحیث إنّ العصیان لم یکن مطلق ترک المأمور به عمداً، بل ترک المأمور به فی زمان یفوت المأمور به و لا یمکن امتثاله فیه- و لذا لا یکون ترک الواجب الموسّع إلی مقدار من الوقت الذی یمکن إتیانه فیه عصیاناً- فالتکلیف بالمهمّ إنّما یتعلّق بالشخص بعد صیرورته عاصیاً؛ کما أنّ التکلیف بالحجّ إنّما یتعلّق بالشخص بعد صیرورته مستطیعاً، فأوّل الزوال إلی ساعة- مثلًا- یکون ظرف تحقّق الأهمّ، و هذا الوقت بعینه- بلا زیادة و نقصان- ظرف تحقّق المهمّ، فإذن: إتیان المهمّ إمّا یکون فی أوّل حقیقی الزوال، فلا یکون آتیاً بالمهمّ بأمره؛ لعدم تحقّق شرطه- و هو عصیان الأمر بالأهمّ- نعم یکون آتیاً بذات المهمّ بلا أمر، و هو غیر موضوع البحث فی مسألة الترتّب، حیث إنّ موضوع البحث فیها إتیان المهمّ بأمره.

و إن شرع فی المهمّ بعد مضیّ مقدار من الوقت- أی بعد عصیان الأهمّ- فعند ذلک و إن تحقّق موضوع التکلیف بالمهمّ، لکن فات عنه وقته، فیکون المهمّ فائتاً عنه.

و بالجملة: العصیان هو ترک المأمور به خارجاً تدریجاً بلا عذر، و لا یصیر المکلّف عاصیاً إلّا إذا ترک الأهمّ بلا عذر خارجاً، و هو إنّما یکون بعد مضیّ وقت الأهمّ، بحیث لا یمکن إتیانه، و إلّا فلا یصدق العصیان فی حقّه.

ففی أوّل الزوال لو أتی بالمهمّ لم یکن آتیاً بالمأمور به، و بعد مضیّ مقدار من الوقت و إن تحقّق موضوع التکلیف بالمهمّ، لکنّه لا یمکن تحقّقه؛ لمضیّ وقته.

إذا عرفت ما ذکرنا یظهر لک: أنّ أخذ العصیان شرطاً لموضوع التکلیف لا یصحّح المطلب، بل هو مثل سابقه، لو لم یکن محذوره أشدّ؛ لأنّ مقتضی إرجاع الشرط إلی الموضوع هو کون المکلّف العاصی للأهمّ یجب علیه المهمّ، و واضح: أنّه إنّما یتحقّق إذا ترک الأهمّ بلا عذر، و ذلک إنّما هو بعد مضیّ وقت الأهمّ.

و مجرّد التقدّم الرتبی لا یصحّح المطلب؛ لأنّ التقدّم الکذائی إنّما هو بوجود

ص: 357

الشرط علی مشروطه، کما أنّ تقدّم الموضوع علی حکمه إنّما هو بوجوده؛ ضرورة أنّ المکلّف المستطیع إنّما یتعلّق به وجوب الحجّ إذا تحقّق عنوان الاستطاعة.

و بالجملة: الشرط إنّما یتقدّم علی المشروط تقدّماً رتبیاً فی ظرف تحقّقه، لا حال عدمه، فقبل تحقّق العصیان الذی اخذ شرطاً لا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه، و بتحقّق العصیان الخارجی یفوت وقت الأهمّ و المهمّ.

و بعبارة أوضح: تحقّق موضوع العاصی إنّما هو بفوت الأهمّ فی عمود الزمان المضروب له بلا عذر، و العصیان مفوّت لوقت الأهمّ و المهمّ جمیعاً، و ما یکون مفوّتاً لا یعقل أن یؤخذ شرطاً للتکلیف.

و ممّا ذکرنا یظهر النظر فی المثال الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره؛ فإنّه إذا کان طلوع الفجر شرطاً للتکلیف بالصوم، فقبل طلوع الفجر لا یکون التکلیف فعلیاً، بل إنّما یصیر التکلیف فعلیاً إذا طلع الفجر و تحقّق، مع أنّ المقصود وجوب الصوم من أوّل طلوع الفجر(1)

. هذا کلّه إذا کان العصیان المأخوذ شرطاً فی تکلیف المهمّ تدریجیاً.

و أمّا إذا کان العصیان المأخوذ آنیّاً فکذلک أیضاً؛ لأنّه لا بدّ و أن یتحقّق الآن لیصدق العصیان بالنسبة إلی الأهمّ، فقبل تحقّق الآن لیس بعاصٍ، فلم یکن الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه، و إنّما الفعلی فی حقّه هو التکلیف بالأهمّ، و بعد تحقّق الآن یکون عاصیاً للأهمّ و یفوت عنه الأمر بالأهمّ، فعند ذلک و إن کان شرط التکلیف بالمهمّ متحقّقاً، لکنّه لا یمکن تحقّقه لمضیّ وقته، فیخرج عن مسألة الترتّب؛ لأنّها- کما


1- قلت: و قد أشرنا: أنّ هذا المحقّق قدس سره یری فی مثل الفرض أنّ طلوع الفجر بوجوده مقارناً شرط للتکلیف، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 358

ذکرنا غیر مرّة- فیما إذا کان هناک أمران فعلیّان، و المفروض هنا قبل الآن لم یکن الأمر بالمهمّ فعلیاً، و بعد الآن یسقط أمر الأهمّ للعصیان؛ و یفوت وقت المضروب للمهمّ. و إرجاع الشرط إلی الموضوع هنا کالسابق، فلا یحتاج إلی الإعادة، فلاحظ.

هذا کلّه إذا کان العصیان بقسمیه من التدریجی أو الدفعی شرطاً.

و أمّا إذا کانت إرادة عصیان الأهمّ شرطاً لتکلیف المهمّ فنقول: لا یخلو الأمر:

إمّا أن یسقط تکلیف الأهمّ بإرادة عصیانه، أو یکون التکلیف بعد باقیاً:

فعلی الأوّل یخرج عن مسألة الترتّب؛ لأنّها- کما أشرنا- لا بدّ و أن تکون فی مورد اجتمع فیه حکمان فعلیان و ارید رفع الغائلة باختلاف الرتبة، و هنا قبل إرادة عصیان الأهمّ لا یکون إلّا حکم واحد- و هو الأمر بالأهمّ- و أمّا بعد إرادة العصیان یسقط الأمر بالأهمّ، و بعصیانه یکون التکلیف بالمهمّ فعلیاً؛ لتحقّق شرطه، فلم یجتمع- لا قبل إرادة العصیان و لا بعدها- حکمان فعلیان لیرفع التضادّ باختلاف الرتبة.

و علی الثانی- أی علی تقدیر عدم سقوط الأمر بالأهمّ بإرادة عصیانه- فحیث تکون الإرادة شرطاً لتکلیف المهمّ فیجتمع الحکمان، فیکون هناک أمران بالضدّین و طلب الجمع بینهما، و هو محال.

و أمّا إذا کان الشرط عنواناً انتزاعیاً- أی عنوان الذی یعصی بعد- فکذلک أیضاً؛ و ذلک لأنّه إن أوجب ذلک سقوط الأمر بالأهمّ فیخرج عن مسألة الترتّب، و إلّا فإن کان الأمر بالأهمّ باقیاً بعد فیلزم طلب الضدّین.

و أمّا إذا کان عنوان العاصی شرطاً، فواضح أنّه قبل العصیان الخارجی لا یصدق علیه عنوان العاصی، و إن یصدق علیه عنوان أنّه یعصی بعدُ فحینئذٍ لم یکن تکلیف المهمّ فعلیاً؛ لعدم شرطه، و أمّا بعد تحقّق العصیان الخارجی منه و إن یصدق

ص: 359

علیه عنوان العاصی، لکن الکلام فیه الکلام فی أخذ العصیان الخارجی شرطاً.

هذا کلّه فی المضیّقین.

و أمّا إذا کان أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً: فإن کان الأمر بالأهمّ مضیّقاً و الأمر بالمهمّ موسّعاً- بأن کان مثلًا ظرف الأهمّ من الزوال إلی ساعة بعده، و ظرف المهمّ من الزوال إلی الغروب- فیتمشّی فیه الصور الأربع؛ من کون نفس العصیان شرطاً، أو إرادة العصیان، أو الذی یعصی بعد، أو عنوان العاصی:

فإن کان العصیان الخارجی شرطاً فبعد تحقّقه یسقط الأمر بالأهمّ، فلا یکون هناک إلّا أمر واحد متعلّق بالمهمّ، فیخرج عن مسألة الترتّب.

و هکذا الکلام لو کان عنوان العاصی شرطاً.

و أمّا لو کانت إرادة العصیان أو الذی یعصی شرطاً، فالکلام فیهما ما ذکرناه فی المضیّقین، فلاحظ.

و أمّا لو کان الأهمّ موسّعاً و المهمّ مضیّقاً فلا بدّ و أن یفرض المضیّق فی آخر وقت الموسّع لیمکن فرض المزاحمة و توهّم الترتّب، فقبل ساعة إلی الغروب- مثلًا- یکون ظرف الأهمّ و المهمّ کلیهما، و الکلام فیه- فی الصور الأربع بعینه- الکلام فی صور المضیّقین، فلاحظ.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه فی هذه المقدّمة: أنّ أساس الترتّب مبنی علی هذه المقدّمة، و إن کان المحقّق النائینی قدس سره- کما أشرنا- لم یعتن بهذه المقدّمة، بل یری- کما سیجی ء منه فی المقدّمة التالیة- أنّ أساس مسألة الترتّب مبنی علی المقدّمة الرابعة، فهی الأهمّ عنده فی الباب، و تتلوها فی الأهمّیة المقدّمة الثانیة، و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- أهمّیة المقدّمة الثالثة، کما عرفت عدم تمامیتها، و سیجی ء فی بیان المقدّمة الرابعة: أنّها غیر مربوطة بما نحن فیه، فارتقب حتّی حین.

ص: 360

المقدّمة الرابعة:

قد أشرنا: أنّ هذه المقدّمة أهمّ المقدّمات عند المحقّق النائینی قدس سره فی إثبات الترتّب، بل قال قدس سره: إنّ أساس الترتّب مبنی علیها.

و حاصل ما أفاده هو: أنّ انحفاظ کلّ خطاب بالنسبة إلی ما یتصوّر من التقادیر علی أنحاء ثلاثة:

الأوّل: ما کان انحفاظه بالإطلاق أو التقیید اللحاظیین، و ذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یمکن لحاظه عند الخطاب، و ذلک إنّما یکون فی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب، کقیام زید و قعوده، و طیران الغراب و عدمه، و کالوقت، فیمکن لحاظ هذه التقادیر عند الخطاب بالصلاة، فلو لاحظ تقدیراً خاصّاً کان ذلک تقییداً لحاظیاً، کما لاحظ الوقت عند الأمر بالصلاة، و إن لم یلاحظ تقدیراً خاصّاً، بل ساوی فی أمره لکلتا حالتی وجود التقدیر و عدمه، یکون ذلک إطلاقاً لحاظیاً، کما ساوی فی أمره بالصلاة فی کلتا حالتی قیام زید و قعوده.

الثانی: أن یکون انحفاظ الخطاب بنتیجة الإطلاق أو التقیید، و ذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر و انقسام لاحق للمتعلّق بعد تعلّق الخطاب به، کتقدیر العلم و الجهل بالخطاب، حیث إنّ تقدیری العلم و الجهل بالخطاب لا یکون إلّا بعد ورود الخطاب، لأنّه بعد ورود الخطاب یتحقّق تقدیر العلم و الجهل بذلک الخطاب، و أمّا قبله فلا وجود له، فلا یمکن فیه الإطلاق أو التقیید اللحاظیین، بل لا بدّ إمّا من نتیجة الإطلاق، کما فی تقدیری العلم و الجهل، أو نتیجة التقیید، کما فی تقدیری العلم و الجهل أیضاً بالنسبة إلی خصوص مسألتی القصر و الإتمام، و الجهر و الإخفات.

ص: 361

و الوجه فی ذلک هو: أنّ الإهمال الثبوتی فی مثل هذه التقادیر غیر معقول؛ لأنّ الملاک و المصلحة الباعثة للأمر بالصلاة إمّا یکون محفوظاً فی کلتا الحالتین، فلا بدّ من نتیجة الإطلاق، کما فی العلم و الجهل بعد قیام الأدلّة و الضرورة علی اشتراک العالم و الجاهل فی الأحکام، إلّا فی موارد القصر و الإتمام، و الجهر و الإخفات، و إمّا أن یکون الملاک محفوظاً فی تقدیر خاصّ دون عدمه، فلا بدّ من نتیجة التقیید.

الثالث: ما یکون انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق و التقیید اللحاظیین، و لا بنتیجة الإطلاق و التقیید، و ذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یقتضیه نفس الخطاب؛ و هو الفعل أو الترک المطالب به أو بنقیضه، حیث یکون انحفاظ الخطاب فی حالتی الفعل و الترک بنفسه و باقتضاء هویة ذاته، لا بإطلاقه لحاظاً و نتیجة؛ إذ لا یعقل الإطلاق و التقیید بالنسبة إلی تقدیری فعل متعلّق الخطاب و ترکه، بل یؤخذ المتعلّق مُعرّی عن حیثیة فعله و ترکه، و یلاحظ نفس ذاته، فیحمل علیه بالفعل إن کان الخطاب وجوبیاً، و بالترک إن کان الخطاب تحریمیاً؛ لأنّه إن قیّد بالترک یلزم طلب الجمع بین النقیضین و إن قیّد بالفعل یلزم طلب الحاصل، و إن اطلق بالنسبة إلی تقدیری الفعل و الترک یلزم کلا المحذورین؛ فلا بدّ من لحاظ ذات المتعلّق مهملا مُعرّی عن کلا تقدیری الفعل و الترک، فیخاطب به بعثاً أو زجراً، و لیس فیه تقیید و لا إطلاق؛ لا لحاظاً و لا نتیجة، و لکن مع ذلک یکون الخطاب محفوظاً فی کلتا حالتی الفعل و الترک ما لم تتحقّق الإطاعة و العصیان، فانحفاظ الخطاب فی کلا التقدیرین إنّما یکون باقتضاء ذاته؛ لأنّه بنفسه یقتضی فعل المتعلّق و طرد ترکه.

و بهذا یظهر لک: أنّ الفرق بین انحفاظ الخطاب عنده، و بین انحفاظ الخطاب فی القسمین السابقین من وجهین:

ص: 362

الوجه الأوّل: أنّ نسبة تلک التقادیر إلی الخطاب، نسبة العلّة إلی معلولها، أو ملحقة بها، و ذلک لأنّ الشرط یرجع إلی الموضوع، و الموضوع علّة لترتّب الخطاب علیه؛ فإن اخذ تلک التقادیر قیداً أو شرطاً للخطاب یکون ذلک التقدیر علّة للخطاب، و إن اطلق الخطاب بالنسبة إلی تقدیر فذلک التقدیر و إن لم یکن علّة للخطاب- لعدم أخذ ذلک التقدیر شرطاً- إلّا أنّه یجری مجری العلّة، من حیث إنّ الإطلاق و التقیید من الامور الإضافیة، فهما فی مرتبة واحدة، فإذا کان التقیید علّة للخطاب فالإطلاق الواقع فی رتبته یجری مجری العلّة من حیث الرتبة، فتأمّل.

و هذا بخلاف تقدیری فعل المتعلّق و ترکه؛ فإنّ الأمر یکون فیه بالعکس، حیث إنّ التقدیر معلول الخطاب، و الخطاب یکون علّة له؛ لأنّ الخطاب یقتضی فعل متعلّقه و طرد ترکه.

الوجه الثانی: أنّ الخطاب بالنسبة إلی سائر التقادیر یکون متعرّضاً لبیان أمر آخر غیر تلک التقادیر، غایته: أنّه تعرّض لذلک الأمر عند وجود تلک التقادیر؛ فإنّ خطاب الحجّ- مثلًا- یکون متعرّضاً لفعل الحجّ- من الإحرام و الطواف و غیر ذلک- عند وجود الاستطاعة، و لیس لخطاب الحجّ تعرّض لتقدیر الاستطاعة، و هذا بخلاف تقدیری الفعل و الترک؛ فإنّ الخطاب بنفسه متکفّل لبیان هذا التقدیر و متعرّض لحاله؛ لأنّه یقتضی فعل المتعلّق و عدم ترکه.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه یترتّب علی ما ذکرنا من الفرق، طولیة الخطابین و خروجهما من العَرضیة؛ لأنّ خطاب الأهمّ- حینئذٍ- یکون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ و طارداً و مقتضیاً لهدمه و رفعه فی عالم التشریع، دون العکس؛ لأنّ موضوع خطاب المهمّ هو عصیان خطاب الأهمّ و ترک امتثاله، و خطاب الأهمّ دائماً

ص: 363

یقتضی طرد الترک و رفع عصیانه؛ لأنّ البعث علی الفعل یکون زجراً علی الترک، فخطاب الأهمّ یقتضی طرد موضوع المهمّ، و أمّا خطاب المهمّ فهو إنّما یکون متعرّضاً لحال متعلّقه، و لا تعرّض له لحال موضوعه؛ لأنّ الحکم لا یتکفّل حال موضوعه من وضع أو رفع بل هو حکم علی تقدیر وجوده.

فلسان خطاب المهمّ هو: أنّه إن وجد موضوعی و تحقّق خارجاً، فیجب فعل متعلّقی، و لسان خطاب الأهمّ هو: أنّه ینبغی أن لا یوجد موضوع خطاب المهمّ و أن لا یتحقّق.

و هذان اللسانان- کما تری- لیس بینهما مطاردة و مخالفة، و لیسا فی رتبة واحدة، بل خطاب الأهمّ یکون مقدّماً رتبةً علی خطاب المهمّ؛ لأنّ خطاب الأهمّ واقع فی الرتبة السابقة علی موضوع خطاب المهمّ السابق علیه، فهو متقدّم علیه برتبتین أو ثلاث، و لا یمکن أن ینزل خطاب الأهمّ عن درجته و یساوی خطاب المهمّ فی الرتبة، و کذا لا یمکن أن یصعد خطاب المهمّ من درجته و یساوی الأهمّ، و مع هذا الاختلاف فی الرتبة کیف یعقل أن یکونا فی عرض واحد(1)؟! انتهی.

و فیما أفاده مواقع للنظر:

منها: أنّ مراده من الإطلاق و التقیید اللحاظین لا یخلو من أحد أمرین:

الأوّل: أن یرید بالإطلاق اللحاظی، لحاظ جمیع القیود فیه فعلًا، فی قبال التقیید اللحاظی، حیث إنّه لوحظ فیه قید مخصوص.

الثانی: أن یرید بالإطلاق اللحاظی، مجرّد لحاظ الشی ء من دون قید، فی قبال التقیید اللحاظی الذی لوحظ فیه القید.


1- فوائد الاصول 1: 348- 352.

ص: 364

فإن أراد الأوّل، کما لعلّه الظاهر منه(1) و من شیخنا العلّامة الحائری 0(2) و غیرهما(3)، حیث صرّحوا فی بعض الموارد: أنّ المطلق بعد جریان مقدّمات الحکمة یصیر کالعامّ فی الدلالة علی الأفراد، فکما أنّ فی قولک: «أحلّ اللَّه کلّ بیع» لوحظ جمیع الحالات الطارئة علی طبیعة البیع و المتصوّرة فیها، فکذلک قوله تعالی:

«أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(4)

. ففیه: أنّه کما أشرنا غیر مرّة- و سیوافیک فی مبحث المطلق و المقیّد- أنّ هذا لیس معنی الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق فی العرف و اللغة عبارة عن الاسترسال من القید، قبال التقیید، الذی هو عبارة عن التقیّد بالقید، و فی الاصطلاح عبارة عن جعل شی ء غیر مقیّد بقیدٍ موضوعاً أو متعلّقاً لحکم، و هو لا یتقوّم بلحاظ الإطلاق، و إرسال الطبیعة ساریة فی المصادیق.

فالإطلاق عبارة عن جعل نفس الشی ء بلا قید موضوعاً أو متعلّقاً للحکم، و هذا هو موضوع احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض؛ فإنّ من قال لعبده مثلًا:

«أعتق رقبة» و تمّت المقدّمات فی حقّه، یستفاد منه: أنّ نفس طبیعة الرقبة تمام الموضوع للإعتاق، و لا یکون لشی ء- من الإیمان و العدالة و ...- دخالة فیها، فکلّ ما صدق علیه «الرقبة» یصحّ إعتاقه. و من الواضح أنّه لم یحتج ذلک إلی لحاظ جمیع


1- قلت: و هاتیک عبارة المحقّق النائینی قدس سره فی مبحث العامّ و الخاصّ، حیث قال: إنّ الشمول و السریان قد یکون بدلالة اللفظ، و قد یکون بمقدّمات الحکمة ... إلی آخره، لاحظ فوائد الاصول 1: 511.[ المقرّر حفظه اللَّه]
2- درر الفوائد، المحقق الحائری: 210.
3- کفایة الاصول: 292، 287.
4- البقرة( 2): 275.

ص: 365

الخصوصیات- و لو لحاظاً إجمالیاً- کما یحتاج ذلک فی العموم، بل یکفی لاستفادة ذلک جعل الحکم معلّقاً علی نفس طبیعة الرقبة حال کونه غیر مقیّد بقید.

فالمطلق بعد إجراء مقدّمات الحکمة لا یحکی عن الخصوصیات و الأفراد من رأس، کیف و اللفظ لم یوضع إلّا لنفس الطبیعة؟! و المقدّمات لا توجب دلالة اللفظ أزید علی المقدار الذی وضع له اللفظ.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّ الإطلاق غیر متقوّم بلحاظ الإطلاق و إرسال الطبیعة فی المصادیق، بل متقوّم بجعل الطبیعة غیر المقیّدة موضوعاً أو متعلّقاً للحکم، و هذا هو موضوع احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض.

بل نقول: إنّ لحاظ الإطلاق و الإرسال مضرّ بالإطلاق؛ لأدائه إلی أنّ الفرق بین المقیّد و المطلق بین تقیید و تقییدات؛ فالمقیّد هو المتقیّد بقید واحد، و المطلق هو المتقیّد بقیود- أی حاظ جمیع القیود- و واضح: أنّه أجنبی عن ساحة الإطلاق.

و بالجملة: أنّ لحاظ التقادیر لو أمکن فی الإطلاق، یکون هادماً لأساس الإطلاق، و لعمر الحقّ: إنّ ما ذکرناه بعد الالتفات و التوجّه بمکان من الوضوح، لا یحتاج إلی تجشّم إثباته أکثر ممّا ذکرنا.

و إن أراد الثانی فیتوجّه علیه: أنّ الفرق بین القیود السابقة علی الخطاب، و بین القیود اللاحقة به- من حیث استفادة الإطلاق من نفس الخطاب فی الأوّل، و من دلیل خارج من إجماع أو غیره فی الثانی- لا وجه له؛ لأنّ احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض بالإطلاق لیس ممّا دلّت علیه آیة أو روایة حتّی تختصّ دلالتها بالقسم الأوّل، بل هو حکم العقلاء؛ فلا بدّ من الفحص فی الموارد التی یحتجّ بعضهم علی بعض، فواضح: أنّه إذا أخذ المولی الملتفت شیئاً غیر مقیّد بقید موضوعاً لحکمه- لا حین الجعل، و لا بلحاظ مستأنف- فحیث إنّه بصدد تفهیم مرامه فالعقلاء یرون أنّ

ص: 366

نفس الطبیعة تمام الموضوع للحکم، من غیر فرق عندهم بین القیود التی یمکن لحاظها فی متن الخطاب و الجعل، کما فی القسم الأوّل، و بین ما لا یمکن لحاظها إلّا بلحاظ مستأنف، کما فی القسم الثانی.

و عدم إمکان الأخذ فی متن الخطاب لمحذور- کما فی القسم الثانی- لا یضرّ فی التمسّک بالإطلاق بعد إمکان أخذه ببیان مستأنف، و حیث لم یقیّده بقید إلی زمان الإتیان یحتجّ العقلاء بعضهم علی بعض بأنّه و إن لم یمکنه التقیید حین الخطاب لمحذور، و لکن حیث یمکنه التقیید بدلیل مستأنف و لم یقیّده یستکشف منه أنّ الإرادة الجدّیة تعلّقت بالطبیعة مرسلة، و یحتجّ بعضهم علی بعض بالطبیعة المرسلة.

و بالجملة: لو کان المراد من لحاظ الإطلاق أخذ نفس الطبیعة موضوعة للحکم فلا وجه للتفرقة بین صورة إمکان ذکر القید حین الخطاب و بعده؛ لأنّه فی الصورة الثانیة و إن لم یمکن أخذه فی الخطاب، و لکن یمکنه أن یأخذه ببیان مستأنف، فلو لم یقیّد إلی زمان العمل یستکشف من ذلک عدم دخالة القید فیه. نعم إن لم یمکن بیانه- و لو ببیان مستأنف- فلا یمکن أن یستکشف عدم دخالته فیه، فتدبّر.

و منها: أنّه- کما أشرنا فی مبحث التعبّدی و التوصّلی- لا فرق فی القیود الجائیة من قبل الأمر و المتأخّرة عنه، و بین القیود السابقة علیه، من حیث إمکان أخذها فی الخطاب و إمکان الإطلاق و التقیید.

ذلک لأنّ الإطلاق بالنسبة إلی القیود السابقة لیس معناه ما ذکره قدس سره، بل معناه أنّ الطبیعة حیث اخذت موضوعاً للحکم من دون قید، یحتجّ العقلاء بعضهم علی بعض بأنّ الطبیعة من حیث هی هی تمام الموضوع للحکم، و استفادة التقیید لیس من نفس اللفظ الدالّ علی الطبیعة، بل بدالّ أو دوالّ اخر، مثلًا: فی قولک: «أکرم العالم الهاشمی العادل» لا یستفاد التقیید من نفس العالم، بل لا یستفاد ذلک من شی ء

ص: 367

من العناوین الثلاثة؛ لأنّ کلًاّ منها یدلّ علی ما وضع له لفظه. نعم التقیید یستفاد من توصیف العالم بأنّه هاشمی عادل، فلا بدّ فی کلّ توصیف من لحاظ مستقلّ مستأنف، و لا یکفی اللحاظ الأوّل فی ذلک، فکما یمکن ملاحظة توصیف العالم بالعدالة و الهاشمیة، فکذلک یمکن توصیف الشی ء بالعلم و الجهل.

و عدم تقدیر العلم و الجهل بالأحکام إلّا بعد ورود الخطاب لو سلّم فإنّما هو بالنسبة إلی حال المکلّف، و لا یوجب ذلک أن لا یمکن لحاظه حال الخطاب.

و بالجملة: یمکن للمولی ملاحظة جمیع القیود حال الخطاب، من غیر فرق بین القیود الجائیة من قبل الأمر، و ما تکون سابقة علیه، و لو سلّم وجود الفرق بینهما فإنّما هو بالنسبة إلی حال المکلّف، حیث إنّه لو لم یکن له حکم لا معنی للعلم أو الجهل به، و لکن لا یوجب ذلک أن لا یمکن لحاظ حاله فی مقام تعلّق الحکم؛ بداهة أنّه یمکنه تقیید موضوع الخمر الحرام بکونها معلومة.

و الحاصل: أنّ ما یکون متأخّراً عن الحکم إنّما هو جهل المکلّف و علمه بحسب الواقع و الخارج، و لم یکن ذلک مأخوذاً فی الموضوع، و ما اخذ فی الموضوع هو العنوان. و لا إشکال فی إمکان لحاظ عنوان یتحقّق بعد، مثلًا: العلّة متقدّمة علی معلولها خارجاً، و مع ذلک یمکن أن یلاحظ کلّ منهما فی زمان واحد.

فظهر ممّا ذکرنا: إمکان لحاظ ما یکون متأخّراً عن الخطاب و الحکم خارجاً فی موضوع الحکم، کما قلنا فی مبحث التعبّدی و التوصّلی بإمکان أخذ ما یتأتّی من قبل الأمر فی متعلّقه، فراجع.

و منها: أنّ قوله: «إنّ خطاب المهمّ متأخّر عن خطاب الأهمّ برتبتین أو ثلاث رتب» غیر وجیه؛ لأنّ للتقدّم و التأخّر الرتبیین ملاکاً یخصّهما، و قد حرّر فی محلّه: أنّ تأخّر شی ء عن شی ء إمّا لکون الشی ء المتقدّم علّة تامّة له، أو جزءاً للعلّة، أو شرطاً

ص: 368

للتأثیر، أو معدّاً له- علی تأمّل- بل جزء الماهیة أیضاً، لأنّ أجزاء الماهیة متقدّمة علی الماهیة فی مقام التقرّر الماهوی، و إن اتّحدت معها خارجاً، إلی غیر ذلک.

و بالجملة: التقدّم و التأخّر الرتبیین لیسا من الاعتبارات المحضة التی لا واقعیة لها فی نفس الأمر و الواقع، کیف و حکم العقل بأنّه وجد هذا، فوجد ذاک بنحو تخلّل الفاء لیس إلّا للإشعار بأمر واقعی و شی ء ثبوتی؟! فإثبات أمر واقعی للشی ء- کالتأخّر الرتبی- فرع لکون الشی ء الموصوف ذا تقرّر و ذا حظّ من الوجود.

إذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول: لا یکون للأمر و البعث ملاک التقدّم الرتبی بالنسبة إلی شی ء من الإطاعة و العصیان، و غایة ما یکون هی تقدّم الأمر و البعث زماناً علی إطاعته أو عصیانه، توضیح ذلک: أنّ ملاک التقدّم الذی یمکن دعواه هنا أحد أمرین:

إمّا کون الأمر و البعث علّة للانبعاث الخارجی.

أو جزء علّة له، و لا یکاد یمکن تصویر غیرهما، کما لا یخفی، و واضح: أنّ البعث لو کان علّة للانبعاث و الإطاعة یلزم أن لا ینفکّ الانبعاث عنه فی الخارج؛ ضرورة استحالة انفکاک المعلول عن علّته، و من المعلوم وجود العصاة و البغاة فی الخارج.

نعم، بالنسبة إلی عبد یری أنّ فی مخالفة مولاه عقاباً، و فی موافقته و امتثاله ثواباً، یرجّح جانب الامتثال و یأتی بالمأمور به خارجاً. و لکن ذلک أیضاً بعد انقداح الخوف عن العذاب فی ذهنه، و الاشتیاق إلی نیل الثواب فی خواطره، أو هما معاً، فیتخلّل بین البعث و الانبعاث شیئاً.

نعم، بالنسبة إلی من یطیع أمر مولاه بمجرّد صدور الأمر من مولاه، و یمتثله حبّاً له- من دون طمع فی الثواب أو الخوف عن العذاب- فلا یتخلّل تلک المبادئ، و لکن مع ذلک تکون لامتثاله مبادئ اخر، ککون مولاه أهلًا للعبادة، إلی غیر ذلک.

ص: 369

و بالجملة: یشترک الکلّ فی أنّه یتخلّل بین البعث و الانبعاث زمان ما، و لا أقلّ من تصوّر العبد بعث مولاه، و التصدیق بفائدته، و الاشتیاق إلیه أحیاناً، ثمّ إرادته، فلو کان البعث علّة للانبعاث لزم استحالة الانفکاک بینهما، و قد عرفت أنّ الانفکاک بینهما ممّا لا بدّ منه.

مضافاً إلی أنّ تأثیر الأمر المتصرّم المتقضّی بمجرّد وجوده فی شی ء موجود لا یعقل؛ للزومه تأثیر المعدوم فی الموجود، فالمؤثّر للانبعاث هو الصورة الذهنیة من البعث، لا البعث الخارجی، فتدبّر.

فإذا تبیّن لک عدم کون البعث علّة للانبعاث، ظهر لک عدم کون البعث جزء علّة للانبعاث، کما لا یخفی.

و لو سلّم علّیة البعث للانبعاث، و لکن لا نسلّم أنّ عدم الانبعاث معلول للبعث، و بالجملة: غایة ما یمکن أن یقال: إنّ الانبعاث معلول للبعث، فالبعث مقدّم علیه بملاک العلّیة، و لکن لا وجه لتقدّم البعث علی عدم الانبعاث؛ لعدم وجود ملاک التقدّم بالنسبة إلیه.

إن قلت: لو لم یکن هناک أمر و بعث لم یتحقّق العصیان بالنسبة إلیه، کما لا تتحقّق الإطاعة بدونهما، فکلّ من الإطاعة و العصیان متأخّران عن البعث، و هما یرتضعان من ثدی واحد.

قلت: تأخّر الإطاعة أو العصیان عن الأمر و البعث لا یثبت تأخّرهما عنه رتبةً، لأنّ تأخّر العصیان عن الأمر إنّما هو بالزمان، کما أنّ تأخّر الإطاعة عنه کذلک، و الکلام إنّما هو فی إثبات تأخّر العصیان عن الأمر رتبةً، کما یکون کذلک فی الإطاعة، و قد عرفت عدم وجود ملاک التقدّم بالنسبة إلی العصیان.

و غایة ما یمکن أن یقال فی الملازمة بین الإطاعة و العصیان هو أحد وجهین؛

ص: 370

فلو تمّ الوجهان یثبت تأخّر العصیان عن الأمر و البعث، و لکن لا یخلو الوجهان عن النظر و الإشکال:

الوجه الأوّل: أنّ الإطاعة حیث تکون عبارة عن الانبعاث عن البعث فتکون متأخّرة عن البعث، و نقیض الإطاعة عبارة عن عدم الإطاعة، و لم ینحصر مصداق مفهوم النقیض بالعصیان؛ ضرورة صدقه علی ما لو ترکها لعذر؛ لسهو أو نسیان.

و بالجملة: لعدم الإطاعة مصداقان:

أحدهما: ترک المأمور به لا لعذر، و یعبّر عنه بالعصیان.

و الثانی: ترکه لعذر.

فالعصیان و إن لم یکن نقیضاً للإطاعة، و لکنّه لازم للنقیض أو مصداق له، و حیث إنّ الشی ء یتّحد مع مصادیقه ذاتاً، فلا یکونان فی رتبتین، و من المعلوم: أنّ نقیض الشی ء لا یکون فی رتبة غیره، و إلّا یلزم اجتماع النقیضین.

و الحاصل: أنّ الشی ء و نقیضه فی رتبة واحدة، و الإطاعة مع العصیان- الذی هو مصداق لعدم الإطاعة- فی رتبة واحدة؛ فالعصیان و الإطاعة فی رتبة واحدة، و حینئذٍ فإذا تقدّم البعث بالنسبة إلی الانبعاث- الذی عبارة عن الإطاعة- فیکون مقدّماً علی ما یکون فی رتبتها- و هو العصیان- لأنّ ما مع المتقدّم متقدّم، کما أنّ ما مع المتأخّر متأخّر.

الوجه الثانی: أنّ الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ، فالأمر بالأهمّ- مثلًا- مقدّم علی النهی عن ترکه؛ تقدّم المقتضی- بالکسر- علی المقتضی- بالفتح- و النهی مقدّم علی عصیانه؛ فیثبت تأخّر العصیان عن الأمر.

و مقتضی هذین الوجهین هو کون عصیان الأمر فی الرتبة المتأخّرة عنه، فإذا اخذ عصیان الأهمّ موضوعاً فی الأمر بالمهمّ فیتقدّم علیه تقدّم الموضوع علی حکمه،

ص: 371

فیتأخّر أمر المهمّ عن أمر الأهمّ و لا یمکن أن یصعد خطاب المهمّ من درجته حتّی یساوی خطاب الأهمّ، بل کلّ منهما یقتضی مرتبة لا یقتضیها الآخر، و مع هذا الاختلاف فی الرتبة کیف یعقل أن یکونا فی عرض واحد؟! هذا.

و لیعلم: أنّ أساس الوجهین مبنی علی مسلّمیة أمرین:

أحدهما: کون النقیضین فی رتبة واحدة.

ثانیهما: و أنّه إذا کان شی ء مقدّماً علی أحدهما فهو مقدّم علی الآخر أیضاً.

و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم تمامیتهما، و أنّ کلیهما لا یخلوان عن المغالطة.

و إن کنت محیطاً بما ذکرنا لکفاک فی دفعهما، و لکن مع ذلک لا بأس بالإشارة إلی ما ذکرناه هنا إجمالًا:

فنقول: أمّا کون النقیضین فی رتبة واحدة: فقد أشرنا أنّ نقیض کلّ شی ء رفعه، أو مرفوع به؛ فنقیض الشی ء فی الرتبة رفع الشی ء فی الرتبة علی أن تکون الرتبة قیداً للمسلوب، لا إثبات الرفع فی الرتبة علی أن تکون الرتبة قیداً للسلب، فإذا کذب وجود المعلول فی رتبة العلّة یلزم أن یکون نقیضه صادقاً، و نقیضه لیس عدمه فی الرتبة؛ لأنّها قضیة موجبة، و الموجبة لا تکون نقیضة للموجبة، بل نقیضه:

لیس المعلول موجوداً فی رتبة العلّة.

و بالجملة: نقیض کون شی ء فی الرتبة، سلبه فی الرتبة؛ فلا یلزم أن یکون نقیض الشی ء فی رتبة ذاک الشی ء، بل لا یکونان فی رتبة واحدة.

و إن کنت مع ذلک فی شک من ذلک، فاستأنس من قولک: «کون شی ء فی زمان»؛ فإنّ نقیضه لیس «عدمه فی الزمان»، بل «عدم کونه زمانیاً».

ثمّ لو سلّم کون النقیضین فی رتبة واحدة، و لکن لا یلزم من کون شیئین فی

ص: 372

رتبة واحدة- و ذلک فیما إذا کانا معلولی علّة واحدة و تقدّم رتبة أحدهما علی شی ء بملاکٍ، ککونه علّة له، أو جزء علّة، أو شرط تأثیر، إلی غیر ذلک- أن یکون الشی ء الذی فی رتبته مقدّماً علی ذلک الشی ء المتأخّر، بعد عدم وجود ملاک التقدّم فیه، و منشأ توهّم کون ما مع المتقدّم فی الرتب العقلیة متقدّماً، و ما مع المتأخّر فی الرتب العقلیة متأخّراً، هو مقایسة الرتب العقلیة بالرتب الزمانیة و المکانیة؛ فإنّ ما مع الزمان المتقدّم علی شی ء، أو المکان کذلک، مقدّم علی ذلک الشی ء، و أنّی له بالرتب العقلیة التی تدور مدار مناطها و ملاکها؟!

فعلی هذا: لو سلّم کون العصیان فی رتبة الإطاعة، و لکن تقدّم البعث علی الإطاعة- بملاک أنّ البعث مقدّم علی الانبعاث- لا یوجب أن یکون البعث مقدّماً علی العصیان أیضاً.

مضافاً إلی أنّ العصیان أمر عدمی- و هو ترک المأمور به لا عن عذرٍ- و قد تقرّر فی محلّه: أنّ المعانی الوجودیة و خواصّها جمیعاً مسلوبة عن الأمر العدمی بالسلب التحصیلی، و قد أشرنا غیر مرّة: أنّ القضایا الصادقة التی موضوعاتها امور عدمیة لا بدّ و أن تکون بنحو السالبة المحصّلة، و الموجبات- سواء کانت سالبة المحمول، أو معدولة المحمول- لا تصدق فی الأعدام إلّا بتأوّلٍ، مثلًا قولک: «شریک الباری ممتنع» صورته قضیة کاذبة باعتبار إثبات الامتناع علی شریک الباری، إلّا أنّ معناه فی الحقیقة: «شریک الباری لیس بموجود البتّة»، و هی قضیة صادقة.

و بالجملة: العصیان بما أنّه أمر عدمی لا شأنیة له، و لا یثبت له حیثیة من الحیثیات الوجودیة، ککونه متقدّماً علی شی ء أو متأخّراً عنه، أو فی رتبة شی ء؛ فلا یکون العصیان فی رتبة الإطاعة.

و بعبارة أوفی: لا یکون العصیان موضوعاً لحکم، و لا شرطاً لشی ء أو مانعاً

ص: 373

عن شی ء، و بذلک یظهر: أنّ أخذ أمر عدمی لا یؤثّر و لا یوجب مصلحة و لا مفسدة فی الموضوع، و لا یجتمع مع ما علیه العدلیة من کون الأحکام تابعة لمصالح أو مفاسد تقتضیها موضوعاتها، حیث إنّ العدم لا اقتضاء فیه، إلّا أن یرجع إلی مانعیة الوجود، و هو غیر مجدٍ أصلًا فی المقام.

مع ابتناء الوجه الثانی علی اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه، و قد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- ضعفه.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ أساس الترتّب المدّعی مبنی علی التقدّم و التأخّر الرتبیین المسلوبین عن العصیان، الذی هو أمر عدمی.

و غایة ما یمکن أن یقال فی الترتب إنّما هو بالنسبة إلی الأمر و الإطاعة- علی تأمّل قد عرفت وجهه، لا الأمر و العصیان فانهدم أساس الترتّب.

فظهر: أنّ المقدّمة التی هی أهمّ المقدّمات عند المحقّق النائینی قدس سره غیر تمام، و اللَّه الهادی.

المقدّمة الخامسة:

هذه المقدّمة فی کلامه قدس سره طویل الذیل، و لکن نذکر ما هو الدخیل فی المسألة؛ فإنّه بعد أن قسّم موضوع الحکم و شرطه إلی ما لا یقبل الوضع و الرفع التشریعیین- کالعقل و البلوغ- و إلی ما هو قابل لهما، قسّم القابل إلی ما یکون قابلًا لکلّ من الرفع و الدفع، أو یکون قابلًا للدفع دون الرفع، ثمّ قال: إنّ القابل للوضع و الرفع التشریعیین، إمّا یکون باختیار المکلّف أیضاً أو لا، ثمّ ورد فی أنّ الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر: إمّا یکون بنفس وجوده رافعاً، أو بامتثاله، و محلّ البحث فی

ص: 374

الخطاب الترتّبی إنّما هو فی القسم الأخیر؛ و هو ما یکون امتثال خطاب رافعاً لموضوع خطاب آخر، فنذکره و نرفض الباقی.

فنقول: حاصل ما أفاده فی ذلک هو: أنّ ما یکون بامتثاله رافعاً لموضوع خطاب آخر- کخطاب الأهمّ حیث یکون بامتثاله رافعاً لموضوع خطاب المهمّ- لأنّه یتحقّق اجتماع کلّ من الخطابین فی الفعلیة؛ ضرورة أنّه إذا لم یمتثل أحد الخطابین- الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر- لا یرتفع الخطاب الآخر؛ لعدم ارتفاع موضوعه بعد، فیجتمع الخطابان فی الزمان و الفعلیة، بتحقّق موضوعهما، فیقع البحث حینئذٍ فی أنّ مثل الخطابین هل یوجب إیجاب الجمع حتّی یکون من التکلیف بالمحال، أو لا یوجب ذلک؟

و الحقّ: أنّه لا یوجب ذلک لجهتین.

و لا بدّ أوّلًا من معرفة الجمع و ما یوجبه:

أمّا الجمع: فهو عبارة عن اجتماع کلّ منهما فی زمان امتثال الآخر؛ بحیث یکون امتثال أحد الخطابین مجامعاً فی الزمان لامتثال الآخر.

و أمّا الذی یوجب الجمع فهو أحد أمرین: إمّا تقیید کلّ من المتعلّقین بحال فعل الآخر، أو تقیید أحدهما بحال الآخر، و إمّا إطلاق کلّ من الخطابین بحال فعل الآخر.

و أمّا عدم إیجاب الجمع: فالدلیل علی ذلک: هو أنّه لو اقتضیا الجمع و الحال هو هذه للزم المحال فی کلّ من طرف المطلوب و الطلب، مضافاً إلی مخالفته للبرهان المنطقی، و ذلک:

أمّا استلزام المحال فی ناحیة المطلوب: فلأنّ مطلوبیة المهمّ و وقوعه علی هذه الصفة إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ و خلوّ الزمان عنه، فلو فرض وقوعه علی

ص: 375

صفة المطلوبیة فی حال وجود الأهمّ و امتثاله- کما هو لازم إیجاب الجمع- یلزم الجمع بین النقیضین؛ إذ یلزم أن یعتبر فی مطلوبیة المهمّ وقوعه بعد العصیان و فی حال عدم العصیان، بحیث یکون کلّ من حالتی وجود العصیان و عدمه قیداً فی المهمّ، و هذا- کما تری- یستلزم الجمع بین النقیضین.

و أمّا استلزام المحال فی ناحیة الطلب: فلأنّ الأهمّ یکون من علل عدم خطاب المهمّ؛ لاقتضائه رفع موضوعه؛ فلو اجتمع خطاب الأهمّ و المهمّ و صار خطاب المهمّ فی عرض خطاب الأهمّ، یلزم اجتماع الشی ء مع علّة عدمه، أو خروج العلّة عن کونها علّة للعدم، أو خروج العدم عن کونه عدماً، أو بقاء العلّة علی علّیتها و العدم علی عدمه، و مع ذلک اجتمعا، و یلزم من کلّ ذلک الخلف و اجتماع النقیضین.

و أمّا مخالفته للبرهان المنطقی: فلأنّ الأمر الترتّبی المبحوث عنه فی المقام إذا أبرزناه بصورة القضیة الحملیة، یکون من المنفصلة المانعة الجمع، لا مانعة الخلوّ؛ لأنّ التنافی فیه إنّما یکون بین النسبة الطلبیة من جانب المهمّ و النسبة الفاعلیة من جانب الأهمّ.

فصورة القضیة الحملیة هکذا: «أن یکون الشخص فاعلًا للأهمّ، و إمّا أن یجب علیه المهمّ»، فهناک تنافٍ بین وجوب المهمّ و فعل الأهمّ، و مع هذا التنافی کیف یعقل إیجاب الجمع؟!

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الأمر الترتّبی لا یعقل اقتضاؤه إیجاب الجمع فلا وجه لاستحالته، و أنّه تکلیف بالمحال(1)، انتهی محرّراً.

و فیه: أنّ کلّ مورد تحقّقت فعلیة الخطابین فیه یلزم منه طلب الجمع،


1- فوائد الاصول 1: 352- 361.

ص: 376

و الملازمة بینهما قطعیة، و مقتضی فعلیة الخطابین لزوم التوالی الفاسدة المذکورة فی کلامه قدس سره؛ من المخالفة فی ناحیة کلّ من المطلوب و الطلب، و مخالفة البرهان المنطقی، و مجرّد الترتّب العقلی لا یصلح لرفع المحذور.

فکما أنّ فعلیة الخطابین العرضیین توجب طلب الجمع، فکذلک الخطابین الطولیین- إلّا بالوجه الذی تفرّدنا به و قوّیناه لعلّه بما لا مزید علیه، فلاحظ- فإن لم یلزم فی مورد طلب الجمع فنستکشف منه- إنّاً- عدم فعلیة الخطابین.

هذا إجمال الکلام فی تضعیف مقاله قدس سره.

و أمّا تفصیله فهو: أنّه لو کان الاختلاف الرتبی مجدیاً لرفع غائلة طلب الجمع بین الخطابین مع وحدة زمان فعلیتهما، یلزم أن یکون فی مورد اشتراط تکلیف أحدهما بإطاعة الآخر أوضح فی عدم لزوم طلب الجمع من أخذ العصیان شرطاً؛ لما عرفت أنّ تأخّر الإطاعة و الانبعاث من البعث رتبة و إن کان غیر وجیه، إلّا أنّه یمکن أن یوجّه بنحو ما، و لکن تأخّر العصیان عن البعث بمراحل عن الواقع.

فعلی هذا: کلّ ما قالوه فی العصیان نقوله فی الإطاعة بطریق أولی؛ فلو أُخذت إطاعة الأهمّ شرطاً فی تکلیف المهمّ لکان قیداً للموضوع، فیقدّم إطاعة الأهمّ علی أمر المهمّ تقدّم الموضوع علی حکمه، و مع ذلک لا إشکال فی أنّه یقتضی طلب الجمع، فتدبّر.

و بالجملة: لو کان مجرّد الترتّب العقلی مجدیاً فی رفع محذور طلب الجمع، ففیما اخذت إطاعة أحدهما شرطاً للآخر یلزم أن ترتفع الغائلة بملاک الترتّب، مع أنّه لا تکاد ترتفع الغائلة بالضرورة.

فظهر: أنّ تمام الملاک فی لزوم طلب الجمع هو فعلیة الخطابین، و حدیث الترتّب و کون رتبة أحدهما مقدّمة علی الآخر لا یجدی فی رفع غائلة طلب الجمع.

ص: 377

و قد أشرنا: أنّ بعض العناوین الذی یؤخذ فی موضوع المهمّ یخرج الموضوع عن مسألة الترتّب، و یوجب أن یکون تکلیف کلّ من الأهمّ و المهمّ فی زمان علی حدة، کما أنّ بعضها الآخر و إن لم یوجب خروج الموضوع عن مسألة الترتّب، و لکن یکون فیه محذور طلب الجمع؛ لکون الخطابین فعلیین فی زمان واحد.

فالأولی الإشارة إلی بیان تلک العناوین توضیحاً للمقال:

فنقول: إن اخذ العصیان الخارجی أو ما یساوقه من العناوین- کعنوان الطغیان و التمرّد و ...- شرطاً فی تکلیف المهمّ، فیلزم أن یکون الأمر بالمهمّ عند العصیان الخارجی للأهمّ، فقبل عصیان الأهمّ یکون التکلیف بالأهمّ متوجّهاً إلی الأهمّ فقط، و بعد عصیانه و سقوطه یصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه، فعند ذلک و إن لم یلزم طلب الجمع، و لکن لیس ذلک لأجل الترتّب مع فعلیة الخطابین، بل لعدم فعلیة کلّ منهما فی زمان فعلیة الآخر.

و لا فرق فی ذلک بین کون العصیان أو ما یساوقه تدریجی الوجود أو دفعی الوجود؛ ضرورة أنّه فی صورة الثانی قبل تحقّق آن المعصیة یکون الزمان و الظرف، زماناً و ظرفاً للأمر الأهمّ فقط، و بتحقّق الآن یتحقّق العصیان، فیسقط أمر الأهمّ، فیصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً، فلم یجتمع الخطابان.

و مجرّد تقدّم رتبة الشرط علی المشروط لا یفید ما لم یتحقّق فی الخارج.

و لعلّ منشأ التوهّم هو ملاحظة کون الشرط من أجزاء علل وجود الشی ء، فیتقدّم علیه بالرتبة العقلیة، و لا یلزم أن یتقدّم علیه خارجاً.

و لکنّه غفلة عن أنّ الشرط بوجوده الخارجی متقدّم، فإذا اخذ العصیان- مثلًا بوجوده الخارجی شرطاً، فحیث إنّه لا یصدق إلّا بعد مضیّ زمان لا یمکنه

ص: 378

إتیان الأهمّ فیه، فقبل تحقّق العصیان یکون الأمر بالأهمّ فعلیاً فی حقّه فقط، و بعده یتعیّن علیه تکلیف المهمّ.

و أمّا إذا اخذ التلبّس بالعصیان و الاشتغال به شرطاً لتکلیف المهمّ، ففیه أوّلًا:

أنّ العصیان لم یکن أمراً ممتدّاً حتّی یکون له أوّل و آخر و وسط، بل أمر دفعی؛ لأنّه إذا ترک المأمور به عمداً بلا عذر- بحیث یفوت عنه و لا یقدر علی إتیانه- ینتزع منه العصیان فی الآن الذی لا یقدر علی إتیانه؛ ضرورة أنّه لا یُعدّ مطلق ترک المأمور به عمداً ما لم یفت المأمور به معصیة(1)

. و بالجملة: العصیان آنی التحقّق و الوجود.

نعم، فی بعض الموارد یحتاج إلی مضیّ زمان حتّی یفوت عنه المأمور به و یسلب عنه القدرة لینتزع العصیان، و لکنّه لا یوجب کون العصیان متدرّج الوجود حتّی یتأتّی فیه الشروع و الختم.

و ثانیاً: أنّه لو سلّم أنّ العصیان أمرٌ ممتدّ، و لکن نقول: إنّ التلبّس بالعصیان:

إمّا یکون عصیاناً بالحمل الشائع؛ فحکمه حکم صورة أخذ العصیان شرطاً- من أنّ لازمه سقوط أمر الأهمّ، و خروجه عن مسألة الترتّب- أو لا یکون عصیاناً کذلک؛ فیکون کلّ من الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ فعلیاً، و مقتضاهما طلب الجمع، و المکلّف لا یقدر علی إتیانهما فی زمان واحد.


1- قلت: و لا یخفی أنّ ترک المأمور به فی الوقت المضروب له و إن کان یوجب سقوط الخطاب- لعدم القدرة علیه عند ذلک بإتیانه- و لکنّه لا یتأتّی العقاب علیه؛ لأنّه إنّما یترتّب علی من ترک المأمور به بسوء اختیاره؛ و لذا یقال:« إنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً لا خطاباً».[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 379

و لو اخذ الامور الانتزاعیة شرطاً- کانتزاع عنوان «الذی یعصی» من العصیان الخارجی باعتبار ظرفه فیما بعد، أو «المکلّف الذی یکون عاصیاً فیما بعد»، إلی غیر ذلک- فواضح أنّ هذه العناوین ثابتة قبل تحقّق العصیان الخارجی بالنسبة إلی الأهمّ، فإن کان أمر الأهمّ معه فعلیاً یلزم طلب الجمع، و إلّا فیخرج عن مسألة الترتّب.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: أنّ التقدّم الرتبی لیس مناطاً لرفع غائلة طلب الجمع بین الضدّین، و الملاک کلّ الملاک عدم فعلیة الخطابین فی زمان واحد، و مع عدم فعلیة الخطابین ینهدم أساس الترتّب. فلا یمکن أن تدفع مقالة شیخنا البهائی قدس سره بالترتّب، و الجواب الحقیق هو الذی ذکرنا، فلاحظه و افهمه و اغتنم و کن من الشاکرین.

توهّم ابتناء الالتزام بفروع علی تمامیة الترتّب و دفعه

بقی فی المقام فروع؛ قال المحقّق النائینی قدس سره: إنّه لا محیص للفقیه عن الالتزام بها، و لا یتمّ ذلک إلّا بالخطاب الترتّبی:

منها: ما لو فرضت حرمة الإقامة علی المسافر من أوّل الفجر إلی الزوال، فلو فرض أنّه عصی هذا الخطاب و أقام فلا إشکال فی أنّه یجب علیه الصوم و یکون مخاطباً به، فیکون فی الآن الأوّل الحقیقی من الفجر قد توجّه إلیه کلّ من حرمة الإقامة و وجوب الصوم، و لکن مترتّباً- یعنی أنّ وجوب الصوم یکون مترتّباً علی عصیان حرمة الإقامة- ففی حال الإقامة یجب علیه الصوم مع حرمة الإقامة أیضاً؛ لأنّ المفروض حرمة الإقامة علیه إلی الزوال، فیکون الخطاب الترتّبی محفوظاً من أوّل الفجر إلی الزوال.

ص: 380

و منها: ما لو فرض وجوب الإقامة علی المسافر من أوّل الزوال فیکون وجوب القصر علیه مترتّباً علی عصیان وجوب الإقامة، حیث إنّه لو عصی و لم یقصد الإقامة توجّه علیه خطاب القصر، و کذا لو فرض حرمة الإقامة؛ فإنّ وجوب التمام یکون مترتّباً علی عصیان حرمة الإقامة.

و منها: وجوب الخمس المترتّب علی عصیان خطاب أداء الدین إذا لم یکن الدین من عام الربح، بل کان من السنة السابقة، و حیث إنّ أداء الدین عند المطالبة واجب فإن أدّی الدین لا یفضل المئونة عن سنته، فلا یجب علیه الخمس، فإن عصی و لم یؤدّ الدین یجب علیه الخمس، فأحد الخطابین تعلّق بأداء الدین و الآخر بوجوب الخمس عند عصیان الأداء؛ فلیس هذا إلّا من مسألة الترتّب.

و منها: غیر ذلک من الفروع التی لا مفرّ للفقیه عن الالتزام بها، مع أنّ کلّها یتوقّف علی الخطاب الترتّبی(1)، انتهی.

و فیه: أنّ النقض إنّما یتمّ إذا تسالموا علی وجود الخطابین الفعلیین فی موارد النقض، و مجرّد فرض المسألة لا یتمّ؛ فلا بدّ من تطبیق جمیع خصوصیات مسألة الترتّب علی موارد النقض.

و قد عرفت: أنّ موضوع البحث فی الترتّب هو أمران: أحدهما مطلق تعلّق بعنوان، و الآخر مشروط بعصیان ذاک الأمر، فلا بدّ و أن یکون فی المفروض خطابان:

تعلّق أحدهما بحرمة الإقامة من الفجر إلی الزوال بحیث کان الخطاب مطلقاً، و ثانیهما تعلّق بوجوب الصوم من الفجر فی صورة عصیان ذاک التکلیف، فحینئذٍ یصیر ذلک من مصادیق ما یرون تصحیحه بالخطاب الترتّبی، لا یکون دلیلًا علی مشروعیة


1- فوائد الاصول 1: 357- 359.

ص: 381

الترتّب، کما زعمه المحقّق النائینی قدس سره، فکلّ ما قلنا فی سائر الموارد، نقول به فی مفروض المسألة.

و حاصله: أنّه لو کان تکلیف الصوم مشروطاً بعصیان تکلیف حرمة الإقامة فلا بدّ من مضیّ مقدار من الزمان من طلوع الفجر لیتحقّق العصیان الخارجی بالنسبة إلی تکلیف الإقامة حتّی یتحقّق شرط تکلیف المهمّ، فقبل العصیان لا یکون مأموراً بالصوم، و إنّما هو مکلّف بحرمة الإقامة فقط، فإن صام فلم یکن آتیاً بالمأمور به، و لم یقع علی صفة المطلوبیة، و إلّا یلزم تحقّق المشروط قبل شرطه، و بعد عصیان تکلیف الإقامة- و ذلک إنّما هو بمضیّ مقدار من الزمان و لو بآنات عرفیة من طلوع الفجر لیصدق العصیان- یصیر التکلیف بالصوم فعلیاً فی حقّه، و بمضیّ ذاک المقدار من الوقت یفوت ظرف الصوم؛ لکونه محدوداً بحدّین أوّلهما من طلوع الفجر.

فأحد التکلیفین کان فعلیاً فی أوّل حقیقی طلوع الفجر، و الآخر فعلیاً بعد مضیّ مقدار من الزمان من الطلوع؛ فلم یجتمع حکمان فعلیان فی زمان لیُصحّحهما بالترتّب.

فلو فرض أنّه کان هناک خطابان، کان الوقت المضروب لأحدهما المحدود بالحدّین عین الوقت المضروب للآخر، فإن نهی ولده عن الإقامة، و فرض تعلّق النهی علی عنوان الإقامة، و نذر ذاک العنوان بحیث تعلّق النذر بعنوانه الذاتی(1)، فلا بدّ من ارتکاب التأویل فیهما، أو فی أحدهما، و إلّا فلا بدّ و أن یطرح أحدهما؛ لاستلزام الخطابین الفعلیین طلب الجمع بین الضدّین، و هو محال، و ما یستلزم المحال محال.


1- قلت: علی إشکال تقدّم تفصیله فی مقدّمة الواجب عند البحث عن الطهارات الثلاث فی ضابط تبدّل الأحکام بعضها ببعض، فراجع. فعنوان الإقامة لم یصر واجباً و لا محرّماً فی حال؛ لعدم تعلّق الأمر بها، و لا النهی عنها، و لو أوجب الوالد الإقامة فی بلد أو نذرها فالواجب یکون عنوان إطاعة الوالد و الوفاء بالنذر، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 382

و الحاصل: أنّ کلّ مورد کان فیه خطابان فعلیان أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً بعصیان الآخر، لا یکون فیه محذور طلب الجمع، و لکن لیس ذلک لأجل الترتّب بعد کون الخطابین فعلیین، بل لأجل عدم فعلیة أحدهما فی ظرف فعلیة الآخر حسب ما عرفت.

إذا تمهّد لک ما ذکرنا فی الفرع الأوّل یظهر لک حکم الفرعین الآخرین أیضاً؛ لأنّه إذا کان وجوب القصر مشروطاً بعصیان وجوب الإقامة، و وجوب الخمس منوطاً بترک أداء الدین، و کان تکلیف وجوب الإقامة و أداء الدین مطلقاً، یصیران عین الفرع الأوّل، و الکلام فیهما عین الکلام السابق، طابق النعل بالنعل. هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّ ما ذکره قدس سره لیس إلّا مجرّد فرض لا واقعیة له؛ لأنّ موضوع وجوب الصوم و تمامیة الصلاة إنّما هو العزم علی إقامة عشرة أیّام، و لم یرد دلیل من الشرع علی أنّ خطاب الصوم و الإتمام مشروط بعصیان حرمة الإقامة، فمن عزم علی إقامة عشرة أیّام یجب علیه الصوم و الصلاة تماماً، و إن لم یقصد الإقامة یحرم علیه الصوم و یجب علیه قصر الصلاة؛ فالحکم تعلّق علی عنوان «العزم» لا «العصیان»، فیخرج عن محطّ بحث الترتّب.

فإذن نقول: إنّ عنوان «عزم الإقامة» أو «الإقامة» لا یتأخّران عن الأمر و النهی بهما؛ لأنّه- بعد اللتیّا و الّتی و غضّ النظر عن المناقشات التی عرفتها- تأخّر عصیان الأمر عنه، و عصیان الأمر غیر العزم علی الإقامة و ذات الإقامة بما هی فعل المکلّف، و إن کان ینطبق علیهما أیضاً انطباقاً عرضیاً.

و بالجملة: غایة ما یمکن المساعدة علیه هی تأخّر العصیان عن أمره، و أمّا ذات الإقامة أو عزمها- الذی هو موضوع دلیل وجوب الصوم و الصلاة تماماً- فلم یکن متأخّرا عن الأمر؛ لعدم وجود ملاک التأخّر فیه، و إن کان ینطبق علیه

ص: 383

بالعرض ما هو المتأخّر- أعنی العصیان- فما هو موضوع للأمر غیر متأخّر عنه، فإذا تعلّق الصوم علی قصد عنوان «الإقامة»- مثلًا- و مع ذلک وجب علیه الخروج، یجتمع لدیه حکمان فعلیان، و هو محال؛ فلا بدّ إمّا من رفع الید عن فعلیة أحدهما، أو ارتکاب التأویل.

و أمّا ما ذکره قدس سره فی وجوب الخمس، ففیه: أنّ وجوب الخمس لم یترتّب علی عصیان خطاب أداء الدین، بل ترتّب علی عنوان «فاضل المئونة» أو «الغنیمة»؛ فإن کان علیه دین من السنة السابقة و أدّاه فی هذه السنة فلا تصدق علیه الغنیمة، فعدم وجوب الخمس لأجل أنّ الأداء أذهب موضوع الغنیمة، فإذا لم یؤدّ تصدق الغنیمة علی ما اکتسب.

فتحصّل: أنّ الاستشهاد فی وجوب الخمس لأجل ترک أداء الدین علی مسألة الترتّب لا معنی له؛ لأنّه لم یرد فی لسان آیة و لا روایة علی أنّ وجوب الخمس مشروط بعصیان الأداء، بل الوجوب دائر مدار عنوان «فاضل المئونة» أو «الغنیمة»، و أداء الدین یرفع موضوع وجوب الخمس.

فحاصل ما ذکرنا: أنّ الترتّب مسألة عقلیة، فبعد أن ظهر لک المحذور العقلی فی ذلک- من أنّه لا یعقل تعلّق خطابین فعلیین فی زمان واحد علی شخص واحد- فلو ورد ما ظاهره علی خلاف ما اقتضاه العقل من صحّة الترتّب فلا بدّ إمّا أن یؤوّل، أو یقال بعدم صدور أحدهما، فالنقض ببعض الفروع الفقهیة التی لا تزید علی الاستظهار من الدلیل، لا یفید القائل بالامتناع، کما لا یخفی.

فقد تمّ- بحمد اللَّه- الکلام علی التقریب الذی فصّله و قرّبه المحقّق النائینی قدس سره، و هو أهمّ التقاریب فی مسألة الترتّب. و قد عرفت لعلّه بما لا مزید علیه عدم تمامیته.

ص: 384

تقاریب اخر لتصحیح الترتّب و تزییفها
اشارة

ثمّ إنّه بعد ما عرفت عدم تمامیة التقریب الذی قرّبه و فصّله المحقّق النائینی قدس سره، لا یهمّ التعرّض لسائر التقاریب التی تذکر لتصحیح الترتّب، و لعلّها إجمال لما فصّله المحقّق النائینی قدس سره مع إغلاق و إخلال، إلّا أنّه مع ذلک لا بأس بالإشارة إلی ما قرّبه العلمان الأصفهانی و العراقی 0 تجلیلًا لشموخ مقامهما العلمی:

التقریب الأوّل:

ما أورده المحقّق الأصفهانی قدس سره فی «التعلیقة»، حاصله: أنّ اقتضاء کلّ أمر لإطاعة نفسه فی رتبة سابقة علی إطاعته، کیف و هی مرتبة تأثیره و أثره؟! و واضح:

أنّ اقتضاء کلّ علّة أثراً إنّما هو فی مرتبة ذاتها، و أمّا فی مرتبة أثرها المتأخّرة عنها فهی منعزلة عن الاقتضاء و التأثیر؛ للزومه تجافی العلّة عن مرتبتها، فتمام اقتضاء العلّة إنّما هو فی مرتبة متقدّمة علی أثرها.

فحیث إنّ نسبة الأمر إلی الإطاعة نسبة العلّة إلی أثرها، فاقتضاء الأمر لإتیان المتعلّق و إطاعته لم یکن فی رتبة الأثر التی هی متأخّرة عن الذات، بل الأمر فی مرتبة ذاته یقتضی إطاعة نفسه.

و حیث إنّ العصیان نقیض الإطاعة، و النقیضان فی رتبة واحدة، فکما أنّ مرتبة الإطاعة متأخّرة عن مرتبة ذات الأمر و اقتضائه، فکذلک ما هو فی رتبتها.

فإذا انیط أمر بعصیان أمر آخر فلا شبهة فی أنّ هذه الإناطة تخرج الأمرین عن المزاحمة فی التأثیر؛ إذ فی رتبة الأمر بالأهمّ و تأثیره فی ظَرف القدرة نحوه لا وجود

ص: 385

للأمر بالمهمّ، و فی رتبة وجود الأمر بالمهمّ لا یکون اقتضاء للأمر بالأهمّ؛ فلا مطاردة بین الأمرین، بل کلّ یؤثّر فی رتبة نفسه علی وجه لا یوجب تحیّر المکلّف فی امتثال کلّ منهما، و لا یقتضی کلّ من الأمرین إلقاء المکلّف فیما لا یطاق، بل کلّ یقتضی موضوعاً لا یقتضی غیره خلافه(1)، انتهی.

و فیه: أنّ هذا التقریب إجمال لما فصّله المحقّق النائینی قدس سره بعبارة اخری، فیتوجّه علیه بعض ما أوردناه علی ما أفاده قدس سره، بل لعلّ الإشکال علیه أوضح.

إجماله: أنّ عدم التنافی بین مقتضی الأمرین و إن کان مسلّماً، إلّا أنّه لیس لأجل اختلاف الرتبة- کما هو مراد المستدلّ- بل لأجل أنّ فعلیة أحد الأمرین- أعنی المهمّ- فی صورة سقوط الأمر الآخر؛ أعنی عصیان الأهمّ.

و ذلک لأنّ کون شی ء فی رتبة و الآخر فی رتبة متأخّرة أو متقدّمة إنّما یتصوّر إذا کان الشیئان موجودین، کالعلّة و المعلول؛ فإنّ العقل بعد أن أدرک أنّ وجود المعلول نشأ و ترشّح من العلّة فیحکم بأنّ رتبة العلّة متقدّمة علی رتبة المعلول، و أمّا فیما لم یکونا موجودین فی زمان واحد، أو کان أحدهما موجوداً دون الآخر- کما فیما نحن فیه- فلا یصحّ أن یقال باختلاف الرتبة إلّا بضرب من المسامحة.

و بالجملة: عدم المطاردة بین الأمرین مسلّم، لکنّه لیس لأجل اختلاف الرتبتین مع وجودهما، بل لأجل أنّ عصیان الأمر بالأهمّ شرط للتکلیف بالمهمّ، فقبل العصیان لم یکن هناک تکلیف بالمهمّ، و بعد العصیان لا یعقل أن یکون الأمر بالأهمّ موجوداً؛ فلم یجتمع الأمران فی زمان واحد حتّی یقال بتقدّم أحدهما و تأخّر الآخر.


1- نهایة الدرایة 2: 218.

ص: 386

و ببیان آخر: ظاهر قولکم بأنّه لا وجود للأمر بالمهمّ فی رتبة الأمر بالأهمّ، هو: أنّه لا وجود للأمر بالمهمّ عند إتیان الأهمّ و إطاعته، و هذا و إن یرفع غائلة طلب الجمع بین الضدّین، لکنّه هدم لأساس الترتّب؛ لأنّ الترتّب مبنیّ علی وجود کلا الأمرین الأهمّ و المهمّ فی زمان واحد.

نعم، إن ارید بعدم الوجود: أنّ بینهما اختلافاً فی الرتبة- و هو أن لا یخرج المفروض عن موضوع الترتّب- لکنّه عرفت بما لا مزید علیه: أنّ اختلاف الرتبة مع فعلیة الأمرین فی زمان واحد لا یجدی فی رفع محذور طلب الجمع و الأمر بالضدّین.

مضافاً إلی أنّ توهّم کون العصیان و الإطاعة متناقضین، مدفوع بما عرفت: أنّ نقیض «الإطاعة»، «لا إطاعة»، و هی تصدق علی العصیان، مع أنّه لو کانا متناقضین لا یلزم أن یکون المتناقضان فی رتبة واحدة، کما سبق لعلّه بما لا مزید علیه، فلاحظ.

التقریب الثانی:

ما اختاره المحقّق الأصفهانی قدس سره و قال: إنّه التحقیق الحقیق بالتصدیق فی تجویز الترتّب، و حاصله بتوضیح منّا هو: أنّ نسبة کلّ أمرٍ إلی متعلّقه نسبة المقتضی- بالکسر- إلی مقتضاه- بالفتح- لا نسبة العلّة إلی معلوله.

فالمقتضیان اللذان بینهما تنافٍ: إذا کان یقتضی کلّ منهما أثره علی جمیع التقادیر، و الغرض من کلّ منهما فعلیة مقتضاه عند انقیاد المکلّف له، فیستحیل تأثیرهما و فعلیة مقتضاهما کذلک، و إن کان المکلّف فی کمال الانقیاد.

و أمّا إذا کان اقتضاء أحدهما علی تقدیر- بأن یکون اقتضاء أحدهما عند عدم تأثیر الآخر- فلا تنافی بین الأمرین؛ لأنّ ذوات المقتضیات بما هی لا تزاحم بینها، و إن کان فإنّما هو من حیث التأثیر.

ص: 387

و واضح: أنّ فعلیة اقتضاء الأمر بالمهمّ و تأثیره متوقّف علی عدم تأثیر الأمر بالأهمّ و سقوطه.

و توهّم: أنّ الأمر بالأهمّ لجعل الداعی و انبعاث المکلّف، فمع عدم الانبعاث بالنسبة إلی تکلیف الأمر بالأهمّ و عصیانه فی زمان یُترقّب منه الانبعاث ینعدم الأمر بالأهمّ و یسقط، فلا بقاء له، فضلًا عن داعویته فیخرج عن موضوع مسألة الترتّب المتوقّف علی وجود أمرین فی زمان واحد.

مدفوع: بأنّ غایة ما یقتضیه الأمر الحقیقی هو أن یکون متعلّقه فی نفسه ممکناً ذاتاً، و أن لا یلزم من وقوعه محال، فإذا کان متعلّق الأمر ممکناً ذاتاً و وقوعاً یصحّ تعلّق التکلیف به، و إلّا فلا، و من الواضح: أنّ الإمکان الذاتی و الوقوعی لا ینافیان الامتناع أو الوجوب الغیریین، و إلّا لم یکن ممکن أبداً؛ إذ الماهیة حال وجودها تکون واجبة بالغیر، و حال عدمها ممتنعة بالغیر، فمتی تکون ممکنة ذاتاً و وقوعاً؟!

فإذن: الأمر الأهمّ بعد تحقّق النقیض- أی بعد عدم الانبعاث فی الوقت المضروب له- و إن لم یکن له داعویة فعلیة، إلّا أنّه لم ینعزل عن إمکان داعویته ذاتاً و وقوعاً، ففی ظرف عصیان الأمر یکون حقیقة الأمر- و هی إمکان داعویته ذاتاً و وقوعاً- موجوداً.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّه عند تحقّق عدم البدیل(1) و إن کان وجوده ممتنعاً بالغیر، لکنّه یمکن الأمر بما یمکن أن یکون مقتضیاً لطرده، و تبیّن: أنّ قیاس الإرادة التشریعیة


1- قلت: أی عدم المتعلّق، مثلًا: إذا کان وقت الصلاة مضیّقاً من الزوال إلی ساعة بعدها، فإذا لم تتحقّق الصلاة فی ذاک الوقت یکون عدمها بدیلها. فالعدم البدلی عبارة عن العدم الذی إذا لم یکن عدماً کان ظرفاً للتحقّق. هذا من إفادات سماحة الاستاذ دام ظلّه.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 388

بالإرادة التکوینیة- من حیث عدم إمکان إرادتین مترتّبتین- قیاس مع الفارق؛ لأنّ الإرادة التکوینیة هی الجزء الأخیر من العلّة التامّة للفعل، فلا یعقل إناطة إرادة اخری بعدم متعلّق الاولی مع ثبوتها، بخلاف الإرادة التشریعیة؛ لأنّها من قبیل المقتضی بالنسبة إلی فعل المکلّف، و الجزء الأخیر لفعله إنّما هو إرادة نفسه، و من الواضح: أنّه لا مانع من ثبوت المقتضی مع عدم مقتضاه(1)، انتهی.

و فیما أفاده مواقع للنظر:

فأوّلًا: أنّه کما عرفت أنّ الإرادة التشریعیة عبارة عن إرادة التقنین، لا إرادة المقنّن فعل المکلّف، کما زعمه، فلاحظ.

و ثانیاً: أنّ الإرادة التکوینیة لم تکن جزء أخیر للعلّة التامّة بالنسبة إلی أفعاله الخارجیة، فوزان الإرادتین بالنسبة إلی متعلّقهما واحد.

و ثالثاً: أنّه لو فسّرت الإرادة التشریعیة بأیّ من المعنیین فیتوجّه علیه قدس سره: أنّ مصحّح التکلیف لا یکون مجرّد إمکان الباعثیة ذاتاً و وقوعاً، بل المصحّح هو إمکان الباعثیة الفعلیة؛ ضرورة أنّه إذا لم یقدر جمیع آحاد المکلّفین علی إتیان عمل فی الخارج لا یکاد یصحّ للمقنّن تکلیفهم معتذراً بأنّه تکلیف ممکن ذاتاً و وقوعاً؛ أمّا إمکانه الذاتی فواضح، و أمّا إمکانه الوقوعی فلعدم لزوم محال منه.

فإن کان مع ذلک فی خواطرک ریب فلاحظ الأوامر الشخصیة؛ فإذا توجّه أمر من مولی إلی عبده فلا إشکال فی کونه ممکناً ذاتاً و وقوعاً، فإذا لم یقدر العبد علی امتثاله فیکون التکلیف ممتنعاً غیریاً فی حقّه، فهل یصدر من المولی العالم الخبیر أمر بالنسبة إلیه معتذراً بإمکان إتیان متعلّقه ذاتاً و وقوعاً؟! حاشا!!


1- نهایة الدرایة 2: 241- 243.

ص: 389

و السرّ فی ذلک هو: أنّ الأمر لغایة الانبعاث، فلا أقلّ من احتماله، فمجرّد إمکان إتیان المکلّف ذاتاً و وقوعاً لا یکفی فی التشریع، فإذا علم بعدم الانبعاث فمحال أن یبعث المولی بعثاً حقیقیاً.

و بالجملة: البعث الحقیقی هو الذی یکون بداعی الانبعاث الخارجی، فلا یکفی مجرّد إمکان الداعویة للانبعاث ذاتاً أو وقوعاً ما لم ینضمّ إلیه احتمال الانبعاث الخارجی، و المقایسة بین المباحث الفلسفیة و بین تشریع القوانین غیر وجیه کما لا یخفی علی المتأمل.

فعند ذلک لا فرق من هذه الجهة أیضاً بین الإرادتین؛ فکما لم تکد تتعلّق الإرادة التکوینی مع عدم إمکان المتعلّق، فکذلک لا تنقدح مبادئ التقنین و التشریع إذا لم یکد أن ینبعث به خارجاً.

و رابعاً: إن أراد بقوله قدس سره فی الصدر: «إنّه لا تنافی بین الأمرین إن اقتضی أحدهما علی تقدیر عدم تأثیر الآخر»، أنّه لا یرید المهمّ فی ظرف الأهمّ، بل یریده علی نحو الواجب التقدیری، فیخرج المقال عن محطّ البحث؛ لأنّه فیما إذا کان کلا الأمرین فعلیین.

و إن أراد تحقّق إرادتین فعلیتین، ففیه: أنّه محال أن تتعلّق الإرادة بشی ء بضدّه الأهمّ قبل عصیانه فی زمان واحد، فتدبّر.

التقریب الثالث:

ما اختاره المحقّق العراقی قدس سره- کما فی «المقالات»- مع إغلاق فی العبارة موجب لصعوبة فهم المطلب، فقال ما حاصله: إنّ تصویر الترتّب علی نحو ذکره المحقّق

ص: 390

الثانی، و أیّده المحقّق الشیرازی، و تبعه أساتید العصر- قدّس اللَّه أسرارهم- من اشتراط تکلیف المهمّ بعصیان الأهمّ، فی کمال المتانة، و لکن هذا المقدار لا یقتضی طولیة الأمرین و اشتراط أحدهما بعصیان الآخر؛ و ذلک لأنّه لا شبهة فی أنّه فی صورة تساوی الفعلین فی المصلحة یحکم العقل بالتخییر بینهما.

و لیس مرجع التخییر إلی اشتراط وجوب کلّ واحد بعصیان الآخر؛ للزومه تأخّر رتبة کلّ من الأمرین عن الآخر، و لازم ذلک طلب الضدّین عند عصیان کلیهما.

و لا إلی اشتراط کلّ منهما بعدم وجود غیره الذی هو فی رتبة سابقة عن التکلیف أیضاً؛ إذ الالتزام به و إن لم یوجب المحذور السابق، إلّا أنّ لازمه عدم اقتضاء کلّ أمرٍ إیجاد مقتضاه حال وجود الآخر، فیکون وجوب کلّ منهما مشروطاً بعدم وجود الآخر، و هذا خلاف ظواهر الأدلّة؛ فإنّ ظاهرها: أنّ کلًاّ منهما مع قطع النظر عن الآخر مطلق، فإن أمکن حفظ إطلاق کلّ منهما برفع بعض الجهات فلا موجب لارتکاب خلاف الظاهر.

فالأولی أن یقال: إنّ مرجع التخییر إلی تعلّق طلبین ناقصین بوجود الضدّین؛ لعدم المطاردة بینهما بعد الجزم بأنّ الطلب الناقص فی کلّ مشروط لا یصیر تامّاً بوجود شرطه، و بعبارة اخری: لا یصیر الواجب المشروط بتحقّق شرطه واجباً مطلقاً.

و مقتضی الطلبین هو: أنّ الطلب فی ظرف المزاحمة یقتضی سدّ جمیع أبواب العدم، إلّا العدم الطارئ من إتیان ضدّه؛ فلا مطاردة فی البین لنقص فیهما، هذا کلّه فی صورة تساویهما من حیث المصلحة.

فإذا اتّضح لک عدم المطاردة لنقص فیهما، یظهر لک أنّه لو فرض نقص الطلب من طرف واحد لا تکون بینهما المطاردة أیضاً، و لو لم یشترط الطلب الناقص المزبور

ص: 391

بعصیان التامّ، أو بعدم الضدّ السابق علی العصیان، فطلب الأهمّ یقتضی سدّ جمیع أنحاء العدم، و المهمّ یسدّ ما عدا جهة وجود الأهمّ.

إن قلت: إنّ الطلب الناقص و إن لم یطرد التامّ- لأنّ مقتضاه حفظ الوجود من سائر الجهات، غیر ما یلازم وجود التامّ- إلّا أنّ الطلب التامّ فی الطرف الآخر یطرد الأمر الناقص بمقتضاه، حیث إنّ مقتضاه سدّ جمیع الأبواب.

قلت: بأنّه إذا کان مقتضی الطلب الناقص حفظ سائر الجهات غیر ما یلازم وجود التامّ، فکیف یقتضی الطلب التامّ طرده؛ إذ نتیجة طرده منع انسداد تلک الجهة، و فی هذا الظرف لا اقتضاء للطلب الناقص، فأین المطاردة، و لو من طرف واحد، فضلًا عن الطرفین؟!

فإذا اتّضح لک ما ذکرنا یظهر لک: أنّه لو دار الأمر بین ما ذکرناه و بین ما ذهب إلیه الأعلام، یرجّح العقل ما اخترناه؛ لأنّ غایة ما ذکرناه هی رفع الید عن ظهور الأمر فی التمامیة، إذ هو المتیقّن فی البین؛ سواء قلنا باشتراط الأمر بعصیان، أم لا، و لکن یبقی ظهور الطلب فی عدم إناطته بشی ء تحت الإطلاق، بخلاف ما ذهبوا إلیه؛ لأدائه إلی صیرورة الطلب مشروطاً، و لا وجه للمصیر إلیه مهما أمکن.

و لازم ما ذکرنا: عدم طولیة الطلب بالضدّین، بل کلّ منهما مطلوب فی عرض مطلوبیة الآخر، غایة الأمر: مع تساوی المصلحتین یکون کلّ واحد منهما ناقصاً قاصراً عن اقتضاء سدّ جمیع الأعدام، و مع أهمّیة المصلحة فی أحد الطرفین کان الطلب فی الأهمّ تامّاً و فی المهمّ ناقصاً(1)، انتهی ملخّصاً محرّراً.


1- مقالات الاصول 1: 341- 344.

ص: 392

و فیما أفاده مواقع للنظر:

فأوّلًا: أنّ المحذور الذی توهّمه هذا المحقّق قدس سره- فیما لو کانت المصلحة فیهما متساویة- من لزوم تأخّر رتبة کلّ من الأمرین عن الآخر فیما إذا اشترط وجوب کلّ منهما بعصیان الآخر- غیر لازم؛ لما تقدّم: أنّه لم یکن للأمر ملاک التقدّم بالنسبة إلی العصیان، و غایة ما یمکن أن یقال- علی إشکالٍ تقدّم ذکره- هی تأخّر الإطاعة عنه، فلو اخذ عصیان کلّ منهما شرطاً فی الآخر لا یلزم محذور التقدّم و التأخّر الرتبیّین.

نعم یلزم محذور آخر، و هو: کون کلّ منهما منجّزاً مطلقاً و مشروطاً؛ أمّا کونهما منجّزاً مطلقاً فبحسب الفرض، و أمّا کونهما مشروطاً فلتوهّم اشتراط کلّ منهما بعصیان الآخر، و العصیان هو ترک المأمور به خارجاً بلا عذر، فقبل عصیان کلّ منهما لا یکون الآخر فعلیاً.

و ثانیاً: أنّ مقتضی ذلک عدم قدرة المکلّف لإتیانهما.

و بعبارة اخری: فی الواجبین المتزاحمین المتساویین فی المصلحة إذا کان أوّل الزوال إلی ساعة بعدها ظرف إتیانهما، و کان العصیان الخارجی لکلّ منهما شرطاً للآخر فلا بدّ و أن یمضی من الزوال بمقدار لا یمکن أن یأتی بأحدهما لیتحقّق شرط الآخر، و عند ذلک لا یمکن إتیان الآخر؛ لمضیّ وقته، فتدبّر.

و ثالثاً: لو سلّم ذلک فالمحذور المتوهّم إنّما هو فی المتساویین من حیث المصلحة، فمقایسة محلّ البحث- و هو ما إذا کان أحدهما أهمّ- بهما فی غیر محلّه؛ لعدم لزوم المحذور المتوهّم، کما لا یخفی.

و رابعاً: أنّ عدم صیرورة المشروط مطلقاً عند حصول الشرط مسلّم، و لکن المحذور غیر دائر مداره، بل المحذور لأجل فعلیة الخطابین؛ فإذا تحقّق شرط کلّ من

ص: 393

الواجبین یصیرا فعلیین، فیلزم محذور طلب الجمع.

و خامساً: أنّه یتوجّه علی ما اختاره قدس سره کلّ ما یرد علی القول بأخذ العصیان شرطاً، بل ما اختاره فی الحقیقة هو الذی ذکروه الأعلام بعبارة اخری، و ذلک لظهور أنّه قدس سره لم یرد بالطلب الناقص، الطلب الاستحبابی، بل مراده هو أنّه یریده عند عدم ذاک، و لا یریده عند وجود ذاک، و أنت خبیر بأنّه لیس ذلک إلّا معنی الواجب المشروط، فهو قدس سره منکر بلسانه، و لکنّه معترف به بقلبه.

و مع ذلک لا یرتفع بذلک الإشکال؛ لأنّه قبل عصیان التامّ- الذی یکون له اقتضاء و بعث- هل یکون للناقص اقتضاء و بعث، أو لا؟

فعلی الأوّل یلزم طلب الجمع بین الضدّین.

و علی الثانی یخرج من محلّ البحث، حیث إنّه تکون باعثیة الناقص بعد سقوط أمر التامّ، فلا باعثیة له قبل تحقّق إطاعة التامّ.

فتحصّل ممّا ذکرناه فی هذه التقریبات: أنّه لا مخلص عن إشکال الترتّب، و لا یکاد رفعه بشی ء من هذه التقریبات، فله الحمد و المنّة.

ص: 394

ص: 395

الفصل السادس فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

اشارة

الفصل السادس فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه(1)

اختلفوا فی جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، و الکلام فیه یقع فی موارد:

المورد الأوّل: فی محطّ البحث

ربّما یحتمل أن یکون محطّ البحث فی الجواز و عدمه، هو الإمکان الذاتی؛ بمعنی أنّه هل یمکن صدور الأمر ذاتاً من الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، أم لا؟ و مرجع هذا إلی أنّ الأمر حیث یکون من الأفعال الاختیاریة فلا بدّ له من علّة تامّة مرکّبة من الأجزاء و الشرائط، فمع انتفاء شرطه لا یمکن ذاتاً وجود المشروط.

کما أنّه یحتمل أن یکون المراد من محطّ البحث الإمکان الوقوعی؛ بمعنی أنّه هل یمکن صدور الأمر و وقوعه من الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر، و لا یلزم منه فی الخارج محذور، أم لا بل یلزم منه المحال؟!


1- تأریخ شروع البحث یوم الثلاثاء/ 9 ذی القعدة الحرام/ 1379 ه. ق.

ص: 396

و لکن التأمّل فی أدلّة الطرفین یعطی عدم کون الجواز بهذین المعنیین محطّ البحث؛ لأنّهم یریدون بطرح هذا المبحث أن یستفیدوا من ذلک: أنّه واقع فی الشریعة المقدّسة، و لا موقف للمعنیین فی ذلک، کما لا یخفی.

مضافاً إلی أنّ إدخال علم الآمر فی عنوان البحث یرشد إلی عدم إرادة المعنیین من الجواز؛ بداهة أنّ علم الآمر لا دخالة له فی الإمکان الذاتی أو الوقوعی، کما لا یخفی، فتدبّر.

و ربّما یقال: إنّ الضمیر فی «شرطه» فی عنوان البحث یرجع إلی «الأمر»؛ فمحطّ البحث عنده هو جواز الأمر مع فقدان شرط الأمر و ما یکون من مبادئه؛ من التصوّر و التصدیق و الإرادة و غیرها من مبادئ الاختیار، و هو أیضاً لا یکاد یصحّ نسبته إلیهم؛ حتّی إلی من ینکر الحسن و القبح العقلیین، کالأشعری؛ بداهة أنّ وجود المعلول بلا علّة ممّا ینکره کلّ عاقل و یعدّ من البدیهیات، فلا یکاد أن یتنازعوا فیه، کما لا یخفی.

و یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره وجه آخر لمحطّ النزاع جعله وجه التصالح بین الفریقین، و حاصله: أنّ النزاع فی جواز إنشاء الأمر مع علم الآمر بعدم بلوغه إلی المرتبة الفعلیة لعدم شرطه، و قد عرفت أنّ الإنشاء کذلک بمکان من الإمکان؛ لأنّ داعی إنشاء الطلب لا یختصّ بالبعث و التحریک الجدّی حقیقةً، بل قد یکون صوریاً و امتحانیاً، و ربّما یکون غیر ذلک، و سلب کون الأمر حقیقة عمّا لم یکن بداعی البعث جدّاً و إن کان فی محلّه، إلّا أنّ إطلاق الأمر علیه مع القرینة لا إشکال فیه.

و قد صرّح قدس سره بأنّه یمکن أن یقع بما ذکر التصالح بین الجانبین و یرتفع النزاع من البین؛ فمن یقول بالجواز یری صحّة الأمر بداعٍ آخر غیر الانبعاث، و من

ص: 397

نفاه یری أنّ الأمر لا بدّ و أن یکون لغایة الانبعاث(1)، انتهی.

و لا یخفی: أنّ ما ذکره قدس سره و إن کان یناسب بعض استدلالاتهم المذکورة فی «الفصول»(2) و غیره، کالاستدلال بقضیة أمر إبراهیم علیه السلام بذبح ولده إسماعیل- علی نبینا و آله و علیهما السلام- حیث إنّه تعالی أمره بذبحه مع علمه تعالی بعدم وجود شرط فعلیة وجوب الذبح، و لکن ینافی سائر أدلّة الطرفین بأنّه لو جاز ذلک لما علم أحد بأنّه مکلّف؛ لعدم علمه به؛ لجواز أن لا یتحقّق بعض شرائطه، و أنّه لو لم یجز لما عصی أحد؛ لأنّ کلّ ما لم یوجد فقد انتفی بعض أجزاء علّته التامّة، و أقلّه عدم إرادة المکلّف، فیمتنع، فلا تکلیف، فلا معصیة، إلی غیر ذلک.

و الذی ینبغی أن یقال فی محطّ البحث هو أنّه: «هل یجوز الأمر مع العلم بانتفاء شرط المکلّف به ...»، و لا یحتاج إلی رفع الید عن ظاهر العنوان الموروث من السلف إلی الخلف؛ لأنّ الکلام فی البعث و الأمر، و البعث لا یکون حقیقیاً إذا علم المولی أنّ العبد لا یأتی به و لو عصیاناً، أو یعلم بإتیانه من دون أن یتوجّه التکلیف إلیه، و لا یکون الطلب مؤثّراً فیه بوجهٍ.

و بالجملة: الأمر الحقیقی بما أنّه أمر له شرائط؛ منها: علمه بإیجاد الداعی فی العبد، و لا أقلّ من احتمال تأثیره فیه، فإذا رأی المولی أنّ أمره لا یکاد یؤثّر فی العبد- إمّا لعجزه أو لعصیانه- فلا یکاد یترشّح منه أمر و بعث حقیقی نحوه، فإحراز قدرة العبد شرط لتکلیف المولی، فلو أمر المولی عند ذلک یقال: إنّه أمر مع انتفاء شرط الأمر.


1- کفایة الاصول: 170.
2- الفصول الغرویّة: 110/ السطر 20.

ص: 398

فظهر أنّ ما ذکرنا هو الذی یقتضیه الاعتبار فی محطّ البحث، من دون ارتکاب التکلّف بإرجاع الضمیر فی عنوان البحث إلی المکلّف به، الموجب للتقصیر فی العنوان، و لکن مع ذلک لا أهمّیة فی ذلک.

المورد الثانی: منشأ النزاع فی المسألة

ربّما یقال(1): إنّ منشأ النزاع فی هذه المسألة هو النزاع بین الإمامیة، بل و المعتزلة، و بین الأشاعرة، من جهة اتّحاد الطلب و الإرادة و عدمه.

فذهبت الأشاعرة إلی مغایرتهما، و أنّ فی النفس شیئاً یسمّونه بالکلام النفسی، و الطلب هو الإنشائی منه، و أنّه یمکن أن یطلب المولی شیئاً و یُنشئه و لکن لم تتعلّق إرادته به، حیث إنّه لو تعلّقت إرادته به لزم المحال؛ و هو تخلّف المراد عن الإرادة، فذهبوا إلی جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه، و قالوا بأنّه قد یطلب المولی شیئاً و هو لا یریده، کما أنّه قد ینهی عنه و هو یریده.

و أمّا العدلیة- الإمامیة و المعتزلة- فلمّا أبطلوا الکلام النفسی، و ذهبوا إلی اتّحاد الطلب و الإرادة مصداقاً، و أنّه لیس فی النفس شی ء غیر الإرادة، و رأوا مبدئیة الإرادة للطلب- أیّ طلب کان- فذهبوا إلی امتناع توجّه الإرادة إلی ما لا یمکن تحقّقه؛ إمّا لفقد شرط المأمور به، أو لعدم قدرة المکلّف.

و بالجملة: فی صورة العلم بانتفاء شرطه لا مبدئیة للأمر و البعث؛ لأنّ البعث الحقیقی إنّما هو للانبعاث، فمع العلم بعدم انبعاث المکلّف لعدم شرطه یقبح


1- راجع الفصول الغرویة: 109/ السطر 36، نهایة الأفکار 1: 379.

ص: 399

البعث، فلا یمکن صدوره من المولی الحکیم، فعلی هذا یکون هذا البحث من المسائل الکلامیة.

و لکن الحقّ عدم کونها مسألة کلامیة، بل مسألة اصولیة عقلیة عامّة غیر مخصوصة بالأوامر الواردة فی الکتاب و السنّة، و إن کان الغرض من انعقاد المسألة تلک الأوامر.

و ذلک لأنّ المتکلّم بما هو متکلّم لیس له أن یعقد مبحثاً و یبحث فیه عن صحّة أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه و عدمها، مع أنّ ضابط المسألة الاصولیة ینطبق علیها؛ لترتّب الحکم علیها نفیاً و إثباتاً؛ و ذلک لأنّ أدلّة قضاء الفوائت- مثلًا- علّقت القضاء علی عنوان «الفوت».

فإن قلنا بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه یصحّ تکلیف ذوی الأعذار عن إتیان الصلاة فی الوقت المضروب له، لنوم أو إغماء- فی بعض حالاته- أو سهو، إلی غیر ذلک، فیصدق علی ترک ذوی الأعذار عنوان «الفوت»، فلا بدّ لهم من قضائها خارج الوقت.

و أمّا إن قلنا بعدم الجواز فلا یکاد یصحّ تکلیف ذوی الأعذار، فلا یصدق فی حقّهم ترک الفریضة و فوتها، فلا تشملهم أدلّة قضاء الفائتة، فظهر ترتّب الثمرة الشرعیة علی کلا طرفی الأمر.

و أمّا عدم اختصاص البحث بالأوامر الواقعة فی الکتاب و السنّة، فواضح؛ لأنّ أکثر المباحث الاصولیة کذلک، فیبحث فیها عن المسائل من حیث هی، و إن کان الغرض منها و الثمرة الحاصلة عنها هی الأوامر الواردة فی الکتاب و السنّة، فتدبّر.

ص: 400

المورد الثالث: مقتضی التحقیق فی المسألة

اشارة

مقتضی التحقیق هو التفصیل فی المسألة بین الأوامر و الخطابات الشخصیة و الجزئیة، و بین الخطابات الکلّیة؛ بعدم جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فی الأوامر و الخطابات الشخصیة و الجزئیة؛ و ذلک لأنّ البعث لغایة الانبعاث، و ذلک إنّما یکون فیما إذا علم انبعاث العبد ببعثه، أو احتمل ذلک. و أمّا إذا علم بأنّه لا یؤثّر الأمر فیه شیئاً، و یکون وجود الأمر و عدمه بالنسبة إلیه سیّین- إمّا لعدم تحقّق شرط التکلیف، أو المکلّف به، أو لعصیانه، أو لأنّه ممّن یعلم بأنّه یأتی بمتعلّق الطلب جزماً، من دون أن یتوجّه إلیه الطلب- فلا یکاد یکون بعثه بداعی الانبعاث.

و بالجملة: لا یکاد یستریب عاقل فی عدم انقداح مبادئ الإرادة الآمریة فی تلک الموارد؛ لأنّ البعث بداعی الانبعاث؛ ففی مورد یعلم بعدم الانبعاث- و لو عصیاناً- لا یکاد یصدر من المولی الملتفت بعث لذلک، و هل تری من نفسک أن تبعث الجماد نحو شی ء؟! حاشاک!! و سرّه: عدم صلاحیته للانبعاث، و هذا الأمر موجود فی تلک الموارد. نعم، یمکن أن یبعث صوریاً، و لکنّه خارج عن محطّ البحث، و لعمر الحقّ: إنّ ما ذکرناه بمکان من الوضوح، لا یحتاج أن یحام حوله أزید ممّا ذکرناه.

هذا کلّه فی الخطابات و الأوامر الشخصیة.

و أمّا الخطابات و الأحکام الکلّیة القانونیة- إلهیة کانت أو عرفیة- فلها شأن آخر غیر ما ذکرناه؛ لأنّه کما أشرنا غیر مرّة لا یحتاج فیها إلی ملاحظة حالات کلّ فردٍ فردٍ للخطاب و البعث إلیهم، و غایة ما یعتبر فیها هی انبعاث طائفة منهم المختلطین فی الأعصار و الأمصار بها، و لو لوحظت حالات جمیع الأفراد فی توجّه الخطاب

ص: 401

و الحکم إلیهم یلزم خروج طوائف من الناس عن دائرة التکلیف، مع أنّ الضرورة قاضیة بتعلّق التکلیف بهم، فعلی هذا یصحّ الخطاب القانونی إلی المجتمع البشری مع انتفاء الشرط بالنسبة إلی جماعة و طائفة منهم. ففریضة الصلاة- مثلًا- توجّهت إلی جمیع المکلّفین حکماً فعلیاً- حتّی بالنسبة إلی من نام أو غفل من أوّل الزوال إلی المغرب مثلًا- و إن لم یکد یمکن توجّه الخطاب الشخصی بخصوصه و شخصه إلیه.

و لا یذهب علیک: أنّ ما ذکرنا لم یکن فی الحقیقة من باب أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه القانونی؛ لأنّ ذلک إنّما یکون فیما إذا علم بعدم انبعاث أحد من المکلّفین فی الأعصار و الأمصار بالخطاب، لا فیما فرضناه من عدم انبعاث طائفة منهم.

و السرّ فی التفرقة بین الخطابات القانونیة و الخطابات الشخصیة، هو أنّ الخطاب القانونی خطاب واحد غیر منحلّ إلی خطابات عدیدة بعدد آحاد المکلّفین، کما کان ینحلّ فی الخطابات الشخصیة، و إلّا فتکون جاریة مجراها أیضاً، بل هو خطاب واحد إلی الجمیع، و هو بوحدته حجّة علی الجمیع، و یدعو بوحدته عامّة المکلّفین من الأوّلین و الآخرین.

و لیس معنی کون التکلیف مشترکاً بین العالم و الجاهل، و القادر و العاجز، إلی غیر ذلک، أنّ لکلّ فردٍ خطاباً یخصّه، بل معناه: أنّه جعل الحکم علی عنوان «المستطیع» أو عنوان «المکلّف» أو غیر ذلک بإرادة واحدة؛ و هی إرادة التقنین و التشریع، لا إرادة صدور الفعل من المکلّفین؛ لما تقدّم من امتناع تعلّق الإرادة بفعل الغیر، و إرادة التشریع تصیر حجّة علی عامّة المکلّفین أینما کانوا و متی وجدوا.

و الملاک فی صحّة التشریع هو إمکان انبعاث عدّة من المکلّفین المختلطین فی الأعصار و الأمصار من الأوّلین و الآخرین، لا احتمال انبعاث کلّ واحدٍ واحدٍ منهم، و لعلّ ما ذکرنا واضح لمن استوضح المقام من القوانین العرفیة.

ص: 402

تنبیه: فی سرّ تکلیف الکفّار و العصاة بالفروع

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا حان وقت التنبیه علی ما علیه الإمامیة من کون الکفّار مکلّفین بالفروع، کما هم مکلّفون بالأُصول؛ ضرورة أنّ فعلیة الخطاب القانونی و کونه حجّة علی الجمیع لا تتوقّف علی انبعاث کلّ واحد من آحاد المکلّفین، و إنّما یتوقّف علی إحراز انبعاث طوائف منهم مختلطین فی الأعصار و الأمصار من الأوّلین و الآخرین.

و ظهر لک وجه کون العصاة و الذی یأتی بالمتعلّق أو یترکه- بلا تأثر من تکلیف الشارع- مکلّفین بلا استثناء؛ لما أشرنا إلیه من أنّ الخطاب لیس متوجّهاً إلی خصوص العصاة و غیرهم، بل إلی عنوان ینطبق علیهم.

ص: 403

الفصل السابع فی أنّ الأوامر و النواهی هل تتعلّق بالطبائع أو الأفراد

اشارة

الفصل السابع فی أنّ الأوامر و النواهی هل تتعلّق بالطبائع أو الأفراد(1)

اضطربت کلمات الأعلام فی تحریر محطّ البحث:

فیظهر من بعضهم: أنّ المسألة لغویة، و أنّ النزاع فی مدلول مادّتی الأمر و النهی بقرینة تشبّثه فی ذلک بالتبادر- کما تشبّث فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب أو الندب به- فیقال: إنّ لصیغة الأمر مادّة و هیئة، و الهیئة وضعت لإیقاع البعث تشریعاً، و المتبادر من المادّة، الطبیعة اللابشرط.

یظهر ذلک من صدر کلام صاحب «الفصول» قدس سره حیث تشبّث لکون المأمور به الطبیعة لا الفرد بالتبادر، و إجماع السکّاکی علی أنّ المصدر المجرّد عن اللام و التنوین موضوع للطبیعة اللابشرط(2)

. و لکن یظهر من دلیل القائل بکونها موضوعة للفرد، کون المسألة عقلیة لا لغویة؛ لأنّه استدلّ لذلک بأنّ الطبیعة من حیث هی تمتنع وجودها فی الخارج؛


1- تأریخ الشروع بعد العطلة الصیفیة یوم الثلاثاء 5/ ع 2/ من سنة 1380 ه. ق.
2- الفصول الغرویة: 107/ السطر 35.

ص: 404

لما تقرّر فی محلّه من امتناع وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج، فیمتنع تعلّق التکلیف به؛ فیتعیّن أن یکون المطلوب و متعلّق الأمر الفرد(1)

. و یظهر من بعضهم ابتناء المسألة علی أنّ هیئة الأمر موضوعة شرعاً للبعث و الإغراء إلی نفس الطبیعة، أو إیجادها؛ فعلی الأوّل لا بدّ من القول بتعلّقها بالطبیعة، و علی الثانی لا بدّ من القول بتعلّقها بالفرد.

و ربّما یظهر من بعض آخر- کالمحقّقین الخراسانی و الأصفهانی 0- کون المسألة عقلیة فلسفیة، حیث بنوا ذلک علی مسألة أصالة الوجود أو الماهیة؛ فإن قیل بأصالة الوجود فمتعلّق الأمر وجود الطبیعة، و إن قیل بکون الماهیة أصیلة فهی متعلّقة للأمر(2)

. کما یظهر من آخرین ابتناء المسألة علی مسألة عقلیة اخری؛ و هی وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج و عدمه؛ فإن قیل بوجوده فی الخارج فیکون متعلّق الأمر أو النهی الطبیعة، و إلّا یکون متعلّقهما الفرد من الطبیعة(3)

. ثمّ اختلفوا فی المراد بالفرد؛ فربّما یظهر من بعضهم(4): أنّ المراد بالفرد، الفرد الخارجی الذی یکون منشأ انتزاع الصورة الذهنیة، فالمراد بالطبیعة لدیه، الطبیعة من حیث هی هی مع قطع النظر عن الوجودین.

و نفی ذلک بعضهم مدّعیاً: أنّ مقتضی القول بذلک کون الطلب بما یکون


1- انظر قوانین الاصول 1: 121/ السطر 23، الفصول الغرویة: 107/ السطر الأخیر.
2- کفایة الاصول: 172، نهایة الدرایة 2: 255- 257.
3- أجود التقریرات 1: 210.
4- الفصول الغرویة: 109/ السطر 8.

ص: 405

حاصلًا، فیبعد أن ینازعوا فی أمر یکون أحد شقّیه بدیهی البطلان(1)؛ و لذا قال بعضهم- کالمحقّق الخراسانی قدس سره- إنّ المراد بالفرد، الوجود المخصوص(2)

. و الذی یقتضیه التأمّل هو: أنّ المسألة أجنبیة عمّا ذکروه، و ما قالوه انحراف للمسألة عن مسیرها؛ و ذلک لأنّ مقتضی ما ذکره صاحب «الفصول» قدس سره هو إعادة البحث من غیر فائدة؛ لأنّه تقدّم منه مستقصی فی طیّ مباحث المشتقّ ما یتعلّق بذلک، فإعادته هنا غیر سدید، فلا ینبغی استناد النزاع فیه هنا إلی ذلک، مضافاً إلی ما ذکروه و عنونوه هنا.

و کذا ابتناء المسألة علی کون الموضوع له فی هیئة الأمر- أنّها موضوعة للبعث و الإغراء شرعاً إلی نفس الطبیعة أو إیجادها- لا وجه له؛ لأنّ موضوع البحث فی المسائل الاصولیة لیس هو خصوص الأوامر و النواهی الشرعیین، بل الأعمّ منها و ممّا تصدر من الموالی العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم و غلمانهم.

نعم، لو استقرّ الرأی علی أحد شقّی المسألة فیستفاد منه فیما یتعلّق بالشریعة، مثلًا: یبحث فی الاصول عن الملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها، و أنّ الأمر بشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟ إلی غیر ذلک من المسائل، فإن استفیدت الملازمة أو اقتضاء الأمر للنهی عن ضدّه فینفع فی الشریعة.

و من تلک المسائل هذه المسألة؛ فالبحث فی کون متعلّق الأوامر و النواهی الطبیعة أو الفرد، لم یکن منحصراً فی خصوص الأوامر و النواهی الشرعیة، بل یعمّ مطلق الأوامر و النواهی الصادرة من أیّ شخص لأیّ شی ء، سواءً کانت صادرة علی


1- الفصول الغرویة: 109/ السطر 9، أجود التقریرات 1: 210.
2- کفایة الاصول: 171.

ص: 406

نحو التقنین و التشریع أم لا، من غیر فرق فیما صدر علی نحو التقنین بین القوانین الإلهیة و القوانین العرفیة.

و بالجملة: محطّ البحث فی الأوامر و النواهی الصادرة من کلّ أحد فی کلّ یوم و لیلة من الأعرابی و العامّی و الفقیه و الفیلسوف و سائر طبقات الناس، إلی أیّ مأمور لذلک.

فبعد ما تمهّد لک، سعة نطاق البحث، یظهر لک أنّ ابتناء البحث علی مسألة أصالة الوجود أو الماهیة غیر وجیه و خروج عن محطّ البحث؛ بداهة أنّ غالب الأوامر و النواهی الصادرة من العرف و العقلاء فی کلّ یومٍ و لیلة، بل الأوامر و النواهی الواردة فی الشریعة المقدّسة- التی هی الغایة القصوی من البحث فی أمثال هذه المسائل- إنّما تعلّقت و تتعلّق بأشیاء لا تأصّل لها فی الخارج، بل بأُمور اعتباریة- أعنی الماهیات المخترعة- کالصلاة مثلًا؛ فإنّها ماهیة اعتباریة اختراعیة مرکّبة من عدّة امور و مقولات متکثّرة، و لها وحدة فی عالم الاعتبار غیر متحقّق فی الخارج إلّا اعتباراً؛ ضرورة أنّ کلّ واحد من التکبیر و القراءة و الرکوع و السجود و غیرها وجودات متکثّرة، و لم تکن الصلاة عبارة عن کلّ واحد منها، بل هی المجموع منها، و واضح: أنّه لا یکون لها تحقّق و وجود فی الخارج حتّی یکون مصداقاً للکلّی الطبیعی، فما یکون مصداقاً لها هو الواحد الاعتباری.

و من الواضح: أنّ الماهیات الاعتباریة الکذائیة خارجة عن نزاع القائلین بأصالة الوجود أو الماهیة؛ لوضوح أنّ معقد بحثهم إنّما هو فی الماهیات الأصلیة، و أمّا الماهیات الاعتباریة الاختراعیة فجمیع الفلاسفة متّفقون علی عدم تحقّق لها فی الخارج؛ لا لماهیّاتها، و لا لوجودها. و إن أبیت عن ذلک و تری أنّه لم یکن البحث مخصوصاً بالماهیات الاعتباریة، و لا أقلّ یکون أعمّ منها، فابتناء المسألة

ص: 407

علی أصالة الوجود أو الماهیة غیر وجیه، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّ البحث- کما أشرنا- فی أمر عقلائی فی الأوامر العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم و غلمانهم، لا خصوص الأوامر الصادرة من مثل شیخ الرئیس و صدر المتألّهین و من یحذو حذوهما. و من المعلوم بدیهةً: أنّ العلماء- إلّا الخواصّ و الأوحدی منهم- فضلًا عن غیرهم الذین هم أکثر الناس لا یکادون یفهمون أصالة الوجود أو الماهیة، و إن کنت فی شکّ فاختبرهم! فتحصّل أنّ ابتناء المسألة علی أمر لا یکاد یفهمه الآمرون و المأمورون، لعلّه ممّا یضحک منه الثکلی.

و ثالثاً: أنّ مقتضی ذلک هو لزوم عرفان المأمور بمذهب مخاطبه- بالکسر- من حیث أصالة الماهیة أو الوجود؛ فإن زعم أنّه یری مذهب الشیخ الرئیس بأصالة الماهیة فیحمل علی کون المتعلّق نفس الطبیعة، و إن اعتقد أنّه علی مذهب صدر المتألّهین من کون التأصّل للوجود فیحمل علی کون المتعلّق الفرد من الطبیعی، فإن شکّ فی مذهبه فلا بدّ و أن یتردّد و لا یفهم المراد من الأمر أو النهی الملقی إلیه، و هو کما تری ینکره کلّ من له إلمام بفهم المطالب العرفیة.

و من هنا یظهر لک: أنّ ابتناء المسألة علی مسألة عقلیة اخری- و هی وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج و عدمه- أیضاً، غیر وجیه؛ لأنّ ذلک إنّما هو فی الماهیات الأصیلة، لا الماهیات الاعتباریة الاختراعیة التی هی محطّ نظر الاصولی، فالکلّ متّفقون علی عدم وجودها فی الخارج؛ حتّی الرجل الهمدانی القائل بوجود الکلّی الطبیعی فی الخارج(1).


1- راجع رسالة بعض الأفاضل إلی علماء مدینة السلام، ضمن رسائل ابن سینا 1: 463، الحکمة المتعالیة 1: 273- 274، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 99.

ص: 408

و ذلک لما أشرنا إلیه آنفاً: من أنّ الماهیات الاختراعیة بما أنّها غیر مندرجة تحت مقولةٍ واحدة غیر موجودة فی الخارج؛ و بما أنّها لا یکون لمجموعها وجود حقیقی حتّی یکون مصداقاً للکلّی الطبیعی فلا تکون أفرادها أیضاً متحقّقة فی الخارج.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فلا بدّ من عقد محطّ البحث بنحو یکون البحث فیه عقلائیاً یصحّ تمشّی النزاع من الأعلام و أساتذة الفنّ فیه، من دون لزوم اللغویة.

و لتبیین ذلک ینبغی ذکر مقدّمة؛ و هی: أنّه- کما أشرنا فی أقسام الوضع، و فی وضع الحروف- أنّه یمکن أن یتصوّر فی وضع الحروف کون الوضع فیها عامّاً و الموضوع له خاصّاً بأحد نحوین:

الأوّل: أن تلاحظ الماهیة اللابشرط القابلة للصدق علی الأفراد، لکن یوضع اللفظ لما یکون مصداقاً حقیقیاً لتلک الطبیعة، مثلًا: یتصوّر عنوان «العالم»، و حیث إنّه بحسب وجوده الخارجی یتّحد مع عناوین اخر تخالفه- فإنّ الرجل العالم من حیث إنّه بحسب وجوده الخارجی ذو جسم یکون مصداقاً لعنوان الجسم، و من حیث کونه ذا لون یکون مصداقاً لعنوان اللون، و من حیث کونه ذا حیاة و نطق یکون مصداقاً للإنسان، و هکذا ...- فالعالم الخارجی یکون مجمعاً لعناوین کثیرة، و لکن حیثیة کونه عالماً غیر تلک الحیثیات، فیوضع لفظ «العالم» لما یکون مصداقاً ذاتیاً لعنوان العالم.

الثانی: أن یلاحظ الماهیة اللابشرط القابلة للصدق علی الأفراد، و لکن یوضع اللفظ لما یکون مصداقاً لها بجمیع خصوصیاتها اللاحقة لها و المنضمّة إلیها فی الخارج.

و قد سبق: أنّ المختار فی کون وضع الحروف عامّاً و الموضوع له خاصّاً إنّما هو النحو الأوّل، فنقول هنا: إنّ الأمر فی المقام أیضاً کذلک.

ص: 409

و ذلک لأنّ الصلاة- مثلًا- لها حیثیة ذاتیة اعتباریة؛ و هی التی أوّلها التکبیر، و آخرها التسلیم، مستجمعاً لجمیع الأجزاء و الشرائط، فاقدة للموانع، من دون أن تکون للخصوصیات الزمانیة و المکانیة و غیرها دخالة فیها أصلًا.

فالقائل بتعلّق الأمر بالطبیعة یری أنّ نفس طبیعة الصلاة من حیث هی متعلّقة للأمر، و القائل بتعلّقه بالفرد یری تعلّق الأمر بما یکون مصداقاً ذاتیاً لها علی نحو الإجمال، و من الواضح: أنّه کما یمکن تصوّر نفس طبیعة الصلاة، فکذلک یمکن تصوّر ما یکون مصداقاً ذاتیاً لها علی نحو الإجمال.

و لعلّه ظهر لک ممّا ذکرنا وجه عدم الوضع بالنحو الثانی- بأن لاحظ نفس طبیعة الصلاة مثلًا، فوضع لفظة «الصلاة» لما یکون مصداقاً لها حافّة بالخصوصیات اللاحقة و المنضمّة إلیها- و ذلک لبعد أن تنازع العلماء و الأساطین فیما لا یکون دخیلًا فی المقصود و الغرض.

و بالجملة: لو رجع نزاع القائلین بتعلّق الأمر بالفرد فی قبال القائلین بتعلّقه بالطبیعة، إلی ما ذکرنا- من أنّه یتصوّر الآمر ماهیة الصلاة مثلًا، و حیث إنّ لها مصادیق ذاتیة متّحدة مع خصوصیات اخر غیر دخیلة فی تحصیل الغرض و المطلوب، فیلاحظها إجمالًا و یأمر بها- لکان النزاع فی أمر معقول فی الجملة، و لم یکن واضح الفساد و تحصیلًا للحاصل، کما یتراءی من کلمات القوم، فالقائل بتعلّق الأمر بالفرد یری تعلّقه بالمصداق الذاتی للطبیعة، لا الموجود منها حتّی تکون محالًا و تحصیلًا للحاصل، و لا بما أنّها المخلوطة فی الذهن- و إن کانت موجودة فیه- و من المعلوم: أنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالًا قبل وجودها، کما أنّ نفس الطبیعة قابلة للتصوّر کذلک، فتدبّر.

ص: 410

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فی المراد بتعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد فنقول: الحقّ کون متعلّق الأمر نفس الطبیعة(1)، لا الفرد منها؛ و ذلک لأنّه لا إشکال فی أنّ الآمر العاقل الملتفت قبل أمره و بعثه إلی أمر لا بدّ له من أن یتصوّر المتعلّق بجمیع ما یکون محصّلًا لغرضه، فإن کانت نفس الطبیعة من حیث هی محصّلة لغرضه فیبعث نحوها فقط، و لکن إذا کانت للخصوصیات دخالة فی تحصیل غرضه فلا بدّ و أن یبعث إلیها مستجمعة للخصوصیات، و لا تکاد تتعلّق إرادته بنفس الطبیعة.

و بالجملة: لا یکاد یبعث المولی الملتفت إلی غیر ما یراه واجداً للمصلحة؛ لا أزید منه و لا أنقص، بل البعث إلیهما مساوق للبعث إلی أمر لم یکن فیه صلاح.

فإذن: الخصوصیات المتوهّمة دخالتها فی متعلّق الأمر، إن ارید بها خصوصیات مثل الشرط و الجزء و عدم المانع، بحیث لم تکن نفس الطبیعة من حیث هی بدون الشرط و الجزء و عدم المانع محصّلة لغرضه، فواضح أنّ القائلین بکون المتعلّق نفس الطبیعة یرون ذلک أیضاً؛ بداهة أنّهم لم یریدوا بالطبیعة، الطبیعة الفاقدة للخصوصیات الدخیلة فی الغرض.

و أمّا إن ارید بها الخصوصیات الفردیة غیر الدخیلة فی تحصیل الغرض، فلا یکاد یتعلّق الأمر بها؛ لأنّ البعث تابع للإرادة، و هی تابعة للأغراض و المصالح فی المتعلّق، و واضح: أنّه لم تکن للخصوصیات الفردیة دخالة فی تحصیل الغرض، فلا یکاد یتعلّق الأمر بها؛ بداهة أنّ تعلّقه بشی ء لم یکن دخیلًا فی الصلاح ممتنع.

و لیعلم: أنّه لا فرق فیما ذکرنا بین القول بأصالة الماهیة أو أصالة الوجود فی


1- قلت: فإذا وضح لک الأمر فی متعلّق الأمر یسهل لک الأمر فی متعلّق النواهی؛ لکونهما یرتضعان من ثدی واحد.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 411

الماهیات الأصلیة؛ لأنّ کلًاّ من الطائفتین یری أنّ الآمر یبعث نحو الطبیعة و یرید إیجادها، و أمّا نفس الطبیعة بدون الوجود فلا تکون منشأ للأثر عند جمیعهم؛ حتّی القائلین بأصالة الماهیة، فتدبّر.

دفع توهّم عدم کون نفس الطبیعة متعلّقة للأمر

ظهر لک ممّا ذکرنا: أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة- من حیث هی- یراد إیجادها فی الخارج، و لکن یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره: أنّها من حیث هی هی لم یکن متعلّقة للأمر، بل الطبیعة بوجودها السعی بما هو وجودها- قبالًا لخصوص الوجود- متعلّقة للأمر، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیة؛ قبالًا لوجودها المخصوص(1)

. و یظهر من المحقّق العراقی قدس سره: أنّ معروض الطلب و متعلّقه الطبیعة بما هی مرآة للخارج و یری بها عین الخارج باللحاظ التصوّری، مع العلم و التصدیق بخلافه؛ لما یری أنّها غیر موجودة فی الخارج(2)

. و قریب من ذلک ما یظهر من شیخنا العلّامة الحائری قدس سره؛ فإنّه کان یقول فی مجلس الدرس مکرّراً: إنّ متعلّق الأمر «طبیعت خارج دیده». و منشأ هذه الأقوال منهم زعمهم- و قد صرّحوا بذلک أیضاً- أنّ الماهیة من حیث هی لیست إلّا هی، لا مطلوبة و لا مبغوضة، و لا متعلّقة للأمر أو النهی، و لذا ذهب المحقّق الخراسانی قدس سره إلی أنّ الماهیة بوجودها السعی متعلّقة للأمر، کما ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی أنّها بما هی


1- کفایة الاصول: 171.
2- بدائع الأفکار 1: 204، نهایة الأفکار 1: 380.

ص: 412

مرآة للخارج متعلّقة للطلب، و نحوه ما ذهب إلیه شیخنا العلّامة، فلا بدّ أوّلًا من ملاحظة الوجدان فی متعلّقات الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة إلی عبیدهم و غلمانهم، ثمّ ملاحظة حکم العقل و البرهان المدّعی علی خلاف ما علیه العقلاء، فالکلام یقع فی موردین:

المورد الأوّل: فیما یقتضیه الوجدان، لا یخفی: أنّه لو خلّینا و أنفسنا عن المطالب العقلیة، و لاحظنا الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة إلی عبیدهم و غلمانهم، نری أنّ المولی قبل الأمر و البعث یلاحظ الماهیة المأمور بها أوّلًا، ثمّ یبعث نحوها، و إلّا یلزم تعلّق الأمر و البعث بالمجهول المطلق.

و من الواضح: أنّ لقوله: «أکرم العالم» مثلًا مادّة و هیئة، و المتبادر من المادّة- کما یقتضیه تصریح أهل اللغة أیضاً- هی نفس الطبیعة، و الهیئة وضعت للبعث إلیها اعتباراً، نظیر إشارة الأخرس.

فالهیئة إنّما تدعو إلی نفس الطبیعة، فدعوتها إلی الخصوصیات الفردیة إمّا تکون إلزامیة قهریة، أو اختیاریة إرادیة.

لا سبیل إلی الأوّل- کما هو واضح- فلا بدّ و أن تکون دعوتها باختیار و استشعار؛ فلا بدّ و أن یلاحظها الآمر، و المفروض أنّه لم یلحظ الآمر إلّا نفس الطبیعة التی تکون محصّلة للغرض، دون الخصوصیات الفردیة غیر الدخیلة فی الغرض.

و حدیث نشوء إرادة الخصوصیات من الإرادة المتعلّقة بنفس الطبیعة ممّا لا أساس له، کما تقدّم.

نعم، یمکن أن یقال: إنّ الآمر عند لحاظه نفس الطبیعة ینتقل ذهنه إلی الخصوصیات- إمّا تفصیلًا أو إجمالًا- فیبعث نحوها، نظیر وضع العامّ و الموضوع له الخاصّ.

ص: 413

و لکنّه خلاف المتبادر من الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم و أولادهم، بل خلاف الوجدان و الضرورة؛ بداهة أنّه لا ینقدح عند الأمر بالطبیعة خصوصیات المصادیق، بل ربّما تکون المصادیق عند الآمر مغفولة عنها.

فظهر: أنّ الذی یقتضیه الوجدان- کما علیه العرف و العقلاء فی الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة- هو أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة، من دون لحاظ الخصوصیات، فلا بدّ من ملاحظة البرهان المدّعی فی المقام علی خلاف ما علیه ارتکاز العقلاء و وجدانهم.

فحان وقت التنبّه علی المورد الثانی- و هو قول الحکماء: «إنّ الماهیة من حیث هی لیست إلّا هی»(1)- فنقول: لیس مرادهم ما زعموه من أنّ الماهیة من حیث هی لیست بموجودة و لا معدومة، و لا محبوبة و لا مطلوبة، إلی غیر ذلک، بل مرادهم: أنّ الماهیة فی مرتبة ذاتها لیست إلّا ذاتها و ذاتیاتها، بحیث یسلب عنها جمیع الخصوصیات الخارجیة عنها؛ و لذا یقولون: إنّ التناقض منتفٍ عن المرتبة(2)

. فالطبیعة و الماهیة فی مرتبة ذاتها لیست إلّا نفسها و أجزاءها، فالوجود و العدم، و الحبّ و البغض، و الطلب و الإرادة، و غیرها من اللواحق تسلب عن مرتبة ذات الطبیعة و ذاتیاتها، و لم تکن نفسها و لا جزء منها، بل الطبیعة فی مرتبة ذاتها خالیة عن تلک القیود و اللواحق برمّتها.

و لکن لا ینافی ذلک عروض الوجود و العدم، و تعلّق الأمر بها أو النهی عنها؛ بداهة أنّ القائل بلحوق الأمر و الطلب و عروضه علی الطبیعة لا یرید إثبات


1- راجع الحکمة المتعالیة 2: 4- 8، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 93- 95.
2- راجع الحکمة المتعالیة 2: 4- 5، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 93.

ص: 414

أنّ المطلوبیة لنفس الطبیعة أو جزء منها، فللآمر أن یتصوّر الطبیعة و یصدّق بفائدتها و یریدها، ثمّ یبعث نحوها، و یفهم العرف من البعث إلیها إیجادها خارجاً؛ لوضوح أنّ الطبیعة قبل وجودها خارجاً لیست طبیعة و ماهیة، بل لیست هناک إلّا مجرّد تصوّر و تخیّل، فلا تکون مطلوبة و لا متعلّقة للبعث، کما أنّ الموجود الخارجی أیضاً کذلک لا یتعلّق به الطلب؛ لأنّ الخارج ظرف السقوط، لا ظرف الثبوت، فالموضوع للأثر و إن کان هو الموجود الخارجی، لکنّه غیر مطلوب؛ لکون الخارجی بما هو کذلک غیر قابل للتعقّل، و أمّا الوجود الذهنی فلم یکن مطلوباً أیضاً؛ لعدم تعلّق الغرض به، کما لا یخفی.

و بالجملة: المطلوب الحقیقی و المنشإ للأثر غیر موجود فی الذهن، و ما یتعلّق به الإرادة و الأمر- و هو الوجود الذهنی- غیر مطلوب حقیقة، فیجعل غیر المطلوب قنطرة و وسیلة لمطلوبه النفسی، فیبعث نحو الطبیعة؛ فیفهم العرف من ذلک لزوم تحصیلها و إیجادها، فتدبّر.

و بما ذکرنا یظهر: أنّ ما ربّما یقال: إنّ ما تقوم به المصلحة و یترتّب علیه الأثر هو المطلوب و متعلّق الأمر(1)، غیر صحیح، بل محال أن یکون القائم به المصلحة مأموراً به؛ بداهة أنّ ما یترتّب علیه الأثر، الموجود الخارجی، و الموجود فی الذهن لم یکن کذلک، نعم، یلاحظ المولی أنّ الأثر یترتّب علی الموجود الخارجی، و حیث إنّه لا یعقل الأمر به بعد وجوده فیتصوّر نفس الطبیعة و یبعث بالطلب نحوها و یرید إیجادها خارجاً.

فتحصّل: أنّ البحث عقلائی؛ فلا بدّ من ملاحظة دیدن العقلاء و بنائهم فی


1- نهایة الأفکار 1: 382.

ص: 415

أوامرهم و نواهیهم علیه، و لو تأمّلت حالهم تراهم إذا أدرکوا أنّ ماهیة من حیث هی فیها مصلحة إمّا مجرّدة، أو هی مع الخصوصیات- من الشرط و عدم المانع و نحوهما- فیلاحظوها علی ما هی علیها محصّلة للغرض، و حیث یرون أنّ الماهیة بوجودها الخارجی محصّلة لغرضهم یبعثون بالهیئة نحوها یریدون إیجادها، و من الواضح: أنّ ما یتعلّق الأمر به غیر منشأ للأثر، و لکن حیث یمکن أن یتوسّلوا بمطلوبهم بهذا النحو فیوجّهون الطلب نحوها یریدون تحقّقها و إیجادها، فما یترتّب علیه الأثر هو الذی یوجده المکلّف فی الخارج؛ سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهیة.

فبعد ما ظهر لک أنّ قولهم: «إنّ الماهیة من حیث هی لیست إلّا هی» أجنبی عمّا نحن فیه؛ لصحّة لحوق کثیرٍ من الأشیاء بها، و عرفت: أنّ متعلّق الأمر و الطلب غیر ما هو المحصِّل للغرض و ما قام به المصلحة؛ بداهة أنّ الواجد لهما هو الموجود الخارجی الذی یوجده المکلّف.

فإذن نقول: لا وجه لرفع الید عمّا هو المرتکز فی أذهان العرف و العقلاء، فلا معنی لأن یقال: إنّه إذا قال المولی لعبده «اسقنی الماء»، فمعناه: أوجد وجود الماء، بل غایة ما یفهم منه هی إتیان الماء خارجاً، و معنی إتیانه خارجاً هو إیجادها، و کم فرق بین دلالة البعث و الأمر علی شی ء، و بین کونه لازماً للبعث و الأمر عرفاً؟!

و الذی أوقع الأعلام فیما وقعوا، و ارتکبوا خلاف ما هو المرتکز فی أذهان العرف و العقلاء، و قال بعضهم بأنّ المراد بالماهیة المطلوبة وجودها السعی، کما قال آخر: إنّ المراد أنّ الماهیة- بما هی هی- مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع العلم بخلافه، و کما قال ثالث: بأنّ المراد الماهیة التی رأت الخارج (ماهیت خارج دیده).

إنّما هو لمحذور عقلی توهّموه، فبعد ما عرفت عدم کونه محذوراً فی المسألة فسهل لک التصدیق بما علیه ارتکاز العرف و العقلاء.

ص: 416

کما أنّ ما ربّما یظهر من «الفصول» وافقه المحقّق الخراسانی قدس سره فی «کفایة الاصول» من أنّ البعث طلب الوجود(1)، رفع للید عمّا هو الظاهر من الهیئة، حیث إنّها نظیر إشارة الأخرس للبعث إلی المادّة بلحاظ القول بأصالة الوجود، و قد أشرنا أنّه رکن غیر وثیق فیما هو المهمّ فی المسألة.

فظهر بما ذکرنا أیضاً ضعف ما یستفاد من المحقّق العراقی، و وافقه شیخنا العلّامة الحائری 0(2) من أنّ لحاظ الطبیعة یتصوّر علی وجوه:

منها: لحاظها بما هی موجودة فی الذهن.

و منها: لحاظها بما هی شی ء فی حدّ ذاتها، مع قطع النظر عن وجودها الذهنی أو الخارجی.

و منها: لحاظها بما هی مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع العلم بخلافه؛ لما یری أنّها غیر موجودة فی الخارج.

و من الواضح: أنّه لیس مراد القائل بکون متعلّق الأمر الطبیعة، الطبیعة من حیث هی؛ لوضوح أنّها لیست إلّا هی، فلا تکون موردة للمصلحة، و لا الطبیعة بما هی موجودة فی الذهن؛ لوضوح أنّها بهذا الاعتبار مع کونها کلّیاً عقلیاً غیر قابل للصدق علی الخارج، بل المراد الطبیعة بما هی مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع القطع بخلافه بالنظر التصدیقی(3)، انتهی محصّلًا.

و کان یعبّر شیخنا العلّامة عن هذا المعنی فی مجلس الدرس ب «ماهیت خارج دیده».


1- الفصول الغرویة: 107/ السطر 35، کفایة الاصول: 172.
2- درر الفوائد، المحقق الحائری: 148- 151.
3- بدائع الأفکار: 404، نهایة الأفکار 1: 380.

ص: 417

ولیت شعری ما الداعی إلی تصوّر الآمر الطبیعة مرآةً للخارج مع القطع بخلافه، کما یراه المحقّق العراقی؟!

و أسوأ منه ما ذکره شیخنا العلّامة- ماهیت خارج دیده- فإنّه قدس سره لو لم ینضمّ إلیه القطع بالخلاف- کما صرّح به المحقّق العراقی- فلازمه: أنّه تری الصلاة الخارجی، فنقول: إذا رؤیت الصلاة الخارجی- مثلًا- فی قوله: «صلّ»، و حیث إنّ العنوان فانٍ فی المعنون، فلا معنی للبعث نحوها؛ لاستلزامه إیجاد ما هو موجود، فتدبّر.

ذکر و تعقیب

قال المحقّق الأصفهانی قدس سره: التحقیق یقتضی کون متعلّق الأمر الفرد بمعنی وجود الطبیعة، فأوضحه بأنّ طبیعة الشوق من الطبائع التی لا تتعلّق إلّا بما له جهة وجدان وجهة فقدان؛ إذ لو کانت موجودة من کلّ جهة کان طلبها تحصیلًا للحاصل، و لو کانت مفقودة من کلّ جهة لم یکن طرف یتقوّم به الشوق؛ لأنّه- کالعلم من الصفات ذات الإضافة- لا یتشخّص إلّا بمتعلّقه، بخلاف ما لو کان موجوداً من حیث حضوره للنفس مفقوداً من حیث وجوده الخارجی، فالعقل یلاحظ الموجود الخارجی؛ فإنّ له قوّة ملاحظة الشی ء بالحمل الشائع، کما له ملاحظة الشی ء بالحمل الأوّلی؛ فیشتاق إلیه، فالموجود بالفرض و التقدیر مقوّم للشوق، لا بما هو هو، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود الحقیقی، و الشوق یوجب خروجه من حدّ الفرض و التقدیر إلی الفعلیة و التحقّق، و هذا معنی تعلّق الشوق بوجود الطبیعة، لا کتعلّق البیاض بالجسم ... إلی آخر ما ذکره(1).


1- نهایة الدرایة 2: 256.

ص: 418

و فیه: أنّ هذا منه قدس سره عجیب؛ لعدم ارتباط الدلیل بمدّعاه و مطلوبه؛ بداهة أنّ مجرّد کون متعلّق الشوق لا بدّ و أن یکون أمراً موجوداً من جهةٍ و معدوماً من جهةٍ اخری، لا یثبت کون المتعلّق الفرد؛ ضرورة أنّ القائل بتعلّق الأمر بالطبیعة لا یری تعلّقه بالطبیعة المعدومة من کلّ جهة، بل یری الطبیعة المتصوّرة، و من الواضح: أنّ البعث نحو المادّة لیس إلّا بعثاً نحو الطبیعة، و مجرّد إمکان تصوّر الشی ء بالحمل الأوّلی أو الحمل الشائع لا یثبت کون الواقع بحسب التصدیق کذلک، فافهم.

استئناف الکلام لتعلّق الأمر بالطبیعة و عدم تعلّقه بالأفراد و الحصص

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره بعد البناء علی أنّ الأمر متعلّق بالطبیعة بما أنّها مرآة للخارج، استأنف فصلًا و تصدّی لبیان أنّه بعد تعلّق الأمر بالعنوان هل یسری الأمر بالطبیعة و صرف وجودها إلی الخصوصیات الفردیة تبادلًا، بحیث تکون الأفراد بخصوصیاتها تحت الطلب، أم لا؟ و علی عدم السرایة إلیها فهل یسری إلی الحصص المقارنة للأفراد- کما فی الطبیعة الساریة- أم لا، بل الطلب و الأمر یقف علی نفس الطبیعی و القدر المشترک بین الحصص؟

و بالجملة: نظره قدس سره إلی أنّه إذا قال المولی: «اسقنی الماء» مثلًا فهل یرجع طلبه هذا إلی طلب مصداق من الماء علی نحو البدلیة، أم لا؟ و علی الثانی هل المطلوب الحصّة من الماء المقارنة للخصوصیة الفردیة، أم لا، بل تدلّ علی نفس طبیعة الماء؟

فاختار عدم السرایة؛ لا إلی الخصوصیات الفردیة، و لا إلی الحصص المقارنة، فأوضح مقصوده من الحصص أوّلًا، ثمّ استدلّ علیه، فقال: إنّ کلّ طبیعة

ص: 419

ذو أفراد یکون کلّ فرد منه مشتملًا علی مرتبة من الطبیعی غیر المرتبة التی یشتمل علیها الفرد الآخر، و من هنا تتصوّر للطبیعی حصص عدیدة حسب تعدّد الأفراد، کلّ حصّة منه تقارن خصوصیة المصداقیة، و یمتاز الأفراد بعضها عن بعض بالخصوصیات المصداقیة، مثلًا: الإنسانیة الموجودة فی ضمن زید بملاحظة تقارنها لخواصّه، غیر الإنسانیة الموجودة فی ضمن عمرو المقارنة لخواصّه، و هکذا، و لذا تتحقّق حصص من الإنسانیة: حصّة مقارنة لخواصّ زید، و حصّة مقارنة لخواصّ عمرو، و هکذا.

و لا ینافی ذلک اتّحاد تلک الحصص بحسب الذات و الحقیقة، و کون الجمیع مندرجة تحت جنس و فصل واحد من حیث صدق «حیوان ناطق» علی کلّ واحدة من الحصص. و هذا هو المراد من الکلمة الدارجة بین أهل الفن ب «إنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة الآباء إلی الأولاد، لا کنسبة أب واحد إلی الأولاد»(1)، أنّ مع کلّ فرد أباً من الطبیعی غیر الأب الذی یکون فی الآخر، و تکون الآباء مع اختلافها و تباینها فی المرتبة متّحدة ذاتاً و مندرجة تحت جنس واحد و فصل فارد متحقّق، و لا مانع من وجود الجهة المشترکة فی الحصص(2)

. ثمّ قال قدس سره: إنّ عدم سرایة الطلب إلی الحصص إنّما هو بالنسبة إلی الحیثیة التی بها تمتاز الحصص الفردیة بعضها عن البعض الآخر، المشترک معه فی الجنس و الفصل القریبین.

و أمّا بالنسبة إلی الحیثیة التی تشترک فیها هذه الحصص، و یکون بها قوام


1- الحکمة المتعالیة 2: 8، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 99.
2- قلت: یظهر ممّا ذکره عند الجواب عن إشکال یورده علی نفسه أنّ الجهة المشترکة عبارة عن الجهة الخارجیة.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 420

نوعیتها، فتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشارکة لها فی الجنس القریب(1)، فلا بأس بسرایة الطلب إلیها، بل لعلّه لا محیص عنه؛ لأنّ الحصص بالقیاس إلی تلک الحیثیة و اشتمالها علی مقوّمها العالی لیست إلّا عین الطبیعی و القدر المشترک، و معه لا وجه لخروجها عن المطلوبیة، کما لا یخفی.

فاستنتج قدس سره من ذلک: أنّ التخییر بین الحصص و الأفراد شرعی لا عقلی، خلافاً لما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی من کون التخییر عقلیاً.

فأورد علی نفسه: بأنّ الطلب حیث تعلّق بالعناوین و الصور الذهنیة لا بالمعنونات الخارجیة- کما هو المفروض- تستحیل سرایته إلی الحصص الفردیة؛ لأنّها تباین الطبیعی ذهناً، و إن کان کلّ من الحصص الفردیة و الطبیعی ملحوظاً بنحو المرآتیة للخارج.

فأجاب: بأنّ المدّعی هو تعلّق الطلب بالطبیعی بما هو مرآة للخارج، و لا ریب فی أنّ وجود الطبیعی فی الخارج لا یمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشترکة الجامعة بین الحصص، و المرئی بالطبیعی الملحوظ مرآة للخارج لیس إلّا تلک الجهة الجامعة بین الحصص،

و هذا مرادنا من سرایة الطلب من الطبیعی إلی حصصه، لکن التعبیر بها مسامحی؛ إذ بالنظر الدقّی یکون الطلب المتعلّق بالطبیعی الملحوظ مرآة للخارج


1- مثلًا: للإنسان حصص مقارنة للخصوصیات الفردیة، و تکون کلّ حصّة ملازمة لفرد منها تغایر الحصّة الملازمة للفرد الآخر بالخصوصیات الفردیة؛ فکما أنّ الحصّة من الإنسانیة الموجودة فی ضمن زید تغایر الحصّة الموجودة فی ضمن عمرو، کذلک تغایر الحصّة الموجودة فی ضمن الفرس المشترک معه فی الجنس القریب المتمیِّز عنه بالفصل القریب.[ المقرّر حفظه اللَّه].

ص: 421

متوجّهاً إلی تلک الجهة الجامعة بعینها(1)، انتهی محرّراً.

قلت: و لا یخفی أنّ ما ذکره قدس سره فی الحصص لا یخلو عن اندماج، و لعلّه یشیر إلی ما ینقل عنه تلامذته و کان معروفاً عندهم، و هو: أنّ للطبیعی حصصاً کثیرة بعدد الأفراد تتّحد معها، و تکون نسبة الحصص إلی الأفراد نسبة الآباء إلی الأبناء، و هناک شی ء آخر یکون جدّهم و أب الآباء، و هو القدر المشترک و الجهة الجامعة بین الحصص، و یکون لهذه الامور تحقّق و وجود فی الخارج، أی: یکون فی الخارج ثلاثة امور: الأفراد و الحصص و أب الآباء.

فالمحقّق العراقی قدس سره قد جمع بین مقالة الرجل الهمدانی- الذی صادفه شیخ الرئیس بمدینة همدان، القائل بأنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده کنسبة أب واحد بالنسبة إلی أولاده- و بین ما هو المعروف فی ردّه.

فقد تسلّم قدس سره مقالة الهمدانی و الإشکال علیها، و هو عجیب؛ فکأنّه لم یتفطّن لحقیقة مقالته، و ما یلزمها، و علّة مخالفة شیخ الرئیس و الحکماء بعده إیّاه، فینبغی الإشارة الإجمالیة إلی مقال الهمدانی، و ما اورد علیه، ثمّ الإشارة إلی ما فی کلام هذا المحقّق:

أمّا مقال الرجل الهمدانی- کما علیه فهم کثیر من القوم- فهو وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج؛ بمعنی أنّ ما به الاشتراک بین الأفراد و الجهة الجامعة بینها موجودة و متحقّقة فی الخارج بنعت الوحدة، و نسبة ما به الاشتراک إلی الأفراد، نسبة موجود واحد متلبّس بألبسة مختلفة متلوّنة، فطبیعی الإنسان- مثلًا- له تحقّق فی الخارج بنعت الوحدة، و الکثرة لاحقة علیه عرضاً.


1- نهایة الأفکار 1 و 2: 384.

ص: 422

و استدلّ علی مقاله رأی أنّه بدیهی، حیث قال: هل بلغ من عقل الإنسان أن یظنّ أنّ هذا موضع خلاف بین الحکماء(1)

؟! فعلی هذا: تکون نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة أب واحد إلی أبناء متعدّدة.

و ربّما یستدلّ لما توهّمه الهمدانی تارة: بأنّه فی صورة توارد علّتین أو أکثر علی معلول واحد- کما قد یتّفق ذلک فی الفواعل الطبیعیة، کتأثیر بندقتین أو أکثر فی قتل شخص واحد، أو تأثیر قوی أشخاص فی رفع حجر، أو تأثیر الشمس و النار فی حرارة الماء، إلی غیر ذلک من الأمثلة المعروفة- لا یکاد یمکن استناده إلی کلّ واحد منها؛ للزومه صدور الواحد من الکثیر، و لا یصحّ استناده إلی واحد منها دون الآخر؛ للزومه الترجیح بلا مرجّح، و لا إلی أحدهما المردّد؛ لعدم وجود له فی الخارج؛ فلا بدّ و أن یستند المعلول الکذائی إلی الجهة المشترکة و القدر الجامع بین العلل؛ فیستنتج من ذلک: أنّ القدر الجامع و الجهة المشترکة لها تحقّق فی الخارج، و هذا معنی کون الطبیعی کأب واحد بالنسبة إلی الأبناء؛ أی تکون الجهة الجامعة بنعت الوحدة موجودة فی الخارج.

و اخری: بأنّه لا شکّ فی أنّه ینتزع من أفراد الإنسان و مصادیقه الموجودة فی الخارج- مثلًا- عنوان الإنسانیة، و الواحد لا یکاد ینتزع من الکثیر بما هو کثیر؛ فلا بدّ و أن یکون هناک شی ء واحد موجود فی الخارج لینتزع منه العنوان الواحد، و یکون العنوان الواحد و الطبیعی مرآة له و منتزعاً منه، و لیس هو إلّا الجهة الجامعة و القدر المشترک بین الأفراد(2). هذا غایة التقریب فی مقالة الرجل الهمدانی.


1- راجع رسالة بعض الأفاضل إلی علماء مدینة السلام، ضمن رسائل ابن سینا: 1: 471، الحکمة المتعالیة 1: 273.
2- مقالات الاصول 1: 72.

ص: 423

و لکن خالفه المحقّقون- و فی طلیعتهم شیخ الرئیس، فقد صنّف رسالة فی ردّ مقالته(1)- و هم ذهبوا(2) إلی أنّ الطبیعی موجود فی الخارج بنعت الکثرة، و لا وجود للقدر المشترک و الجهة الجامعة بنعت الوحدة فی الخارج، و إنّما توجد ذلک فی الذهن؛ بمعنی أنّه لو جرّد المصداق الخارجی عن خصوصیات المصداقیة- کزید مثلًا- ینال الذهن منه ماهیة تکون عین ما ینال من عمرو بعد التجرید، و هکذا من سائر الأفراد، فالطبیعی متکثّر بتکثّر الأفراد خارجاً.

و لا یخفی: أنّ تکثّر الطبیعی خارجاً لیس بمعنی تحصّصه بالحصص بحیث یکون الموجود مع کلّ فرد حصّة من الطبیعی لا نفسه و تمامه، بل الطبیعی متحقّق فی کلّ واحد من الأفراد بتمام ذاته و هویته، و قد صرّح الشیخ الرئیس فی الرسالة بأنّ إنسانیة زید غیر إنسانیة عمرو، و إنسانیتهما غیر إنسانیة بکر، و هکذا ... فالطبیعی متکثّر بتکثّر الأفراد خارجاً(3)

. نعم، الماهیة و الطبیعی فی الذهن غیر مرهون بالکلّیة و الجزئیة، و الوحدة و الاشتراک و غیرها من الأوصاف، فتعرض الوحدة و الاشتراک و غیرها من الأوصاف لها فی موطن الذهن، نعم، فی التحلیل العقلی و التجرید العقلانی واحد؛ بمعنی أنّ النفس لکونها «فی وحدتها کلّ القوی» ینال من کلّ واحد من الأفراد ما ینال من الآخر، فللطبیعی شئون مختلفة متکثّرة فی الخارج، و حقیقة واحدة فی التحلیل العقلی، تعرض له الوحدة و الکثرة فی الذهن، و السرّ فی ذلک هو أنّه


1- راجع رسالة بعض الأفاضل إلی علماء مدینة السلام، ضمن رسائل ابن سینا: 1: 462.
2- الحکمة المتعالیة 1: 273- 274، و 2: 7- 8، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 99.
3- رسالة بعض الأفاضل إلی علماء مدینة السلام، ضمن رسائل ابن سینا: 1: 471.

ص: 424

غیر مرهون بالکلّیة و الجزئیة و الوحدة و الکثرة؛ و لذا قال الحکیم السبزواری: «بکلّ الأطوار بدا مقروناً(1)»(2)

. فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ مقالة المخالفین لمقالة الرجل الهمدانی هی تکثّر الطبیعة فی الخارج بعدد الأفراد، فتکون نسبة الطبیعی إلی الأفراد عندهم نسبة الآباء إلی الأبناء، و علّة مخالفتهم للرجل الهمدانی هی لزوم محاذیر:

منها: أنّه لو کانت الجهة الجامعة و القدر المشترک موجوداً فی الخارج لزمت وحدة جمیع الأفراد الخارجیة وجوداً و ماهیةً بالوحدة الشخصیة العینیة(3)، فظهر:


1- شرح المنظومة، قسم المنطق: 23.
2- قلت: یعجبنی ذکر عبارة صدر المتألّهین فی المرحلة الرابعة من السفر الأوّل؛ إیضاحاً للمقال، قال: إنّ الماهیة بما هی- أی باعتبار نفسها- لا واحدة و لا کثیرة، و لا کلّیة و لا جزئیة، و الماهیة الإنسانیة- مثلًا- لمّا وجدت شخصیة و عقلت کلّیة، علم أنّه لیس من شرطها فی نفسها أنّه تکون کلّیة أو شخصیة، و لیس أنّ الإنسانیة إذا لم تخل من وحدة أو کثرة، أو عموم أو خصوص، تکون من حیث إنّها إنسانیة إمّا واحدة أو کثیرة، أو عامّة أو خاصّة.[ المقرّر حفظه اللَّه]
3- قلت: اکتفی سماحة الاستاد- دام ظلّه- بذکر هذا المحذور فقط، و لکن یعجبنی أیضاً ذکر المحاذیر التی أوردها صدر المتألّهین فی تعلیقته علی« إلهیّات الشفاء»؛ مزیداً للإفادة و الاستفادة، فقال: لو کان الکلّی الطبیعی موجوداً بعینه واحداً بالعدد فی أشخاص کثیرة فی الخارج لزم: إمّا اجتماع الأضداد فی موضوع واحد و هو محال؛ لأنّ هذه الأشخاص توصف بصفات متفرّدة غیر مضافة، کالسواد و البیاض و الحلاوة و المرارة و العلم و الجهل، أعنی الصورة المطابقة للواقع و الصورة المخالفة، و کلاهما وجودیان بینهما غایة الخلاف، فالتقابل بینهما تقابل التضادّ، و اللازم محال. أو اجتماع المتقابلین بالعدم و الملکة فی موضوع؛ لاتّصاف بعضها بالحرکة و بعضها بالسکون، و کذا بعضها موصوف بالعلم و بعضها بالجهل، و هو أیضاً محال. أو اجتماع المتقابلین بالتضایف؛ لکون بعض الأفراد أباً و بعضها ابناً للأب، فیلزم کون إنسان واحد أباً لنفسه و ابناً له. و التوالی الثلاثة بأسرها باطلة، فکذا المقدّم؛ و هو کون الإنسانیة- مثلًا- واحدة بالعدد. ثمّ إن کان حال الجنس عند الأنواع، حال النوع عند الأشخاص- فی کونه واحداً بالعدد موجوداً فی کثیرین- یلزم ما هو أشنع و أفحش؛ و هو اجتماع الامور المتقابلة الذاتیة، فضلًا عن المتقابلة العرضیة؛ إذ فی الأوّل کان یلزم أن تکون ذات واحدة موصوفة بعرض و مقابله، و هنا یلزم أن تکون ذات واحدة ذاتاً و مقابل تلک الذات؛ فیکون حیوان واحد بالعدد ناطقاً و غیر ناطق، بل إنساناً و غیر إنسان؛ لأنّ النوع و الفصل واحد فی الوجود و الجعل، و الفطرة السلیمة حاکمة باستحالة اجتماع الأعراض المتقابلة- کأعراض زید و أعراض عمرو- فی موضوع واحد، فضلًا عن اجتماع ذاتیات متقابلة فیه، انتهی، لاحظ تعلیقات صدر المتألّهین علی إلهیات الشفاء: 189- 190.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 425

أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد عند الرجل الهمدانی، نسبة الأب الواحد إلی أبناء متعدّدة، و لم یرتضِ به المحقّقون فقالوا: إنّ نسبة الطبیعی إلیها، نسبة الآباء إلی الأبناء. و المحقّق العراقی قدس سره کأنّه غفل عن حقیقة الحال، فجمع بین القولین، فتصوّر الحصص، فقال: إنّ نسبة الحصص إلی الأفراد، نسبة الآباء إلی الأبناء، و مع ذلک التزم بأنّ نسبة أب الآباء إلیها نسبة أب واحد إلی أبناء متعدّدة، و هذا هو الذی یکون المحقّقون منه برءاء.

و بما ذکرنا یظهر ضعف ما ذکره من حدیث انتزاعیة الطبیعی؛ ضرورة أنّ طبیعة الإنسانیة- مثلًا- لیست أمراً انتزاعیاً، بل من الطبائع المتأصّلة الموجودة

ص: 426

فی الخارج التابعة للوجود تحقّقاً و تکثّراً، فتحقّق الطبیعة خارجاً بتبع الوجود ذاتی لها، کما أنّ تکثّرها بتکثّر وجودها کذلک. فتطرأ علیها الکثرة خارجاً ذاتاً بتبع الوجود الخارجی، کما أنّ الوحدة تطرأ علیها فی العقل عند تجریدها عن الخصوصیات.

و سرّ ذلک هو: أنّ ذاتها غیر مرهونة بالکلّیة و الجزئیة، فهی بحسب ذاتها لا کثیرة و لا واحدة؛ و لذا تکون واحدة أو کثیرة بحسب الوجود.

و أمّا حدیث توارد العلّتین فهو: أنّ مجری قاعدة الواحد- علی تقدیر تمامیتها(1)- هو الواحد البحت البسیط الذی لا یکون فیه شائبة الترکیب أصلًا، و أمّا فی غیره- حتّی العقول، فضلًا عن القوی الطبیعیة و المادّیة- فلا یری المتمسّک بحبل القاعدة جریانها فیها، هذا.

مضافاً إلی أنّ الأمثلة المتوهّمة کون المعلول فیها واحداً، فیها ما فیها؛ لأنّ الموت لیس إلّا خروج الروح البخاری الذی هو مطیة النفس الناطقة من البدن من المنافذ غیر الطبیعة، و واضح: أنّ خروج الدم أمر یقبل التجزئة و التکثّر؛ فإن قَلّت البندقة قلّت المنافذ، و إن کثرت کثرت المنافذ. فبذلک تطول المدّة فی نزع الروح البخاری، و تقِلّ، و کذا الحرارة؛ فإنّ لموضوعها و عاملها أجزاءً و أوضاعاً، و لا مانع من تأثّر بعضها من الشمس و بعض آخر من النار، فیکون کلّ واحد منهما مؤثّراً فی الماء بعض الأثر، و هکذا الأمر فی تأثیر قوی أشخاص فی رفع حجر؛ فإنّ کلّ واحد


1- قلت: هذا تعبیر سماحة الاستاد- دام ظلّه- عن القاعدة فی مجلس الدرس لمصلحة کان یراها، و ربّما کان یقول:« إنّهم یقولون فی القاعدة کذا و کذا ...» و المعلوم منه- دام ظلّه- تمامیة القاعدة عنده، کما لا یخفی.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 427

یؤثّر فیه أثراً خاصّاً به حتّی یحدث فی الحجر- بواسطة القواسر العدیدة- ما یغلب علی ثقله الطبیعی أو جاذبة الأرض.

هذا کلّه فی أصل مبنی الرجل الهمدانی، و قد عرفت فساده، فإن أحطت خبراً بما ذکرنا تعرف أنّه کیف خلط المحقّق العراقی قدس سره بین قول الرجل الهمدانی و ما اورد علیه، فتفطّن.

و أما ما ذکره المحقّق العراقی من أنّ هناک أشیاء ثلاثة:

أحدهما: الخصوصیات المصداقیة؛

ثانیها: الحصص المقارنة للخصوصیات الفردیة؛

ثالثها: الحصص الممتاز بها عن أفراد نوع آخر، و لا یکاد یسری الطلب إلی القسمین الأوّلین دون الأخیر.

غیر تمام؛ لأنّ غایة ما یمکن أن یقال- علی إشکال- هی أنّه تحصّصت الطبیعة بالخصوصیات المصداقیة، فیکون هناک شیئان؛ بداهة أنّ نفس الطبیعة من حیث هی لا تکون فیها حصّة و لا کثرة، و التحصّص إنّما تحصل بتقیّدها بقیود عقلیة- کما هو الحقّ- کتقیّد الإنسان- مثلًا- بکونه رومیاً أو زنجیاً أو غیر ذلک- أو بمقارنتها بالخصوصیات المصداقیة- کما یراه المحقّق العراقی قدس سره- و بهذا یمتاز عن حصص نوع آخر.

و بالجملة: تارة تلاحظ ماهیة نوع مع ماهیة نوع آخر، فیمتاز کلّ واحد منهما عن الآخر بالخصوصیة الفصلیة المقوّمة، مع اشتراکهما فی الحقیقة، و إن لوحظت أفراد أحد النوعین مع النوع الآخر فیمتاز کلّ منهما عن الآخر بالخصوصیات الفردیة المقوّمة، فلم تکن فی البین حصّة غیر الحصّة المقارنة

ص: 428

للخصوصیات الفردیة الموجبة لامتیاز بعض الأفراد عن الآخر.

فإذا انتفی غیر الحصّة المقارنة للخصوصیات الفردیة فما ظنّک بسرایة الطلب إلیها، فتدبّر.

فما استنتج قدس سره من ذلک: «أنّ التخییر بین الأفراد شرعی لا عقلی» ساقط، کما لا یخفی.

مع أنّه- کما زعم، و هو الحقّ- وقوف الطلب علی نفس الطبیعة، من دون أن یسری إلی الخصوصیات، فإذا لم یسر إلی الخصوصیات فکیف یعقل أن یکون التخییر شرعیاً؟!

فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّ کلام المحقّق العراقی قدس سره ساقط من حیث المبنی و البناء، و اللَّه الهادی إلی سواء الطریق.

ص: 429

الفصل الثامن فی أنّه إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز أم لا؟

اشارة

الفصل الثامن فی أنّه إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز أم لا؟(1)

تنقیح المرام فیه یستدعی البحث فی موارد:

المورد الأوّل: فی إمکان بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب و عدمه

قال المحقّق العراقی قدس سره: لا إشکال فی أنّه لا ملازمة بین ارتفاع الوجوب و ارتفاع الجواز؛ لأنّ الوجوب و إن کان أمراً بسیطاً، إلّا أنّه یتضمّن مراتب عدیدة؛ من أصل الجواز، و الرجحان الفعلی، و الإلزام. فعلیه: یمکن أن یکون المرتفع بالنسخ خصوص جهة الإلزام مع بقاء الرجحان الفعلی غیر المانع عن النقیض علی حاله- فضلًا عن بقاء الجواز و تساوی الفعل و الترک- کما أنّه یمکن ارتفاع الرجحان الفعلی مع بقاء الجواز، و کما یمکن ارتفاع الجواز أیضاً.

و بالجملة: لا مانع ثبوتاً من بقاء کلّ من مرتبتی الجواز و الرجحان بعد ارتفاع الوجوب، و حیث إنّ الوجوب حقیقة ذات تشکیک فلا یحتاج فی إثبات الرجحان الفعلی عند ارتفاع جهة الإلزام إلی تجشّم إقامة الدلیل علی بقاء الفصل الاستحبابی


1- تأریخ شروع البحث یوم الأربعاء 11/ ع 2/ 1380 ه. ق.

ص: 430

مقامه؛ لأنّه بعد ذهاب مرتبة منه یتحدّد قهراً بالمرتبة الاخری، نظیر الحمرة الشدیدة التی تزول مرتبة منها و تبقی مرتبة اخری محدودة بحدّ آخر(1)، انتهی.

و فیه أوّلًا: أنّ الوجوب لا یکون عبارة عن الإرادة، أو الإرادة المظهرة حتّی یتوهّم تطرّق الشدّة و الضعف فیه، بل إمّا معنی انتزاعی ینتزعه العقلاء من مجرّد البعث إلی المادّة و یحتجّ به العقلاء بعضهم علی بعض ما لم تقم قرینة علی الخلاف، أو أنّ الهیئة بنفسها تدلّ علی البعث الإلزامی عند العقلاء.

و علی أیّ تقدیر: لا یکون الوجوب من الحقائق المشکّکة؛ بداهة أنّ ذلک إنّما هی فی الحقائق الخارجیة، لا فی الامور الانتزاعیة أو الاعتباریة.

و بالجملة: لم یکن الوجوب حقیقة ذات مراتب حتّی یتوهّم فیه بقاء المرتبة الضعیفة عند ارتفاع المرتبة القویة.

و ثانیاً: لو سلّمنا کون الوجوب حقیقة بسیطة مشکّکة ذات مراتب، و لکن لیس معناه: أنّ مصداقاً منه أیضاً ذات مراتب، أ لا تری أنّ القائلین بکون الوجود حقیقة مشکّکة، لا یرون کون المصداق منه کذلک؟! بداهة أنّ مصداقاً منه هو ذات الواجب الوجود، و مع ذلک لا یرون ذاته تعالی حقیقة مشکّکة، بل معناه: أنّ نفس حقیقة الوجود بعرضها العریض إذا لوحظت بالنسبة إلی الأفراد المختلفة من حیث التمام و النقص یصدق علیها صدقاً تشکیکیاً، مثلًا آخر: إنّ النور حقیقة مشکّکة؛ فإنّه یصدق علی النور الضعیف و القوی و الأقوی، و النور حقیقة ذات تشکیک، و لا یوجب ذلک کون مصداق منه ذات تشکیک.

و فیما نحن فیه أیضاً کذلک؛ لأنّه لو قلنا: إنّ الوجوب حقیقة ذات مراتب،


1- بدائع الأفکار 1: 413، نهایة الأفکار 1: 389.

ص: 431

معناه: أنّ مرتبة منه ینتزع منه الوجوب، و من مرتبة اخری الوجوب الأکید، و من مرتبة ثالثة وجوب آکد منهما، و مفهوم الوجوب یصدق علیها صدقاً تشکیکیاً، و لکن لا یوجب ذلک کون مرتبة منه ذات مراتب بالفعل، کما لا یخفی، فلا یکون فی الوجوب، الجواز و الرجحان غیر المانع عن النقیض، بمعنی وجود الجزء فی الکلّ حتّی تکون هناک امور ثلاثة: الجواز و الرجحان و الإلزام، متحقّقة فی الخارج.

نعم، ینتزع من الوجوب، الجواز بالمعنی الأعمّ و الرجحان، لا بمعنی وجودهما فی ضمنه، بل بمعنی وجودهما بعین وجود الوجوب؛ فهما باقیان ببقائه، و ذاهبان بذهابه، فمع ذهاب الوجوب یذهبان بعین ذهابه.

ثمّ إنّه لو قلنا: بأنّ الحکم و الوجوب عبارة عن الإرادة التشریعیة، أو الإرادة المظهرة، فهل یتطرّق فیه التشکیک، أم لا؟

فینبغی النظر أوّلًا إلی الإرادة التشریعیة، ثمّ النظر إلی الإرادة المظهرة:

فنقول: تارة تُفسّر الإرادة التشریعیة بالمعنی الذی ذکرنا؛ من إرادة جعل القانون و التشریع، و اخری تفسّر بإرادة إتیان الفعل من الغیر.

فعلی المعنی الأوّل: لا معنی لتطرّق التشکیک فیها؛ لأنّ المقنّن منّا إذا رأی- مثلًا أنّ حفظ المملکة و نظامها متوقّف علی تأسیس الجُندی، فیتصوّره أوّلًا، و یصدّق بفائدته ... إلی أن تتمّ مبادئ الإرادة فیه بنحو یصحّ منه جعل القانون، فإن رأی أنّ تأسیس الجندی لازم فیرید جعل القانون الوجوبی علیه فیجعله کذلک، و إن لم یر لزوماً فی ذلک فیرید جعل القانون الاستحبابی، فیجعله کذلک.

و من الواضح: أنّ إرادة جعل الوجوب و إرادة جعل الاستحباب لم تکد تفترق بالشدّة و الضعف؛ لوضوح أنّ الفرق بینهما فی متعلّق الإرادة- و هو الوجوب و الاستحباب- و إلّا ففی أصل جعل القانون و تشریعه لم یکن بینهما فرق.

ص: 432

و أمّا علی المعنی الثانی: فالحقّ تطرّق الشدّة و الضعف فی الإرادة؛ لصیرورة ذلک من قبیل إرادة الشخص بالنسبة إلی أفعاله، و من الواضح: تطرّق الشدّة و الضعف فی إرادة الشخص بالنسبة إلی أفعاله.

خلافاً للمحقّق النائینی قدس سره، حیث یری أنّ الإرادة لا تقبل الشدّة و الضعف(1)

. و الوجدان أصدق شاهد علی ما ذکرنا، فهل تری من نفسک أنّ إرادتک إنقاذ ولدک العزیز، مثل إرادتک شراء البقلة؟! حاشاک!

و بما ذکرنا یظهر: أنّه لو قلنا إنّ الحکم و الوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة، یکون وزانها وزان إرادة التشریع لا تقبل الشدّة و الضعف، کما لا یخفی، فتدبّر.

و کیف کان: مبادئ الحکم الوجوبی- سواء کان الوجوب عبارة عن إرادة التقنین، أو إرادة فعل الغیر، أو الإرادة المظهرة- تختلف عن مبادئ الحکم الاستحبابی و الجوازی، و لکلٍّ منهما مبادئ تخصّه غیر ما للآخر، فلا یکاد یصحّ إثباتهما بمجرّد ثبوت الحکم الوجوبی.

نعم، إذا وجب إتیان شی ء یکون هناک الجواز بالمعنی الأعمّ أو الجواز غیر المانع عن النقیض، و لکن- کما أشرنا- لم یکونا موجودین فی ضمن الوجوب- وجود الجزء فی الکلّ- بل هما وجودان بعین وجود الوجوب، فإذا ارتفع الوجوب یرتفعان معه؛ قضاءً للعینیة، فهما باقیان ببقائه، و ذاهبان بذهابه، هذا.

مضافاً إلی أنّ الإرادة من الصفات ذات الإضافة کالعلم؛ فکما أنّ فی العلم نحو إضافة بین العالم و المعلوم، فإذا لم یکن هناک معلوم لم یکن علم، فکذلک الإرادة لها نحو إضافة بین المرید و المراد، فلو لم یکن مراد لم تکن إرادة.


1- فوائد الاصول 1: 135.

ص: 433

فتتشخّص الإرادة بالمراد، کما یتشخّص العلم بالمعلوم.

فإذن: الإرادة المتعلّقة بالبعث الإلزامی مسبوقة بمبادئ غیر المبادئ التی یحتاج إلیها البعث الاستحبابی، فإذا اختلفت مبادئ کلّ منهما فالإرادة المتعلّقة بالوجوب إذا ازیلت بالنسخ فتنتفی الإرادة بالمرّة، فلا معنی لبقاء إرادة الاستحباب أو الجواز بعد.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لا وجه للقول بإمکان بقاء الجواز عند نسخ الوجوب؛ سواء قلنا بأنّ الحکم و الوجوب أمر انتزاعی- کما هو الحقّ- أو أمر اعتباری، و هو واضح؛ لعدم تطرّق التشکیک إلّا فی الماهیات الخارجیة، أو قلنا بأنّه إرادة التشریع و التقنین، أو إرادة إتیان الغیر، أو الإرادة المظهرة؛ لأنّه لو فرض التشکیک فیها و لکن حیث إنّ تشخّص الإرادة بالمراد فالإرادة حیثما تعلّقت بإلزام شی ء فعند ذلک و إن کانت إرادة الرجحان أو الجواز بالمعنی الأعمّ موجوداً بوجوده، و لکنّه إذا زال الوجوب یزولان معه؛ قضاءً للعینیة، فلا معنی لبقاء الجواز بعد نسخ الوجوب.

المورد الثانی: فی مقتضی الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمکانه

اشارة

تقدّم الکلام فی المورد الأوّل- أی عدم إمکان بقاء الجواز أو الرجحان بعد نسخ الوجوب- و معه لا مجال للبحث فی مقام الإثبات، کما لا یخفی.

و لکن استیفاءً للبحث، و بناءً علی إمکان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب- کما یظهر من بعض(1)- ینبغی الإشارة إلی أنّه علی فرض إمکان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب، فهل یدلّ دلیل الناسخ أو المنسوخ علیه، أم لا؟


1- بدائع الأفکار 1: 412، نهایة الأفکار 1: 389.

ص: 434

فالبحث فی هذا المورد علی سبیل الفرض و التنزیل؛ فلو دلّ دلیل فلا یخلو إمّا أن یکون الدالّ دلیل المنسوخ، أو دلیل الناسخ.

و الحقّ: عدم دلالة شی ء منهما علی ذلک:

أمّا بالنسبة إلی دلیل المنسوخ: فذلک لأنّ الوجوب إمّا ینتزع من البعث المنحدر إلی المتعلّق، و یکون ذلک تمام الموضوع للاحتجاج ما لم ینصب قرینة علی الخلاف، کما هو المختار، أو یقال: بأنّ الأمر وضع للوجوب، یقال بتحقّق الوجوب إذا أفاده المولی بالمعنی الاسمی؛ بأن قال: «هذا واجب».

و علی أیّ منها: فإن تمّ القول بأنّ اللفظ الدالّ علی الوجوب یدلّ عند التأمّل علی امور ثلاثة: أحدها: الدلالة علی أصل الإلزام، ثانیها: الدلالة علی الرجحان، ثالثها: الدلالة علی الجواز بالمعنی الأعمّ، بحیث تکون هناک دلالات ثلاث، فیمکن أن یقال: إنّه بنسخ الوجوب یذهب واحد منها؛ فیبقی الآخران.

و لکن المبنی- کما أشرنا إلیه آنفاً فی المورد الأوّل- فاسد؛ لأنّ وجود الرجحان و الجواز عند وجود الإلزام و الوجوب لیس لأجل أنّ هناک دوالّ ثلاثاً و مدلولات کذلک فی عرض واحد، بل لأجل أنّ غایة ما یقتضیه الدالّ علی الوجوب- و لو القی بالمعنی الاسمی- هو لزوم إتیان المتعلّق، و واضح: أنّ کلّما یکون الشی ء لازم الإتیان ینتزع منه الجواز بالمعنی الأعمّ و الرجحان، فدلالة الأمر علی الرجحان أو الجواز لیست فی عرض دلالته علی الوجوب، بل فی طوله؛ فلم تکن هناک دوالّ متعدّدة و مدلولات کذلک.

و إن کان فی خواطرک ریب فنوضحه بالمثال، فنقول: إذا وضع لفظ لمعنی مرکّب من عدّة أجزاء- کلفظ «الماء» الموضوع للمائع المرکّب من عنصرین- فإذا القی

ص: 435

لفظ «الماء» لا یدلّ ذاک اللفظ علی العنصرین بالدلالة اللفظیة، بل لیس هنا إلّا دالّ واحد و مدلول کذلک.

نعم حیث یکون للمعنی الموضوع له نحو ترکّب فیدلّ ذلک المعنی المدلول علیه- لا بما أنّه مدلول علیه- علی العناصر دلالةً عقلیة، و لذا أنکرنا فی محلّه کون دلالتی التضمّن و الالتزام من دلالة الألفاظ، بحیث یکون اللفظ الدالّ علی المعنی المطابقی، دالًّا فی عرضه علی جزء معناه أو لازمه دلالةً لفظیة، و قلنا: إنّهما من قبیل الدلالة العقلیة، و من باب دلالة المعنی علی المعنی.

و السرّ فی ذلک هو: أنّ الدلالة الوضعیة هی التی تکون دلالته بالوضع و الجعل، و من المعلوم: أنّ اللفظ لم یوضع إلّا لشی ء واحد و معنی فارد.

نعم، حیث إنّ المعنی له أجزاء أو لوازم، ینتقل الشخص من المعنی المدلول علیه، لا بما أنّه مدلول علیه إلیها، و هکذا الدلالة الطبعیّة؛ فإنّ خروج الدخان من محلّ یدلّ علی وجود النار هناک، و لکن لا یکشف فی مقام الدلالة عن وجود أجزاء حاملة للحرارة، کما لا یخفی، و التفصیل یطلب من محلّه.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا درَیت: أنّ الوجوب بأیّ طریق استفید، فغایة ما یمکن أن یقال: إنّه- نظیر الماء- ذو أجزاء؛ فکما أنّ الماء مرکّب من عنصرین، فکذلک الوجوب مرکّب من أصل الجواز و الرجحان و الإلزام، فلم تکن هناک دوالّ متعدّدة و مدلولات کذلک، بل دالّ واحد و مدلول کذلک، و استفادة أصل الرجحان و الجواز بحکم العقل و فی طول استفادة الإلزام.

فتحصّل: أنّه لا دلالة لدلیل المنسوخ علی الرجحان أو الجواز بالمعنی الأعمّ.

و أمّا دلیل الناسخ فکذلک؛ لوضوح أنّ غایة ما یقتضیه هو رفع الوجوب، فأنّی له و للدلالة علی الرجحان أو الجواز؟!

ص: 436

توهّم بقاء الرجحان و الجواز بعد نسخ الوجوب و دفعه

ربّما یتوهّم بقاء الرجحان و الجواز عند نسخ الوجوب، و ذلک بأحد وجهین:

الوجه الأوّل: أنّ الطلب الإلزامی و الوجوب کما یکشف عن إرادة حتمیة إلزامیة، کذلک یکشف عن الرجحان الجامع بین الوجوب و الاستحباب، و عن أصل الجواز، و غایة ما یقتضیه نسخ الوجوب هی رفع الإرادة الحتمیة الإلزامیة، و واضح:

أنّ سقوط کاشفیة شی ء بالنسبة إلی شی ء لا یوجب سقوطها بالنسبة إلی أمر آخر، فتبقی کاشفیته بالنسبة إلی غیر الإرادة الإلزامیة بلا مانع.

و فیه: أنّه لو سلّم کاشفیة الطلب و الوجوب، فغایته کاشفیته عن إرادة بسیطة حتمیة، و لم یکد یکشف فی عرضه عن إرادتین اخریین:

أحدهما: إرادة الرجحان الجامع،

ثانیهما: و إرادة أصل الرجحان.

نعم، عند کشفه عن إرادة حتمیة یحکم العقل و یری وجود الرجحان و أصل الجواز بوجود المنکشف لذاته، لا بما أنّه منکشف عنهما، کما أشرنا آنفاً: أنّ اللفظ إذا دلّ علی معنی مشتمل علی عدّة أجزاء لا یدلّ علیها بما أنّه مدلول علیه، بل مدلول علیها بذاته، فتدبّر.

فاختلط المنکشف بما هو مدلول علیه، بالمنکشف بما هو بالذات. و الطلب و الوجوب إنّما یکشف عن إرادة حتمیة، و هی بذاتها- لا بما أنّها منکشفة- تدلّ علی الرجحان الجامع و الجواز؛ و لذا یستفاد الجواز و الرجحان إذا استفیدت الإرادة الحتمیة من غیر اللفظ أیضاً.

ص: 437

و لو سلّم کاشفیته عنهما- بحیث یکون المنکشف متعدّداً- لکنّه لم یکن فی عرض کشفه عن إرادةٍ حتمیة، بل فی طولها، و مع الطولیة لا یعقل بقاء الکاشفیة بعد رفع الوجوب، بل لو فرض العرضیة لم یمکن ذلک أیضاً؛ لأنّه مع سقوط الکاشف لا مجال للکشف.

نعم، یتمّ ذلک لو کانت هناک کواشف متعدّدة و منکشفات کذلک فی عرض واحد، و لکن لا أظنّ الالتزام به من أحد.

الوجه الثانی: ما اشیر إلیه فی تقریر المحقّق العراقی قدس سره، و هو: أنّ مقتضی الجمع بین دلیلی الناسخ و المنسوخ، و القدر المتیقّن من دلیل الناسخ، إنّما هو رفع خصوص جهة الإلزام، و فیما عداها یؤخذ بدلیل المنسوخ و یحکم بمقتضاه. باستحباب الفعل و جوازه نظیر الجمع بین دلیلٍ ظاهره الوجوب، کقوله: «أکرم زیداً»، و دلیلٍ آخر نصّ فی الجواز، کقوله: «لا بأس بترک إکرام زید»، بحمل الأوّل علی مطلق الرجحان و الاستحباب.

و بالجملة: فکما أنّه یجمع هناک بینهما؛ فیؤخذ بظهور دلیل الوجوب فی مطلق الرجحان، و یرفع الید عن ظهوره فی الإلزام وجهة المنع عن النقیض، کذلک فی المقام أیضاً. فإذا لم یکن لدلیل النسخ دلالة علی أزید من رفع الوجوب، فلا جرم یؤخذ بظهور دلیل المنسوخ فی مطلق رجحانه، و بذلک یثبت استحبابه(1)

. و فیه: أنّه فرق بین المقام و ما هناک، و قیاس أحدهما بالآخر قیاس مع الفارق، و ذلک لأنّ الجمع هناک لأجل تحکیم النصّ، أو الأظهر علی الظاهر، و رفع الید عن الظاهر بالقرینة علی خلافه، و أنّه استعمل فی الاستحباب من أوّل الأمر.


1- نهایة الأفکار 1: 390، بدائع الأفکار 1: 413.

ص: 438

و ما نحن فیه أجنبی عن ذلک؛ لأنّه بعد الفراغ عن ظهور دلیل المنسوخ فی معناه، و معلومیة مفاده المستعمل فیه، یشکّ فی مقدار رافعیة دلیل الناسخ إیّاه، فمسألة الجمع بین الدلیلین أجنبیة عن المقام.

و بعبارة اخری: أنّ الجمع بین الأمر الظاهر فی الوجوب و النصّ المرخّص فی ترکه- بحمل الأمر علی الاستحباب- لیس أخذاً ببعض مراتب الظهور و ترک بعض مراتبه، بل هو تحکیم النصّ علی الظاهر و حمله علی خلاف ظاهره.

و أمّا ما نحن فیه: فبعد العلم بأنّ الأمر للوجوب و العلم برفع الوجوب، فلا مجال لبقاء الاستحباب إلّا إذا فرض مراتب للظهور، و هو بمکان من الفساد، فتدبّر.

المورد الثالث: فی حکم استصحاب الجواز عند الشکّ فی بقائه

لو قلنا بإمکان جواز البقاء عند نسخ الوجوب، فلو لم تمکن استفادة ذلک من دلیلی الناسخ و المنسوخ فهل تمکن استفادة ذلک و إثبات الجواز بالاستصحاب، أم لا؟

یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره: أنّ استصحاب الجواز مبنی علی جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام الکلّی- و هو ما إذا شکّ فی حدوث فرد کلّی مقارناً لارتفاع فرده الآخر- بأن یقال بتقریب منّا: إنّ أصل الجواز الجامع بین الوجوب و الاستحباب مقطوع وجوده قبل نسخ الوجوب فی ضمن الوجوب، و بعد نسخ الوجوب حیث یحتمل تحقّقه و وجوده فی ضمن فصل آخر- و هو الاستحباب- فیستصحب(1).


1- کفایة الاصول: 173.

ص: 439

و فیه: أنّه لو قلنا بجریان الاستصحاب فی القسم الثالث، و أغمضنا عمّا أورده قدس سره علیه، نقول بعدم جریانه هنا؛ لأنّه یعتبر فی الاستصحاب أن یکون المستصحَب إمّا حکماً شرعیاً، أو موضوعاً ذا حکم شرعی.

و من الواضح: أنّ الجواز لم یکن موضوعاً شرعیاً، بل و لا حکماً مجعولًا؛ ضرورة أنّ الجواز الجامع بین الوجوب و الاستحباب المتیقّن وجوده سابقاً إنّما هو حکم العقل منتزعاً من الوجوب المجعول.

نعم، إن رتّب علی الجواز المشترک حکماً شرعیاً فلا بأس فیه.

فتحصّل: أنّ استصحاب الجواز لا معنی له، فما ظنّک بإثبات الاستحباب؟! لکونه مثبتاً علی تقدیر جریان أصل الجواز، کما لا یخفی، فتدبّر.

ص: 440

ص: 441

الفصل التاسع فی الواجب التخییری

اشارة

الفصل التاسع فی الواجب التخییری(1)

لا ینبغی الإشکال فی وقوع ما بظاهره هو الواجب التخییری فی الشرع و العرف، کالتخییر فی الإفطار العمدی بین الخصال الثلاث، و التخییر بین القراءة و التسبیحات الأربع فی الرکعتین الأخیرتین، إلی غیر ذلک.

و لکن الکلام فی إمکان تصویر الواجب التخییری ثبوتاً، و أنّه هل یمکن الأمر بشیئین أو أشیاء علی نحو التردید حتّی یؤخذ بظاهر الأدلّة؟

أو أنّه غیر ممکن عقلًا حتّی یترک ظاهرها و یرتکب فیه خلاف الظاهر؛ إمّا بالالتزام بتعلّق التکلیف بالجامع العنوانی بینهما أو بینها و أنّ التخییر عقلی، أو بالجامع الانتزاعی- أی عنوان «أحدهما» أو «أحدها»- أو أنّ الواجب فی کلّ واحد من فردی التخییر أو الأفراد مشروط بعدم فعل الآخر، أو أنّ الواجب هو الواحد لا بعینه، أو أنّ الواجب هو المعلوم عند اللَّه غیر المعلوم عندنا ... إلی غیر ذلک ممّا احتملوه فی المقام؟

فینبغی أوّلًا تقریب الإشکال فی الباب، ثمّ ذکر ما قیل أو یمکن أن یقال فیه:


1- تأریخ شروع البحث یوم الأربعاء 13/ ع 2/ 1380 ه. ق.

ص: 442

امتناع تصویر الواجب التخییری و الجواب عنه

قد یقال بامتناع تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء علی نحو التردید؛ بأن یکون الواجب هو المردّد بینهما أو بینها.

و یقال فی تقریبه: إنّ الإرادة- کالعلم و نحوه- من الصفات الحقیقیة ذات الإضافة، لها نحو تعلّق بالمرید و المراد- کما أنّ للعلم نحو تعلّق بالعالم و المعلوم- فلا یمکن تحقّق الإرادة بدون المراد، کما لم تکد تتحقّق بدون المرید، و هذا واضح.

و من الواضح أیضاً المحقّق فی محلّه(1): أنّ الوجود- ذهنیاً کان أو خارجیاً- یساوق الوحدة و التعیّن و التشخّص، و الوجود المتردّد واقعاً و المبهم کذلک بین شیئین أو الأشیاء لا یکاد یعقل تحقّقه لا خارجاً و لا ذهناً.

فإذن: طرف إضافة الإرادة- أعنی المراد- لا یکاد یعقل أن یکون معدوماً؛ بداهة أنّ التفوّه به مساوق لوجود العاشق بدون المعشوق، و المحبّ بدون المحبوب، إلی غیر ذلک، و هو بدیهی البطلان.

کما لا یکاد أن یکون وجوداً غیر متعیّن و متشخّص؛ لما أشرنا أنّ الوجود مساوق للتعیّن و التشخّص. فمحال أن یکون المراد شیئاً معدوماً أو مبهماً و غیر متعیّن، و مع ذلک متحقّقاً؛ سواء فی الذهن أو فی الخارج.

لا یقال: إنّ العلم کما یتعلّق بأمر معیّن معلوم تفصیلی، کذلک یتعلّق بأمر مردّد معلوم إجمالی؛ فلتکن الإرادة کذلک.

فإنّا نقول: إنّ متعلّق العلم فی العلم الإجمالی لم یکن مبهماً و مردّداً، بل معلوماً


1- الحکمة المتعالیة 1: 44- 49، و 2: 10، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 105- 106.

ص: 443

مشخّصاً، و غایة ما هناک هو اشتباه المعلوم المشخّص فی البین.

و بالجملة: أنّ المراد فی الإرادة- سواء کانت تکوینیة أو تشریعیة- لا یعقل أن یکون مردّداً و مبهماً؛ لأنّ الإرادة مسبوقة بمبادئ منها التصدیق و الشوق، و لا یکاد یتعلّق التصدیق بأمر مبهم، و لا الشوق کذلک؛ فکذا الإرادة.

و هکذا الکلام فی البعث؛ فإنّه یقع بلفظ- کهیئة الأمر و غیرها- مضاف إلی شی ء هو المبعوث إلیه؛ فیکون لکلٍّ من آلة البعث و متعلّقها وجود- ذهناً أو خارجاً- لا یمکن أن یتطرّق إلیه التردّد الواقعی، فالواجب التخییری لازمه التردّد الواقعی فی الإرادة التشریعیة و متعلّقها، و فی البعث اللازم منه التردّد فی آلته و متعلّقها، و کلّ ذلک محال؛ لاستلزامه الإبهام الواقعی فی المتشخّصات و المتعیّنات الواقعیة.

دفع المحقّق النائینی قدس سره الإشکال بالفرق بین الإرادتین، و حاصله: أنّه لا مانع من تعلّق الإرادة فی الإرادة الآمریة بأحد الشیئین أو الأشیاء علی وجه البدلیة؛ بأن یکون کلّ واحد بدلًا عن الآخر، و لا یمکن تعلّق الإرادة الفاعلیة بذلک، و لا ملازمة بین الإرادتین؛ و لذا لا تری إشکالًا فی تعلّق إرادة الآمر بالکلّی، و لا یکاد یصحّ تعلّق الإرادة الفاعلیة به مجرّداً عن الخصوصیات الفردیة.

و السرّ فی ذلک هو: أنّ لکلّ منهما شأناً لیس للآخر، و یکون بعض الخصوصیات من لوازم الإرادة الفاعلیة، حیث إنّها تکون مستتبعة لحرکة عضلاته، و لا تمکن حرکة العضلات نحو المبهم المردّد. بخلاف الإرادة الآمریة؛ فإنّه لو کان کلّ من الشیئین أو الأشیاء ممّا یقوم به غرضه الوجدانی فلا بدّ و أن تتعلّق إرادته بکلّ واحد علی سبیل البدلیة، فیکون المکلّف مخیّراً فی إتیان أیّهما شاء(1).


1- فوائد الاصول 1: 235، أجود التقریرات 1: 182- 183.

ص: 444

و لا یخفی: أنّ ظاهر کلام هذا المحقّق یعطی أنّ المحذور فی عدم تعلّق الإرادة الفاعلیة بالمبهم إنّما هو استلزام الإرادة الفاعلیة لتحریک العضلات، و لا یمکن ذلک نحو المردّد المبهم، و إلّا فلا محذور فی تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأمر المبهم فی حدّ نفسه.

و بالجملة: یری المحقّق النائینی قدس سره: أنّ امتناع تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأمر المبهم لیس ذاتیاً، بل أمر عرضی؛ لأجل استلزامه تحریک العضلات.

و لکن لا یخفی: أنّ الإشکال و المحذور المشار إلیه إنّما هو لامتناعها فی نفسها و لمبادئها؛ لما أشرنا من أنّ الإرادة مسبوقة بالتصوّر و التصدیق و الشوق أحیاناً، و محال أن یتعلّق شی ء منها بالمبهم المردّد، و بعبارة اخری: الإرادة مسبوقة بالعلم و الإدراک، و هما لا یکادان یتعلّقان بأمر مبهم واقعی غیر موجود.

نعم، مفهوم أحدهما و المبهم، له وجود و تحقّق، و لکن الکلام لم یکن فی مفهومهما، بل فی واقعهما، و لا تحقّق لهما، هذا أوّلًا.

و ثانیاً: أنّه ذکرنا غیر مرّة أنّه لم یکن لنا سنخان من الإرادة، بل سنخ واحد، غایته: أنّها إذا تعلّقت بالتشریع و التقنین یعبّر عنها ب «الإرادة التشریعیة»، و إن تعلّقت بأمرٍ غیره یعبّر عنها ب «الإرادة التکوینیة»، فالفرق بین الإرادة التکوینیة و الإرادة التشریعیة إنّما هو فی المتعلّق لیس إلّا.

فإذن: وزان الإرادة التشریعیة، وزان الإرادة التکوینیة، و بالعکس؛ فالفرق بینهما ممّا لا محصّل له. فما أفاده المحقّق النائینی قدس سره غیر وجیه.

کما أنّ ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره غیر مفید؛ لأنّه قال- مع إغلاق فی العبارة- ما حاصله: إنّ الواجب التخییری سنخ إرادة ناقصة متعلّقة بکلّ واحد من الطرفین.

و المقصود ب «الإرادة الناقصة» هو: أنّها لا تسدّ العدم من جمیع الجهات فی الطرفین، بل تسدّ العدم من بعض الجهات- أی یرید هذا عند عدم وجود الآخر،

ص: 445

و الآخر عند عدم وجود هذا- و لذا یکون الواجب التخییری نحو إرادة وجوبٍ متعلّق بهذا أو ذاک(1)

. و ذلک لأنّ الکلام فی إمکان تصویر الواجب، و الإشکال فی أنّه کیف یعقل تعلّق الإرادة بأحدهما المبهم غیر المعیّن؟

فالحریّ أن یتصدّی قدس سره لرفع الإشکال: بأنّ الإرادة فی الواجب التخییری لم تتعلّق بالمبهم و المردّد؛ تامّةً کانت الإرادة، أم ناقصة.

و لکنّه قدس سره عدل عن هذا و تصدّی لبیان الفرق بین الإرادة التخییری و التعیینی؛ بأنّ مقتضی الأوّل تعلّق إرادتین ناقصتین بشی ء، و الثانی تعلّق إرادة تامّة به.

و الجواب الحقیق عن الإشکال یتوقّف علی ملاحظة حال البعث فی الواجب التخییری أوّلًا، ثمّ ملاحظة حال الإرادة:

فنقول: إنّ الوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّه لا فرق بین قول المولی لعبده أو غلمانه: «أکرم زیداً» و بین قوله: «أکرم زیداً أو عمراً»، من حیث إنّ متعلّق البعث فیهما أمر غیر مبهم، بل معلوم مبیّن، غایة الأمر: أنّ هناک بعثین؛ تعلّق أحدهما بإکرام زید، و الآخر بإکرام عمرو، و حیث لم یرد إتیانهما معیّناً بخصوصه، بل أراد إتیان واحد منهما، توسّل بلفظة «أو» و ما فی معناها، و تخلّلها فی عبارته.

ففی الحقیقة: فی الواجب التخییری بعثان، أو بعوث؛ تعلّق کلّ واحد منهما أو


1- قلت: لاحظ« المقالات» 1: 342، ذیل مبحث الترتّب، و اشیر إلی ذلک فی« نهایة الأفکار» 1: 391. و لعلّ ما فی« النهایة» أوضح ممّا فی« المقالات». و لعلّه یمکن أن یوجّه مقاله قدس سره بنحو صحیح مع عدم ارتکاب نقصان الإرادتین؛ بأن یقال: إنّ الإرادة المتعلّقة بشی ء: تارة تقتضی وجود ذلک الشی ء نفسه لیس إلّا، و اخری تقتضی إتیانه، و فی صورة العدم تقتضی إتیان عدله، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 446

منها بأمر غیر ما للآخر، و یکون کلّ واحد منهما مشخّصاً و معیّناً لا إبهام فیه.

حیث إنّ الغرض یحصل بفعل کلّ منهما یتوسّل فی مقام الإفادة بلفظة «أو» و مرادفاتها لئلّا یلزم علی المکلّف حرج فی إتیان أحدهما المعیّن. ففی الوجوب التخییری واجبان مستقلّان، و لکن لا یجب إتیانهما معاً.

و الحاصل: أنّ من لاحظ الواجبات التخییریة فی العرف و العقلاء یعتقد جلیاً:

أنّه لا فرق بین البعث و آلته و المبعوث إلیه فی الواجب التخییری، و الواجب التعیینی، من حیث عدم البعث نحو المبهم، و لکن الفرق بینهما بحسب الثبوت فی أنّ الواجب التعیینی بنفسه محصّل للغرض لیس إلّا، بخلاف الواجب التخییری، و یکون البعث فی التعیینی متعلّقاً بشی ء بلا تعلّقه بشی ء آخر، و فی التخییری یکون بعثان متعلّقان بشیئین مع تخلّلهما بما یفید معنی التخییر فی إتیانه.

فإذا تبیّن لک شأن البعث فی الواجب التخییری، فالأمر فی الإرادة التشریعیة أیضاً کذلک؛ بداهة أنّ هناک إرادتین مستقلّتین، تعلّقت کلّ واحد منهما بواحد من الواجبین، لا إرادة واحدة، و الإرادتان مسبوقتان بتصوّرین و تصدیقین بحصول الفائدة بکلیهما، و شوقین کذلک أحیاناً.

فظهر: أنّ الأمر فی الواجب التخییری من ابتداء التصوّر إلی البعث لم یتعلّق بأمر مبهم واقعاً، مثلًا: یتصوّر المولی أنّ عتق الرقبة فی کفّارة الإفطار العمدی محصّل لغرضه فیصدّق بفائدته، فیشتاق إلیه أحیاناً، فیریده، و یبعث نحوه. و حیث یری أنّ غرضه کما یحصل بعتق الرقبة، یحصل بصوم ستّین یوماً، و لا جامع بینهما، فینقدح فی ذهنه مبادئ الإرادة بالنسبة إلیه، فیریده، و یبعث نحوه أیضاً. و یستفاد من ذلک تخییر المکلّف إتیان أیّهما شاء، فانکشف جلیاً: أنّه لم یتعلّق التکلیف فی الواجب التخییری بإتیان أحدهما و الجامع بینهما.

ص: 447

فالقول بأنّ الواجب فی الواجب التخییری هو الجامع بینهما، و یکون التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیاً لا شرعیاً؛ معلّلًا بأنّ الواحد لا یصدر من الاثنین بما هما اثنان، ما لم یکن بینهما جامع؛ لاعتبار نحو من السنخیة بین العلّة و المعلول، کما یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره(1)

. غیر وجیه؛ لما عرفت: أنّ متعلّق التکلیف فی الواجب التخییری بعینه هو متعلّق التکلیف فی الواجب التعیینی، فلا إبهام و لا تردّد فی البین حتّی یتشبّث بتصویر الجامع.

أضف إلی ذلک: أنّه- کما ذکرنا غیر مرّة- لم یکن مجری قاعدة «الواحد» الامور الاعتباریة، کما هو أوضح من أن یخفی، بل مجراها البسیط الحقیقی الذی لا تشوبه رائحة الکثرة، لا خارجاً، و لا ذهناً، و لا وهماً، فالمتشبّث بها فی أمثال المقام وضع الشی ء فی غیر محلّه.

و علی ما ذکرنا: لا إشکال فی أنّ التخییر فی الواجب التخییری بحسب الواقع شرعی لا عقلی، کما لا یخفی.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا- من إمکان تصویر الواجب التخییری- فلا وجه لرفع الید عن ظواهر الأدلّة الدالّة علی التخییر، بارتکاب کون التکلیف متعلّقاً بأحدهما، أو الجامع بینهما، أو تصویر إرادتین ناقصتین، إلی غیر ذلک ممّا ذکروه فی المقام؛ بداهة أنّه لا موجب لتلک التمحّلات إذا أمکن إبقاء الأدلّة علی ظاهرها.

و إیّاک أن تتوهّم: أنّه لا فرق بین القول بما ذکرنا، و بین القول بأنّ الواجب أحدهما، بلحاظ أنّه لا فرق بین أن یقال: «أکرم هذا أو ذاک» و بین قوله: «أکرم


1- کفایة الاصول: 174.

ص: 448

أحدهما»؛ لأنّ القول بذلک خلاف ظاهر الأدلّة، و لا یصار إلیه، بعد إمکان إبقاء ظاهر الأدلّة علی حاله بأنّ الواجب هو هذا أو ذاک، فتدبّر.

تذنیب: فی أنّه هل یمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر أم لا؟

اختلفوا فی جواز التخییر بین الأقلّ و الأکثر؛ فذهب بعض إلی إمکانه(1)، و بعض آخر إلی امتناعه(2)، و فصّل ثالث بین التدریجی و الدفعی بالجواز فی الأوّل دون الثانی ینبغی تحریر محطّ البحث و النزاع فیه حتّی یظهر أنّ بعض ما قیل فی المقام خارج عن محطّ البحث و داخل فی المتباینین:

فنقول: محطّ البحث و النزاع فی جواز التخییر بین الأقلّ و الأکثر إنّما هو إذا اخذ الأقلّ لا بشرط طرفاً للتخییر، لا فیما إذا اخذ بشرط لا؛ بداهة أنّه لو اخذ کذلک و بحدّه الخاصّ یکون مبایناً للأکثر و یکون التخییر بینهما من قبیل التخییر بین المتباینین، و لا إشکال- کما لا خلاف- فی تصویر التخییر عند ذلک؛ و ذلک لأنّ الخطّ المحدود بحدّ خاصّ- کذراع واحد- غیر الخطّ المحدود بحدّ آخر- کذراعین- و یباینه، و أمّا ذات الخطّ اللابشرط غیر المحدود بحدّ خاصّ قابل للصدق علی ذراع و ذراعین و هکذا، فذراع واحد مرکّب عقلی من أصل الذراع و المحدودیة بحدّ خاصّ.

فإذا تمهّد لک محطّ البحث فالحقّ: امتناع التخییر بین الأقلّ و الأکثر مطلقاً؛ تدریجیاً کان أم دفعیاً، إلّا فی صورة من الدفعی؛ و هو ما إذا رتّب غرض علی الأکثر غیر الغرض المترتّب علی الأقلّ، و لم یکن اجتماعهما مبغوضاً للمولی.


1- الفصول الغرویة: 103/ السطر 36، کفایة الاصول: 175، نهایة الأفکار 2: 393.
2- فوائد الاصول 1: 235، أجود التقریرات 1: 186.

ص: 449

توضیح ذلک یستدعی ذکر الصور المتصوّرة فی الباب و ملاحظتها و ملاحظة ما ذکر فیها حتّی یتبیّن الحال.

و ذلک لأنّ الأقلّ و الأکثر: إمّا تدریجی الوجود، کالتخییر بین تسبیحة و تسبیحات، أو دفعی الوجود، کالتخییر بین إعطاء دینار واحد أو دینارین دفعة واحدة للفقیر.

و علی أیّ تقدیر: إمّا یکون للمولی غرض واحد مترتّب علی الأقلّ و توهّم تعلّقه بالأکثر، أو غرضان.

و علی الثانی: فتارة یکون بین الغرضین تزاحم فی الوجود، بحیث لو تحقّق أحدهما لا یکاد یتحقّق الآخر، و اخری لا یکون بینهما تزاحم فی الوجود، لکن تحقّقهما معاً مبغوض للمولی، و ثالثة لا یکون کذلک، و لکن لا یرید إلّا واحداً منهما.

فهناک صور، و عمدة البحث إنّما هو فی الصورة الاولی، و هی: ما إذا کان الأقلّ و الأکثر تدریجی الوجود.

فقال المحقّق الخراسانی قدس سره بما حاصله: إنّه یمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر إذا فرض أنّ المحصّل للغرض فیما إذا وجد الأکثر هو الأکثر، لا الأقلّ الذی فی ضمنه؛ بمعنی أن یکون لجمیع أجزائه- حینئذٍ- دخل فی حصول الغرض، لا الأقلّ بخصوصه، و إن کان الأقلّ لو لم یکن فی ضمنه- بأن وجد مستقلًاّ- کان وافیاً بالغرض أیضاً.

بل یری قدس سره: أنّه لا محیص عن التخییر بینهما؛ إذ تخصّص الأقلّ بالوجوب- حینئذٍ- یکون بلا مخصّص، مع أنّ الأکثر بحدّه مثله علی الفرض.

فأورد علی نفسه: بأنّه إنّما یتمّ ذلک إذا لم یکن للأقلّ فی ضمن الأکثر وجود علی حدة، کالخطّ الطویل الذی رسم دفعة بلا تخلّل سکون فی البین، و أمّا إذا کان

ص: 450

للأقلّ وجود مستقلّ فی ضمنه- کتسبیحة واحدة فی ضمن تسبیحات ثلاث- فحیث یوجد الأقلّ بحدّه فبوجوده یحصل الغرض علی الفرض، و معه لا محالة یکون الزائد علیه غیر دخیل فی حصول الغرض، فیکون زائداً علی الواجب، لا من أجزائه حتّی یکون الأکثر هو الواجب.

فأجاب قدس سره: بأنّ الفرق غیر فارق فیما نحن بصدده؛ لأنّ الأقلّ إنّما یترتّب علیه الغرض إذا لم یکن فی ضمن الأکثر، و أمّا إذا کان فی ضمن الأکثر یکون الغرض مترتّباً علی الأکثر بالتمام.

و بالجملة: مجرّد الدفعیة و التدریجیة لیس ملاکاً فی اتّصاف الأکثر بالوجوب و عدمه حتّی یقال: إنّ الأکثر لا یتّصف بالوجوب إلّا إذا لم یکن للأقلّ وجود مستقلّ، کتسبیحة فی ضمن تسبیحات، بل الملاک فی ذلک هو اشتراط محصّلیة شی ء للغرض بوجود أمر أو بعدمه؛ فإن کان مشروطاً بذلک فهو الأکثر و إن وجد تدریجیاً، و إن کان مشروطاً بعدمه فهو الأقلّ کذلک(1)، انتهی محرّراً.

و فیه: أنّ التخییر کذلک و إن کان صحیحاً، و لکنّه خارج عن محطّ البحث- و هو التخییر بین الأقلّ و الأکثر- و مندرج فی التخییر بین المتباینین؛ لمباینة الماهیة بشرط شی ء للماهیة بشرط لا.

و بالجملة: اعتبار الأقلّ بحدّه غیر الموجود فی ضمن الأکثر، و لیس هذا إلّا اعتباره بشرط لا، و هو مباین للأکثر؛ بداهة أنّ الذراع بحدّه یباین الذراعین، فیخرج عن موضوع البحث.


1- کفایة الاصول: 175- 176.

ص: 451

تصویر التخییر بین الأقلّ و الأکثر و دفعه

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فی تصویر بعض الأعاظم- دام ظلّه(1)- التخییر بین الأقلّ و الأکثر. و ما أفاده- دام ظلّه- هو الذی أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره، و لکنّه ببیان آخر، حاصله: أنّه یمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر فیما إذا کان الأقلّ و الأکثر داخلین تحت طبیعة واحدة مشکّکة، یکون ما به الاشتراک فی الأفراد عین ما به الامتیاز، و ذلک کالخطّ القصیر و الطویل إذا تعلّق بهما أمر؛ فإنّ التخییر بین الفردین منه ممکن؛ لأنّ الخطّ ما دام متدرّجاً فی الوجود یوجد شیئاً فشیئاً و لا تعیّن له، و یکون کأنّه منهما قابلًا لکلّ تعیّن؛ فلا یکون محصّلًا للغرض، و إنّما یکون محصّلًا له إذا تعیّن فردیته للأقلّ أو الأکثر، و لیس ذلک إلّا إذا انقطع مسیره إمّا علی المرتبة القصیرة أو الطویلة. فالخطّ الممتدّ إنّما یکون محصّلًا للغرض إذا تعیّن بأحد الفردین، و هو لیس إلّا بانقطاع مسیره، فیمکن التخییر بینهما.

و بالجملة: التفاوت بین الفردین من الخطّ و إن کان بالأقلّیة و الأکثریة، و لکن صیرورتهما فردین للطبیعة و مُحصّلین للغرض غیر ممکنة إلّا بتحقّق الفردیة، و هی متقوّمة بالمحدودیة بالحمل الشائع.

و قال- دام ظلّه-: إنّه یمکن أن یتصوّر قسم آخر للتخییر بین الأقلّ و الأکثر؛ و هو ما إذا کان کلّ من الأقلّ و الأکثر محصّلًا لعنوان یکون ذاک العنوان محصّلًا للغرض، و ذلک کالتخییر بین القصر و الإتمام فی بعض الموارد؛ فإنّه و إن امر بهما مخیّراً مع اختلافهما بالأقلّیة و الأکثریة، و لکن ارید بهما شی ء واحد- و هو التخشّع


1- یعنی به: استاذنا الأعظم البروجردی دام ظلّه.[ المقرّر حفظه اللَّه].

ص: 452

و التخضّع بنحو العبودیة المعلول لهما فی کلّ مرتبة- ففی مثله أیضاً یجوز التخییر.

و بالجملة: کلّ واحد من القصر و التمام محصّل لعنوان واحد- و هو عنوان التخشّع و التخضّع لِلَّه تعالی الذی یترتّب علیه المصلحة- فالتخییر بین الأقلّ و الأکثر فی مثل هذه الموارد أیضاً ممکن(1)

. توضیح النظر هو: أنّ ما أفاده- دام ظلّه- أوّلًا: «أنّه لا تحقّق و لا تحصّل للخطّ ما دام متدرّجاً» إن أراد به: أنّ فرد الأقلّ من الخطّ بما أنّه أقلّ لا تحقّق و لا تحصّل له إلّا بانقطاع مسیره، أو أنّ الخطّ لم یکن خطّاً ما لم ینقطع.

فإن أراد الأوّل فمسلّم، و لکنّه خروج عن محطّ البحث فی التخییر بین الأقلّ و الأکثر، و دخول فی المتباینین، کما أشرنا آنفاً.

و إن أراد الثانی، ففیه: أنّه قبل تعیّنه للفردیة یصدق علیه الخطّ حقیقة، فلو کان لنفس القدر المشترک بین القصیر و الطویل أثر، یترتّب علیه و إن لم یتعیّن بالطول و القصر.

و بالجملة: قوله- دام ظلّه- خلط للطبیعة اللابشرط بالطبیعة بشرط لا؛ لأنّ مقداراً من الخطّ غیر المتعیّن بأحدهما کما یکون مصداقاً لطبیعة الخطّ یکون مصداقاً لذراع لا بشرط؛ فلا بدّ و أن یحصل به الغرض، و عند ذلک یکون الزائد علیه ممّا لا دخل له فی حصول الغرض. نعم لم یکن مصداقاً لذراع بشرط لا، و واضح: أنّه لم یکن ذلک محطّ البحث، فتدبّر.

و أمّا ما ذکره- دام ظلّه- ثانیاً، فلم نکد نفهمه؛ لأنّ النزاع لم یکن فی حصول الغرض بواسطة العنوان، بل فی أنّ الغرض هل یحصل بالأقلّ أم لا؟


1- لمحات الاصول: 188.

ص: 453

فإذن: الأقلّ اللابشرط إذا وجد فهل یحصل الغرض به- و لو بواسطة حصول العنوان المحصّل له- أم لا؟

فإن حصل فیکون الزائد ممّا لا دخل له فی حصول الغرض، فلا یبقی، و إن کان حصول الغرض بالأقلّ مشروطاً بوقوعه علی حدّ الأقلّ فیخرج عن محطّ البحث و یدخل فی المتباینین، فتدبّر.

و لعلّه تحقّق ممّا ذکرنا: أنّه لو کان الأقلّ و الأکثر تدریجی الوجود لا معنی للتکلیف التخییری؛ لأنّ الأقلّ اللابشرط فی جمیع الأحوال یتحقّق و یوجد قبل الأکثر، فإن کان الغرض واحداً یترتّب علیه، و إن کان هناک غرضان فلا یمکن للمولی أن یتوصّل إلی الغرض الثانی سواء کان الغرضان متزاحمین فی الوجود، أو کان جمعهما مبغوضاً للمولی و الأمر علیهما واضح، أو لم یکن کذلک؛ لأنّ مقتضی التکلیف التخییری هو صحّة إمکان التوصّل بأیّهما شاء، فبوجود صرف وجود الواجب یتحقّق الأقلّ اللابشرط، فلا معنی لبقاء الوجوب بعد؛ لسقوط التکلیف التخییری بإتیان طرف وجود الواجب. هذا کلّه فی التدریجیات.

و أمّا التخییر فی الدفعیات: فإن کان للمولی غرض واحد یحصل بالأقلّ- و توهّم ترتّبه علی الأکثر- فإن کان الغرض مترتّباً علی الأقلّ لو وجد منفرداً، و أمّا إن وجد فی ضمن الأکثر فالغرض مترتّب علی الأکثر، فیخرج عن محطّ البحث و یدخل فی المتباینین. فلا بدّ و أن یتصوّر الأقلّ بنحو یترتّب الغرض علی وجوده؛ سواء وجد مستقلًاّ، أو وجد فی ضمن الأکثر.

و بالجملة: لو کان الأقلّ بنحو لو وجد مستقلًاّ یترتّب علیه الغرض، و أمّا إن وجد فی ضمن الأکثر فلا یترتّب علیه الغرض، بل علیه و علی غیره؛ فلا یکون التخییر بین الأقلّ و الأکثر، بل بین المتباینین، و إنّما یکون التخییر بین الأقلّ و الأکثر

ص: 454

إذا کان الغرض مترتّباً علی ذات الأقلّ؛ وجد مستقلًاّ أو مع الأکثر.

و تصوّر ذلک یکفی فی عدم إمکان التخییر هنا؛ بداهة أنّ المولی إذا رأی أنّ غرضه یحصل بإتیان الأقلّ- حتّی إذا کان فی ضمن الأکثر- فیکون مؤثّراً فی تحصیل غرضه، فیکون الزائد من قبیل وضع الحجر جنب الإنسان، و محال أن یتعلّق الأمر و الإیجاب بما لا یکون له دخالة فی حصول الغرض.

و کذا إذا کان للمولی غرضان یترتّب أحدهما علی الأقلّ و الآخر علی الأکثر، و لکن یکون الغرضان متزاحمین وجوداً، أو کان الجمع بینهما مبغوضاً له، فمحال أن یتعلّق أمر المولی بالزائد؛ ضرورة أنّ أمر المولی للتوصّل إلی غرضه و مطلوبه، و المفروض أنّ ما یحصل بالأکثر مزاحم أو مبغوض له، و لا یعقل أن یتوصّل المولی بما یوجب الجمع بین المتزاحمین أو المبغوضین.

و أمّا إذا لم یکن الغرض الآخر المترتّب علی الأکثر مزاحماً و لا مبغوضاً للغرض المترتّب علی الأقلّ، فیمکن التخییر بینهما، و للمکلّف أن یأتی بأیّهما شاء؛ فإن أوجد الأکثر فقد أتی بما یکون محصّلًا لغرضه و شی ء آخر، و للمولی أن یختار أیّهما شاء.

فتحصّل ممّا ذکرنا: إمکان تصویر التخییر بین الأقلّ و الأکثر فی قسم من الدفعیات فقط؛ و هو ما إذا کان هناک غرضان قابلان للاجتماع، و لا یکون لاجتماعهما مبغوضیة، فإذا أمکن تصویر التخییر بین الأقلّ و الأکثر فی مورد، فحیث إنّه لا اطّلاع لنا علی کیفیة تعلّق الأغراض بمتعلّقات الأحکام، فإن ورد دلیل ظاهره التخییر بین الأقلّ و الأکثر یؤخذ بظاهره، فلعلّه من هذا القسم.

و أمّا فی التدریجیات فقد عرفت- لعلّه بما لا مزید علیه- عدم إمکان تصویر التخییر فیها، فلو ورد ما ظاهره التخییر فلا بدّ من التصرّف فیه؛ إمّا فی الموضوع، أو فی الحکم. و اللَّه الهادی إلی سواء الطریق.

ص: 455

الفصل العاشر فی الواجب الکفائی

اشارة

ینقسم الواجب إلی الواجب العینی و الواجب الکفائی، و هذا ممّا لا إشکال فیه؛ لأنّه لا شبهة فی وجود الواجبات الکفائیة فی الشریعة المقدّسة، کأکثر أحکام المیّت و تجهیزه، کما لا إشکال فی وجود الواجبات العینیة فیها، کالصلاة و الصوم و غیرهما.

و لکن وقع الکلام فی هویة الوجوب الکفائی، و تصویره، و کیفیة تعلّق الوجوب الکفائی و توجّهه إلی المکلّفین، و بیان الفرق بینه و بین الوجوب العینی.

و ذلک لأنّ للوجوب الکفائی شأناً بین الواجبات؛ لأنّه إذا ترک الواجب الکفائی یعاقب الجمیع علیه، و إن أتی به واحد منهم یثاب علیه و یسقط التکلیف عن الباقین، مع أنّ الاعتبار یساعد علی أن یکون الثواب و العقاب علی الفعل أو الترک بالنسبة إلی کلّ أحد، کما هو الشأن فی الواجب العینی.

و لذا وقعوا فی تصویر الواجب الکفائی فی حیص و بیص:

فقال بعض: إنّه لا فرق بین الواجب العینی و الکفائی إلّا فی المکلّف به؛ لأنّ المکلّف به فی الواجب العینی نفس الطبیعة مقیّدة بمباشرة کلّ مکلّف، فکلّ

ص: 456

مکلّف له تکلیف یخصّه، بخلاف الواجب الکفائی؛ فإنّ متعلّقه نفس الطبیعة(1)

. و لکن فیه: أنّ هذا المقدار لا یشفی العلیل، و لم یف ببیان ما هو العمدة فیه؛ و هو تعیین المکلّف- بالفتح- فی الواجب الکفائی بأنّه صرف وجود المکلّف أو واحد غیر معیّن منهم، إلی غیر ذلک، فالعمدة بیان من یتوجّه إلیه التکلیف فی الواجب الکفائی.

و ربّما یقال: إنّ الفرق بین الواجبین فی المکلّف- بالفتح- بأنّه فی الواجب العینی جمیع الأفراد علی نحو الاستغراق، و فی الواجب الکفائی صرف وجود المکلّف، و حیث إنّ صرف الوجود صادق علی الجمیع کما یصدق علی البعض، فإذا أوجد جمیعهم المکلّف به یصدق علیهم صرف وجود المکلّف، کما أنّه یصدق ذلک إذا أتی به بعضهم، و إن ترک الجمیع فیعاقبوا أجمع(2)

. و سیظهر لک قریباً- إن شاء اللَّه- عند تصویر أقسام الواجب الکفائی، عدم إمکان المساعدة علی ذلک.

قال المحقّق الخراسانی قدس سره: و التحقیق أنّ الواجب الکفائی سنخ من الوجوب، و له تعلّق بکلّ واحد، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا علی مخالفته جمیعاً، و إن سقط عنهم لو أتی به بعضهم ... إلی آخره(3)

. و لا یخفی: أنّه لم یظهر من کلامه قدس سره إلّا أنّ الوجوب الکفائی سنخ وجوب شأنه کذا و کذا، و هذا ممّا لا إشکال فیه و لا کلام.


1- نهایة الاصول: 229، لمحات الاصول: 192.
2- أجود التقریرات 1: 187.
3- کفایة الاصول: 177.

ص: 457

و الکلام إنّما هو فی بیان أنّ المکلّف- بالفتح- فی الکفائی من هو؟ هل هو جمیع الأفراد- کما کان کذلک فی العینی- أو لا؟ و أنّ المکلّف به فیه هل هو صرف الوجود من الطبیعة، أو مصداق منه؟ فلم یکد یفهم ذلک من کلامه هذا.

و لکن حیث إنّ الواجبات الکفائیة لم تکن علی وزان واحد- بل تتصوّر علی صور متعدّدة- فلا بدّ أوّلًا من تصویرها، ثمّ ملاحظة أنّه هل یمکن تعریفها بنحو یشمل جمیع الصور، أم لا؟ ثمّ بیان الفرق بینها و بین الواجب العینی.

فنقول: فمن الواجبات الکفائیة ما لا یمکن أن یوجد و یتحقّق فی الخارج إلّا فرد واحد منها، کقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم أو المرتدّ و نحوهما.

و منها: ما یمکن فیه ذلک.

و حینئذٍ فتارة: یکون المطلوب فیه فرداً و مصداقاً من الطبیعة، بحیث یکون الفرد و المصداق الآخر مزاحماً له فی الوجود أو مبغوضاً معه، أو لا یکون مبغوضاً و لا محبوباً.

و اخری: لم یکن لخصوصیة الفردیة و المصداقیة دخالة فیه، بل کان المطلوب صرف الوجود المتحقّق بمصداق أو مصداقین أو أکثر.

و من الواضح: أنّه لا یمکن التکلیف الاستغراقی و تکلیف جمیع المکلّفین فی عرض واحد فی جمیع هذه الصور.

و ذلک: أمّا فیما لا یقبل التکرار- کسابّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم فواضح؛ لأنّه لم یکن لقتله إلّا مصداق واحد، فلو اجتمعوا علی قتله لا یکون کلّ واحد منهم قاتلًا علی حدة، بل جارح علیه؛ لأنّه من الممتنع تکلیف جمیع آحاد المکلّفین و بعثهم فی عرض واحد علی إتیان أمر لا یقبل التکرار.

و بعبارة اخری: التکلیف المطلق لآحاد المکلّفین فی عرض واحد بالنسبة إلی

ص: 458

ما لا یمکن فیه تحقّق الکثرة لغرض انبعاثهم ممّا لا یمکن، و هذا واضح.

و کذا یمتنع أن یتعلّق التکلیف بجمیع آحاد المکلّفین لو کان المتعلّق فرداً من الطبیعة و کان المصداق الثانی مزاحماً له فی الوجود، و هذا واضح بعد تصوّر الصورة الاولی. بل و کذا یمتنع ذلک لو کان المصداق الثانی مبغوضاً، أو لم یکن مبغوضاً و لا محبوباً:

أمّا الأوّل: فلاقتضائه بعث الجمیع إلی المطلوب و المبغوض، و هو واضح البطلان.

و أمّا الثانی: فلاقتضائه توجّه التکلیف إلی المطلوب و غیره، و من الواضح:

عدم انقداح إرادة المولی للبعث إلی غیر المطلوب؛ لاستلزامه الجزاف فی الإرادة، و هو محال من المولی الحکیم.

نعم، فیما إذا کان المتعلّق صرف الوجود من الطبیعة القابلة للتکرار، فیمکن بعث جمیع آحاد المکلّفین نحو إیجاد صرف الوجود من الطبیعة، و لازم ذلک لزوم اجتماعهم علی إیجاد صرف الوجود مجتمعاً؛ لکونهم مکلّفین به حسب الفرض، و یسقط بفعل واحد منهم، و مقتضی ذلک: عقاب المتخلّف لترکه الأمر المطلق بلا عذر.

و بالجملة: لازم تکلیفهم بصرف الوجود من الطبیعة مجتمعاً هو عقاب المتخلّف منهم؛ للزوم معاونته مع جمیع آحاد المکلّفین علی صرف الوجود من الطبیعة.

فظهر لک جلیاً: أنّه لا یکاد یمکن أن یکون المکلّف فی الواجب الکفائی فی جمیع الصور صرف الوجود من المکلّف الصادق علی الجمیع، فالتفرقة بین الواجب الکفائی و العینی من هذه الجهة- کما یظهر من بعضهم- غیر مستقیم.

ص: 459

فلا بدّ و أن یقال: إنّ المکلّف فی الواجب الکفائی فرد من المکلّفین: إمّا لا بشرط کما فی بعض الصور، أو بشرط لا کما فی البعض الآخر. فإن کان فرداً من المکلّفین مأخوذاً لا بشرط الجامع مع الاثنین و الأکثر فیجتمع ذلک مع کون المکلّف به صرف الوجود من الطبیعة، و أمّا فیما إذا کان المتعلّق غیر قابل للتکرار، أو یقبل ذلک و لکن کان الفرد الثانی مزاحماً له أو مبغوضاً أو غیر مطلوب، فالمکلّف عند ذلک لا بدّ و أن یکون الفرد بشرط لا.

إشکال و دفع

و توهّم: أنّ الفرد غیر المعیّن لا وجود له فی الخارج؛ لأنّ الوجود مساوق للتشخّص، و هو ینافی التردّد و الإبهام.

مدفوع: بأنّ غیر الموجود فی الخارج هو الفرد المتقیّد بعنوان غیر المعیّن، و من الواضح: أنّ غیر المعیّن بالحمل الأوّلی غیر موجود فی الخارج. و لا نرید بواحد من المکلّفین تصویر مفهوم غیر المعیّن، کما لا یخفی. و أمّا عنوان «فرد من المکلّفین» فمفهومه مبیّن معلوم، و له وجود فی الخارج.

مثلًا قولک: «بعتُ صاعاً من الصبرة» فکما أنّه یصدق علی کلّ واحد من الأصوع من الصبرة، و مع ذلک لم یکن جمیع الأصوع مطلوبة فی عرض واحد. و کم فرق بین قولک هذا، و بین قولک: «بعتُ صاعاً»، أو «بعت هذا الصاع»، کما لا یخفی، فتدبّر.

فالصاع من الصبرة کلّی متقیّد لا یقبل الصدق علی الصاع من غیر هذه الصبرة، و لکن مع کلّیته لا یقبل الصدق علی أکثر من صاع واحد.

ص: 460

و إن کان فی خواطرک ریبٌ فی تصویر الواحد لا بشرط و بشرط لا، فنوضحه بمثال: افرض أنّ لشخص خدماً عدیدة، فیقول لهم: «فلیجئ أحد خدّامی»، فإن کان مراده جیئة واحد منهم بشرط لا، لا یصحّ أن یجی ء إلّا واحد منهم، و أمّا إن کان مراده واحداً منهم لا بشرط فیصحّ أن یجی ء اثنان أو أکثر منهم.

فظهر ممّا ذکرنا: أنّه یمکن أن یقال: إنّ المکلّف- بالفتح- فی الواجب الکفائی، واحد من المکلّفین، و لازمه العقلی هو: أنّه لو خالف جمیع المکلّفین المکلّف به لیعاقبون بأجمعهم؛ لصدق عنوان الواحد لا بشرط هناک، و إن أتی به واحد منهم فیسقط التکلیف عن الجمیع، من دون لزوم إشکال عقلی، فتدبّر.

و یمکن تصویر الواجب الکفائی بنحو آخر، نظیر ما تصوّرنا التردید فی المکلّف به فی الواجب التخییری و ذببنا الإشکال عنه، فیکون المکلّف فی الواجب الکفائی هذا، أو أنت، أو ذاک، و هکذا؛ إمّا بنحو لا بشرط أو بشرط لا.

و لا یخفی: أنّه ربّما لا یکون فی بعض الصور مانع من القول بأنّ المکلّف به صرف وجود الطبیعة، و لا کون المکلّف صرف الوجود من المکلّفین- علی إشکال- کصلاة المیّت، و لازمه تحقّقها بإتیانهم عَرضاً؛ بأن یصلّوا علیه جماعة، فیکون الجمیع مطیعین، کما تتحقّق بإتیان بعضهم، و تسقط عن الباقین. و لو ترکوها بأجمعهم یکونوا عاصین بأجمعهم.

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه: إمکان تصویر الواجب الکفائی، فإن ورد دلیل فی مقام الإثبات ظاهره ذلک فیؤخذ بظاهره، من دون إشکال.

ص: 461

الفصل الحادی عشر فی الواجب المطلق و الموقّت

اشارة

الفصل الحادی عشر فی الواجب المطلق و الموقّت(1)

تنقیح الکلام فیه یستدعی التکلّم فی جهات:

الجهة الاولی: فی تقسیم الواجب إلی المطلق و الموقّت لا

یخفی: أنّ الإنسان فی هذه النشأة بما أنّه موجود زمانی، تکون أفعاله أیضاً زمانیة، فلا بدّ و أن یکون الزمان ظرفاً لأفعاله، فلزوم الزمان فی تحقّق الواجبات ممّا لا بدّ منه عقلًا.

و لکن ربّما لا یکون الزمان دخیلًا فی حصول الغرض، بل نفس الطبیعة محصّلة للغرض، بلا دخالة لوقوعها فی الزمان. کما ربّما یکون المکان أیضاً کذلک، فلو فرض إمکان تحقّق المتعلّق بلا زمان یکون هو المحصّل للغرض.

و ربّما یکون الزمان دخیلًا فی حصول الغرض، و هو علی قسمین: فتارةً یکون مطلق الزمان محصّلًا لغرضه، و اخری یکون زمان معیّن محصّلًا لغرضه.


1- تأریخ الشروع یوم الثلاثاء 19/ ع 2/ 1380 ه. ق.

ص: 462

لا إشکال فی کون الأوّل واجباً مطلقاً، کما لا إشکال فی کون الواجب موقّتاً إذا کان الزمان المعیّن محصّلًا لغرضه.

و أمّا إذا کان مطلق الزمان دخیلًا فی حصول الغرض، ففی عدّه من الواجب الموقّت نحو غموض، بل إشکال؛ لأنّ الموقّت هو الذی یتعلّق الأمر فیه بالطبیعة و ظرفها، و ذلک فیما إذا کان الزمان المخصوص محصّلًا للغرض، و أمّا إذا کان مطلق الزمان دخیلًا فیه فلا مجال للأمر به؛ للزوم اللغویة؛ بداهة أنّه- کما أشرنا- إنّ الإنسان بما أنّه موجود زمانی لا یقدر علی إیجاد أفعاله فی غیر الزمان حتّی یکون الأمر صارفاً عنه أو داعیاً نحوه.

فإذن: لا ینبغی أن یُعدّ الواجب کذلک موقّتاً، و إن کان لمطلق الزمان دخالة فی حصول الغرض.

و بالجملة: التوقیت إنّما یکون ذا فائدة إذا أمکن أن یکون صارفاً و داعیاً، فإذا فرض أنّ المکلّف لا یقدر علی إیجاد الواجب فی غیر الزمان فلا یکاد یصحّ توقیت الواجب بوقتٍ ما.

فظهر: أنّه إذا کانت لحصّة من الزمان و مقدار مخصوص منه دخالة فی البعث و الإیجاب یصیر الواجب موقّتاً؛ و إلّا- سواء لم تکن للزمان دخالة فیه أصلًا، أو کان و لکن بطبیعته- یکون الواجب مطلقاً.

فالصحیح فی تقسیم الواجب إلی الموقّت و المطلق أن یقال: إنّ الموقّت ما عیّن له وقت مخصوص، و المطلق بخلافه. فعلی هذا: یکون للواجب المطلق قسمان:

أحدهما: لا تکون للزمان دخالة فی حصول الغرض و البعث أصلًا.

ثانیهما: ما یکون لمطلق الزمان دخالة فیه.

ص: 463

فإذن: للموقّت قسم واحد؛ و هو ما کان زمان مخصوص دخیلًا فی حصول الغرض و البعث.

فتحصّل: أنّ تقسیم الواجب إلی المطلق و الموقّت بلحاظ البعث و الإیجاب، لا الملاکات و الأغراض، و أنّ الزمان المعیّن إذا کان دخیلًا فی البعث و الإیجاب یکون الواجب موقّتاً، و إلّا یکون الواجب مطلقاً، و إن کان «زمان ما» دخیلًا فی ذلک.

فإذا تمهّد لک ما ذکرنا یظهر لک ضعف ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره حیث قال: إنّ الواجب حیث إنّه زمانی لا ینفکّ عن الزمان عقلًا، إلّا أنّ الزمان إذا کانت له فی متن الواقع دخالة فی حصول الغرض، فیکون الواجب موقّتاً، و إلّا کان الواجب غیر موقّت(1)، انتهی.

توضیح الضعف أوّلًا: أنّ التقسیم بلحاظ البعث و الإیجاب، لا الغرض و الملاک.

و ثانیاً: أنّ مجرّد دخالة الوقت فی الواجب لا یصیّره موقّتاً، و إنّما یصیر موقّتاً إذا کانت لحصّة من الزمان، دخالة فی ذلک. و لا یخفی: أنّه مع ذلک لا یهمّ النزاع.

الجهة الثانیة: فی تقسیم الموقّت إلی المضیّق و الموسّع

اشارة

لا إشکال فی صحّة تقسیم الواجب الموقّت إلی المضیّق و الموسّع؛ لأنّه إن کان الزمان المأخوذ فی الواجب بقدره فمضیّق، کالصوم من طلوع الفجر إلی المغرب، و إن کان أوسع منه فموسّع، کالصلاة من دلوک الشمس إلی غسق اللیل.


1- کفایة الاصول: 177.

ص: 464

الإشکال علی تصویر الواجب الموسّع و المضیّق و دفعه

فربّما اورد علی الواجب الموسّع إشکال عقلی بأنّ لازم توسعة الوقت علی الواجب جواز ترک الواجب فی أوّل الوقت بلا بدل، و هو ینافی الوجوب؛ فلا بدّ و أن یخصّص ما ظاهره ذلک: إمّا بأوّل الوقت- فلو عصی و أخّره و أتی به آخر الوقت یکتفی به و یجتزی به عن الواجب، کما یشیر إلیه ما ورد:

«إنّ أوّل الوقت رضوان اللَّه، و آخر الوقت غفران اللَّه»

(1)- أو بآخر الوقت، و أنّ الإتیان به أوّل الوقت نفل یسقط به الفرض(2)

. و فیه: أنّ ترک الواجب الموسّع إنّما هو بترکه فی تمام الوقت المضروب له، لا بترکه فی أوّل الوقت أو بعض آخر منه.

فإذن: وجوب الصلاة بین دلوک الشمس إلی غسق اللیل، لا ینافی جواز تأخیرها من أوّل الوقت، و إنّما ینافی جواز ترکها فی جمیع الوقت المضروب له.

و المخالفة و العصیان إنّما یتحقّقان لو ترکها فی تمام الوقت المضروب لها، لا فی بعضها فقط مع الإتیان بها فی البعض الآخر، و لعلّه من الوضوح بمکان.

کما اورد علی الواجب المضیّق إشکال عقلی آخر، و هو: أنّه لا ریب فی أنّ الانبعاث لا بدّ و أن یکون متأخّراً عن البعث زماناً، فلا بدّ من فرض زمان یسع البعث و الانبعاث، و لازمه زیادة زمان الوجوب علی زمان الواجب.

و بالجملة: إذا بعثه المولی فی أوّل الوقت- کما إذا أمره بالصوم فی أوّل الفجر-


1- راجع مستدرک الوسائل 3: 101، کتاب الصلاة، أبواب المواقیت، الباب 3، الحدیث 1.
2- انظر الفصول الغرویة: 104/ السطر 28.

ص: 465

فلا یکاد ینبعث فی أوّله؛ لأنّ المفروض أنّ الانبعاث متأخّر زماناً عن البعث، فلا یمکن وقوعه فی زمانه. نعم یمکن أن یتأخّر الانبعاث عنه بالزمان و لو قلیلًا، فیلزم عدم تطابق الصوم لأوّل الوقت(1)

. و فیه أوّلًا: أنّه لا دلیل علی لزوم تأخّر زمان الانبعاث عن البعث، و إنّما یتأخّر عنه طبعاً؛ فلو أمره المولی فی أوّل اللیل بالإمساک من طلوع الفجر بنحو الواجب المشروط، ینبعث المکلّف من أوّل الفجر مع تعلّق الوجوب أیضاً فی ذلک الوقت، و لا إشکال فیه.

و بالجملة: لا دلیل علی تأخّر زمان الانبعاث عن البعث، بل ربّما یتّحدان کذلک. و تأخّر الانبعاث عن البعث رُتبی، نعم یتوقّف الانبعاث علی العلم بالبعث قبل طلوع الفجر، و هو غیر تأخّر الانبعاث زماناً عن صدور البعث، فتدبّر.

و ثانیاً: لو سلّم لزوم تأخّر الانبعاث عن البعث زماناً، و لکن یمکن الأمر بالمضیّق قبل الوقت بنحو الواجب المعلّق؛ بتعلیق الواجب علی دخول الوقت، و أنّ الوجوب قبل الوقت فعلی.

فتحصّل: إمکان تصویر الواجب المضیّق، و هو ما إذا کان الزمان المأخوذ فی الواجب بقدره، فلا نحتاج إلی تجشّم التأویل فی تصویر الواجب المضیّق، فتدبّر.

الجهة الثالثة: فی أنّ التخییر فی الواجب الموسّع بین الأفراد عقلی

إذا تعلّق الأمر بطبیعة فی وقت موسّع و لها أفراد طولیة، فالعقل یحکم بأنّ المکلّف مخیّر فی الإتیان بأیّ فرد منها، و إیقاعها فی کلّ حصص الزمان


1- انظر فوائد الاصول 1: 281.

ص: 466

المضروب له المحدود بین المبدأ و المنتهی، کما هو الشأن فی الأفراد العرضیة.

فکما أنّ المکلّف مخیّر عقلًا فی الإتیان بالصلاة- مثلًا- فی أیّ مکان من المسجد و البیت و الحمّام، إلی غیر ذلک، فکذلک مخیّر فی الإتیان بالصلاة فی کلّ حصّة من الزمان المضروب له المحدود بالحدّین.

و لا یعقل أن یکون التخییر شرعیاً؛ لأنّ المفروض أنّ خصوصیة کلّ واحد من الأفراد غیر دخیلة فی المطلوب منها و غیر محصّلة للغرض، و إلّا لم یتعلّق البعث بنفس الطبیعة، فلا یکاد یعقل توجّه البعث و الإیجاب إلی ما هذا شأنه؛ للزوم اللغویة و الجزاف بعد حکم العقل.

فالشارع بما هو شارع لا یجوز له أن یخیّر المکلّف بین أفراد الطبیعة المحدودة بین الحدّین- المبدأ و المنتهی- نعم یصحّ له ذلک بما أنّه من العقلاء، الإرشاد إلی حکم العقل، فتدبّر.

الجهة الرابعة: فی أنّ الموسّع عند تضیّق وقته لا یصیر مضیّقاً

قد یقال: إنّ الواجب عند تضیّق وقته یصیر واجباً مضیّقاً؛ للزوم إتیانه فی نفس الوقت؛ فلو لم یأت المکلّف بالواجب الموسّع عمداً أو نسیاناً حتّی بقی من الوقت بمقدار فعل الواجب فقط- بحیث تضیّق وقته- فیحکم العقل بلزوم إتیانه فوراً، فیصیر واجباً مضیّقاً(1)

. و لکن أشرنا فی الجهة السابقة: أنّه فرق بین الواجب الموسّع و المضیّق؛ فإنّ


1- انظر مبادئ الوصول إلی علم الاصول: 104، المحصول فی علم اصول الفقه 1: 363، شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب: 89.

ص: 467

الموسّع هو الذی یکون ظرف إتیانه أوسع منه بدلالة الدلیل، کما أنّ المضیّق ما یکون ظرف إتیانه بمقداره بلسان الدلیل، فالأمر فی الموسّع متعلّق بالطبیعة المحدودة بین الحدّین، کالصلاة من دلوک الشمس إلی غروب الشمس أو مغربها، و واضح: أنّ الفرد الواقع فی آخر الوقت من مصادیق تلک الطبیعة و یصدق علیه أنّها صلاة واقعة بین الحدّین، کما هو الشأن فی سائر أفرادها.

و غایة ما یقتضیه حکم العقل عند تضیّق الوقت لزوم إتیانه بخصوصه فوراً، کما یری تخییر المکلّف فی إتیانه فی ضمن أیّ حصّةٍ من الزمان عند سعة الوقت.

و السرّ فی ذلک هو: أنّ العقل یری لزوم إطاعة المولی و لا یجوّز عصیانه، فعند سعة الوقت یتخیّر المکلّف فی اختیار أیّها شاء. و أمّا عند تضیّق الوقت فیدرک لزوم إتیانه فوراً.

و کم فرق بین إتیان الشی ء فوراً، و بین کون الواجب مضیّقاً فی لسان الشرع! و کم له نظیر فی الواجبات(1)! مثلًا: لو تعذّر أحد طرفی الواجب التخییری لا یصیر الطرف الآخر واجباً تعیینیاً، و إن کان العقل یحکم بلزوم إتیانه معیّناً. و فی الواجب الکفائی لو لم یکن من یقوم به لا یصیر واجباً عینیاً علی المکلّف، و غایته حکم العقل بلزوم إتیانه بشخصه.

و الحاصل: أنّ الواجب المضیّق هو الذی کان فی لسان الدلیل کذلک، کما أنّ الواجب التخییری أو الکفائی هو الذی یکون کذلک فی لسان الدلیل.


1- قلت: أ لا تری أنّ الحجّ- مثلًا- بعد عام الاستطاعة یجب علیه فی کلّ سنة فوراً ففوراً؛ فلو عصی فی سنة یجب علیه فی السنة القابلة، و مع ذلک لا یکون الحجّ واجباً مضیّقاً؟![ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 468

و مجرّد تضیّق الوقت، أو تعذّر أحد الطرفین، أو عدم قیام أحد، لا یوجب الانقلاب عمّا هو علیه فی لسان الدلیل، فتدبّر.

أضف إلی ذلک ما أشرنا: أنّ الأمر فی الواجب الموسّع متعلّق بالطبیعة، و لا دخل لخصوصیات أفرادها فی الغرض و البعث، بخلاف الواجب المضیّق؛ فإنّ خصوصیة کلّ واحد من الأفراد دخیلة فیه، و الأمر فیه متعلّق بالفرد الخاصّ.

فلو صار الواجب الموسّع مضیّقاً بضیق وقته، لزم التغییر فی إرادة الشارع، و أن تصیر متعلّقة بالفرد الخاصّ بعد ما کانت متعلّقة بالطبیعة، و هو- کما تری- غیر معقول.

الجهة الخامسة: حول دلالة الأمر بالموقّت علی الإتیان به خارج الوقت

هل للأمر بالموقّت- موسّعاً کان أم مضیّقاً- دلالة علی أنّه إذا خرج الوقت یجب إتیانه خارجه، بحیث یکون فی الواقع للآمر مطلوبان: مطلوب أعلی؛ و هو إتیانه فی الوقت، و مطلوب دونه؛ و هو إتیانه خارج الوقت لو فات عنه فی الوقت- عمداً أو سهواً أو نسیاناً- أو لا دلالة للأمر بالموقّت علی ذلک، بل و لا دلالة علی تقییده بالوقت حتّی یوجب التعارض بینه و بین ما إذا دلّ دلیل علی لزوم إتیانه خارج الوقت؟ وجهان بل قولان، الحقّ هو الثانی.

و لیعلم: أنّ محطّ البحث هو استفادة ذلک من مجرّد الأمر بالموقّت، لا من أمر آخر.

و من الواضح: أنّ الأمر المتعلّق بالمقیّد بالوقت- نظیر سائر التقییدات- لم تکن له دعوتان دعوة إلی الطبیعة، و دعوة اخری إلی القید، بل له دعوة واحدة إلی المتقیّد بالقید، و قد تقرّر فی محلّه: أنّ کلّ حکم فهو مقصور علی موضوعه و متعلّقه و لا یکاد

ص: 469

یتجاوزه، و المفروض أنّ متعلّقه المتقیّدة بالوقت، فالقول بدلالة الأمر بالموقّت علی إتیانه خارج الوقت إذا فاته فی الوقت مساوق للقول بدعوة الأمر إلی غیر موضوعه و متعلّقه، و هو محال.

و بعبارة اخری: الکلام فی دلالة الأمر بالمتقیّد بالوقت علی إتیانه خارج الوقت، لا فی کون المطلوب بحسب الواقع واحداً أو متعدّداً. و لو فرض أنّ المطلوب فی الواقع متعدّد لا یوجب ذلک کون دلالة الدلیل متعدّداً.

و واضح: أنّ الأمر الواحد له دعوة واحدة إلی متعلّقه، و بعد مضیّ الوقت المضروب له یکون هذا الدلیل بالنسبة إلی إتیانه خارج الوقت و عدمه علی السواء.

إذا تمهّد لک ما ذکرناه فی محطّ البحث، یظهر لک: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره من التفصیل فی المقام، و إن کان لا یبعد صحّته فی نفسه، و لکنّه خارج عن محطّ البحث؛ فإنّ حاصل ما أفاده هو: أنّ التوقیت بالوقت: إمّا یکون بدلیل متّصل، کقوله تعالی: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ»(1)، أو بدلیل منفصل، بحیث یکون هناک دلیلان؛ دلّ أحدهما علی لزوم إتیان العمل، و الآخر المنفصل عنه علی توقیته بالوقت، و علی الثانی: إمّا أن یکون لکلّ من دلیلی الواجب و التوقیت إطلاق(2)، أو لکلّ منهما إهمال، أو لدلیل الواجب إطلاق دون دلیل التوقیت، أو بالعکس؛ فالصور أربع.

و المحقّق الخراسانی قدس سره یری أنّه إذا کان لدلیل الواجب إطلاق بالنسبة إلی إتیانه


1- الإسراء( 17): 78.
2- قلت: معنی إطلاق دلیل الواجب هو لزوم إتیانه- کان فی الوقت أو فی خارجه- کما أنّ معنی إطلاق دلیل التوقیت هو اقتضاؤه اعتبار القید بحیث لو لا الوقت لا یرید الواجب، فتدبّر.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 470

فی الوقت و خارجه، و لکن کان لدلیل التوقیت المنفصل إهمال- و حیث إنّ القدر المتیقّن من دلیل التوقیت اعتبار القید عند تمکّن تحصیله له، فلا دلالة لاعتباره فی صورة تعذّر القید- فمقتضی إطلاق دلیل الواجب عند ذلک هو ثبوت وجوبه و لزوم إتیانه بعد انقضاء الوقت أیضاً(1)، انتهی موضحاً.

و قد أشرنا: أنّ الاعتبار و إن کان مساعداً لما أفاده، و لکنّه خارج عن محطّ البحث؛ لأنّه- کما أشرنا فی دلالة نفس دلیل الأمر بالموقّت من حیث هو علی إتیانه خارج الوقت- استفادة لزوم الإتیان خارج الوقت من الدلیل الاجتهادی- من عموم أو إطلاق- و إن کان فی نفسها لا غبار علیه، لکنّها خارجة عن محطّ البحث، کما لا یخفی، فتدبّر.

الجهة السادسة: فی مقتضی الأصل فی المسألة

اشارة

لو لم یکن لدلیل الواجب أو التوقیت إطلاق، و شکّ فی وجوب العمل بعد الوقت فهل یمکن استصحاب الوجوب بعد خروج الوقت أم لا؟ وجهان.

ربّما یتمسّک للزوم إتیان الواجب خارج الوقت بالاستصحاب، بتقریب: أنّ الصلاة- مثلًا- فی الوقت و خارجه لیستا حقیقتین مختلفتین، بل حقیقة واحدة، و الاختلاف بینهما فیما لا یرجع إلی هویة ذاتهما- و هو الزمان- فکما أنّه إذا تعلّق حکم علی موضوع فی زمان فبعد خروج الزمان یصحّ الاستصحاب، فلیکن کذلک فی الواجب الموقّت(2).


1- کفایة الاصول: 178.
2- نهایة الدرایة 2: 283- 284، الهامش 1، نهایة الأفکار 1: 398.

ص: 471

و فیه: أنّه قلنا غیر مرّة و سیجی ء فی محلّه: إنّ الاستصحاب إنّما یجری إذا کان موضوع القضیة المشکوکة عین القضیة المتیقّنة عند العرف و العقلاء، فإذا انطبق العنوان الذی تعلّق به الحکم علی موجود خارجی، بحیث یکون الموجود الخارجی عند العرف موضوعاً للحکم، لا العنوان المأخوذ فی لسان الدلیل، فإن تغیّر الموضوع؛ بأن زال عنه بعض ما لا یکون دخیلًا فی ماهیة الموضوع لدی العرف، بل یکون حالةً للموضوع عندهم، و لکن احتمل دخالته فی الحکم، و لم یکن هناک دلیل اجتهادی علی الموضوع الفاقد، فیصحّ أن یستصحب هنا؛ لوجود أرکان الاستصحاب بتمامه و کماله فیه.

و ذلک مثل ما إذا انطبق عنوان «الماء المتغیّر» علی ماء موجود فی الإناء الخارجی، یکون موضوع الحکم عند العرف نفس الماء، و یحسب التغیّر من حالاته، و حیث إنّه یحتمل أن یکون التغیّر واسطة للثبوت أو للعروض، فیصحّ الاستصحاب، و لم یعدّ ذلک من إسراء الحکم من موضوع إلی موضوع آخر؛ لاتّحاد الموضوع فی القضیة المشکوکة و المتیقّنة عند العرف.

و أمّا إذا تعلّق الحکم علی العنوان الکلّی المقیّد بقید کالزمان أو المکان أو غیرهما- فحیث إنّ عنوانی المقیّد و ذات العنوان مختلفان، بداهة أنّ عنوان الصلاة الموقّتة بالوقت مثلًا غیر عنوان نفس الصلاة، و المفهوم من أحدهما غیر المفهوم من الآخر عند العرف و العقلاء- فلا یکاد یصحّ استصحابه عند فقدان القید؛ لکون الموضوع فی القضیة المتیقّنة غیر الموضوع فی المشکوکة، تسریة الحکم من الموضوع المتقیّد إلی الفاقد عن القید من تسریة الحکم المتعلّق لموضوع إلی موضوع آخر.

إن قلت: مقتضی ذلک اختصاص جریان الاستصحاب بالموضوعات الخارجیة دون الأحکام الکلّیة، مع أنّ دلیل حجّیة الاستصحاب عامّ.

ص: 472

قلت: یجری الاستصحاب فی الأحکام الکلّیة عند الشکّ فی نسخها، و التفصیل یطلب من محلّه.

و ممّا یوضح الفرق بین ما إذا کان موضوع الحکم نفس العنوان المأخوذ فی لسان الدلیل، و ما إذا انطبق العنوان المأخوذ علی الخارج، و صار الخارج موضوعاً للحکم فی نظر العرف و العقلاء، هو ما یذکر فی مبحث الخیارات فی مسألة خیار تخلّف الوصف؛ فإنّهم قالوا: إنّه إذا أتی البائع بفرس و قال: «إنّه فرس عربی»، فاجریت المبایعة علی الفرس المشخّص بعنوان کونه عربیاً، ثمّ انکشف کذب البائع، فللمشتری خیار تخلّف الوصف. و أمّا إذا اجریت المبایعة علی عنوان «الفرس العربی» بنحو یرفع الجهالة- بأن قال مثلًا: «بعتک فرساً عربیاً کذا و کذا و کذا» و فی مقام دفع المبیع لم یکن الفرس واجداً للخصوصیات التی وقع العقد علیها، فلم یکن المدفوع مصداقاً للمبیع- فلا بدّ للبائع من تسلیم مصداق آخر واجدٍ للخصوصیات؛ ضرورة أنّ الفرس العربی غیر الفرس الترکی- مثلًا- بحسب العنوان؛ فلا یکون للمشتری هنا خیار تخلّف الوصف؛ لأنّ ذلک إنّما هو فیما لو کان المدفوع هو الذی وقع علیه العقد، کما فی الصورة الاولی.

و الحاصل: أنّ الطبیعة المتقیّدة بقید، و الطبیعة المتقیّدة بقید آخر، و نفس الطبیعة، متغایرات، فإسراء الحکم المتعلّق بإحداهما إلی الاخری بالاستصحاب، إسراء الحکم المتعلّق لموضوع إلی موضوع آخر؛ فلا یصحّ الاستصحاب. و معلوم: أنّ الصلاة المتقیّدة بالوقت غیر نفس الصلاة.

و بما ذکرنا یظهر النظر فیما قد یقال: إنّ الطبیعة المتقیّدة بالزمان- مثلًا إذا کانت واجدة للحکم فنفس الطبیعة المهملة أیضاً لها الحکم، و لا أقلّ من وجودها الذهنی؛

ص: 473

فتکون نفس الطبیعة عند وجوب المتقید واجبة، فیشکّ فی بقائها بعد خروج الوقت فتستصحب.

و ذلک لما أشرنا إلیه قریباً: أنّ الحکم المتعلّق بالطبیعة المتقیّدة بقید، أو المرکّبة من عدّة أجزاء، حکم واحد متعلّق بموضوع واحد، و له دعوة واحدة إلی المتقیّد أو المرکّب فقط؛ فلم یثبت الوجوب لنفس ذات المتقیّد و ذات الأجزاء. فإذن: لیس للمهملة عند وجوب المتقیّد وجوب حتّی یستصحب. و حدیث الوجوب الضمنی للأجزاء أو نفس الطبیعة- کما یتفوه به بعض الألسن- قد عرفت فساده.

فتحصّل من هاتین الجهتین: أنّ الأمر بالموقّت لا یدلّ علی لزوم إتیانه خارج.

و لو شکّ فی بقائه لا یکاد یمکن استصحابه؛ لأنّ المتیقّن هو وجوب المتقیّد أو المرکّب، و هو لیس بمشکوک فیه، و نفس المتقیّد أو ذات الأجزاء غیر متیقّن الوجوب؛ فلا یجری الاستصحاب.

نعم، لو دلّ دلیل فی مورد علی القضاء خارج الوقت- کما دلّ الدلیل فی فوت الصلاة مثلًا- یؤخذ به، و هذا ما یقال: إنّ القضاء بأمر جدید، فتدبّر.

کلمة من المحقّق النائینی قدس سره فی موقف القضاء و تزییفه

و المحقّق النائینی قدس سره بعد أن نفی الإشکال عن قیام الدلیل فی بعض الموارد علی وجوب الفعل خارج الوقت عند فوته فی الوقت- کالفرائض الیومیة، و صوم رمضان، و النذر المعیّن- قال: یقع البحث فی أنّه بعد قیام الدلیل علی ذلک هل یکون التقیید بالوقت من باب تعدّد المطلوب و کونه واجباً فی واجب، أو یکون من باب التقیید، و لکن قیدیته مقصورة بحال التمکّن- کما هو الشأن فی سائر القیود المعتبرة فی

ص: 474

الصلاة ما عدا الطهور، حیث تکون مقصورة بحال التمکّن، و تسقط عند التعذّر، لا أنّ المقیّد یسقط؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال- أو أنّه لیس هذا و لا ذاک، بل یکون القضاء واجباً آخر مغایراً لما وجب أوّلًا بحسب العنوان، و لیس هو ذلک الواجب بعینه، و إنّما سقط قیده؟ وجوه، ثمّ ذکر الفرق بین الوجوه، إلی أن قال: الإنصاف أنّه لا سبیل إلی أحد الوجهین الأوّلین؛ لأنّ الظاهر من قوله علیه السلام:

«اقض ما فات»

(1) هو أنّ الواجب فی خارج الوقت أمر آخر مغایر لما وجب أوّلًا، و أنّ ما وجب أوّلًا قد فات، و أنّ هذا الواجب هو قضاء ذلک.

و بالجملة: التعبیر بالفوت لا یناسب الوجهین الأوّلین؛ لأنّه علیهما لم یتحقّق الفوت، بل کان ذلک الواجب هو بعینه باقٍ، فیظهر منه: أنّ الواجب خارج الوقت أمر آخر مغایر لما وجب أوّلًا و معنون بعنوان آخر(2)

. و فیه: ما لا یخفی؛ لأنّ ما استظهره قدس سره لا یساعد علیه العرف و العقلاء، بل یرون أنّ ما یقضیه خارج الوقت هو الذی فات منه. و مجرّد إطلاق الفوت علی ما لم یأت به، و القضاء علی ما یأتی به لا یوجب أن یکون ما یأتیه خارج الوقت حقیقة اخری غیر مربوطة بما فات، بحیث إنّه إن کانت للصلاة فی الوقت شرائط و قیود، لا تکاد تثبت لصلاة القضاء، إلّا أن یدلّ دلیل من خارج علی اعتبارها فیها أیضاً، و هو کما تری(3).


1- راجع وسائل الشیعة 8: 268، کتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 6، الحدیث 1.
2- فوائد الاصول 1: 237- 239.
3- قلت: و إن أحطت خبراً بما قرّرناه یظهر لک الخلل فی الدلیل الآخر الذی أقامه قدس سره علی مقاله، و لم یتعرّضه سماحة الاستاد- دام ظلّه- و هو: أنّه ربّما یتحقّق الفعل زماناً بین وجوب الأداء و وجوب القضاء، کما إذا لم یبق من الوقت مقدار رکعة و لم یتحقّق الغروب بعد؛ فإنّه لم یکن مکلّفاً فی هذا المقدار من الزمان إلی أن یتحقّق الغروب- لا بالأداء، و لا بالقضاء- فیظهر منه أنّ المکلّف به خارج الوقت مغایر لما کلّف به أوّلًا، فتأمّل، لاحظ فوائد الاصول 1: 239. لعلّ وجه النظر ظاهر ممّا ذکرنا، فلا یحتاج إلی مزید بیان، أضف إلی ذلک: أمره بالتأمّل؛ فإنّه شاهد صدق علی عدم تمامیة الأمر عنده، و اللَّه العالم.[ المقرّر حفظه اللَّه]

ص: 475

بقی الکلام فی أنّ الأداء و القضاء هل هو من العناوین القصدیة، بحیث لو نوی أحدهما مکان الآخر یصحّ، أم لا؟ و هو کلام آخر یبحث عنه فی الفقه.

إلی هنا تمّ نطاق ما أفاده سماحة الاستاذ- دام ظلّه- فی مبحث الأوامر، و هو المقصد الأوّل من مقاصد «جواهر الاصول»، و یتلوه- إن شاء اللَّه تعالی- المقصد الثانی فی النواهی.

و قد وقع الفراغ من تحریره حال تهیئته للطبع یوم الخمیس 27 ربیع الثانی من سنة 1422 ه. ق.

المطابق 28 تیر 1380 ش. فی قم المشرّفة، الحوزة العلمیة عشّ آل محمّد و حرم أهل البیت- صلوات اللَّه علیهم- عند جوار کریمة أهل البیت فاطمة المعصومة- سلام اللَّه علیها- بید الراجی رحمة ربّه، السیّد محمّد حسن المرتضوی اللنگرودی، عفی عنه.

ربّ اغفر و ارحم و تجاوز عمّا تعلم،

إنّک أنت الغفور الرحیم.

ص: 476

ص: 477

فهرس المحتویات

الفصل الرابع: فی مقدّمة الواجب 7

قبل الورود فی المسألة ینبغی ذکر امور:

الأمر الأوّل: فیما یمکن أن یقع محطّ النزاع فی وجوب المقدّمة ... 7

وزان الإرادة التشریعیة وزان الإرادة التکوینیة ... 9

الأمر الثانی: فی کون البحث عقلیاً محضاً، لا لفظیاً و لا عقلیاً مشوباً ... 13

الأمر الثالث: فی کون هذه المسألة من المسائل الاصولیة ... 18

الأمر الرابع: فی بعض تقسیمات المقدّمة ... 20

منها: تقسیمها إلی الداخلیة و الخارجیة ... 20

منها: تقسیمها إلی المقدّمة المقارنة و المتأخّرة و المتقدّمة ... 39

کلام المحقّق العراقی لدفع الإشکال فی الشرط المتأخّر ... 41

الجواب الحقیق عن الإشکال ... 45

مقال المحقّق النائینی فی تحریر محطّ النزاع و دفعه ... 52

الأمر الخامس: فی بعض تقسیمات الواجب ... 59

الواجب المطلق و المشروط ... 59

تبین المرام یستدعی البحث فی جهات:

الجهة الاولی: فی میزان الفرق بین الواجب المطلق و المشروط ... 60

ص: 478

الجهة الثانیة: فی حکم وجوب الواجب المشروط قبل تحقق شرطه ... 71

الجهة الثالثة: فی دفع بعض الإشکالات علی الواجب المشروط ... 82

الواجب المعلّق و المنجّز ... 86

إشکالان علی تصویر الواجب المعلّق و دفعهما ... 87

حکم تردّد القید بین رجوعه إلی المادّة أو الهیئة ... 104

مقال صاحب الحاشیة فی رجوع القید عند الدوران إلی المادّة و دفعه ... 104

عدم تمامیة مقالة المحقّق صاحب الحاشیة ... 107

مقالة الشیخ فی رجوع القید إلی المادّة عند الدوران و دفعها ... 109

ذکر لترجیح رجوع القید إلی المادّة وجهین:

الوجه الأوّل: أولویة تقیید إطلاق البدلی من الشمولی ... 110

عدم تصویر الإطلاق الشمولی و البدلی فی الهیئة و المادّة ... 115

الوجه الثانی: بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة بتقیید الهیئة ... 117

الواجب النفسی و الغیری ... 125

حکم صورة الشکّ فی کون شی ء واجباً نفسیاً أو غیریاً ... 129

یقع الکلام فی موردین:

المورد الأوّل: فیما یقتضیه الأصل اللفظی ... 129

کلام العلمین النائینی و العراقی فی الحمل علی النفسیة عند الدوران ... 132

الوجه المختار فی الحمل علی النفسیة ... 136

المورد الثانی: فیما یقتضیه الأصل العملی ... 138

ینبغی التنبیه علی امور:

التنبیه الأوّل: فی ترتّب الثواب و العقاب علی التکالیف الغیریة ... 144

ص: 479

آراء القوم فی کیفیة الثواب و العقاب الاخرویین ... 144

عدم استحقاق الثواب بإتیان الواجب الغیری ... 155

توجیه لعدم استحقاق الثواب بإتیان الواجب الغیری و دفعه ... 158

توجیه لترتّب الثواب علی الواجب الغیری و دفعه ... 160

التنبیه الثانی: فی تصحیح ترتّب الثواب علی الطهارات الثلاث مع کونها مقدّمات ... 163

عدم تمامیة ما تکلّف به المحقّق النائینی فی الجواب عن الإشکالات ... 165

تفصی المحقّق النائینی عن الإشکالات فی خصوص الوضوء و الغسل و دفعه ... 169

توجیه لدفع الإشکال من المحقّق الأصفهانی و دفعه ... 171

ضابط لتبدّل الأحکام و تزییفه ... 173

التنبیه الثالث: فی منشأ عبادیة الطهارات الثلاث ... 178

الأمر السادس: فیما هو الواجب، بناءً علی الملازمة ... 180

حول ما نسب إلی صاحب «المعالم» ... 180

حول ما نسب إلی الشیخ الأنصاری ... 182

حول مقال صاحب «الفصول» ... 188

اورد علی مقال صاحب الفصول إشکالات:

منها: إشکال الدور ... 190

و منها: إشکال التسلسل ... 192

حول مقال العلمین الحائری و العراقی ... 199

حول مقال المحقّق الأصفهانی فی المقام ... 202

الاستدلال لمقال صاحب «الفصول» ... 207

الدلیل العقلی علی المقدّمة الموصلة ... 208

ص: 480

الأمر السابع: فی ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة ... 210

إشکال الشیخ الأعظم علی الثمرة و إرشاد ... 214

دفاع غیر مرضی عن مقال الشیخ الأعظم ... 217

الأمر الثامن: فی الواجب الأصلی و التبعی ... 223

تذنیب: فی حکم الشکّ فی کون الواجب أصلیاً أو تبعیاً ... 229

الأمر التاسع: فی ثمرة بحث مقدّمة الواجب ... 232

الأمر العاشر: فی مقتضی الأصل عند الشکّ فی الملازمة و عدمها ... 235

الأمر الحادی عشر: فی أدلّة القائلین بوجوب المقدّمة و تزییفها ... 237

کلام الشیخ فی وجوب المقدّمة و تزییفه ... 242

حول کلام البصری ... 243

الأمر الثانی عشر: فی مقدّمة المستحبّ و الحرام و المکروه ... 246

تفصیل الأعلام الثلاثة فی مقدّمة الحرام و ما فیه ... 246

الفصل الخامس: فی أنّ الأمر بالشی ء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟ ... 255

استدل علیه بوجهین:

الوجه الأوّل: إثبات الاقتضاء من ناحیة المقدّمیة و تزییفه ... 258

تزییف الوجه الأوّل بعدم تمامیة الامور المتوقّفة علیها ... 259

عدم تمامیة کون ترک الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ ... 259

توجیه مقال المحقّق الأصفهانی ... 275

عدم وجوب مقدّمة الواجب ... 276

عدم اقتضاء الأمر بالشی ء النهی عن ضدّه العامّ ... 277

الوجه الثانی: إثبات اقتضاء من ناحیة الاستلزام و تزییفه ... 280

ص: 481

تزییف الوجه الثانی بعدم تمامیة الامور المتوقّفة علیها ... 282

تفصیل المحقّق النائینی فی الاقتضاء و تزییفه ... 286

بحث حول ثمرة المسألة ... 291

مقالة شیخنا البهائی فی إنکار الثمرة و ما اجیب عنها ... 295

اجیب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: کفایة الرجحان الذاتی فی صحّة العبادة ... 295

الوجه الثانی: تصحیح الأمر بالمهم بالأمر المتعلّق بالطبیعة ... 296

الوجه الثالث: تصویر الأمر بالأهمّ و المهمّ بلا تشبّث بالترتّب ... 301

الوجه الرابع: تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتب ... 332

توهّم ابتناء الالتزام بفروع علی تمامیة الترتّب و دفعه ... 379

تقاریب اخر لتصحیح الترتّب و تزییفها ... 384

الفصل السادس: فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ... 395

یقع الکلام فی موارد:

المورد الأوّل: فی محطّ البحث ... 395

المورد الثانی: منشأ النزاع فی المسألة ... 398

المورد الثالث: مقتضی التحقیق فی المسألة ... 400

تنبیه: فی سرّ تکلیف الکفّار و العصاة بالفروع ... 402

الفصل السابع: فی أنّ الأوامر و النواهی هل تتعلّق بالطبائع أو الأفراد؟ ... 403

دفع توهّم عدم کون نفس الطبیعة متعلّقة للأمر ... 411

استئناف الکلام لتعلّق الأمر بالطبیعة و عدم تعلّقه بالأفراد و الحصص ... 418

الفصل الثامن: فی أنّه إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز أم لا؟ ... 429

ص: 482

تنقیح المرام یستدعی البحث فی موارد:

المورد الأوّل: فی إمکان بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب و عدمه ... 429

المورد الثانی: فی مقتضی الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمکانه ... 433

توهّم بقاء الرجحان و الجواز بعد نسخ الوجوب و دفعه ... 436

المورد الثالث: فی حکم استصحاب الجواز عند الشکّ فی بقائه ... 438

الفصل التاسع: فی الواجب التخییری ... 441

امتناع تصویر الواجب التخییری و الجواب عنه ... 442

تذنیب: فی أنّه هل یمکن التخییر بین الأقلّ و الأکثر أم لا؟ ... 448

تصویر التخییر بین الأقلّ و الأکثر و دفعه ... 451

الفصل العاشر: فی الواجب الکفائی ... 455

الفصل الحادی عشر: فی الواجب المطلق و الموقّت ... 461

تنقیح المرام یستدعی التکلّم فی جهات:

الجهة الاولی: فی تقسیم الواجب إلی المطلق و الموقّت ... 461

الجهة الثانیة: فی تقسیم الموقّت إلی المضیّق و الموسّع ... 463

الإشکال علی تصویر الواجب الموسّع و المضیّق و دفعه ... 464

الجهة الثالثة: فی أنّ التخییر فی الواجب الموسّع بین الأفراد عقلی ... 465

الجهة الرابعة: فی أنّ الموسّع عند تضیّق وقته لا یصیر مضیّقاً ... 466

الجهة الخامسة: حول دلالة الأمر بالموقّت علی الإتیان به خارج الوقت ... 468

الجهة السادسة: فی مقتضی الأصل فی المسألة ... 470

کلمة من المحقّق النائینی قدس سره فی موقف القضاء و تزییفه ... 473

فهرس المحتویات ... 477

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.